الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
مع أبي العلاء في سجنه
مع أبي العلاء في سجنه
تأليف
طه حسين
إلى الذين لا يعملون، ويؤذي نفوسهم أن يعمل الناس، أهدي هذا الكتاب.
طه حسين
الفصل الأول
لن يكون هذا إلا نحوا من حديث النفس تعرض فيه - كما تريد - ذكرياتي، والآراء المختلفة التي كونتها لنفسي في شخص ممتاز شاذ، فنان عظيم، قاس، قوي الإرادة قبل كل شيء، له ذكاء نادر يقظ دقيق قلق، يخفي من وراء الآراء المطلقة، والأحكام الصارمة - لا أدري أي شك في نفسه، وأي يأس من إرضائها! - شعورا شديد المرارة، عظيم الشرف، كان يثيره في نفسه علمه الدقيق بأساتذة الفن، وتهالكه على ما كان يزعم لهم من أسرار النبوغ، وما كان يحضر ذهنه دائما من ألوان تفوقهم المتناقضة. لم يكن يرى في الفن إلا نوعا من مسائل الرياضة أدق وألطف من الرياضة المألوفة، لم يستطع أحد أن يردها إلى الوضوح، ولا يستطيع إلا قليل جدا من الناس أن يفترضوا وجودها. كان كثيرا ما يتحدث عن الفن العالم، وكان يقول: إن صورة من الصور نتيجة لطائفة من أعمال العقل.
ومع ذلك فإن أصحاب السذاجة يرون أن الأثر الفني إنما هو نتيجة لما يكون من لقاء بين ذكاء بارع، وموضوع من الموضوعات. إن فنانا متعمقا على هذا النحو، بل أشد تعمقا في أكبر الظن مما ينبغي، يؤجل الابتهاج بالفوز، ويخلق لنفسه المصاعب، ويشفق من سلوك أقصر الطرق.
كان ديجاس يرفض السهولة، كما كان يرفض كل ما لم يكن يقصر عليه تفكيره، لم يكن يتمنى إلا أن يرضى عن نفسه، أي أن يرضي أصعب القضاة وأصلبهم، وأبعدهم عن التحيز. لم يحتقر أحدا قط كما احتقر الشهرة والمنافع والثروة، وهذا المجد الذي يستطيع الكاتب أن يسبغه على الفنان في سخاء وخفة. وكان يسخر في عنف من هؤلاء الذين يحكمون في فنهم الرأي العام، أو السلطان المقرر، أو المنافع التجارية؛ كما أن المؤمن حقا لا يحفل إلا بحكم ربه الذي لا يمكن الاستخفاء منه، والاحتيال عليه بالتلفيق أو المفاجأة أو التصنع، أو أي مظهر مهما يكن. كذلك أقام ثابتا مستقرا لا يخضع إلا للفكرة المطلقة التي كونها لنفسه في فنه. لم يكن يريد شيئا إلا ما كان يجد أصعب المشقة وأثقل الجهد في استخلاصه من نفسه.
ولعلي أعود إلى هذا كله ... على أني لا أدري ما عسى أن أقول بعد حين؛ فقد يمكن أن أستطرد من حديث ديجاس إلى حديث الرقص، وإلى حديث الرسم، فلست أريد أن أترجم له على النحو المألوف، فلست حسن الرأي في التراجم، وهذا لا يدل إلا على أني لم أخلق لها. فليست حياة رجل من الناس آخر الآمر إلا مصادفات يتبع بعضها بعضا، وإلا أجوبة دقيقة أو غير دقيقة لهذه الأحداث أو تلك.
على أن ما يعنيني من حياة رجل من الناس شيء آخر غير هذه الأعراض التي تطرأ له، وليس ينفعني مولده ولا حبه ولا شقاؤه، ولا كل هذه الأشياء التي يمكن أن تلاحظ في حياة الناس؛ لأني لا أجد في هذا كله أيسر الوضوح المقنع الذي تستبين به قيمته الصحيحة، والذي يميزه تمييزا عميقا من الناس جميعا ومني.
ولست أزعم أني لا أميل في كثير من الأحيان إلى هذه التفصيلات التي لا تعلمنا شيئا ذا خطر، ولكن أقول: إن ما يمتعني لا يهمني دائما، وهذه حال الناس جميعا. فلنحذر مما يمتع ويسلي. «بول فاليري في أول كتابه ديجاس ورقص ورسم.»
على نحو من هذا القول كنت أريد أن أبدأ هذا الحديث الذي أستأنفه عن لزوميات أبي العلاء في آخر ساعة من ساعات النهار، وأول ساعة من ساعات الليل، وفي يوم من أيام الصيف الفرنسي على كل حال.
وكانت معان تشبه هذه المعاني تضطرب في نفسي، وتلح في أن تجري على لساني، وأن يثبتها قلم صاحبي في الصحف. ولكني كنت أمانعها أشد الممانعة، وآبى عليها أشد الإباء، وأرفض أعنف الرفض أن أطلب إلى صاحبي إعداد القرطاس والقلم، وأن يستعد للكتابة على حين أستعد أنا للإملاء.
وكنت أوثر على ذلك المضي في قراءة اللزوميات هذه التي أخذت في قراءتها منذ أيام. ولكن هذه الخواطر كانت أقوى مني وأشد بأسا. فقد جعلت تدور في رأسي، وتحاول أن تحرك لساني، وأن تطلق صوتي، حتى ألهتني عما كان صاحبي يقرأ لي من شعر أبي العلاء. فطلبت إليه أن يكف عن القراءة. وصبرت لهذه الخواطر ريثما أحرقت سيجارة أو سيجارتين لا أدري، أريد أن أصرفها عن نفسي. فلما رأيتها لا تريد أن تنصرف بالحسنى أردت أن أصرفها بالعنف.
وكان صاحبي قد أهدى إلي هذا الكتاب من كتب بول فاليري منذ أسابيع، فطلبت إليه أن يأخذ في قراءته لي، مستيقنا بأن حديث هذا الكاتب الفرنسي العظيم عن هذا المصور الفرنسي العظيم، وعما أراد أن يستطرد إليه من الرقص والرسم، سيشغلني عن أبي العلاء ولزومياته، فضلا عن الحديث في أبي العلاء ولزومياته. ولكن أعجب للمصادفات، وأعجب لقول فاليري نفسه: إن حياة رجل من الناس ليست إلا سلسلة من المصادفات. وأعجب لقول أبي العلاء نفسه في أول اللزوميات: إنه إنما قال ما قال بقضاء لا يشعر كيف هو.
فلم أكد أسمع لمقدمة بول فاليري حتى رأيت خواطري مصورة، ومعاني ممثلة، وحتى خيل إلي أن هذه المعاني والخواطر قد قامت أمامي ضاحكة مني، هازئة بي، تقول: لقد حاولت أن تكظمنا وتكتمنا فلم تفلح ولم توفق، وحاولت أن تفر منا إلى هذا الكتاب فإذا نحن نطالعك، وإذا أنت تطالعنا في أوله فأذعن للقضاء، وخذ في الإملاء.
هنالك لم أر بدا من أن أترجم هذه الصفحة من صفحات بول فاليري، ومن أن أستعيرها بدءا لهذا الحديث. والغريب الذي لم أكن أتوقعه ولا أفترضه أن كثيرا من صفات هذا المصور الفرنسي، الذي كنت أسمع اسمه، وأجهل من أمره كل شيء، تشبه ما ألفت وأحببت من صفات أبي العلاء. فشدة الرجل على نفسه إلى أقصى غايات الشدة، وشك الرجل في مقدرته إلى أبعد آماد الشك، وارتياب الرجل بأحكام الناس في أمور الفن، وزهد الرجل في الشهرة وبعد الصيت، وفي الثراء وسعة ذات اليد، وانصرافه عن الحمد الكاذب، والثناء الرخيص، وتأجيله لذة الظفر بالفوز، وخلقه المصاعب لنفسه، وبغضه للطرق القصار والأبواب الواسعة، وإيثاره الطرق الطوال والأبواب الضيقة. كل هذه الخصال التي يحدثنا بها بول فاليري عن صديقه وأثيره ديجاس؛ قد حدثتنا بها القرون والأجيال عن أبي العلاء، إلا أن الأول كان مصورا رساما، والآخر كان شاعرا حكيما.
وما قضيت العجب، وما أظنني سأقضيه من توافق هذه المصادفات، وتوارد هذه الخواطر! ولولا أني قد شهدت ذلك بنفسي وخضعت له، وتأثرت به لما صدقته، ولا اطمأنت نفسي إليه. وإني لأعذر قارئا إن شك في صدق هذا الحديث، وظن - فيما بينه وبين نفسه، أو فيما بينه وبين الناس - أني قد قدرت له ذلك تقديرا، وموهته عليه تمويها.
وما دمت أملي على كره مني، وعلى غير علم بما سأقول بعد حين وما سأدع، فلا أقل من أن أستقصي أمر هذه المصادفة ما وسعني استقصاؤه. فلم اصطحبت اللزوميات إلى فرنسا هذا العام؟ ولم أهملتها شهرا لا أنظر فيها، ولا أسمع لها، ثم أقبلت عليها لا أنصرف عنها، ولا أعدل بها شعرا ولا نثرا؟
أما اصطحابي اللزوميات فمصدره يسير جدا، فقد ظهر في هذا العام جزء من كتاب الفصول والغايات لأبي العلاء، وقرئت علي منه صحف، فخيل إلي أن من الجائز أن يكون بين هذا الكتاب وبين اللزوميات سبب قوي أو ضعيف في الألفاظ أو في المعاني. وكان صديقي الأستاذ ماسينيون قد افترض منذ ثلاثة أعوام أن بين أبي العلاء وبين الإسماعيلية صلة في المذهب واشتراكا في الرأي، وكنت قد أكبرت ذلك وأنكرته، واشتد فيه الحوار بين الأستاذ الصديق وبيني، فوعدته أن أعود إلى قراءة اللزوميات من أولها إلى آخرها؛ لأعلم علم هذا الأمر، ولا مطمع بالطبع في قراءة دقيقة متصلة لديوان ضخم كاللزوميات ، ومجلد ضخم كهذا الجزء الذي ظهر من الفصول والغايات أثناء العام الجامعي. فقلت لصاحبي حين أزمعت الرحلة: احمل لنا هذين الكتابين؛ فلعل الله أن يتيح لنا من الوقت بعض ما يحتاج تحقيق ما نريد تحقيقه.
