Tare da Kiɗa: Tunanin da Nazari
مع الموسيقى: ذكريات ودراسات
Nau'ikan
هذه الاتجاهات المفرطة في غرابتها تقدم من النظريات لتبرير ذاتها أكثر مما تقدم من الإنتاج الفني ذاته. والحق أننا نستطيع أن نقول إن قيمة المدارس الفنية تتناسب - إلا في حالة قليلة - تناسبا عكسيا مع مقدار ما يقدمه أصحابها لتبريرها من النظريات؛ ذلك لأن العمل الفني الرائع يبرر نفسه بنفسه، ولا يحتاج لتبريره إلى الكثير من الدفاع والمرافعة، أما العمل الهزيل فهو الذي يحتاج حقا إلى مدافعين ومحامين يقدمون إليه أساسا عقليا يعوض شيئا من تفاهته الفنية. ومن الأخطاء الشائعة التي يتعرض النقاد للوقوع فيها أنهم يخلطون في كثير من الأحيان بين الأساس النظري الذي تقدمه مدرسة فنية معينة لأعمالها وبين قيمة هذه الأعمال ذاتها، مع أن الأمرين منفصلان تماما؛ فقد يكون هذا الأساس النظري سليما متينا، وقد تكون الفلسفة الكامنة فيه عميقة كل العمق، ومع ذلك يظل العمل الفني المبني على هذا الأساس هزيلا من جميع الوجوه؛ ذلك لأن سلامة النظرية الجمالية التي يقوم عليها عمل فني ما، لا تضمن أبدا جمال هذا العمل ذاته، وإنما المعيار السليم الذي ينبغي الحكم على العمل الفني من خلاله هو معيار النقد الداخلي، والتذوق الجمالي من خلال تجربة فنية كاملة، لا من خلال التفكير النظري في الأسس التي قام عليها.
وهكذا نجد لهذه الاتجاهات الموسيقية فلسفة جمالية نستطيع أن نعدها سليمة إلى حد بعيد، وإن لم تكن مع ذلك قادرة على أن تبرر لأذواقنا ما يقوم على أساسها من أعمال فنية. وأقوى هذه المبررات النظرية هو الإهابة بتاريخ الفن الموسيقي لإثبات أن التجديدات الجريئة كانت مكروهة ومذمومة في عصورها في معظم الأحيان، ولكنها أصبحت في العصور التالية مقبولة ومستحبة، بل أصبحت تمثل التراث التقليدي الذي يدافع عنه معاصروه ضد موجة التجديد التالية. إن العالم اليوم يتخذ من موسيقى بيتهوفن مثالا واضحا للتراث الموسيقي النقي السليم، ولكن كيف كان معاصرو بيتهوفن ينظرون إليه؟ لقد وصف أحد النقاد المعاصرين له سيمفونيته الثانية - وهي من أقل أعماله جرأة وتجديدا - بأنها «أشبه بوحش مفترس، أو بأفعوان قبيح جريح يأبى أن يسلم الروح، ورغم أنه ينزف بغزارة في الحركة الأخيرة، فإن ذنبه يظل يضرب كل ما يوجد حوله بوحشية.»
وقال عنه ناقد آخر: «إن مؤلفاته تتخذ على الدوام طابع الإغراب المتعمد ... ومعظم ما ينتجه يصل في غموض تركيبه وامتلائه بالتوافقات الصوتية الغريبة والمنفرة حدا يحار معه الناقد بقدر ما يرتبك السامع.» هذان النقدان كتبا في عامي 1804م و1824م على التوالي، وهما إن دلا على شيء فإنما يدلان على أن من الأمور الشائعة أن يسخر الناس من أي شيء لا يوافق ذوق العصر؛ فقد ظن الناس أن بيتهوفن مجنون لأنه لا يكتب الموسيقى كما كتبها السابقون عليه، وكثيرا ما وجهت انتقادات مماثلة إلى برليوز وشوبان وفاجنر وغيرهم. وقد شاع استخدام لفظ «الضجيج» للدلالة على كل اتجاه موسيقي مجدد، وانتشر هذا اللفظ بين نقاد فاجنر وليست وديبوسي، حتى أصبح في نظر الكثيرين رمزا معبرا عن هذا النوع من الموسيقى. ومع ذلك فقد دخل هؤلاء كلهم التاريخ، وتمكنت الأجيال التالية من تذوق أعمالهم بسهولة، وأصبح ما كان يبدو ضجيجا، جزءا من تركيب الآذان الموسيقي، إن جاز هذا التعبير. ومن هذا يخلص الموسيقيون المستقبليون والعينيون والإلكترونيون إلى نتيجة هامة: هي أن المستقبل كفيل برد اعتبارهم وبتعويد آذان الناس على ما يبدو لها اليوم ضجيجا لا معنى له.
