Machiavelli: Gabatarwa mai Gajarta
مكيافيللي: مقدمة قصيرة جدا
Nau'ikan
تتخذ «مطارحات» مكيافيللي من حيث الشكل صورة تعليق على الكتب العشرة الأولى من تاريخ ليفيوس مؤرخ روما، والتي تتبع فيها ليفيوس بلوغ المدينة منزلة العظمة بعد هزيمة منافسيها المحليين، وطرد ملوكها وتأسيس «الدولة الحرة». لكن مكيافيللي يتوسع عبر نص ليفيوس بدرجة أكبر بكثير مما يوحي العنوان، ويعالج موضوعاته المختارة بطريقة استطرادية غير ممنهجة بل ومتشظية في بعض الأحيان؛ فقد كان يستخدم أحيانا سرد ليفيوس كأساس يبني فوقه مناقشة واسعة النطاق لبعض الموضوعات المهمة في نظرية فن الحكم، لكنه في أحيان أخرى كان يكتفي بالتحدث عن شخصيات فردية، أو يروي قصة ما ويستنبط منها مغزى معينا. لكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال القول بأن متاهته هذه لا تحوي خطا توجيهيا؛ فالكتاب الأول من الكتب الثلاثة التي يتكون منها كتاب «المطارحات» معني في المقام الأول بدستور الدولة الحرة، والثاني بكيفية الاحتفاظ بقوة عسكرية فعالة، والثالث بمسائل تتعلق بالقيادة. لكن مع أنني سأتبع هذه الخطوط العامة، يجب أن يوضع في الحسبان مسألة أن نتيجة ذلك لن تعطي انطباعا بأن مكيافيللي نجح في الابتكار، أو ربما حتى أراد الابتكار، بقدر ما ستعطي انطباعا بأن النص منظم على نحو أكثر دقة.
ومكيافيللي إذ يبدأ البحث في تاريخ روما المبكر، يشغله سؤال واحد أكثر من أي شيء آخر، هذا السؤال يذكره مكيافيللي أولا في الفقرة الافتتاحية من أول «مطارحة»، ويشكل أساسا لقدر كبير من بقية الكتاب . يقول مكيافيللي إن هدفه أن يكتشف «السبب في الصعود إلى «منزلة الهيمنة» التي بلغتها تلك الجمهورية» (192). ما الذي مكن روما من بلوغ مكانة منقطعة النظير من العظمة والسلطة؟
توجد روابط واضحة بين هذا الموضوع وموضوع كتاب «الأمير». صحيح أن مكيافيللي في كتاب «الأمير» يبدأ باستبعاد الجمهوريات من نطاق بحثه، بينما في «المطارحات» تشكل الجمهوريات أدلته الرئيسية، إلا أنه سيكون من الخطأ أن نستنتج أن «المطارحات» ليست معنية إلا بالجمهوريات في مقابل الإمارات؛ فمكيافيللي يؤكد في الفصل الثاني على أن اهتمامه ليس منصبا على الجمهوريات في حد ذاتها، بل على حكم المدن، سواء كانت تحكم باعتبارها «جمهوريات أو إمارات» (195). يضاف إلى ذلك أن هناك تشابها كبيرا بين رغبة مكيافيللي في كتاب «الأمير» في أن يقدم النصح للحكام بشأن كيفية بلوغ المجد من خلال فعل «أشياء عظيمة»، وتطلعه في كتاب «المطارحات» إلى أن يفسر السبب في أن بعض المدن ترتقي «منزلة العظمة»، وكذلك السبب في أن مدينة روما تحديدا تمكنت من بلوغ «أوج العظمة» ومن إنتاج تلك «النتائج العظيمة» (207-211، 341).
ماذا إذن كانت «الطرق اللازمة لبلوغ العظمة» في حالة روما (358)؟ بالنسبة لمكيافيللي، هذا سؤال مفيد؛ لأن مكيافيللي يؤيد الافتراض التقليدي للفلاسفة الإنسانيين الذي مفاده أن أي شخص «يتدارس الشئون الحالية ونظيرتها القديمة، يسهل عليه أن يدرك أن جميع المدن وجميع الشعوب لها نفس الرغبات ونفس السمات»، وهذا يعني أن «من يفحص جديا الأحداث الماضية يسهل عليه أن يتوقع أحداث المستقبل»، و«يستطيع أن يستخدم معها الحلول التي استخدمها القدماء في الماضي»، أو على الأقل «يبتكر حلولا جديدة نتيجة لتشابه أحداث الماضي بالحاضر» (278). وهكذا فإن الأمل المبهج الذي تقوم عليه «المطارحات» ويمنحها حيوية نابضة، مضمونه أننا إذا كنا نستطيع معرفة سبب نجاح روما، فربما نستطيع أن نكرره مرة أخرى.