وليس هذا كل شيء، فلم أكد أبلغ مدينة نابولي، وأنفق فيها يوما وبعض يوم حتى خرجت للتروض مع أسرتي على سواحل هذه المدينة، وبينما كانت زوجتي وابناي وصاحبي ينظرون إلى البحر والسماء، وإلى الجزر والربى، وإلى هذه المناظر الكثيرة المختلفة التي كانت تحدث لهم متعة، وتطلق ألسنتهم بالإعجاب، وتبهر نفوسهم وتسحر قلوبهم، كنت أحس هذه الطبيعة التي لم أكن أراها ولا أتصورها، ولا أعرف لها كنها تدنو مني قليلا قليلا، ثم تنفذ إلى نفسي، ثم تملأ قلبي رضا وأملا، وحبا للحياة. وبينما كانوا يتحدثون عما كانوا يرون، ويتواصفون ما كانوا يشهدون، كنت أنا أدير في نفسي حوارا بيني وبين أبي العلاء، موضوعه: الرضا عن الحياة، والسخط عليها، والابتسام لها، والضيق بها، وكنت أحدث أبا العلاء بأن تشاؤمه لا مصدر له في حقيقة الأمر إلا العجز عن ذوق الحياة، والقصور عن الشعور بما يمكن أن يكون فيها من جمال وبهجة، ومن نعيم ولذة. وكان أبو العلاء يقول لي: فإنك ترضى عما لا تعرف، وتعجب بما لا ترى. وكنت أقول له: إن لم أعرف كل شيء فقد عرفت بعض الأشياء، وإن لم أر الطبيعة فقد أحسستها. وكان أبو العلاء يقول لي: تبين إن استطعت حقيقة ما تعرف، فسترى معرفتك مشوهة، ولائم إن استطعت بين ما تحس من الطبيعة، وما يرى الناس منها، فلن تجد إلى هذه الملائمة سبيلا، واذكر ما أمليته على صاحبك منذ سبعة أعوام في ذلك الدفتر الصغير الذي أهملته إهمالا، وأبيت أن تسر إليه بذات نفسك. اذكر ما أمليته على صاحبك من أنك تعلم حق العلم أن لو ظهر المبصرون على ما تحصل نفسك من حقائق الأشياء ومظاهر الطبيعة لضحك منك الضاحكون، وأشفق عليك المشفقون، فما ابتهاجك بصور لا تصور شيئا، وما رضاك عن خيالات ليس بينها وبين مظاهر الأشياء - فضلا عن حقائقها - سبب قريب أو بعيد؟ وكنت أسأل أبا العلاء: أيهما خير: أن تلم بنا أسباب النعمة قوية أو ضعيفة، صحيحة أو كاذبة، فنتشبث بها، ونشد بها أيدينا وأنفسنا، ونأخذ ما تحمل إلينا من ألوان الراحة وضروب الأنس، أم أن تعرض لنا فنعرض عنها، وتقبل علينا فنمتنع عليها، ولا نحصل من الحياة إلا ما حصلت من خيبة الأمل، وكذب الرجاء، وظلمة اليأس، وحرقة القنوط؟ وكان أبو العلاء يجيبني ببيته المشهور:
ولم أعرض عن اللذات إلا
لأن خيارها عني خنسنه
وكنت أتهمه بالإسراف على نفسه وعلى الحياة، وأصمه بالكبرياء والغلو فيها، وأدعوه إلى شيء من التواضع والاعتدال في الرأي والسيرة جميعا. وأزعم له أنه يصور لنفسه أمر الحياة على غير وجهه، ويظن بلذات الحياة أكثر وأكبر مما ينبغي أن يظن بها، وأن المبصرين الذين يرون ما لا نرى، ويشهدون ما لا نشهد، ويستمتعون من جمال الدنيا بما لا نستمتع به، إنما يأخذون من أسباب هذا كله بأوهنها وأضعفها، وأنهم لو حققوا ما يرون - وأنى لهم ذلك؟ - لما وجدوا بين ما يرتسم في نفوسهم من الصور وبين الحقائق الواقعة إلا أيسر الأسباب، وأبعدها من المتانة والقوة، وعن الصدق والمطابقة. فحقائق الأشياء وجمال الطبيعة أبعد منالا مما يظن المبصرون وغير المبصرين. وما ينبغي للرجل الزاهد أن يستشعر الحسد، وأن يضيق بما يجد الناس من نعمة، وأن يسخط على الحياة؛ لأنه لا يبلغ أعماقها، ولا يصل إلى حقائقها، وأن يسخط على الأحياء؛ لأنه لا يشاركهم في كل ما يستمتعون به، وإنما يشاركهم في قليل منه، ويستأثرون من دونه بالكثير.
وكان الجو من حولي صافيا، مشرقا، عطرا، ولم تكن الطبيعة تتحدث إلي بلسان واحد أو لغة واحدة، وإنما كانت تتحدث إلي بألسن مختلفة، ولغات متباينة. كانت تتحدث إلي بعبيرها الذي كان يملأ الأرجاء، وبطيرها التي كانت تستقبل الليل بأعذب النغم وأشجاه، وبهذا الهدوء الشاحب الحزين الذي يلم بالحياة والأحياء إذا آذنت الشمس بالمغيب؛ وبابتهاج الناس لما يجدون من جمال، وبابتئاس الناس لما يشعرون به من حزن، وبما يعلن الناس به ابتهاجهم وابتئاسهم من الأصوات والحركات؛ ثم بكل هذه الحياة العاملة المنصرفة إلى تحقيق المنافع، وإرضاء الحاجات غير حافلة بجمال الطبيعة، وما يثير في النفوس من بهجة وغبطة، وما يفيض عليها من حزن وأسى.
وكنت أسمع هذه الأحاديث كلها فأشتد على أبي العلاء في اللوم، وأعنف عليه في العذل، وأقول له: إن أيسر هذا خليق أن يرضيك مهما يبلغك مشوها ممسوخا، وإن شيئا خير من لا شيء، وإن من الإثم أن تسمي الدنيا «أم دفر»، وهي التي تهدي إليك هذا العبير، وأن تصفها بالقسوة والغلظة وهي التي تمنحك هذه الرحمة وهذا اللين.
ويشتد علي هذا الحوار بيني وبين أبي العلاء حتى أبرم به وأفر منه، وأطلب إلى من حولي أن يدعوني إليهم، وأن يستنقذوني من هذه الحياة التي كنت أحياها في القرن الرابع للهجرة أو العاشر للمسيح!
ثم أصبح فأزور مع أسرتي جزيرة كابري، وأشهد ما كان يملؤهم من هذا الإعجاب الذي كان يخرجهم عن أطوارهم، وأقنع أنا مما يجدون بما يبلغني من رقة الهواء، ونقاء الجو وصفائه، وبما يحمله إلي النسيم من العرف، وبما يلقي في نفسي من أوصاف لا تحقق لها شيئا، ولكنها تثير فيها كثيرا من الخواطر والمعاني وضروب الخيال. وإذا الحوار يستأنف بين أبي العلاء وبيني متصلا عنيفا مختلفة ألوانه.
ثم أقضي على هذا النحو الأيام التي أنفقتها في نابولي، فإذا تركت هذه المدينة شغلت عن الطبيعة، وعن أبي العلاء بالسفر الطويل الشاق، ولكني لا أكاد أبلغ مدينة ستريزا، وأستقر فيها ساعات حتى تبلغني أحاديث الطبيعة حلوة عذبة بين جبال شاهقة، وأشجار باسقة، وأرجاء عطرة، ورقعة من الماء قد بسطت في هذه البحيرة تريد أن تستقر وتثبت، لولا أن النسيم يداعبها، فيضطرب سطحها لهذه المداعبة اضطرابا خفيفا يصدر عنه خرير فاتر خفيف، ولولا أن الريح تعنف بها فتضطرب لهذا العنف من جميع أقطارها، ويصدر عن هذا الاضطراب هدير صاخب عنيف.
وألم بهذه الجزر الناتئة في هذه الرقعة من الماء، فإذا أنا بين رجلين يدعوني أحدهما إلى زهد شاحب مظلم؛ لأني أشهد لذات الحياة، ولا أكاد أحصلها، ويدعوني أحدهما الآخر إلى حياة كلها حس ومتعة؛ لأن جمال الطبيعة ينفذ إلى نفسي من كل وجه. فأما الأول فهو أبو العلاء، وأما الثاني فهو أندريه جيد.
وإذا الحوار يتصل بيني وبين هذا الرجل أو ذاك، أخلو مرة إلى ذاك فتضيق نفسي بكل شيء، وأخلو مرة أخرى إلى هذا فتتسع نفسي لكل شيء، وينقذني من الرجلين جميعا بين حين وحين حديث زوجي، أو حديث ابني، أو حديث بعض الأصدقاء.
ثم أترك إيطاليا وفي نفسي من أبي العلاء شيء، في نفسي أن أفرغ له، وأن أطيل التحدث إليه والاستماع منه؛ لأتبين أين يكون الحق: أفي سخطه وتشاؤمه، أم في رضاي وتفاؤلي؟ ولكني لم أكن أحدث نفسي بأن هذا الحوار سيخرج إلى كلام ينطلق به اللسان، ويجري به القلم، وتمسكه الصحف.
على أني لم أكد أبلغ فرنسا وأستقر في قرية من قراها حتى أنسيت الحياة ولذاتها، والطبيعة وجمالها، وأبا العلاء وتشاؤمه، وأندريه جيد وتفاؤله، وشغلت عن هذا كله بما لم يكن بد من الفراغ له من القراءة والإملاء. وأنفق في ذلك شهرا ونحو شهر، وإذا أنا أحس جهدا ثقيلا، وألما ممضا، وحاجة إلى الراحة والتسلية عن العمل العقلي. وما أكثر ما بين يدي من الكتب المختلفة، وما أكثر ما يدعوني منها إلى اللذة والراحة، وإلى السلو والنسيان! منها كتب في الأدب العربي المشرق الممتع، ومنها كتب في الأدب الفرنسي، ومنها كتب في الأدب الإنجليزي. والطبيعة من حولي رائعة بارعة، وجميلة مشرقة، وكل ذلك يدعوني ويلح في الدعاء، وكل ذلك يغريني، ويلحف في الإغراء، ولكني لا أسمع لشيء من ذلك، ولا ألتفت إليه، ولا أقف عنده، وإنما أطلب إلى صاحبي أن يقرأ لي في اللزوميات، وأن يقرأ لي فيها من أولها. وصاحبي يفعل وأنا أستمع، وإذا أنا بعد ساعات كأبي العلاء رهين سجون ثلاثة لا سجنين. أليس أبو العلاء يقول:
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسم الخبيث
وإذا تلك المعاني التي عرضتها عليك في أول هذا الحديث تخطر لي، وتلح علي، وتخادعني، وتضطرني آخر الأمر إلى ما أخذت فيه من إملاء.
أتراني أخذت في هذا الحديث عن رضا؟ أتراني أخذت فيه عن كره؟ لا أدري! ولكني أعلم أن الليل قد تقدم، وأن كل شيء من حولي هادئ مستقر حتى ما يبلغني صوت، ولا يصل إلي شيء من هذا الضجيج العنيف الذي يمتلئ به أسفل الفندق. فقد سمعت حين انصرفت عن مائدة العشاء أن الشباب سيحيون بالرقص أول الليل. أعلم هذا، وأعلم أن نفسي قد ضاقت بالإملاء وانصرفت عنه، وأني سأدع هذا الحديث الآن، ولن أهبط إلى غرفتي قبل أن أسمع قصيدة، أو قصائد من اللزوميات. ومن يدري أأستأنف هذا الحديث إذا كان الغد، أم أصرف عنه لعمل آخر، أم أطلب إلى صاحبي أن يصنع به ما يشاء؟
الفصل الثاني
وما أريد أن أظلم أبا العلاء، فأترجم له مرة أخرى، فقد ترجمت له منذ ربع قرن، وما أراني أستطيع أن أعرض جديدا من أمره إن استأنفت درس حياته، وعرضها على الناس. فقد ظهرت للرجل رسائل وكتب لم تكن بين أيدينا حين أمليت ذكرى أبي العلاء، ولكن الغريب أنها لا تضيف إلى ما نعلم من حياته شيئا، ولعلها لا تضيف إلى ما نعلم من آرائه شيئا، فأي خير إذن في أن أعيد في هذا الحديث ما بدأته في ذكرى أبي العلاء؟ وما يمنع الراغب في درس حياته، أو في درس ما يعرف من حياته أن يلتمس هذا في ذلك الكتاب القديم، أو فيما نشر بعده من الكتب والرسائل، ومن المقالات والفصول؟
ولست أرى رأي بول فاليري في التراجم، ولست أهمل ما للتفصيلات التي تمس حياة الشعراء والأدباء والفلاسفة من خطر، ولعل صناعتي هي التي تقف بي عند هذا الطور، وتكرهني على أن أقدر التاريخ الأدبي بما فيه من تفصيل وإجمال، كما أقدر التاريخ السياسي بما فيه من تفصيل وإجمال أيضا. ولعل صناعة بول فاليري هي التي ترفعه عن الاحتفال بالتاريخ مهما يكن موضوعه. فبول فاليري شاعر أديب بارع في الشعر والأدب، يتكلف التعليم منذ أنشئ له كرسي في الكوليج دي فرانس، فلا غرابة في أن يرفعه فنه عن تفصيلات الحياة الإنسانية. وأنا معلم يتكلف الأدب الخالص حين يستريح من التعليم، وحين يخلى بينه وبين الحياة، فلا يجد ما يعمل إلا أن يشعر ويتأثر، ويحاول أن يصور ما يجد من حس أو شعور.
