ولا علم بالأرواح غير ظنون
وروم الفتى ما قد طوى الله علمه
يعد جنونا أو شبيه جنون
نعم جنون أو كالجنون أن تحاول علم ما طوي علمه عن الناس، وأن تتكلف في ذلك ما تكلفت من مشقة وجهد؛ فثق بحكمة الله، واركن إليها، واسترح إلى هذا الظل الظليل، والنسيم العليل، والماء العذب الصافي الذي تجد فيه شفاء من هذا الحر المهلك الذي اصطليت ناره دهرا طويلا.
ولكن العقل الإنساني مضطرب لا يعرف الاستقرار، ساخط لا يعرف الرضى، ثائر لا يعرف الإذعان، طامع لا يعرف القناعة، متكبر لا يعرف التواضع. وما كاد صاحبنا يستريح ويستقر حتى أخذ عقله يضطرب، وما كاد صاحبنا يهدأ حتى أخذ عقله يثور. وكأن القوة التي كانت تدفعه منذ حين إنما تخلفت عنه لحظات لا لتريحه، بل لتخيل إليه الراحة. وكأن الأمل الذي كان يسبقه، ويتراءى له إنما استخفى عنه ساعة لا ليؤمنه، بل ليخيل إليه الأمن. وإذا القوة الدافعة قد أقبلت من ورائه، وإذا الأمل المغرى قد قام أمامه غير بعيد، تلك تدفعه وهذا يدعوه، وعقله مشفق من تلك، راغب في هذا، وإذا هو يثيره من مكمنه، ويخرجه من مأمنه. وما هي إلا لحظات حتى تستخفي الشجرات الخضر، والنسيم العليل، والغدير العذب، وإذا صاحبنا في جحيمه القديم تأخذه النار من جميع أقطاره، تدفعه تلك القوة العنيفة، ويدعوه ذلك الأمل الخلاب، وقد جردت ثورة عقله لنفسه تلك الآلام العنيفة المتصلة التي لم يسترح منها إلا قليلا.
ولكن ما الذي أشعر أبا العلاء بهذا السجن الفلسفي؟ وما الذي أنبأه بأنه سجين؟ وما الذي كشف له عما يحيط به في هذا السجن من الحسرات والغمرات، ومن الآلام والأحزان؟ هو من غير شك سجن من سجونه الثلاثة، هو سجنه الطبيعي، أو سجنه الفسيولوجي إن صح هذا التعبير. هو هذه الآفة التي ألمت به في أول عهده بالحياة، فذهبت ببصره، وألقت بينه وبين النور حجابا كثيفا.
والصلة بين هذين السجنين من سجون أبي العلاء لا تخلو من غرابة تدعو إلى كثير من الرحمة والإشفاق، فقد فقد أبو العلاء بصره صبيا، واستقبل الحياة غير مستمتع بهذه الملكة التي ترسم في نفس الأحياء من الحياة صورا لا عهد له بها. ومع ذلك فقد جاوز الصبى، وتقدمت به السن إلى الشباب، وتقدم به الشباب إلى الكهولة دون أن ينكر من أمر الوجود شيئا ذا خطر أو دون أن يشتد إنكاره لأمر من الأمور.
وما من شك في أنه قد أحس منذ أول عهده بهذه المحنة الطبيعية فرقا عظيما بينه وبين أترابه. وما من شك في أن إحساسه هذا الفرق قد آلمه وآذاه، وأسبغ على نفسه شيئا من الكآبة المتصلة القاتمة، واضطره إلى كثير من التحرج والتحفظ والاحتياط في سيرته العملية، ولكن ما من شك في أنه قد قهر هذا كله، وظهر عليه وقتا طويلا من حياته، فقد اجتهد في أن يسير سيرة غيره من الناس، واجتهد أهله في أن يهيئوه لهذه السيرة ما وسعهم ذلك. علموه صبيا، وأعانوه على طلب العلم، وتعمقه شابا. ولعله قد بذل في سبيل ذلك ما لا يبذله كثير من المبصرين، فضلا عن المكفوفين، فهو قد ارتحل إلى حلب، وأنطاكية، وألم باللاذقية، ولعله أن يكون قد ألم بطرابلس. وهو قد سمع من شيوخ المسلمين، ورهبان النصارى، وقرأ في كتب أولئك وهؤلاء، وتعمق في درس الديانات، وفرغ بنحو خاص لإتقان اللغة وعلومها، وللأخذ بحظ عظيم من البراعة الأدبية. ولم يبلغ العشرين من عمره حتى كان نضجه العلمي قد تم، وحتى استطاع أن يقول بعد ذلك: إنه لم يحتج بعد هذه السن إلى أن يجلس من أحد مجلس الطالب من الأستاذ.