ويلجأ أنصار هذا النوع من التجديد الموسيقي إلى مبررات أخرى مستمدة من طبيعة العصر الذي نعيش فيه؛ ففي علم الطبيعة المعاصر، وفي فيزياء الكم على وجه الخصوص، يسود مبدأ «اللاتحدد»، وقد استعار هؤلاء المفكرون الموسيقيون هذا اللفظ، كما استعاروا لفظ «عدم القابلية للتنبؤ» من نفس المجال أو من نظريات علم الإحصاء؛ ليقدموا إلينا بناء على تفسير باطل لهذه الأفكار، موسيقى «عشوائية»، تتميز بعدم التحدد ، وبأنها لا تقبل التنبؤ بما يمكن أن يحدث فيها. وإذا كان من أوضح العيوب التي يوجهها النقاد إلى ملحن أنه يأتي بالألحان «كيفما اتفق»؛ فقد أصبحت «كيفما اتفق» هذه فضيلة في نظر هؤلاء الفنانين؛ فهم يرفضون مبدأ انتقاء الأصوات واختيار ما يلائم خاطرا محددا في ذهن الفنان، ويدعون إلى أن يقبل المؤلف الموسيقي الأصوات التي تحيط به من كل جانب، ويجمع بينها في عمله، بغض النظر عن كونها تؤلف كلا منسجما أم لا. ونستطيع أن نتصور الناتج النهائي إذا عدنا بأذهاننا إلى أصوات الفرقة الموسيقية قبل العزف، حين يتمرن كل عازف على حدة أو يضبط أوتار آلته. في هذه الفترة، التي تسبق العزف المنظم، توجد «موسيقى عشوائية» من ذلك النوع الذي يثير إلهام بعض الفنانين المعاصرين ويوحي إليهم بإمكانيات جديدة في عالم الأنغام، إمكانيات تتلاءم، على حد قولهم، مع طبيعة العصر الذي نعيش فيه، بما يتضمنه من نظريات تقوم على الصدفة واللاتحدد والعشوائية؛ فالعلم الحديث، كما يفهمونه، يفتح أمامنا أبوابا ينبغي ألا نتجاهلها، وإنما الواجب أن نستغلها بقدر استطاعتنا.
فما هي النتائج المحتملة لهذه التجديدات المتطرفة في الموسيقى، إذا نجحت بالفعل تلك الخطط الطموحة التي وضعها أصحابها؟ إن من نتائجها الممكنة أن تحل الآلات الكهربائية والإلكترونية محل الأدوات الموسيقية اليدوية الحالية. ومعنى ذلك أن يتضاءل بالتدريج دور القائم بالأداء في الموسيقى، بل يصبح مؤلف الموسيقى هو ذاته عازفها ومؤديها، وتغدو واسطة الموسيقى هي الشريط التسجيلي بإمكانياته اللامتناهية، بل إن البعض ليذهب إلى حد القول بأن نجاح الآلات الإلكترونية كفيل بجعلها أفضل وسيلة لأداء الموسيقى التقليدية بدورها؛ فمن الممكن محاكاة جميع الآلات الموسيقية المألوفة بدقة كاملة عن طريق الشريط التسجيلي. ويأتي بعض المتحمسين بأمثلة عديدة لضجر كبار المؤلفين الموسيقيين من عجز العازفين عن متابعة الأفكار العميقة والتعبير عنها بوضوح، فيؤكدون أن هذا كله سينتهي عهده عندما تحل الآلة الإلكترونية محل العازف في أداء أعمق الأعمال الموسيقية وأصعبها.
مثل هذه الموسيقى تلقي على المستمع مزيدا من الأعباء؛ فالإمكانيات الصوتية الجديدة تقتضي من الأذن مزيدا من الجهد النفسي والعضوي معا؛ حتى تستطيع أن تتابع التعقيدات النغمية الهائلة التي لم تألف لها من قبل مثيلا. والأهم من ذلك أنها تقتضي من السامع مزيدا من الفاعلية. صحيح أن الاستماع عملية خلاقة دائما، غير أن هذا العنصر الخلاق يتضاعف في حالة الأنواع الموسيقية المجددة؛ فعلى المستمع أن يجهد خياله ليكشف نواحي الجمال في إيقاعات الطبيعة وأصواتها المألوفة التي قد لا تثير في الأذن العادية أي اهتمام؛ أي أن عليه، بالاختصار، أن يشارك الفنان نفسه مجهوده الخلاق.