فلا غرابة في أن تهبط بي صناعة التعليم إلى دقائق الحياة الإنسانية وتفصيلها، ولكني على ذلك أعترف بأن التاريخ الأدبي كالتاريخ السياسي يغلب فيه الظن، ويكثر فيه الرجحان، ويقل فيه اليقين. وما أدري أمن إنصاف الناس أن نقول فيهم بالظن، ونأخذ في أمرهم بما نرجحه الآن، وقد نشك فيه غدا، أو بما نرجحه نحن، وقد يجحده غيرنا أشد الجحد، وينكره أشد الإنكار؟ وماذا تريد أن أقول لك، ونحن نقرأ أحيانا ما يقول الناس فينا، وما يظن الناس بنا فنضيق به أشد الضيق، ونسخط عليه أعظم السخط؛ لأننا لا نراه ملائما لما نعرفه من حقائق أنفسنا، أو لأننا نراه ملائما لهذه الحقائق، ولكننا نكره أن يعرف، وأن يقال، وأن يذاع في الناس!
وما أشك في أن أبا العلاء قد كان مثلنا، يحب أن يعرف الناس من أمره أشياء، ويكره أن يعرفوا من أمره أشياء أخرى. وقد احتاط الرجل لذلك ألوانا من الاحتياط، واتقاه بضروب من التقية. فألغز وغلا في الألغاز، واصطنع الاستعارة والمجاز، ودار حول كثير من المعاني دورانا، ولم يرد أن يتعمقها في شعره أو نثره مخافة أن يظهر الناس على رأيه، وأن يعرفوا من أمره ما كان يجب أن يجهلوا، ويطلعوا من سره على ما كان يؤثر أن يظل عليهم مستغلقا، ودونهم مكتوما.
وأنا أعرف أن العلم يكلف أصحابه أهوالا ثقالا، ويحملهم من بعض الأمر على ما لا يحبون أن يحملوا عليه؛ فيضطرهم أحيانا إلى هتك الأستار، وفضح الأسرار ، وإظهار الناس من أمر بعضهم على ما لا ينبغي أن يظهروا عليه. تلك تضحيات يتكلفها العلماء في سبيل الوصول إلى الحق، لا يشبهها إلا ما يتكلفه أصحاب العلوم التجريبية من تعذيب الحيوان في سبيل ما يبتغون من العلم الخالص، أو من العلم الذي ينفع الناس في حمايتهم من العلل والآفات.
أنا أعرف هذا، وقد أقدمت على كثير منه حين درست من درسته من الشعراء والأدباء في غير هذا الحديث. ولكن ما رأيك في أني أحب أبا العلاء، وأريد أن أسير معه في هذا الحديث سيرة الصديق الوفي الأمين، فلا أسوءه في نفسه، ولا في رأيه، ولا أذهب فيما سأعرض له من البحث مذهب أصحاب العلم الذين يضحون بموضوع بحثهم، فيخضعونه لألوان من التمحيص، وضروب من التحليل، يحملونه من ذلك ما يطيق وما لا يطيق، ويعرضونه من ذلك لما يحب وما لا يحب. أفلو كان أبو العلاء حيا معاصرا، وكنت له صديقا معاشرا أتراني كنت أظهر من أمره ما يقتضي العلم إظهاره، وأجهر من سره بما يفرض العلم على العلماء أن يجهروا به، مضحيا في سبيل ذلك بما يمكن أن يكلف ذلك أبا العلاء من الحزن والألم، ومن الخوف والفزع، ومن الإشفاق والضيق؟ أم تراني كنت أوثر وده، وأرعى حقه، فأحفظ عليه غيبه ولا أوذيه فيما لا يحب الناس أن يؤذوا فيه من خاصة أمورهم؟ لأمر ما منع الناس أنفسهم من أن يتناولوا الأحياء من الأدباء بالبحث العلمي الدقيق، والتحليل الذي لا يرهب شيئا، ولا يرجو لشيء وقارا. منهم من يمنعه من ذلك خوف القانون الذي يحمي الأحياء من الأحياء، ويكف شر الناس عن الناس؛ ومنهم من يمنعه من ذلك قلب رقيق، وحس دقيق، وإيثار للعافية، وإشفاق أن يصنع الناس به صنيعه بهم، وأن يخضعوه لما يخضعهم له من التمحيص والتحليل؛ ومنهم من يمنعه من ذلك مجرد الحب والرفق، وهذا الشعور الممتاز الذي يرتفع بصاحبه عن إيذاء الناس فيما يكرهون أن يؤذوا فيه.
الناس يصطنعون هذا التحفظ مع الأحياء، ولكنهم لا يصطنعونه مع الموتى، وإنما يهدرون من أمر الموتى في سبيل البحث ما لا يستطيعون أن يهدروه من أمر الأحياء! تبيح لهم القوانين ذلك، وتدعوهم طبيعة العلم وحرية البحث إليه. وليس عليهم بأس أن يخطئوا فيضطرهم الخطأ إلى الظلم؛ لأن كل الناس يخطئ ويصيب، ولأن الوصول إلى الصواب قلما يتأتى إلا بعد التورط في الخطأ.
كل ذلك أعرفه ويعرفه الناس، وقد اصطنعته حين درست أبا العلاء منذ ربع قرن. ولكني مع ذلك أريد أن أعرض عنه في هذا الحديث؛ لأني كما قدمت أحب أبا العلاء، وأريد أن أتحدث عنه حديث الصديق. وأود لو استطعت أن أصدر فيما أملي عن القلب الذي يحب ويعطف ويرحم لا عن العقل الذي يمحص ويحلل، ويقسو في التمحيص والتحليل.
قد كنت أريد ذلك منذ اضطررت إلى الأخذ في إملاء هذا الحديث، ثم ثبتني على ما أريد بيت من شعر أبي العلاء وقفت عنده فأطلت الوقوف، وفكرت فيه فأطلت التفكير، وتأثرت به فكان تأثري به قويا عميقا، وكان انتهائي إلى هذا البيت أثناء تفكيري في هذا الرفق مصادفة من المصادفات كما يقول بول فاليري، وقضاء من سالف الأقضية كما يقول أبو العلاء. وماذا تريد أن أصنع وعمل المصادفات في هذا الحديث لا يريد أن ينقضي؟
وهذا البيت هو قول رهين المحبسين:
لا تظلموا الموتى وإن طال المدى
إني أخاف عليكمو أن تلتقوا
لست أدري أتشعر كما أشعر، وتجد من قراءة هذا البيت مثل ما أجد؟ ولكن قلبي يمتلئ لإنشاده رحمة وبرا، وحنانا وإشفاقا. أترى أبا العلاء فكر في نفسه، وفيما سيقول الناس فيه بعد موته؟ أتراه أشفق من ظلم الناس له بعد موته كما ظلموه أثناء حياته، ومن تجني الناس عليه بعد ارتحاله عنهم كما تجنوا عليه حين كان مقيما بين أظهرهم؟ أم تراه لم يفكر في نفسه، ولم يحفل بما سيقول الناس فيه، وإنما فكر في غيره من الموتى، وفيما كان الناس يقولون فيهم، ويحملون عليهم؟ أم تراه لم يفكر في نفسه، ولا في غيره، وإنما عرض له المعنى فسجله وصوره في هذا اللفظ الحلو الرقيق الذي لا يبلغ قلبا رحيما رقيقا إلا أثر فيه؛ لأنه صدر من قلب رحيم رقيق؟
إذا قرأت اللزوميات فما أكثر ما ستجد فيها من ازدراء أبي العلاء لما سيقال عنه بعد الموت. وإذا قرأت اللزوميات فما أكثر ما ستجد فيها من قسوة أبي العلاء على الأحياء والأموات جميعا. وإذن فهل تراه فكر في نفسه، أم هل تراه فكر في غيره حين قال هذا البيت؟ أم هل تراه في لحظة من لحظاته قد أشفق على الموتى من حيث هم موتى؟ تصور عجزهم عن أن يدفعوا عن أنفسهم، وقصورهم عن أن يردوا ما يصب عليهم من الظلم، فرحمهم وأشفق عليهم؛ لأنه كان رحيما شفيقا. ولماذا يخاف أبو العلاء على الأحياء الذي يظلمون الموتى أن يلقوهم؟ ماذا يخاف على الأحياء، وماذا يخاف من الأموات؟ أتراه ينذر ويهدد ويخوف من الانتقام والبطش، أم تراه ينبه عاطفة الحياء، ويشفق على الظالم أن يلقى المظلوم فيستحي منه؟ أم تراه لا ينذر ولا يخوف، ولا ينبه عاطفة الحياء، وإنما يشير إلى أن من الجائز ألا يكون الموت خاتمة للإنسان، وأن يكون للنفس حظ من خلود، ومن شعور بهذا الخلود، وأن يكون من نتائج ذلك أن يلتقي الموتى في عالم آخر كما كان الأحياء يلتقون في هذه الدنيا؟ وكما أن الناس في هذه الدنيا يخوفون من أن يظلم بعضهم بعضا بالانتقام مرة، وبتنبيه عاطفة الحياء في أعماق الضمير مرة أخرى، فليخوف الموتى هذا الخوف المشترك بين الانتقام والحياء أيضا! فمن الناس من ينتصف إذا ظلم فيبطش بظالمه، ومن الناس من يعجزه هذا الانتصاف فيستعدي الله على ظالمه، والله شديد الانتقام. ومن الناس من يحلم فلا يبطش بظالمه، ولا يستنزل عليه غضب الله، وإنما يعفو، ويكون من عفوه أقسى عقوبة للظالم، وأعظم تنكيل به؛ لأنه يؤذي منه عاطفة الحياء، وهي أرق العواطف وأدقها حسا.