وتكشف إحدى دراسات التاريخ الكلاسيكي، وفقا لبداية «المطارحة» الثانية، عن أن مفتاح فهم إنجازات روما يمكن تلخيصه في جملة واحدة وهي: «تدل التجارب على أن المدن لم يحدث قط أن حققت رقيا على صعيد الهيمنة أو الثروات إلا حينما كانت في حالة حرية.» ويقال إن العالم القديم يحوي مثالين موضحين لهذه الحقيقة العامة ومثيرين على نحو خاص، أولهما «أنه لأمر مدهش أن نتفكر فيما بلغته أثينا من عظمة في غضون مائة سنة من تحرير نفسها من طغيان بيزستراتوس»، لكن المثال الأهم «أنه لمن المدهش جدا أن نلاحظ ما بلغته روما من عظمة بعد أن حررت نفسها من ملوكها» (329). على النقيض من ذلك، «يحدث عكس كل هذا في البلدان التي تحيا حياة العبيد» (333)، وذلك سببه أنه «بمجرد أن يمارس استبداد على مجتمع حر»، فإن أولى العواقب الوخيمة الناجمة عن ذلك هي أن مثل تلك المدن «لم تعد تتقدم إلى الأمام، ولم تعد تنمو على صعيد القوة أو الثروات، وإنما تتخلف دائما، في واقع الحال» (329).
إن ما يرمي إليه مكيافيللي في المقام الأول من وراء تركيزه البالغ على الحرية، هو أن أي مدينة عازمة على بلوغ العظمة يجب أن تظل متحررة من كل أشكال العبودية السياسية، سواء كانت هذه العبودية تفرض «من الداخل» بفعل حاكم طاغية، أو «من الخارج» من قبل قوة استعمارية (195، 235)، وهذا بدوره يعني أن القول بأن مدينة ما تمتلك حريتها يعادل القول بأنها محافظة على استقلاليتها عن أي سلطة عدا سلطة المجتمع نفسه. فالحديث عن «دولة حرة» يعادل بالتالي الحديث عن دولة تحكم نفسها، ومكيافيللي يوضح هذا في الفصل الثاني من «المطارحة» الأولى، حيث يعلن أنه سوف «يغفل مناقشة تلك المدن» التي نشأت «خاضعة لشخص ما»، وسوف يركز على المدن التي نشأت في حالة حرية؛ أي على المدن التي «تحكم نفسها بقراراتها منذ نشأتها» (195). ويتكرر هذا التعهد نفسه لاحقا في الفصل الذي يشيد فيه مكيافيللي أولا بقوانين سولون المتعلقة بتأسيس «شكل للحكم يستند إلى الشعب»، ثم يمضي ويقرر أن العيش وفقا لهذا النظام يساوي العيش «في حرية» (199).
وهكذا فإن النتيجة العامة الأولى التي نستخلصها من «المطارحات»، هي أن المدن لا «تنمو نموا كبيرا في وقت بالغ القصر» وتكتسب عظمة، إلا إذا كان «الشعب هو الذي يحكمها» (316). هذا لا يقود مكيافيللي إلى فقدان الاهتمام بالإمارات؛ لأنه في بعض الأحيان (لكن ليس دائما) على استعداد لأن يعتقد أن الحفاظ على السيطرة الشعبية قد يكون متوافقا مع شكل من أشكال الحكم الملكي (مثال 427)، لكنه يقوده بلا شك إلى التعبير عن تفضيله الملحوظ للأنظمة الجمهورية على الإمارات. وهو يذكر أسبابه على نحو قاطع في بداية «المطارحة» الثانية، إن «الصالح العام وليس الفردي» هو الذي «يجعل المدن تبلغ العظمة»، «ومما لا شك فيه أن هذا الصالح العام لا يعتبر مهما إلا في الجمهوريات.» لكن في ظل حكم الأمراء «يحدث العكس»؛ لأن «ما في صالحه عادة ما يلحق الضرر بالمدينة، وما في صالح المدينة يلحق به الضرر»، وهذا ما يفسر السبب في أن المدن التي تحت حكم ملكي نادرا ما «تتقدم إلى الأمام»، بينما «كل المدن والمقاطعات التي تحيا في حرية في أي مكان في العالم» دائما ما «تحقق مكاسب كبيرة جدا» (329، 332).
