وأطرق أبو العلاء وسكت.
وكان التميمي ينظر إلى شيخه والحزن يكسو وجهه ذبولا وفتورا، ثم نهض إسماعيل وأخذ يد الشيخ وصافحه مودعا، فأمسك المعري بيده طويلا وقال: وفقك الله يا إسماعيل، ولا رأيت مشقة رحلتك. حقا إن السفر قطعة من العذاب. وإذا ما بلغت الحضرة فسلم على المولى الإمام وقل له: إن خادمه شيخ وشاب، وكبر على السفر، وإذ كان العذر من شيم الكرام، فأجدر به أن يكون إحدى خصال الإمام؛ فبصلاح الأيمة صلاح الأمة، لا زال مولانا منار الملة ومستودع علوم الأيمة.
وانحنى إسماعيل ليقبل يد الشيخ، فانتفض أبو العلاء وهو يردد: معاذ الله.
وخرج إسماعيل متعثرا بأذيال الخيبة، وعاد أبو العلاء يدمدم ويهمهم ...
ودخل الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن أبي هاشم وشرع يكتب، والشيخ يملي.
معتقده
خالط أبو العلاء الناس، فلقي بينهم عناء وكدا. وارتحل من المعرة إلى اللاذقية وأنطاكية وطرابلس طالبا «علم الأوائل»، فانفتح له كهف المعرفة، فمنى النفس برحلة إلى العراق، ولم يثنه عن ذلك عماه ولا عجزه ولا بكاء أمه، فلقي في تلك الهجرة ما لقي. لم تشف نفسه، ولا أبرأت سقمها تلك المجامع العلمية ولا الجمعيات السرية، كما كان يترجى، فانقلب راجعا إلى المعرة بعد سنة وبضعة أشهر، و«مرض العصر» قد تمكن منه كل التمكن، فحاول الاستشفاء منه في وحدة قاسية فرضها على نفسه ولم يحد عن صراطها المستقيم قيد شعرة إلا مرة واحدة، حين خرج إلى «صالح» يشفع بالمعرة بلده، فأسمعه «سجع الحمام» وسمع منه «زئير الأسد» ...
كان شيخنا نحيل الجسم غريب الأطوار، حاد الذكاء والطبع. كان عجيب الذاكرة، قفلة، فجنى عليه ذكاؤه، وحصرته ذاكرته في «نقطة البيكار » فعاش في بؤرة فكرة ثابتة. والفكرة الثابتة تكون في الحب كما تكون في الحرب، وتكون في العفة كما تكون في الغلمة والشبق، وتكون في العلم كما تكون في الجهالة، وتكون في الغزل كما تكون في الفلسفة؛ فعمر بن أبي ربيعة وبشار كالمتنبي والمعري. لكل من هؤلاء فكرة ثابتة لا محيص عنها وإن يختلف الاتجاه والهدف.
رأى أبو العلاء عطف الناس عليه صدقة وإحسانا ومنا فآثر العزلة في بيته القاتم الأعماق الخاوي المخترق، ورفع عقيرته متغزلا بتفرده المبدع فقال:
وما للفتى إلا انفراد ووحدة
Shafi da ba'a sani ba