مهما يكن من شيء فإني قد أطلت الوقوف عند هذا البيت، وتصورت أني لقيت أبا العلاء في هذه الحياة أو في حياة أخرى؛ فآلمني أن ألقاه ظالما له، متجنيا عليه، ولو كان ذلك في سبيل العلم، واستكشاف الحق من أمره. وما تصورت أبا العلاء باطشا بي أو موعدا لي، وإنما تصورته معرضا عني، مشفقا علي من ظلمي له، وتجني عليه، وتصورت نفسي معتذرا إليه، ومستعطفا له؛ فكرهت أشد الكره أن أقف منه هذا الموقف، وأن أكون منه بهذا المكان، والغريب أني قد وعيت هذا البيت وفقهته كما ترى، وتأثرت به أشد التأثر، وقبلت وعظ أبي العلاء بالقياس إلى أبي العلاء نفسه؛ ولكني لم أقبله، وما أرى أني سأقبله، بالقياس إلى غيره من الشعراء والكتاب الذين عرضت لهم أو سأعرض لهم بالدرس والبحث في يوم من الأيام! إني أتصور من شئت من الشعراء والكتاب الذين ارتحلوا عن هذه الدار في العصور القديمة أو في هذا العصر الحديث، وأتصور أني أعرض لهم بالنقد، وأعرض لحياتهم الخاصة بالدرس، وأقول فيهم ما لم يكونوا يحبون أن يقال فيهم، وأظهر من أمرهم ما لم يكونوا يريدون أن يظهر من أمرهم، ثم ألقاهم بعد ذلك في هذه الدار أو في دار أخرى فأجد منهم سخطا على ما قلت فيهم، وضيقا بما أظهرت من أمرهم؛ وقد يعرض لي بعضهم بالأذى، وقد يكتفي بعضهم بالعتاب، وقد ينالني بعضهم بالعفو والإغضاء، ولكن شيئا من ذلك لا يهمني ولا يخيفني، ولا يصرفني عما يجب أن أقبل عليه من البحث ما دمت مطمئنا إلى أني لم أتعمد ظلما ولا تجنيا، ولم أقل إلا ما اعتقدت - مصيبا أو مخطئا - أنه الحق.
أتراني أشفق من لقاء المتنبي مثلا وقد قلت فيه ما قلت، وأظهرت من أمره ما أظهرت؟ أتراني أشفق أن ينالني الأذى من يده أو لسانه؛ لأني لم أصدقه فيما زعم لنفسه من هذه المفاخر أو تلك؛ ولأني لم أرض من أخلاقه عن هذه الخصال أو تلك، ولأني وقفت من نسبه موقف التردد والشك؟ كلا! لأني لم أصدر فيما قلت عن المتنبي إلا عن رأي رأيته بعد روية وتفكير، وبعد تمهل وترجيح. فأنا لم أرد به شرا، ولم أقترف في ذاته ظلما، لم أرد أن أرضيه، ولم أرد أن أسخطه، وما يعنيني أن أرضيه أو أسخطه، وإنما يعنيني أن أظهر وأظهر الناس من أمره على ما أرجح أنه الحق.
ولو قد كان المتنبي حيا لما حفلت من أمره إلا بما تفرض القوانين والمجاملة أن أحفل به. وقد سرت هذه السيرة نفسها مع بعض الشعراء الذين عاصرونا، ثم انتقلوا عن هذه الدار إلى رحمة الله ورضوانه، واجهتهم بالنقد أحيانا، ولم أغير فيهم رأيي بعد أن قضوا، وما أدري لعلي أن أكون لهم ظالما من حيث لا أريد الظلم، وعليهم متجنيا من حيث لا أريد التجني! وقد أوازن بين أبي تمام والبحتري فأرضى حتى أبلغ أقصى غايات الرضا، وأسخط حتى أبلغ أقصى غايات السخط، وأثني وأعيب كما رضيت وكما سخطت، وما يعنيني وما يخيفني أن يغضب الطائيان أو يرضيا، وما يعنيني وما يخيفني أن يلقياني بالرضا والغضب في هذه الحياة أو في تلك. ولا كذلك أمري مع أبي العلاء، فإني أكره أن أقسو عليه، راضيا أو كارها، مخافة أن ألقاه فإذا هو متأذ بهذه القسوة؛ لأني أحبه كما قلت، ولأني أجد فيه من الرفق والرحمة، ومن الحنان والإشفاق، ومن البر والعطف بالناس وبالحيوان ما لا أجده عند غيره من الشعراء والفلاسفة إلا قليلا. وكيف تتصور القسوة على رجل كان يرحم النحل، ويلح في أن لا يشتار ما تجمع لنفسها؛ وكان يرحم الدجاج، ويفزع إذا قدمت إليه، ويرد الناس أشنع الرد عن إيذائها؟ وكان يحاور الديك هذا الحوار الحلو الذي قد أقف عنده في وقت من الأوقات؛ وكان يترجم عن الضأن للناس، فينبئهم بأنها تعذر عدوان الذئب عليها؛ لأنه يقوم على العدوان من غير بصيرة وعقل، ولا تعذر عدوانهم هم عليها؛ لأنهم يقدمون عن روية وتفكير، وعن تعمد للقسوة، وإصرار عليها؟ وكيف تتصور القسوة على رجل ما أظن أحدا فهم عن ذوات الأطواق مثل ما فهم عنها، وما أظن أحدا رحمها من عدوان الناس، وعدوان سباع الطير، وعدوان حوادث الأيام كما رحمها؟
أبنات الهديل أسعدن أو عد
ن كثير الهموم بالإسعاد
إيه لله دركن فأنتن
ن اللواتي يحسن حفظ الوداد
وستقول: فإنك إن مضيت على هذا النحو لم تقدم إلينا كتابا في البحث العلمي، ولا في النقد الأدبي، وإنما تتحدث إلينا عن صديق! وهذا حق، فإني لا أقدم إليك كتابا في البحث العلمي عن أبي العلاء، ولا في النقد الأدبي لأبي العلاء، ولعلي قدمت إليك من ذلك ما فيه مقنع، وإنما أتحدث إليك عن صديق لا يرجى نفعه، ولا يتقى شره، ولا يصدر المتحدث عنه إلا عن الحب المبرأ من الرغب والرهب، ومن الطمع والإشفاق. أفتراك تكره مثل هذا الحديث؟ ألم تسأم هذه الأحاديث الكثيرة التي تمتلئ بالبحث العلمي والنقد الأدبي، والتي تكتب ابتغاء لرضا الأصدقاء، واتقاء لسخطهم؟ ألم يجهدك هذا السفر المتصل في هذه الطريق الطويلة الملتوية، طريق البحث العلمي، والنقد الأدبي؟ ألست في حاجة إلى أن تعرج على هذه الواحة الخضراء لتستريح لحظة في ظل الحب النقي الكريم؟
الفصل الثالث
وأنا شديد الإشفاق على أبي العلاء من نفسه قبل كل شيء، وقبل كل إنسان، فلم يظلمه أحد قط كما ظلم نفسه، ولم يكلفه أحد قط من الجهد والعناء، ومن المشقة والمكروه مثل ما كلف نفسه نحو خمسين عاما. ولم يفتن أبو العلاء في شيء كما افتن في ظلم نفسه، وتحميلها ما تطيق، وما لا تطيق، وأخذها بالمكروه في حياتها العملية والعقلية أيضا.
وأول ما ألاحظه من ظلم أبي العلاء نفسه اقتناعه بأنه سجين، وامتناعه عن أن يرى لنفسه سجنا واحدا، بل عن أن يرى لنفسه سجنين، وإباؤه إلا أن تكون لها سجون ثلاثة يذكرها في البيتين اللذين رويتهما آنفا:
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسم الخبيث
فأنت ترى أن أبا العلاء لم يكتف بالسجن الذي فرضته الطبيعة عليه فرضا حين أفقدته ناظره كما يقول، وإنما فرض على نفسه سجنين آخرين، أحدهما: ظاهر محس، يراه الناس جميعا، ويشهدون ما يمكن أن يلقى سجينه من الحزن اللاذع، والألم الممض، وهو هذا البيت الذي أقام فيه أبو العلاء لا يريمه، وفرض على نفسه لزومه مهما تكن الظروف، وطلب إلى أهل المعرة ألا يخرجوه منه حتى حين يغير الروم على المدينة.
والثاني: سجن فلسفي، تخيله كما يتخيل الشعراء، واشتقه من حقائق الأشياء كما يفعل الفلاسفة، وما أكثر ما يلتقي الشعراء والفلاسفة في موقف واحد يتفق فيه العقل والخيال جميعا!
هذا السجن الخيالي الفلسفي هو الجسم الذي أكرهت النفس - كما كان يتصور أبو العلاء، وكما تصور الفلاسفة من قبله ومن بعده - على أن تستقر فيه لا تتجاوزه، ولا تتعدى حدوده إلا حين يقضي عليها الموت، وهي حينئذ تظفر بحرية لا تعرف كيف تقدرها، ولا كيف تستمتع بلذاتها أثناء هذه الحياة؛ لأن هذه الحرية مجهولة المدى، مجهولة الموضوع، يثير انتظارها في النفس ألوانا من الشك، وضروبا من الخوف، وفنونا من الهلع أحيانا. فما مصير النفس بعد أن تفتح لها أبواب هذا السجن، وتحط عنها قيوده وأغلاله، ويخلى بينها وبين الانطلاق؟
لقد استراح المؤمنون الذين اطمأنوا إلى البعث، بعث الأرواح وحدها، أو بعثها مع الأجسام، اطمأنوا إلى أن حياتهم بعد الموت متصلة بحياتهم قبل الموت، ومتأثرة بها، ومؤدية لثمنها، ومحتملة لتبعاتها، اطمأنوا إلى أنهم مسئولون بعد الموت عما قدموا بين أيديهم قبله، فهم يعلمون نحوا من العلم إلى أين هم ذاهبون، وإلى أي حال هم صائرون. ويثير هذا العلم في نفوسهم كثيرا من الأمل، وكثيرا من اليأس، كثيرا من الأمن، وكثيرا من الخوف، ولكنهم على كل حال مطمئنون إلى شيء أساسي، وهو أن خروج أنفسهم من هذا السجن لن يدفعها إلى المجهول المطلق الذي لا تعرف له أملا، ولا حدا، ولا موضوعا.
فأما الرجل الذي لم يطمئن إلى هذا الإيمان، ولم يمتلئ به قلبه، ولم تسكن إليه نفسه، ولم يسترح إليه عقله، وإنما هو مضطرب في أمره أشد الاضطراب، يؤمن مرة فيرجو أو يخاف، وينكر مرة فيدركه اليأس والجزع، ويضطرب بين الإيمان والإنكار في كثير من الأحيان، فإذا هو قلق لا يستقر على حال، وهذا الرجل معذب دائما أشد العذاب، إلا أن يفطر على التهاون والإعراض، والاشتغال بعاجل الأمر عن آجله، والانصراف إلى يومه عن غده، وإلى التفكير في حياته الدنيا، والاستمتاع بها، والاحتياط لها، عن التفكير في حياته الآخرة، والإشفاق منها.