وقد فقد أباه في الرابعة عشرة من عمره، فحزن لفقده حزنا شديدا من غير شك، ولكن هذه الفاجعة لم تفت في عضده، ولم تفل من حده، ولم تقعد به عن الرحلة، ولم تصرفه عن الأسفار، ولما ألم من دور العلم في الشام بما كان يستطيع أن يلم به، وأخذ منها ما كان يستطيع أن يأخذه ، عاد إلى المعرة فاستقر فيها وادعا مطمئنا، يعاشر الناس ويخالطهم، ويشاركهم في خطوب الحياة، ويعكف على ما كان يعنيه من العلم والأدب، فينمي حظه منه، ومشاركته فيه. ومع أننا نجهل تفصيل حياته في المعرة، كما نجهل تفصيل حياة أمثاله من الشعراء والفلاسفة القدماء، فليس من شك في أن حياته مرت هادئة وادعة لا عنف فيها ولا اضطراب. ثم نيف على الثلاثين، فهم برحلة طويلة شاقة إلى بغداد، وأشفقت عليه أمه من هذه الرحلة، فحاولت صرفه عنها، ولكنها لم تفلح، ومضى أبو العلاء في إتمام ما عزم عليه، فانتهى إلى بغداد بعد خطوب امتحن فيها صبره وجلده، واحتماله، وذكاءه أيضا. وأقام في بغداد عاما ونصف عام؛ فعرف من أمرها ما كان يحب أن يعرف، وبلا من أهلها ما كان يحب أن يبلو، وحصل من علمها ما كان يريد أن يحصل، وظفر فيها من الشهرة وبعد الصيت بما كان يحب أن يظفر به، ولو استطاع لأنفق فيها بقية عمره كما يقول في بعض شعره، ولكنه لم يستطع؛ لأن أمه مرضت، ولأن الثروة لم تواته، فعاد إلى المعرة وقد استكشف هذا السجن الفلسفي، واضطر بحكم هذا الاستكشاف نفسه إلى أن ينشئ لنفسه سجنا ماديا ثالثا هو بيته الذي أقام فيه حتى مات.
فأنت ترى أنه قد حاول أثناء الصبا وأثناء الشباب، وفي أول عهده بالكهولة أن يعيش عيشة غيره من الناس، وأن يقهر المصاعب التي كان يثيرها أمامه فقد بصره، وظفر بقهر هذه المصاعب في أكثر الأحيان، وكان خليقا أن يمضي في سيرته هذه بعد الأربعين كما مضى فيها حتى كاد يبلغ الأربعين. وأي شيء كان أيسر عليه من أن يعيش شيخا كما عاش صبيا وشابا وكهلا، مخالطا للناس، مشاركا لهم فيما يختلف عليهم من الخير والشر، مفكرا كما يفكرون، أو مخالفا لهم في بعض ألوان التفكير، ممتازا منهم في علمه وذكائه أشد الامتياز، ممتازا منهم في سيرته العملية بعض الامتياز؟ وليس هو أول مكفوف قد تفوق على أمثاله بحدة الذكاء، ونفاذ البصيرة ، وغزارة العلم، وفصاحة اللسان، فلم يمنعه ذلك من أن يشارك الناس فيما كانوا يضطربون فيه من حلو العيش ومره؟ فقد ظهر قبله بين المسلمين من رزق النبوغ وحرم الإبصار، وعاش مع ذلك بين الناس لم يفارقهم ولم يعتزلهم، ولم يشذ من بينهم هذا الشذوذ. كان يستطيع أن يعيش معلما، وكان يستطيع أن يعيش شاعرا، وكان يستطيع أن يعيش كما عاش لا يستفيد رزقه من الشعر ولا من التعليم، وإنما يكتفي بهذا الوقف الضئيل الذي كان يعيش منه دون أن يفارق الناس، ويمسك نفسه في هذه العزلة المظلمة الشاقة.
Shafi da ba'a sani ba