60

ذلك أن هذا العالم كان حاسما في تشخيصه؛ فالطفل لم يكن مريضا على الإطلاق، أما عدم ازدياد وزنه فيرجع إلى أنه لم يكن يتغذى بما فيه الكفاية (وكنت أعرف ذلك جيدا)؛ فقد كان لا يحتفظ إلا بالقليل مما يقدم له من طعام؛ ذلك أنه على أثر التعب الذي ألم بي عند حملي به، لم يكتمل نمو نسيج معدته، ولتلافي ذلك فقد كان لا بد من تغذيته بمركز عصارة اللحم التي يجب تجميدها بطحين البرغل والذرة والسكر. وقد قال لي الطبيب: «سترين، خلال سنة، سوف يغدو رجلا صغيرا رائعا.» وبعد عدة أشهر أمكنني حقا أن أتحقق من صحة هذا الكلام.

بعد خمسة عشر يوما من هذه الزيارة الطبية، برز لمؤنس أولى أسنانه. ولا أظن أن ذلك كان نتيجة النظام الغذائي الجديد. وقد فرحت ابنتي لذلك جدا؛ فقد أعلنت وكأنها عالمة: «الآن وقد برزت سنه، فإنه سوف يتكلم وسيقول: ماما أحبك.» ما أروعك يا أمينة! لقد عزاني هذا الطفل الصغير الهش وأخته إلى حد كبير عن فراق ما كان يمكن له أن يكون على الخطورة التي كان عليها بالنسبة لنا لو أنه حدث مع نساء أخريات؛ كان خطيرا بالنسبة إلى زوجي الضائع في ليله، وكان خطيرا بالنسبة لي أنا التي كنت أعاني معه أقل آلامه. كنت أتخيل أنواع السعادة التي سيحملانها له عندما يلتقيان به من جديد.

كانت أمينة تتابع اكتشافاتها. ففي اللوكسمبورج تعرفت على الحيوانات الخشبية، وكانت تركب أسدا مزهوا يسمى بروتوس؛ كانت فخورة، وكنت أقل فخرا منها. وعندما لاحظت اضطرابها في المرة الأولى ركبت إلى جانبها، إلا أنني لم أكن في الرابعة من عمري، وهو ما جعلني أحس آلاما سخيفة في قلبي وأتمنى لو تتوقف هذه الدورة الشيطانية التي بدت وكأنها لن تنتهي!

وأهدتها صديقة لي طاحونة بن صغيرة الحجم، دمية، لكنها كانت تطحن فعلا حبتين أو ثلاث حبات. وهتفت في غمرة حماسها بتدوير مقبض الآلة دون توقف: «سوف أكتب عن ذلك لأبي.» وأتناول القلم وأمسك باليد الصغيرة، وأملت علي. لقد أملت علي ذات مرة: «إنني أسليك أيضا!» يا كنز القلوب الطفولية! وفي إحدى الأمسيات كانت تراني حزينة لأن من كان حولي يسخر من اضطرابي المستمر،

89

فسمعت صوتا خجولا يهمس بالقرب مني: «لكن يا أمي، عليك أن تعملي!»

وكنت أصحبها إلى مسرح «الشاتليه»، لكن ذلك كان بلا فائدة؛ إذ لم تكن تهتم بما تراه. ولما كانت أصغر من أن تدرك دلالات الإيهام في الفن فقد كانت تتسلى دون فهم وتبقى غير مبالية تماما. على أن الأمر لن يلبث أن يتغير بعد عدة سنوات؛ فعندما رأت، في الصالة نفسها، أنهم يستعدون لإحراق عيني ميشيل ستروجوف، انفجرت في نحيب لم أتمكن على أثره من تهدئتها.

كان المطر يسحرها دوما. ففي إحدى الأمسيات الممطرة بغزارة، كانت تدندن، وقد ألصقت جبهتها على النافذة: «يقول لي المطر اسمعي ...» ولم تكن تعرف أكثر من ذلك، فأتممت القصيدة؛ أما مؤنس، فقد كان مهتما بذلك إلى حد بعيد وكان يحدق في بثبات جاد، ويطلق آهاته الصغيرة الراضية عند نهاية كل بيت من القصيدة.

كانا متحابين حتى العبادة. وكانت هي التي تستطيع أن تعبر له عن هذا الحب، أما هو فلم يكن يعرف، لكنه كان بمجرد أن يلمح أخته، يتألق وجهه وتغدو فرحته الواضحة أخاذة.

90

Shafi da ba'a sani ba