ولم يكن أبو العلاء من هذا التهاون في شيء، وإنما رفض حياته الدنيا رفضا، وصد عنها صدودا، ومنعها أن تحول بينه وبين التفكير، وأن تحول بينه وبين ما يستتبعه التفكير من النتائج. وأشق من ذلك أن هذا الرجل الذي كان قوي الخيال بعيد آماده، كان في الوقت نفسه قوي العقل عميقه، قوي الإرادة عنيفها، فلم يستطع الخيال قط أن يسيطر عليه أو يستأثر به، وإنما وجد من العقل دائما ما يحده ويرده إلى التواضع والاعتدال. وما أكثر ما تأثر أبو العلاء بما كان يقرأ من الديانات، فمالت نفسه إلى الإيمان بالبعث! وما أكثر ما تأثر أبو العلاء بما كان يقرأ من كتب بعض الفلاسفة، فمال إلى التصديق بخلود النفس! ولكن ما كان أكثر ما يعرض العقل لهذا الميل فيمحوه محوا، أو يضعفه إضعافا شديدا! وأكبر الظن أنه حين كان يطمئن إلى خلود النفس لم يكن يطمئن إلى ما يزعمه الفلاسفة من تفصيل ما ستلقاه النفس الخالدة من سعادة أو شقاء، كما أنه حين كان يطمئن إلى البعث، لم يكن يطمئن إلى ما سيلقاه الناس بعد البعث من نعيم أو جحيم، فكان اطمئنانه إلى خلود النفس لا يزيده إلا شقاء؛ لأنه يشرف به على هوة لا يعرف لها قرارا، ولا علم له بما يضطرب فيها من خير وشر.
ولم يكن أبو العلاء يحرص على شيء كما كان يحرص على أن ينشر ميت من الموتى، فينبئه وينبئ الناس بما وراء الموت. ومن قبله طلب هذا إلى الأنبياء فلم يظفر طالبوه بشيء، ولم يظفر أبو العلاء بما لم يظفر به غيره، فظل في حيرة كما كان الذين جحدوا البعث من قبله في حيرة أيضا. نستغفر الله! بل إن أكثر الذين جحدوا البعث من قبله، لم يكن لهم عقله وذكاؤه، ونفوذ بصيرته، فلم يفكروا في عاقبة، ولم يشفقوا من مغبة، وإنما قالوا هي حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر. وما كان شيء أحب إلى أبي العلاء من أن يقول كما قالوا، ولكنه لم يستطع أن يقوله؛ لأن عقله كان يمنعه من ذلك؛ ولأنه لم يكن قادرا على أن يتصور أن الناس خلقوا عبثا، أو تركوا سدى. فلم يكن له بد إذن من أن يسأل نفسه، ومن أن يسأل الناس، ومن أن يسأل حيوان الأرض وجمادها، وكواكب السماء ونجومها، عما عسى أن يلقى الناس بعد أن تطلق نفوسهم من هذه السجون.
والذي كان يغيظ أبا العلاء إلى أقصى حدود الغيظ أنه كان يفكر ويستقصي، فيرى أن نفسه سجينة في جسمه بأدق معاني هذه الكلمة وأقساها، قد أدخلت السجن مكرهة، وأخرجت منه مكرهة، لم تسأل أتريد هذا الدخول أم ترفضه، ولم تستشر أترغب في هذا الخروج أم تزهد فيه. بل هي لا تذكر أنها جنت قبل دخول هذا السجن من الإثم ما يضطرها إلى دخوله، ولقاء العذاب فيه إن كان شرا. ولا تذكر أنها أتت من الصالحات بما يثيبها بدخوله، والاستمتاع باللذات فيه إن كان خيرا. لا تعلم شيئا عن ماضيها. فلم أدخلت هذا الجسم وأقرت فيه؟ ألتلقى فيه عقابا أو ثوابا؟ وفيم العقاب والثواب، وهي لا تعرف أنها جنت شرا أو أتت خيرا؟ ثم هي مخرجة منه على كره منها، ولا تعرف ما سيلقاها بعد هذا الخروج.
كل هذه الخواطر كانت تنغص على أبي العلاء حياته إذا خلا إلى نفسه، وفكر في أمره. على أن هناك منغصات أخرى لم تكن أقل من هذه الخواطر إيذاء لهذا الشاعر الحائر، وهذا الفيلسوف البائس، وهي منغصات الحياة نفسها، هي هذه الآلام التي يلقاها في السجن، والتي يحسها ويشهدها، ويستطيع أن يصورها تصوير عالم بها، خاضع لها، هي هذا التناقض الهائل بين أمل النفس وطاقتها، بين ما تريد وما تستطيع. يفكر أبو العلاء فلا يرى لتفكيره حدا ولا غاية، فإذا أراد العمل وجد نفسه مقيدا مغلولا، ووجد قدرته على العمل ضئيلة لا قيمة لها.
إن عقله يفكر في النجوم والكواكب، ويتصور من أمرها الخطأ والصواب، والممكن والمحال، ولكنه يريد أن يعرف من أمر هذه النجوم والكواكب أكثر مما عرف، وأن يبلو حقائقها بلاء الملم بها، المداخل لها، القريب منها. فما له لا يبلغ القمر، وما له لا يلم بالمريخ، وما له لا يبلو بنفسه أخبار المشتري؟ وما هذا التناقض بين قوة العقل وتضاؤل القدرة؟ بل في الأمر ما هو أعظم من هذا إيلاما، وأشد منه إيذاء، فقد تتواضع النفس وهي مضطرة إلى هذا التواضع، فلا تطمع في أن تبلغ النجوم، ولا تطمح إلى أن تزور الكواكب، ولكنها تطمع في أن تحقق ما ترى أنه الخير، وتجتنب ما ترى أنه الشر. ما ترى أنه الخير أو الشر في حياتها القريبة جدا، في حياتها اليومية التي تحياها من لحظة إلى لحظة، وتباشرها من آن إلى آن. وما لها لا تبلغ من ذلك شيئا، وما لها لا تقدر من ذلك على شيء؟ وما بال هذه القوى التي لا تحصى قد تظاهرت وتناصرت على منعها من تحقيق ما تريد، بل من محاولة ما تريد؟
ما هذه الحرية المطلقة التي يستمتع العقل بها إذا فكر، وما هذا العجز المطلق الذي يضطر العقل إليه إذا أراد أن يعمل أو يدفع إلى العمل؟ ما هذه القوى الطبيعية التي تقوم دونه، فتمنعه من أن ينزه الجسم عما تقتضيه غرائزه من هذه الأشياء الكريهة البغيضة التي لا يقدم عليها إلا كارها لها، متبرما بها، مزدريا نفسه؛ لأنه مضطر إلى الإقدام عليها؟ ما هذه القوى الاجتماعية التي تقوم دونه فتحد من حريته في العمل، وتحد من حريته في القول، وتضطره إلى العجز المطلق عن الصلاح والإصلاح؟ جهل بما كان قبل دخول السجن، وجهل بما هو كائن بعد الخروج من السجن، وعجز عن إصلاح أمره وتدبيره كما يحب أثناء الإقامة في السجن. وشر من هذا كله أنه قد يحب هذا السجن، وقد يحرص على الإقامة فيه، وقد يستمتع أثناء هذه الإقامة ببعض اللذات المادية أو المعنوية، فلم لا يخلى بينه وبين هذا السجن يقيم فيه ما شاء، ويخرج منه متى أراد؟ أو على أقل تقدير لم لا ينبأ بموعد مضروب، وأجل محدد لهذا الخروج، ولكنه يدخل على غير علم ولا إرادة، ويخرج على غير علم ولا إرادة، فهو في خوف متصل، وقلق دائم، لا يدري متى يفتح السادن عليه بابه، ويقذفه من هذا السجن الذي ألفه إلى هذا الفضاء المجهول الذي لا يعلم من أمره شيئا.
بل هناك ما هو شر من هذا وأشد إيلاما، فلماذا منح السجين هذه القوة المفكرة المقدرة المريدة التي تأمل وتعجز عن تحقيق الأمل، وتريد وتقصر عن إنفاذ الإرادة، وترى الخير ولكنها لا تجد إليه سبيلا، وترى الشر ولكنها لا تجد منه مخرجا؟
فلو أنك اتخذت اللذة والألم مقياسا للسعادة، وسلكت في ذلك طريقا مشبهة لطريق الفلاسفة، ولكنها معاكسة لها معاكسة ظاهرة صريحة لانتهيت إلى نتيجة تملأ النفس يأسا وسخطا. هؤلاء الفلاسفة يفاوتون بين الكائنات بمقدار حظها من الحس والشعور، ومن اللذة والألم، ومن التفكير والتقدير. وهم يجعلون الإنسان أرقى هذه الكائنات؛ لأنه يشاركها في الوجود، ثم يشارك بعضها في أنه جسم، ثم يشارك بعضها في أنه حي، أي حساس شاعر، ثم ينفرد منها جميعا؛ لأنه مفكر ناطق. وخذ طريقا معاكسة لهذه الطريق، فسترى الإنسان أشقى هذه الكائنات؛ لأنه مفكر، ولأن تفكيره يضطره إلى ألوان من الآلام، وضروب من اليأس والقنوط لا يجدها كائن غيره، فهو يضطره إلى الشك، ويلبس الأمر عليه فيورطه في الحيرة وآلامها، وهو قد يبين له الخير، ولكنه يبين له في الوقت نفسه عجزه عن بلوغه، وهو قد يبين له الشر ولكنه يبين له في الوقت نفسه إغراقه فيه، وعجزه عن الخلاص منه، وهو قد يبين له السعادة، ولكنه يبين له في الوقت نفسه قصوره عن أن يبلغها كاملة، وقصوره عن أن يحتفظ بأيسر ما يبلغه منها، وهو قد يبين له الشقاء، ولكنه يبين له في الوقت نفسه اضطراره إليه، ولزومه له، وإخفاقه المحتوم كلما حاول أن يخلص من أقله وأيسره، وهو قد يبين له اللذة المادية، ولكنه يبين له في الوقت نفسه أنه عاجز عن أن يبلغ خيرها وأكملها، كما يبين له أن ما يحصله من أيسرها وأهونها لا يكاد ينقضي حتى يعقبه من الآلام والحسرات ما يعدل أضعاف ما أصاب من نعيم ومتعة، وهو قد يبين له الألم، ولكنه يبين له في الوقت نفسه أن أنواع هذا الألم لا تعد، وأن ضروبها لا تحصى، وأنه لا يخلص من بعضها إلا لتهجم به غرائزه الخاصة أو الأقدار التي لا يملك تصريفها، ولا دفعها على ما هو شر منها، وأمض وأسوأ عاقبة وأبلغ أثرا. فإذا تركت الإنسان إلى ما يرى الفلاسفة أنه دونه من الكائنات فسترى هذه الكائنات أحسن حظا من الإنسان؛ لأنها قد سلبت هذا العقل، وحرمت هذا التفكير، فالحيوان يألم ويشقى، وهو يلذ ويسعد، ولكنه لا يقدر الألم والشقاء، واللذة والسعادة كما يقدرها الإنسان. والحيوان تتفاوت أنواعه فيما بينها بمقدار ما أتيح لها من الحس والشعور، وبمقدار ما أتيح لها من قوة الغرائز وضعفها، فكلما قوي حظ الحيوان من الحس والشعور والغرائز قوي حسه للألم وشعوره به، وإشفاقه منه، وقوي حرصه على اللذة، وتتبعه لها، وتوقعه إياها، وألمه للعجز عن بلوغها، والقصور عن تحصيلها. فإذا تجاوزت الحيوان إلى النبات فقد بلغت جنسا من الكائنات له حظ من حياة، ولكنه ضئيل بالقياس إلى حظ الحيوان. وإذن فحظه من الألم لا يكاد يذكر، ولعله ألا يكون موجودا. فإذا تركت النبات إلى ما هو أدنى منه رتبة، وأحط منه طبقة عند الفلاسفة، إلى الجماد الذي لا حظ له من حياة، ولا حظ له من حس، ولا حظ له من إرادة، ولا حظ له من تفكير، فهناك السعادة العظمى التي لا ينغصها شقاء، وهناك الراحة الكبرى التي لا يشوبها ألم. وإذن فلم منح هذا السجين حياته هذه القوية العنيفة التي تستتبع الحس والحركة، والإرادة والتفكير، وتستتبع بحكم ذلك الألم والبؤس، والشقاء والحرمان الذي هو أصل الشقاء كله؟
ومن هنا يتمنى أبو العلاء حين لا ينفع التمني، ويود حين لا ينفع الود، ويبكي حين لا يجدي البكاء، ويكون تمنيه ووده وبكاؤه مصدر شقاء وحسرات تضاف إلى ما هو فيه من شقاء وحسرات. فهو يغبط الحيوان؛ لأنه لا يعرف الخير والشر، ولا يفكر فيما كان وما يكون، ولا يرجو ولا يخاف، وهو مع ذلك يرثي له من الألم الذي يجده، والشقاء الذي يشعر به، والمكروه الذي يتعرض له، ولكنه يغبط الجماد إلى أبعد حد ممكن، ويرسل أصواتا تمتلئ بالحسرة واللوعة؛ لأنه لم يظل جمادا كما كان، فهو قد كان جمادا في سالف الدهر.