وقد يظن القارئ من هذا العرض الذي قدمته أنني من المؤمنين بهذا النوع من التأليف الموسيقي أو بمستقبله، ولكن الواقع أن هدفي الوحيد إنما هو التنبيه إلى بعض الاتجاهات الجديدة المفرطة في غرابتها. وفي اعتقادي أن عرض هذه الاتجاهات يكفي، في ذاته، لإيضاح مواطن الضعف فيها، ولإثبات استحالة انتهاء فن عظيم كالموسيقى إلى مثل هذا المصير.
ذلك لأن الموسيقى هي قبل كل شيء «اختيار» لأصوات معينة وسط ذلك العدد اللامتناهي من الأصوات الممكنة التي تحيط بالإنسان من كل جانب، والخطأ الأكبر في مثل هذه الفلسفات الجمالية المجددة أنها تظن الاختيار والتنظيم ضعفا، وتتوهم أن في توسيع مجال الأصوات كيفما اتفق إثراء لتجربة الإنسان الموسيقية. والواقع أن عنصر التنظيم والتهذيب والضبط ليس ضعفا على الإطلاق، وإنما هو مصدر الجمال في كل عمل فني، وهو الذي يحدد الخط الفاصل بين الفن واللافن - إذا أباح لنا القارئ استخدام هذا اللفظ الأخير.
وسأروي، في ختام هذا المقال، قصة برنامج إذاعي طريف استمعت إليه ذات مرة، وينطوي في ذاته على تفنيد حاسم لهذه الاتجاهات المفرطة في غرابتها؛ ففي أواخر عام 1961م استمعت إلى تسجيل إذاعي منقول عن «البرنامج الثالث» للإذاعة البريطانية، تضمن خدعة فنية طريفة قام بها ناقد موسيقي إنجليزي؛ فقد نشر هذا الناقد بين الأوساط الموسيقية خبرا عن قدوم موسيقي بولندي من أنصار ... الاتجاهات الحديثة المتطرفة اسمه بيوترزاك وقال ... إنه سيذيع قريبا قطعة من مؤلفاته مكتوبة لمجموعة آلات الإيقاع وجهاز التسجيل (وهو أمر لا يعد غريبا في مثل هذه الاتجاهات). وبعد بضعة أيام أذيعت القطعة ولم تكن في الواقع إلا قطعة زيفها مقدم البرنامج نفسه، ليس فيها عازف طبول ولا جهاز تسجيل، وكل ما فعله مقدم البرنامج هو أنه وضع الطبول أمامه وأخذ يتنقل من واحدة إلى الأخرى يركلها بقدميه أو يدفعها بيديه، كما أخذ يصطنع أصواتا أمام «الميكروفون»، فينفخ في السماعة أو ينقرها أو «يطرقع» أصابعه أمامها، وبمثل هذا العزف الخادع استمرت القطعة من بدايتها إلى نهايتها.
وبدأت خطابات المستمعين وتعليقات النقاد تتوالى؛ فأعرب معظم المستمعين عن عدم إعجابهم بالقطعة، وإن كان بعضهم قد ذكر أنها فتحت آفاقا جديدة، غير مطروقة، لآذانهم في عالم الصوت، وأنها كانت تجربة شيقة في عالم عذري من الأصوات التي لم تألفها الأذن من قبل (وهؤلاء بالطبع هم فئة المتحذلقين الذين يريدون إثبات سعة أفقهم بأي ثمن، وهم أسهل الناس وقوعا في مثل هذا الخطأ). أما النقاد المحترفون فقد أجمعوا تقريبا على أن القطعة ضئيلة القيمة من حيث هي عمل موسيقي، ولكن أحدا منهم لم يكتشف الخدعة أو يشك في وجودها. ثم كشف صاحب البرنامج عن سر الخدعة، ودعا اثنين من النقاد الذين كتبوا عن هذه القطعة إلى ندوة إذاعية، وكانت وجهة نظر هذين الأخيرين أن النقاد لم ينخدعوا؛ لأنهم أجمعوا على أنها عمل رديء. ولكن الاعتراض الحاسم الذي وجهه مقدم البرنامج إليهم هو أن النقاد قد رأوا في تلك القطعة «عملا فنيا» على أية حال، وأصدروا حكمهم على هذا الأساس. وهذه هي المشكلة الكبرى؛ فالموسيقى الحديثة قد وصلت، بفضل هذه الاتجاهات، إلى المرحلة التي أصبح من الممكن فيها أن ينظر إلى العمل اللافني على أنه عمل فني، وهذا أمر كان يستحيل حدوثه أيام موتسارت أو بيتهوفن. صحيح أن كل عصر كانت له موسيقاه الرديئة ، ولكن مثل هذه الخدعة كانت مستحيلة من قبل، ولم يكن من الممكن أن يأخذ النقاد مثل هذه الأعمال الخادعة مأخذ الجد، أو يصدروا حكمهم عليها بوصفها عملا فنيا.
Shafi da ba'a sani ba