توقيفات الرواتب
47584561
المجموع
20
33954855
المجموع
يتبين للقارئ الكريم إذا قابل واردات الولاية بنفقاتها أن النفقات تزيد على الواردات 13629705 غرش ونصف. وليس للمعارف في هذا القدر كله غرش واحد. هذا والدولة في أقاصي الحاجة، ووالي سيواس إذ ذاك رجل حازم شهم هو رشيد باشا عاكف؛ فقد وقف للسارقين والمختلسين بالمرصاد، فما وقع امرؤ منهم في يده إلا أحل به العقاب الشديد، وكان لا يستثني في ذلك أحب الناس إليه؛ فلو نما إليه يوما أن وحيده اختلس درهما واحدا لما صده عن عقابه إشفاق ولا أخذته عليه رحمة.
وكان رشيد باشا في أوائل أيامه قد استوثق من حكومة الآستانة ألا يضطر إلى التضييق على موظفي الولاية في صرف رواتبهم، وقال إن الموظف لا رزق له إلا ما يتقاضاه من أجر عمله. فإذا انقطع عنه هذا الرزق بقي حائرا بين أن يفتضح وعياله أو أن يمد يده إلى أموال الحكومة. وأعلم رجال عبد الحميد أنه لا يستطيع أن يسوس ولاية سيواس إذا لم يتقاض الموظفون أجورهم في أوقاتها. فأجيب إلى طلبه شهورا، ثم وضع عزت العابد طريقة المركزية. وهي ألا تصرف الرواتب لأصحابها إلا بإذن يأتي إلى كل ولاية من نظارة المالية، فأطال رشيد باشا شكايته ورفع إلى المابين استقالته، فلم يجد ذلك نفعا، وكانت الرسائل البرقية تأتي من الآستانة طالبة إرسال المال بمئات الألوف من القروش، فلا يجتمع في خزينة الولاية مقدار من المال إلا ويسلم إلى البنك العثماني فيحول من ساعته إلى المالية. وقد خالف دفترداران في بعض الولايات أمر المالية وصرفا رواتب شهر واحد للموظفين، فعزلا لشقوتهما وحكم عليهما بألا يوظفا في الحكومة ما عاشا، فأوقع هذا الحكم في قلب كل دفتردار رعبا لا مزيد عليه.
ولقد رأت عيناي مشاهد كلما ذكرتها وجدت لها وجدا عظيما. كنت إذا جاء آخر الشهر أذهب إلى الدفتردار مطالبا بمرتبي، وكان الدفتردار صديقا لي، فأجلس على كرسي أمامه وأظل أرى أفواج الداخلين والخارجين وهم يمرون بيني وبينه، بأيديهم صكوك تضاعفت متونها وحواشيها أرقاما وتواقيع حتى أصبحت كالتمائم، يتقدم الرجل من الجماعة محتشما متخضعا، فيحيي الدفتردار تحية العبد لسيده ويضع صكه على المكتبة التي أمام الدفتردار، فلا يلبث أن ينبذ للرجل صكه ويصيح في وجهه: لم يأتني إذن المالية بصرف غرش واحد. وقد أنفذنا طلبا ثانيا بالإذن، ومتى جاء الجواب بالقبول تأخذون رواتبكم. - ومتى يأتي الإذن من المالية؟ - ذلك علمه عند الله. - نحن يا سيدي مضيقون، ديوننا كثيرة ونفقاتنا جمة. وقد مضى علينا ثلاثة أشهر لم نأخذ فيها درهما واحدا من رواتبنا. - إن لغيركم أربعة أشهر وخمسة أشهر ، وهم بعد ذلك صابرون. احمدوا الله على ما أنعم به عليكم. إن الموظفين في الولايات الأخرى لهم من الرواتب المتأخرة سبعة أشهر وثمانية أشهر، فأنتم اليوم أحسن منهم حالا.
وقد ينتهي الجدال بهذا القدر. وقد يتعداه إلى الوعيد والشتم من الدفتردار والمطالب، فيتبادر الحجاب والجاندرمة، فيقودون المسكين إلى الباب، وهنالك جموع من الرجال والنساء والأيتام يتصايحون ويتباكون، لا يثنيهم نصح ولا يخوفهم وعيد، وكان رشيد باشا أمر بإيثار هؤلاء وتقديمهم على غيرهم إذا جاء الإذن بصرف الرواتب. ولكم ازدحم فريق من الضباط عند باب الدفتردار فغلق دونهم، ثم دفعوه ودخلوا عليه يريدون ضربه. وعهدي به في إبانات تلك الشدائد يترك غرفته ويجلس في غرفة غيرها لا يظن أحد أنه فيها، ولا يدل على مكانه يومئذ إلا كل من يعرفون له إيثارا عند الرجل.
Shafi da ba'a sani ba