والذي حارت البرية فيه
حيوان مستحدث من جماد
وهو صائر إلى الجماد في مستقبل الدهر.
خفف الوطء ما أظن أديم ال
أرض إلا من هذه الأجساد
فلم استخرج من الجماد ليرد إليه؟ ولم هذه المحنة التي يمتحن بها في هذا الطور من أطوار وجوده؟ والذي يزيد الأمر إشكالا، أي يجعله مصدرا من مصادر الألم العقلي الذي هو شر من الألم المادي، أنه لا يدري أصائر كله إلى الجماد بعد الموت؟ وإذن فالمحنة موقوتة، وهي من أجل ذلك محتملة هينة الأمر مهما تمتلئ بالمصائب والنوائب، وبالكوارث والآلام. أم صائر بعضه وهو الجسم إلى الجماد كما كان، وإذن فما مصير بعضه الآخر؟ أين كان قبل أن تلم به هذه المحنة، وإلى أين يمضي بعد أن تنجاب عنه هذه المحنة؟ بل أهي منجابة عنه يوما من الأيام؟ أراجع هو إلى حيث كان قبل المحنة فجاهل نفسه كما كان يجهلها من قبل؟ وإذن فلم تكن المحنة إلا حلما، ولكنه حلم معاكس لما ألفه الناس من معنى الحلم. فالحلم عند الناس يقظة تخيل إلى النائم فإذا استيقظ لم يجدها شيئا، ولكن هذا الحلم العلائي يقظة تخيل إلى المعدوم فإذا أفاق منها لم يشعر بها، بل لم يذكرها ولم يجد لها تعبيرا، بل لم يشعر بنفسه فضلا عن أن يشعر بما ألم بها من الأحداث. أم ماض هو في هذه المحنة، فشاعر بنفسه شعورا متصلا خالدا، وإذن فالمحنة باقية لم تنقض، وما عسى أن يكون نوع هذه المحنة بعد الموت، أهو من نوعها قبل الموت؟ وإذن ففيم الموت وآلامه؟ وفيم هذه الحسرات التي تمتلئ بها النفس؛ لأنها تتوقع الموت وآلامه؟ أم هو من نوع جديد لم نعرفه، ولم نذقه أثناء هذه الحياة؟ وإذن فما عسى أن يكون هذا النوع الجديد؟ أهو خير مما ألفنا، أم هو شر مما ألفنا؟
وكذلك أنفق أبو العلاء نصف قرن من حياته يواجه هذه الخواطر إذا أصبح، ويواجهها إذا أمسى، ويواجهها أثناء الليل إن أبطأ عليه النوم، ولعله يواجهها أثناء النوم إن صورتها له الأحلام. وقد وجد أجوبة مختلفة على هذه الأسئلة، وجد أجوبة الديانات، ووجد أجوبة الفلسفة. وكان خليقا أن يطمئن إلى هذه الأجوبة أو تلك فيريح ويستريح، ولكن هذا الاطمئنان لم يقدر له. فهو يستريح إلى ما جاءت به الأديان، ويهيئ نفسه للبعث، ويجتهد ما استطاع في تحصيل الخير، وتحقيق العمل الصالح. ولكن عقله لا يلبث أن يصور له الأمور مناقضة لما اطمأن إليه. فما بال الإنسان يخص بالبعث، وما يستتبعه البعث من ألم أو لذة ومن جحيم أو نعيم؟ ألأنه عاقل وهو من أجل ذلك مكلف؟ ولكن ما بال الإنسان خص بالعقل، وما باله خص بالتكليف؟ وإذن فقد ذهبت عن المسكين طمأنينته، وخاب كل ما كان قد عقد بها من أمل.
وتارة يطمئن إلى بعض مذاهب الفلاسفة فيرى خلود النفس، ولكنه يريد أن يعرف ما عسى أن تصنع النفس، وما عسى أن تلقى أثناء هذا الخلود فلا يجد جوابا، فيعود إلى الحيرة والشك، وما يستتبعان من الألم والشقاء. وقد يتحدث إليه بعض الأجيال بالتناسخ، وما تلقى النفس فيه من فنون الرضا والسخط، وألوان الرفعة والضعة، ولكنه لا يحفل بذلك ، ولا يقف عنده، يراه سخفا وعبثا، ويسخر من الذين يجدون فيه غناء ومقنعا. والذي يزيد الأمر مشقة وجهدا، ويجعله حريا بإثارة اليأس، والدفع إلى القنوط هو أن أبا العلاء قد هداه عقله إلى أن لهذا العالم خالقا، وإلى أن هذا الخالق حكيم. لا يشك
1
في ذلك، أو على الأقل لا يظهر فيه شكا، وإنما تمتلئ به اللزوميات، ولا تكاد تخلو منه قصيدة من قصائدها، أو مقطوعة من مقطوعاتها. وهو إذا تحدث عن هذا الخالق الحكيم تحدث عنه في لهجة صادقة، يظهر فيها الإخلاص واضحا جليا، ولكنه عاجز عن فهم هذه الحكمة التي يمتاز بها هذا الخالق الحكيم، وعجزه عن فهم هذه الحكمة هو الذي يضنيه ويعنيه، ويعذبه في نفسه أشد العذاب. خالق حكيم، خلق هذا العالم ورتبه على هذا النحو الذي رتبه عليه، ولكن لماذا وما بال هذا الخالق الحكيم الذي منحنا هذا العقل، وهدانا إلى التفكير لم يكشف لنا القناع كله أو بعضه عن وجه هذه الحكمة التي لا نشك فيها ولا نرتاب؟ لقد قالت الديانات
2
لأبي العلاء أشياء كثيرة، ولكنها فيما بينها مختلفة أشد الاختلاف متناقضة أشد التناقض. فلأيهما يسمع، وبأيهما يؤمن؟ حيرة جديدة أهون من تلك الحيرة التي صورناها آنفا. وهي تثير في نفس أبي العلاء كثيرا من السخرة التي تظهر هنا وهناك صريحة مرة
3
وخفية مرة
4
أخرى، ولكنها على كل حال لا تخلو من الألم، ومن الألم اللاذع الممض أحيانا.
ومصدر الشقاء المتصل الذي ألح على أبي العلاء نحو خمسين سنة من عمره هو أن الله لم يهده إلى الإيمان بالنبوات.
5
لم يؤمن بها، ولكنه في الوقت نفسه لم يقطع برفضها كلها، وإنما كان يسأل نفسه بين حين وحين: من يدري؟ لعل بعض هذه النبوات حق، ولعل بعض ما جاءت به أن يكون صحيحا. وإذن فويل لي إن صح ما جاءت به،
6
ولم ألائم بينه وبين سيرتي العملية. ولكن أي سيرة عملية، وكيف تكون الملاءمة بين سيرتي وبين هذه النبوات المختلفة، أأسير سيرة اليهود؟ فإني أعيب عليهم كثيرا من أعمالهم وأقوالهم. أأسير سيرة النصارى؟ فإني أعيب عليهم كثيرا من أقوالهم وأعمالهم، أأسير سيرة المسلمين؟ فإني أعيب عليهم كثيرا من أقوالهم وأعمالهم أيضا، أم أسير سيرة أهل الهند؟ أم أسير سيرة الفرس؟ فما أكثر ما أعيب على أولئك وهؤلاء
7
من الأقوال والأعمال. ومع ذلك فماذا أصنع إن صح ما تنبئنا به هذه الديانة أو تلك؟
أرأيت إلى هذه الحيرة المتصلة
8
التي لا يهتدي فيها عقل، ولا تستطيع أن تستقر فيها نفس، والتي لا يعرف لها مدى تنتهي إليه من أي ناحية من نواحيها؟ ثم أرأيت إلى هذا الرجل النحيل الضئيل العاجز الضعيف قد دفع إليها دفعا، وألقي فيها إلقاء، ثم لم يجد منها مخرجا، ولم يتبين فيها طريقا؟ ثم أرأيت إليه حائرا ضالا في هذه الحيرة، شاعرا أقوى الشعور وأشده بما هو فيه من جور عن القصد، وضلال عن الصراط المستقيم، سائلا نفسه في غير طائل، سائلا الناس في غير غناء، سائلا نجوم السماء وحيوان الأرض وجمادها دون أن يظفر منها كلها إلا بجواب واحد واضح كل الوضوح جلي كل الجلاء، ولكنه غير مقنع، وهو أن لهذا العالم خالقا حكيما، ولكن ما كنه حكمته، وما غايتها، وكيف نلائم بينها وبين سيرتنا؟ وكيف نلائم بينها وبين آرائنا؟ وكيف نلائم بينها وبين أقوالنا؟ هذه هي الأسئلة التي لم يظفر لها بجواب من الناس، ولا من كواكب السماء ونجومها، ولا من حيوان الأرض وجمادها.
وأظن أن العلة الحقيقية التي شقي بها أبو العلاء خمسين عاما إنما هي الكبرياء، الكبرياء التي دفعته إلى محاولة ما لا يطيق، وإلى الطمع فيما لا مطمع فيه، وإلى الطموح إلى ما لا مطمح إليه. أسرف أبو العلاء في الإيمان بعقله، وأسرف أبو العلاء في الثقة بهذا العقل، ورفض كل شيء سواه.
9
فالعقل مهما يكن جوهره، ومهما تكن طبيعته إنساني أي محدود، محدود الطاقة محدود المعرفة كغيره من ملكات الإنسان، فالغريب أن يتخذ العقل المحدود سبيلا إلى ما لا حد له، وأن تتخذ هذه الآلة القاصرة المتواضعة سبيلا إلى بلوغ ما لا تستطيع بلوغه. والغريب أن يشعر أبو العلاء بأنه لا يستطيع أن يرقى إلى النجوم بجسمه، وبأنه من الحمق أن يتكلف هذا الرقي.
