هو إذن في الفصول والغايات كما هو في اللزوميات؛ يائس من الخير لنفسه وللناس، مضطر إلى الفلسفة والعزلة، يأخذ بذلك نفسه؛ لأنه يقدر عليها، ولا يأخذ بذلك الناس؛ لأنه لا يقدر عليهم، فهو ينصح لهم حين يأمرهم باصطناع الخير، واجتناب الشر، وإيثار العافية ما وجدوا إلى ذلك سبيلا. والآلام الكبار التي يشكو منها أبو العلاء في اللزوميات وفي الفصول والغايات، والتي دعته إلى هذه الفلسفة، وإلى هذه السيرة العنيفة الشاقة قليلة إن أردنا إحصاءها، ولكن آثارها ونتائجها لا تحصى؛ فأبو العلاء يشكو فقد بصره، وفقد أبويه، واضطراره إلى ترك بغداد. وكل ما يكون في حياته من ألم يمس شخصه إنما يتصل بهذه الألوان من الحرمان، فرضت عليه فكونت له هذا المزاج الحاد، يحس كل شيء كأدق ما يكون الحس، ويشعر بكل شيء كأقوى ما يكون الشعور المظلم الذي لا يكاد يتصل بشيء حتى يسبغ عليه ظلمته القاتمة مهما يكن مشرقا مضيئا.
وليس كتاب الفصول والغايات أنينا وشكاة على هذا النحو الذي رأيته فيما رويت لك من الفصول، وإن كان من العسير أن تجد في كتاب الفصول والغايات فصلا لا شكاة فيه ولا حزن، فقد كان أبو العلاء كله شكاة وحزنا! ولكن أبو العلاء يخرج أحيانا عن حزن نفسه ومللها إلى جمال الفن الخالص وروعته. يأخذ في القصة فتعجبه فيمضي في تصويرها، ولعله يجد في هذا التصوير تسلية وعزاء، فيبسط ويطيل، ويأخذ في التفسير بعد ذلك فيعجبه العلم ويروقه، فيطنب فيه ويطيل، ويظهرنا - كما قلت - على كنوز لا تحصى كهذا التفسير الذي عرض فيه لأضرب الغناء، ففسرها لنا تفسيرا واضحا جليا، أرجو أن يعني به أصحاب الموسيقى والغناء، فسيجدون فيه حلا لرموز الأغاني.
5
وما أكثر ما يطرفنا به أبو العلاء في تفسيره مما يمس تاريخ العروض، وتاريخ ما يعرف الجاهليون، وما لم يعرفوا من أوزان الشعر. وقد تغلبه الطبيعة الفنية على نفسه، فإذا هو يتكلف الوعظ تكلفا، يتخذه وسيلة إلى عرض ما يريد أن يعرضه من الصور. وربما كان من الظريف أن تقرأ هذا الفصل الغريب الذي أسجله لغرابته؛ ولأنه يوشك أن يكون لغزا، وأمثاله في الفصول والغايات كثير، فاقرأه وسل نفسك عما أراد به أبو العلاء:
عجبت وفي القدرة عجب، فوحد الله فيمن وحد، لدابة لا رجل لها ولا يد، إذا غفل عن الجسد من كان له يتعهد، نشأت من الإهاب، فإذا ظفر بها البائس جعلها بين ظفريه، فأسمع أذنه لها صوتا، أف لها عقيرة وأف له طالب ثأر! إن الله لصفوح وهاب.
لو تركها البائس لنشأ لها أخوات، فكثرن كثرة النبات، فأوقعن البشرة في التهاب.
سبحان خالق النسمة، الباكية والمبتسمة. ما تقول غبراء مترنمة، هي بالتسبيح مهينمة، تستتر في الأوقات الشبمة، وتبرز أوان الغتمة، القسمة بها موسمة، تنفذها بمولمة، أحد من غروب السلمة، توقظ المؤمن إلى الحسنات الجمة، والكافر لغير مكرمة، أمجوسية هي أم مسلمة، أما القراءة فزمزمة، ليست عن الدم بملجمة، بل من الأمم المتقدمة، لا ترى اجتناب النشمة، وتقنع بفصيد السنمة، قينة غير معلمة، تجيبها ألف رنمة، لا يفهم عنهن الفهمة، لو جاءت كل واحدة بكلمة، أوفين على نظام النظمة، تقع على الخادر بالأجمة، بين القصرة والجمجمة، إنها لمتهجمة، كأنها في القصب تراسل القصاب.
6
فواضح جدا أن الناحية الفنية هي التي غلبت أبا العلاء على هذه الفصول، وإن استطاع أن يجعل بينها وبين الحكمة والموعظة سببا.
وهناك فن يكثر منه أبو العلاء في الفصول والغايات كما أكثر منه في اللزوميات، وهو الملاءمة بين أسماء النجوم والكواكب، وأسماء الناس والحيوان، والعبث بهذه الملاءمة في شيء من السخرية بالناس وما سموا، وبالأوهام وما خيلت لأصحابها. وهو في ذلك يذهب المذهب الذي أشرنا إليه أثناء الحديث عن بعض قصائد اللزوميات مذهب لوكريس في إنكار أوهام الناس، والعبث بما يكون بين الألفاظ من تشابه يضربه مثلا لما يكون بين الصور من تشابه، وربما كان بعض هذا الفصل مغنيا في الدلالة على هذا الفن الذي يستغله أبو العلاء، فيستخرج منه كثيرا من الحكم والمواعظ، وكثيرا من روائع الفن أيضا.
Shafi da ba'a sani ba