191
وبعد ذلك بقليل الكارثة: سقوط باريس.
192
كان الكثير من أصدقائنا قد رحلوا مخلفين وراءهم فراغا كبيرا؛ فقد كنا نتقاسم معهم الهموم نفسها في تفاهم كامل، كما كان ودنا المتبادل يزداد في تلك الساعات المأساوية، أما الأصدقاء المصريون فقد كانوا قريبين جدا منا. فقد كانت فرنسا بالنسبة إلى كثير منهم عزيزة، وكان اللطف الذي يبدونه نحوي يمس بلدي في جزء عظيم منه.
وكان هناك عدد لا بأس به من الفرنسيين. فقد تلقيت يوم سقوط باريس باقة هائلة من الأزهار. كان جورج ريمون الذي كان بورجونيا مثلي، يعبر لي عبرها عن آلامه وصداقته.
لم أكن أستطع البقاء في مكان ما، ولم أكن أريد أن أرى جماهير ولا أناسا غير مكترثين بما يجري في العالم. كنت أريد البكاء وحدي، وكان طه الذي لم يكن يقل عني تأثرا يفكر في السكنى في بيت كان قد بني من قبل بعثة أثرية أمريكية وكانت على وشك التخلي عنه. كان يقع في حوش ممفيس، وحيدا على أكمة صغيرة في حالة غير ثابتة. وكان هناك في الأسفل، على الجانب الآخر من الطريق، تمثال رمسيس الذي يقوم الآن أمام محطة القاهرة والذي واجه نقله إليها صعوبات كبيرة؛ فالجسور التي كانت على القنوات كانت هشة وكان بعضها ينهار. أما رمسيس الضخم الذي ينام تحت السقف الذي يحميه والذي لا يزال موجودا هناك، فقد كان على مسافة أبعد بقليل. أما معبد بتاح فإنه كان يقوم بالقرب من أجزاء قديمة غرقت في الماء المتسلل إليها، وكانت عبارة عن أجزاء مقوضة. وفوق المعبد، كانت تقوم قرية ميت رهينة التي كانت حية تماما. كنت أعرف أن زوجة أستاذ فرنسي كانت تتأسف لاستحالة الذهاب إلى فرنسا؛ فاقترحت عليها مقاسمتنا حياتنا التي كنا نعيشها هنا. فالريف أفضل على كل حال للفتيات الصغيرات من المدينة الكبيرة القائظة. كان البيت فارغا إلا من عدة أسرة حديدية ونحو عشرة كراسي؛ فجئت إليه بطاولات وكراسي طويلة وأدوات مطبخ وراديو وأصص من إبرة الراعي. كانت ج. موسيقية؛ فوضعت البيانو في غرفة منعزلة ولم يكن يستخدمه أحد سواها، وفي أثناء هذه العزلة سمعنا صوت ديجول، لكن لم يكن ما سمعناه نداءه الأول.
لم يكن البيت بعيدا عن القاهرة إلى الدرجة التي يصعب معها على طه الذهاب إليها والعمل فيها، وكنا نذهب - مدام ج. وأنا - إلى المشغل
193
الذي كان مفيدا لنا كثيرا ولا شك، لكني لم أكن أستطيع أن أمنع نفسي من اعتبار فعاليتنا هذه زهيدة بالقياس مع ما كان يجري في أوروبا.
ذات صباح بدت القرية الهادئة في هياج كامل، ولم يكن لذلك أية علاقة بالحرب؛ إذ بينما كان أحد الرجال يعمل في حقله، إذا به يصطدم بشيء قاس في قاع حفرته الملأى بالماء، وقد بدا له ذلك قطعة من تمثال؛ فأخطر بذلك دريوتون الذي كان يقيم على سطح سقارة في مواجهة الحقل والذي كان يزورنا غالبا في المساء لقضاء فترة من الوقت معنا. وفي اليوم التالي دعينا للمشاركة في احتفال حقيقي؛ فقد هيأ لنا العمدة مقاعد من المخمل الأحمر أمام حقل الكنوز هذا، وكان موظفو قسم الآثار القديمة منهمكين حول آلة لرفع الأثقال كانوا يأملون أن تكفي لإخراج التمثال الضخم. وشيئا فشيئا رأينا ظهور جزء من الجرانيت، ثم جزء ثان، ومع الجزء الثالث كان أمامنا تمثال رمسيس بأكمله. كان من الجرانيت الوردي، ولما كان يستحيل نقله إلى المتحف (خشية القصف؛ إذ كانوا قد خبأوا القطع الثمينة أيضا في القبو) فقد تقرر وضعه في باحة دارنا، وسار أطفال القرية جميعا في موكب نقل التمثال وهم يرقصون ويضحكون ويغنون. وفك دريوتون الرموز الكتابية: كان الملك يطلب أن توضع عند قدميه شجرتان تبقيان على الدوام، غير أن هذا النوع من الأشجار الذي يطلبه لم يعد موجودا على الإطلاق في مصر؛ فوضعت تحت قدميه شجرتان من أشجار الزيتون، وأعتقد أنهما لم تعودا موجودتين! على أنه لا يمكن لرمسيس وهو في المتحف أن يتوقع وضع شجرتين عند قدميه!
Shafi da ba'a sani ba