وكيف صعودي إلى الث
ريا بلا سلم
وأن يشعر أنه لا يستطيع أن يبلغ بعقله كنه هذه الحكمة العليا التي امتاز بها الخالق الحكيم، ولكنه مع ذلك ينفق حياته مجاهدا في استكشاف هذه الحكمة، والوصول إلى أسرارها، ما باله لا يحاول الرقي إلى الثريا ما دام لم يجد إليها سلما، ثم يحاول الرقي إلى حكمة الله مع أنه لم يجد إليها سلما؟ ما مصدر هذا التناقض الذي جر على أبي العلاء وعلى أمثاله ما صب عليهم في حياتهم من شقاء؟ مصدره فيما أعتقد هذا الغرور الذي يخيل إلينا أن العقل ليس شيئا إنسانيا، وإنما هو جوهر ممتاز قد أهبط إلى هذا الجسم فأقام فيه ضيفا، فهو إذن ممتاز في جوهره من الجسم، قادر على ما لا يقدر الجسم عليه، فإذا عجز الجسم عن أن يرقى إلى النجم بلا سلم فلن يعجز العقل عن أن يرقى إلى السماء بلا سلم. أليست الفلسفة قد زعمت لنا، ولم تنكر عليها الديانات ما زعمت، أن العقل قبس هبط من الملأ الأعلى وهو عائد إليه؟ وما دام العقل قد هبط من الملأ الأعلى فما يمنعه أن يتصل به أثناء هذه الحياة؟ وقد زعم بعض الفلاسفة، وزعم بعض المتصوفة أن العقل يتصل بالملأ الأعلى أثناء الحياة بين حين وحين، وزعموا أنهم قد جربوا ذلك، وشهدوا ما لم يشهده غيرهم من الناس، فما بال أبي العلاء لا يحاول أن يتصل بهذا الملأ الأعلى ليعرف كنهه، ويبلو أسراره، وما باله لا ييأس أشد اليأس، ولا يسخط أعظم السخط إذا لم يبلغ من ذلك ما أراد، وما باله إذن لا يكذب أولئك الفلاسفة وهؤلاء المتصوفة، ولا يسخر منهم؟ ومما يزعمون لأنفسهم من التفوق والامتياز؟ الكبرياء إذن هي مصدر المحنة العلائية، وهذه الكبرياء جاءته من تصوره للعقل، وغلوه في الإكبار من أمره .
10
ولو قد تواضع أبو العلاء في حياته العقلية الفلسفية كما تواضع في سيرته العملية، ولو قد عرف أبو العلاء لعقله حده، ووقف به عند طاقته كما عرف لجسمه حده، وكما وقف بجسمه عند طاقته؛ لجنب من هذه المحنة شرا كثيرا، ولاستراح من عذاب أليم، لا نتصوره لأننا لا نعاني ما عاناه أبو العلاء من جهد، ولا نسمو إلى ما سما إليه أبو العلاء من غاية. لو فعل لاستراح وأراح. هذا حق، ولكن نحن ما خطبنا؟ أكنا نظفر باللزوميات، وبما نجد في قراءتها من هذا المتاع العقلي المؤلم المر الذي نحبه ونستعذبه برغم ما فيه من ألم ومرارة؟
هوامش
الفصل الرابع
أقام أبو العلاء في سجنه الفلسفي هذا نحو خمسين عاما، أو استكشف ذات يوم أثناء إقامته ببغداد،
1
أو أثناء عودته منها، أو بعد أن استقر في المعرة أنه مقيم في هذا السجن منذ رشد وبلا لذات التفكير وآلامه. فجعل منذ استكشف سجنه الفلسفي هذا يبلوه من جميع نواحيه، ويختبره على أي وضع من أوضاعه، ولا يرى من هذا البلاء والاختبار إلا شرا متصلا، وألما مقيما.
وقد كان يدركه التعب، ويبلغ منه الإعياء، فيستسلم إلى القنوط، ويستريح إلى اليأس حينا، ثم لا يلبث أن يسترد رجاءه، أو قل أن يسترد نشاطه، فيستأنف البحث والدرس، ويعاود الابتلاء والاختبار، ويحاول الصعود بعقله إلى السماء، فيرد عنها مدحورا.
وربما أتيح لأبي العلاء بين حين وحين شيء من التواضع فاستراح إلى ما يستريح إليه غيره من الناس، وعرف قدر نفسه أو قل قدر عقله، وأمل في روح الله ورحمته. وكان مثله في ذلك مثل الرجل الذي دفع إلى سفر غير قاصد في طريق طويلة طويلة لا ينتهي طولها، عسيرة عسيرة لا يسهل عسرها، قد سلطت عليها الشمس أشعتها الملتهبة المحرقة، فضرمت من حوله كل شيء، وجعلت الأرض التي يمشي عليها نارا لا يطاق مسها، والهواء الذي يتنفسه جحيما لا يطاق تنسمه. وهو مع ذلك مدفوع مدفوع لا يستطيع أن يرجع أدراجه؛ لأن من ورائه قوة لا تني عن دفعه، ولا يستطيع أن يقوم في مكانه ليستريح؛ لأن هذه القوة تدفعه دائما؛ ولأنه لا يجد الراحة في أي مكان يلم به. نار مهلكة تأخذه من كل وجه، وقوة عنيفة تدفعه إلى أمام، وأمل ضئيل نحيل يسبقه شيئا، ثم يقف له ويدعوه إلى نفسه، حتى إذا دنا منه، أو خيل إليه أنه دنا منه وثب هذا الأمل الضئيل النحيل وثبة أو وثبتين، ثم وقف لهذا المسافر المسكين يدعوه إلى نفسه مغريا له، ملحا عليه. وإنه لفي هذا السفر المتصل والعذاب الأليم، وإذا شجرات خضر قد بدون له مورقات مزهرات، لهن ظل رطب مريح، يجري بينهن غدير من ماء عذب صاف بارد، ينقع الغلة، ويشفي الظمأ، فيسرع المسكين إلى هذه الشجرات فيستظل بظلها حينا، ويشعر بشيء من النعيم لحظة، وينشد في نغمة حزينة - ولكن فيها اطمئنانا لا يخلو من قلق - هذه الأبيات:
صنوف هذي الحياة يجمعها
طول انتباه ورقدة وسنه
دنياك لو حاورتك ناطقة
خاطبت منها بليغة لسنه
ليفعل الدهر ما يهم به
إن ظنوني بخالقي حسنه
لا تيأس النفس من تفضله
ولو أقامت في النار ألف سنه
وما يوئسها من فضل الله عليها ورحمته لها، ورفقه بها، وقد طالت عليها الطريق حتى ظنت أنها لن تنقضي، وثقل عليها الجهد حتى ظنت أن لن تنهض به، وإذا هذه الشجرات الخضر ترفع لها فتأوي إليها، وتجد في ظلها الراحة والنعيم. ويدعو هذا التفكير مسافرنا البائس إلى أن يروي في أمره، ويستعرض سيرته، وإذا هو يلوم نفسه على غرورها، ويعاتبها على اقتحامها ما اقتحمت من هول، وتجشمها ما تجشمت من سفر، وعلى إسرافها في محاولة ما لا ينبغي أن يحاول؛ لأن الوصول إليه لم يقدر للناس. وإذا هو يستأنف الإنشاد في نغمة حزينة مطمئنة إلى اليأس، راضية به، مستريحة إليه، وإذا إنشاده يوشك أن يكون غناء، وإذا نحن نسمع منه هذه الأبيات:
منون رجال خبرونا عن البلى
وعادوا إلينا بعد ريب منون
بنون كآباء وكم برح الردى
بصب على علاته وبنون
دفناهم في الأرض دفن تيقن
ولا علم بالأرواح غير ظنون
وروم الفتى ما قد طوى الله علمه
يعد جنونا أو شبيه جنون
نعم جنون أو كالجنون أن تحاول علم ما طوي علمه عن الناس، وأن تتكلف في ذلك ما تكلفت من مشقة وجهد؛ فثق بحكمة الله، واركن إليها، واسترح إلى هذا الظل الظليل، والنسيم العليل، والماء العذب الصافي الذي تجد فيه شفاء من هذا الحر المهلك الذي اصطليت ناره دهرا طويلا.
ولكن العقل الإنساني مضطرب لا يعرف الاستقرار، ساخط لا يعرف الرضى، ثائر لا يعرف الإذعان، طامع لا يعرف القناعة، متكبر لا يعرف التواضع. وما كاد صاحبنا يستريح ويستقر حتى أخذ عقله يضطرب، وما كاد صاحبنا يهدأ حتى أخذ عقله يثور. وكأن القوة التي كانت تدفعه منذ حين إنما تخلفت عنه لحظات لا لتريحه، بل لتخيل إليه الراحة. وكأن الأمل الذي كان يسبقه، ويتراءى له إنما استخفى عنه ساعة لا ليؤمنه، بل ليخيل إليه الأمن. وإذا القوة الدافعة قد أقبلت من ورائه، وإذا الأمل المغرى قد قام أمامه غير بعيد، تلك تدفعه وهذا يدعوه، وعقله مشفق من تلك، راغب في هذا، وإذا هو يثيره من مكمنه، ويخرجه من مأمنه. وما هي إلا لحظات حتى تستخفي الشجرات الخضر، والنسيم العليل، والغدير العذب، وإذا صاحبنا في جحيمه القديم تأخذه النار من جميع أقطاره، تدفعه تلك القوة العنيفة، ويدعوه ذلك الأمل الخلاب، وقد جردت ثورة عقله لنفسه تلك الآلام العنيفة المتصلة التي لم يسترح منها إلا قليلا.
ولكن ما الذي أشعر أبا العلاء بهذا السجن الفلسفي؟ وما الذي أنبأه بأنه سجين؟ وما الذي كشف له عما يحيط به في هذا السجن من الحسرات والغمرات، ومن الآلام والأحزان؟ هو من غير شك سجن من سجونه الثلاثة، هو سجنه الطبيعي، أو سجنه الفسيولوجي إن صح هذا التعبير. هو هذه الآفة التي ألمت به في أول عهده بالحياة، فذهبت ببصره، وألقت بينه وبين النور حجابا كثيفا.
والصلة بين هذين السجنين من سجون أبي العلاء لا تخلو من غرابة تدعو إلى كثير من الرحمة والإشفاق، فقد فقد أبو العلاء بصره صبيا، واستقبل الحياة غير مستمتع بهذه الملكة التي ترسم في نفس الأحياء من الحياة صورا لا عهد له بها. ومع ذلك فقد جاوز الصبى، وتقدمت به السن إلى الشباب، وتقدم به الشباب إلى الكهولة دون أن ينكر من أمر الوجود شيئا ذا خطر أو دون أن يشتد إنكاره لأمر من الأمور.
وما من شك في أنه قد أحس منذ أول عهده بهذه المحنة الطبيعية فرقا عظيما بينه وبين أترابه. وما من شك في أن إحساسه هذا الفرق قد آلمه وآذاه، وأسبغ على نفسه شيئا من الكآبة المتصلة القاتمة، واضطره إلى كثير من التحرج والتحفظ والاحتياط في سيرته العملية، ولكن ما من شك في أنه قد قهر هذا كله، وظهر عليه وقتا طويلا من حياته، فقد اجتهد في أن يسير سيرة غيره من الناس، واجتهد أهله في أن يهيئوه لهذه السيرة ما وسعهم ذلك. علموه صبيا، وأعانوه على طلب العلم، وتعمقه شابا. ولعله قد بذل في سبيل ذلك ما لا يبذله كثير من المبصرين، فضلا عن المكفوفين، فهو قد ارتحل إلى حلب، وأنطاكية، وألم باللاذقية، ولعله أن يكون قد ألم بطرابلس. وهو قد سمع من شيوخ المسلمين، ورهبان النصارى، وقرأ في كتب أولئك وهؤلاء، وتعمق في درس الديانات، وفرغ بنحو خاص لإتقان اللغة وعلومها، وللأخذ بحظ عظيم من البراعة الأدبية. ولم يبلغ العشرين من عمره حتى كان نضجه العلمي قد تم، وحتى استطاع أن يقول بعد ذلك: إنه لم يحتج بعد هذه السن إلى أن يجلس من أحد مجلس الطالب من الأستاذ.