إذا كانت الحرية مفتاح بلوغ العظمة، فكيف يمكن اكتساب الحرية نفسها، وكيف يمكن تأمينها؟ يبدأ مكيافيللي بالاعتراف بأن الأمر يتضمن دائما توفر عنصر ما من حسن الحظ؛ فمن الضروري لأي مدينة أن تكون قد بدأت «بداية حرة، دون أن تعتمد على أي شخص»، إذا كان هناك أي احتمال بأن تحقق مجدا مدنيا (193، 195). أما المدن التي تعاني سوء الحظ المتمثل في نشوئها في حالة عبودية، فغالبا ما تجد أن «وضع قوانين تحافظ على حريتها» وتوصلها إلى المكانة المرموقة، «ليس أمرا صعبا فحسب وإنما مستحيل» (296).
لكن كما هو الحال في كتاب «الأمير»، يرى مكيافيللي الافتراض بأن بلوغ العظمة يعتمد كليا على أهواء «الحظ» يعد خطأ جوهريا، فهو بعد أن يثير هذه المسألة في بداية «المطارحة» الثالثة، يقر بأن بعض الكتاب «من العيار الثقيل جدا»، منهم بلوتارخ وليفيوس، ذهبوا إلى أن ارتقاء الشعب الروماني ذرى المجد يكاد يعزى على نحو تام إلى «الحظ»، لكنه يرد على ذلك بأنه «ليس على استعداد لأن يسلم بهذا بأي حال من الأحوال» (324). ثم يعترف لاحقا بأن الرومان تمتعوا بقدر وافر من هبات «الحظ»، وكذلك استفادوا من مختلف البلايا التي أنزلتها بهم إلهة الحظ، «كي يجعلوا روما أكثر قوة ويدفعوا بها إلى العظمة التي بلغتها» (408). لكنه يصر - على غرار رؤيته في كتاب «الأمير» - على أن تحقيق الأشياء العظيمة ليس على الإطلاق ثمرة لحسن «الحظ» وحده، وإنما يكون دائما ثمرة لحسن «الحظ» المصحوب بصفة «القوة» التي لا غنى عنها، والتي تمكننا من مواجهة ما ينزل بنا من مصائب برباطة جأش، وفي الوقت ذاته تجذب رضا واهتمام إلهة «الحظ». ومن ثم فهو يخلص إلى أننا إذا أردنا أن نفهم سبب «منزلة الهيمنة» التي ارتقتها الجمهورية الرومانية، فعلينا أن ندرك أن الإجابة تكمن في حقيقة أن روما امتلكت «قدرا عظيما من «القوة»»، ونجحت في أن تضمن استمرار هذه الصفة الحاسمة «باقية في تلك المدينة لقرون عديدة» (192). ولما كان الرومان «يخلطون ما يتمتعون به من «حظ» مع «قوتهم» الهائلة»، كان ذلك هو السبب في احتفاظهم بحريتهم الأصلية، وارتقائهم في نهاية المطاف إلى منزلة الهيمنة على العالم (326).
حينما ينتقل مكيافيللي إلى تحليل هذا المفهوم المحوري لصفة «القوة»، فإنه يتبع حرفيا الخطوط التي كان قد وضعها في كتاب «الأمير». صحيح أنه يستخدم المصطلح بحيث يشير إلى إضافة واحدة مهمة إلى رؤيته السابقة، لكنه في كتاب «الأمير» ربط هذه الصفة ربطا حصريا بأعظم القادة السياسيين والقادة العسكريين؛ بينما في «المطارحات» يصر صراحة على أنه إذا كان لأي مدينة أن تبلغ العظمة، فمن الضروري أن يتصف بصفة القوة كل مواطنيها (498). لكنه حينما يصل إلى تعريف ما تعنيه «القوة»، يكرر كثيرا حججه السابقة، مسلما في يقين بالاستنتاجات المذهلة التي كان قد توصل إليها بالفعل.
Shafi da ba'a sani ba