والمهم هو أن نعرف من الذي يتحدث إلى نفس أبي العلاء بهذا الحديث، ليس هو جسم أبي العلاء من غير شك، فالجسم وحده جامد هامد لا يرسل حديثا، ولا يرجع صدى. وليست هي نفس أبي العلاء من غير شك، فالنفس لا تتحدث إلى نفسها بهذا الحديث، ولا تنذر نفسها هذا النذير، ولا تأمر نفسها بفراق نفسها. وإذن فهو العقل الذي ينظر إلى النفس والجسم جميعا، ويفكر فيهما، وفيما بينهما من صلة، ويمتاز منهما ويصرفهما إن استطاع تصريفهما فيما يريد. فالشخص الإنساني عند أبي العلاء مثلث لا مزدوج، جسم لا يحسن ولا يسيء، وإنما هو خادم مسير لسيده، أو قل لسيدته، ونفس تسيء بطبعها ولا تحسن إلا أن تهدى فتهتدي، وعقل يحاول أن يدبر أمر النفس والجسم جميعا. وهذا التثليث في شخص الإنسان أبيقوري أيضا، فأبيقور يصور الفرد الإنساني، ويصوره بعده لوكريس على أنه جسم تشيع فيه نفس هي مصدر الحركة والشعور والحس، وهي مصدر الحياة، وعقل مستقر في الصدر هو الذي يأمر النفس فتعمل، وينهاها فتكف.
ولكن الأبيقوريين لا يرون خلود النفس، ولا يرون خلود العقل، وإنما يرون أن الموت يحل الجسم والنفس والعقل جميعا، وأن مادة هذه الكائنات الثلاثة تنحل بعد الموت إلى أصولها، وتستأنف وجودها وتطورها المادي على نحو ما كانت قبل وجود الفرد.
أما أبو العلاء فقد اضطرب في هذا أشد الاضطراب؛ لأنه قرأ فلسفة الفلاسفة الذين يرون خلود النفس، ولم يقو على جحدها كما جحدها الأبيقوريون، وعرف الديانات السماوية، وفيها ما فيها من أمر البعث والنشور، فلم يزده هذا إلا اضطرابا إلى اضطراب. وإذا هو ينكر البعث حينا، ويثبته حينا، ويرى خلود النفس مرة، وفناءها مرة أخرى، ويقطع من مذهب الأبيقوريين بفناء الجسم وتفرقه بعد الموت، وخضوعه لكل ما تخضع له المادة من ألوان التطور والانتقال.
وقد فكر أبو العلاء في هذا كله، وفي غير هذا كله من الأمور الفلسفية منذ عهد الشباب، ولم يبلغ الثلاثين حتى كان رأيه في أمر سيرته على الأقل قد استقر.
وهذا هو الشيء الثالث الذي أريد تسجيله من هذا الفصل، والذي أراه عظيم الخطر جدا في تاريخ الحياة الفلسفية لأبي العلاء. ويكفي أن تقرأ هذه القطعة لترى أن أبا العلاء لم يبلغ الثلاثين حتى غير حياته التي كان يشارك الناس فيها، واستأنف حياة جديدة هي التي أنتجت لنا اللزوميات والفصول والغايات:
ما زلت آمل الخير وأرقبه حتى نضوت كملا ثلاثين، كأني ذبحت بكل عام حملا أبرق، بياضه الأيام، وسواده لياليه. وهيهات! كأنني قتلت بالسنة حية عرماء! إن الزمن كثير الشرور. فلما تقضت الثلاثون وأنا كواضع مرجله على نار الحباحب، علمت أن الخير مني غير قريب!
ثم يمضي أبو العلاء بعد ذلك في ألوان من الوعظ إن صورت شيئا فإنما تصور أخص ما أخذ نفسه به من خصال الخير.
فلندع هذا الفصل، وإن كنت أود إطالة الوقوف عنده لننتقل إلى فصل آخر ليس أقل منه خطرا.
فاقرأ هذا الفصل:
أنا كسير الجناح، فمتى نهضت أنهضت، ولو صلحت للبذلة لكنت السعيد، ولكن حال الجرير دون البرير، إنما أنا حي كالميت أو ميت كالحي! وما اعتزلت إلا بعد ما جددت وهزلت، فوجدتني لا أنفذ في جد ولا هزل، ولا أخصب في التسريح ولا الأذل، فعلي بالصبر، لا بد للمبهمة من انفراج!
Shafi da ba'a sani ba