وقد فقد أباه في الرابعة عشرة من عمره، فحزن لفقده حزنا شديدا من غير شك، ولكن هذه الفاجعة لم تفت في عضده، ولم تفل من حده، ولم تقعد به عن الرحلة، ولم تصرفه عن الأسفار، ولما ألم من دور العلم في الشام بما كان يستطيع أن يلم به، وأخذ منها ما كان يستطيع أن يأخذه ، عاد إلى المعرة فاستقر فيها وادعا مطمئنا، يعاشر الناس ويخالطهم، ويشاركهم في خطوب الحياة، ويعكف على ما كان يعنيه من العلم والأدب، فينمي حظه منه، ومشاركته فيه. ومع أننا نجهل تفصيل حياته في المعرة، كما نجهل تفصيل حياة أمثاله من الشعراء والفلاسفة القدماء، فليس من شك في أن حياته مرت هادئة وادعة لا عنف فيها ولا اضطراب. ثم نيف على الثلاثين، فهم برحلة طويلة شاقة إلى بغداد، وأشفقت عليه أمه من هذه الرحلة، فحاولت صرفه عنها، ولكنها لم تفلح، ومضى أبو العلاء في إتمام ما عزم عليه، فانتهى إلى بغداد بعد خطوب امتحن فيها صبره وجلده، واحتماله، وذكاءه أيضا. وأقام في بغداد عاما ونصف عام؛ فعرف من أمرها ما كان يحب أن يعرف، وبلا من أهلها ما كان يحب أن يبلو، وحصل من علمها ما كان يريد أن يحصل، وظفر فيها من الشهرة وبعد الصيت بما كان يحب أن يظفر به، ولو استطاع لأنفق فيها بقية عمره كما يقول في بعض شعره، ولكنه لم يستطع؛ لأن أمه مرضت، ولأن الثروة لم تواته، فعاد إلى المعرة وقد استكشف هذا السجن الفلسفي، واضطر بحكم هذا الاستكشاف نفسه إلى أن ينشئ لنفسه سجنا ماديا ثالثا هو بيته الذي أقام فيه حتى مات.
فأنت ترى أنه قد حاول أثناء الصبا وأثناء الشباب، وفي أول عهده بالكهولة أن يعيش عيشة غيره من الناس، وأن يقهر المصاعب التي كان يثيرها أمامه فقد بصره، وظفر بقهر هذه المصاعب في أكثر الأحيان، وكان خليقا أن يمضي في سيرته هذه بعد الأربعين كما مضى فيها حتى كاد يبلغ الأربعين. وأي شيء كان أيسر عليه من أن يعيش شيخا كما عاش صبيا وشابا وكهلا، مخالطا للناس، مشاركا لهم فيما يختلف عليهم من الخير والشر، مفكرا كما يفكرون، أو مخالفا لهم في بعض ألوان التفكير، ممتازا منهم في علمه وذكائه أشد الامتياز، ممتازا منهم في سيرته العملية بعض الامتياز؟ وليس هو أول مكفوف قد تفوق على أمثاله بحدة الذكاء، ونفاذ البصيرة ، وغزارة العلم، وفصاحة اللسان، فلم يمنعه ذلك من أن يشارك الناس فيما كانوا يضطربون فيه من حلو العيش ومره؟ فقد ظهر قبله بين المسلمين من رزق النبوغ وحرم الإبصار، وعاش مع ذلك بين الناس لم يفارقهم ولم يعتزلهم، ولم يشذ من بينهم هذا الشذوذ. كان يستطيع أن يعيش معلما، وكان يستطيع أن يعيش شاعرا، وكان يستطيع أن يعيش كما عاش لا يستفيد رزقه من الشعر ولا من التعليم، وإنما يكتفي بهذا الوقف الضئيل الذي كان يعيش منه دون أن يفارق الناس، ويمسك نفسه في هذه العزلة المظلمة الشاقة.
كان هذا كله ميسورا لولا أن أبا العلاء لم يكن مهيئا له؛ لأنه كما قال قد خلق إنسي الولادة وحشي الغريزة. كان طبعه يعده للعزلة، ويهيئه للانفراد، وجاءت هذه الآفة فأمدت هذا الطبع وقوته، وجعلت تأثيره في حياته أشد وأعظم مما لو أتيح له الإبصار. ذلك أن هذه الآفة نفسها هي مرتبة من مراتب العزلة، ومرحلة من مراحلها تميزه من الناس شيئا وأي شيء! وتفرق بينه وبينهم إلى حد وأي حد! بل هي تميزه من الطبيعة في كثير جدا من مظاهرها، فهو لا يراها، ولا يحقق صورها وأشكالها، وهي لا تبلغ نفسه من طريق مستقيمة، ولا تؤثر فيها تأثيرا مباشرا، وإنما هو يعرف منها شيئا قليلا، ويجعل منها أشياء كثيرة، وهي تصل إلى نفسه من طرق معوجة ملتوية، فتبلغها بعد مشقة وجهد، وتبلغها مشوهة ممسوخة، وتؤثر فيها بحكم هذا كله تأثيرا مخالفا لتأثيرها في نفوس غيرها من الناس.
هو إذن بحكم هذه الآفة معتزل للطبيعة، ممتاز منها، قد ألقي بينه وبينها حجاب، وهو إذن بحكم هذه الآفة معتزل للناس، ممتاز منهم قد قطعت بينه وبينهم الأسباب. وهو بحكم هذا الاعتزال والامتياز عاجز لا عن أن يستمتع بجمال الطبيعة كما يستمتع به غيره من المبصرين، بل عن أن يلائم بين حياته وبين كثير من مظاهر الطبيعة على نحو ما يفعل المبصرون، لا يظفر من ذلك إلا ببعض ما يعينه الناس عليه، وييسرونه له . وهو بحكم هذا الاعتزال والامتياز عاجز كذلك عن أن يستمتع بالحياة الاجتماعية كما يستمتع بها المبصرون، وعن أن يلائم بين سيرته، وبين ما تقتضيه هذه الحياة الاجتماعية من الأوضاع والأشكال، وما تفرض من السنن والعادات، لا يبلغ أيسر ذلك إلا إذا أعانه الناس عليه، ويسروه له. وواضح أن الناس حين يعينون أمثاله على أمثال هذه المصاعب إنما يصدرون عن رفق به وعطف عليه وإحسان إليه. فإذا كان الرجل ذكي القلب أبي النفس وحشي الغريزة آذاه ذلك، وشق عليه، وآثرت نفسه الحرمان مع العزة، والإباء على الظفر مع التعرض للشفقة والرحمة والإحسان.
ومن هنا تقوى في نفس أبي العلاء عاطفتان كان لهما أعظم الأثر في حياته، وأعظم السيطرة عليها: عاطفة الحياء من جهة، وعاطفة سوء الظن من جهة أخرى، عاطفة الحياء؛ لأن ذكاء قلبه، وإباء نفسه، واعتداده بشخصيته، كل ذلك يحمله على أن يرغب أشد الرغبة في أن يكون كغيره من الناس في الملاءمة بين حياته وبين قوانين الطبيعة، وفي الملاءمة بين حياته وبين أوضاع الاجتماع، فإذا أحس من نفسه القصور عن ذلك أو التقصير فيه آلمه هذا الإحساس أشد الإيلام، وآذاه أشد الإيذاء. وهو من أجل ذلك لا يقدم على ما يحتاج إلى الإقدام عليه من شؤون حياته الظاهرة إلا مترددا أشد التردد، مضطربا أشد الاضطراب، مرتابا بنفسه وبالناس أشد الارتياب، مؤثرا الإحجام مع العافية على الإقدام الذي قد يعرضه لرحمة الراحمين، وسخرية الساخرين. وعاطفة سوء الظن؛ لأن الناس بالقياس إليه مجهولون أو كالمجهولين، يسمع أصواتهم ولا يراهم، ويحس أعمالهم ولا يراها، فيفهم من ذلك ما يستطيع ويعجزه من ذلك أكثره. وما دام عاجزا عن أن يلائم بين سيرته وبين ما يقتضيه نظام الاجتماع فهو سيئ الظن بسيرته، وبالاجتماع أيضا.
وكل هذا يضطر أبا العلاء إلى أن ينصرف إلى نفسه عن غيره من الأشياء والأحياء جميعا، هو مصروف عن غيره بحكم هذه الآفة، وبحكم ما تنشئ في نفسه من العواطف، وهو مضطر من جهة إلى أن يحلل سيرته مع الناس والطبيعة، ومضطر من جهة أخرى إلى أن يحلل ما يصل إليه من سيرة الناس والطبيعة معه ما وسعه التحليل.
وإذن فهو بحكم هذا كله فارغ لنفسه، عاكف عليها، متهم لها سيئ الظن بها. وحسبك بهذا كله مثيرا للتشاؤم، ومسبغا للكآبة على النفس، وصابغا للحياة بهذه الصبغة الشاحبة عادة، القاتمة في كثير من الأحيان! وقد كان أبو العلاء في حاجة شديدة إلى شيء من بلادة الحس وفتور الشعور يرده إلى الاعتدال في الحكم، والقصد في التقدير، ويصده عن الغلو في الارتياب بنفسه وبالطبيعة وبالناس، ولكنه لم يرزق من بلادة الحس شيئا، وكان شعوره أبعد شيء عن الفتور. فإذا أضفت إلى ذلك غريزته الوحشية، وكبرياءه العنيفة لم تعجب؛ لأنه دفع إلى هذه الطريق التي سلكها، وإنما عجبت؛ لأنه دفع إليها متأخرا بعد أن نيف على الثلاثين.
ومع ذلك فهل نحن واثقون بأنه دفع إليها متأخرا؟ أليس من الجائز، بل من الراجح أنه دفع إليها منذ آخر الصبى، ولكنه دفع إليها في رفق ويسر، ولم ينته إلى غايتها إلا بعد تردد واضطراب، ووقت طويل؟ إن رثاءه لأبيه يصور لنا حياته العقلية في أول أمرها، فنرى فيها أصول الاضطراب الفلسفي، ومظاهر هذا التشاؤم الذي لزمه طول حياته. وما باله لم يذهب مذهب غيره من الشعراء فيمدح السادة والأمراء، ويستمتع بما يجزلون من عطائه؟ لم يكن إقصاره عن ذلك لقصور في ملكته الشعرية، فقد كان شاعرا بارعا منذ آخر الصبى وأول الشباب، وله مدح رائع قاله في شبابه، ولو أنه عرضه على السادة والأمراء لفرحوا به، ولأثابوه عليه، ولأكبروه في أنفسهم، وآثروه بمودتهم، ولكنه لم يفعل، لماذا؟ لأنه إنسي الولادة كغيره من الشعراء، ولكنه يمتاز منهم بهذه الغريزة الوحشية التي تصده عن الناس، وتنفره منهم، وبهذه الآفة التي زادته عنهم صدودا ومنهم نفورا، وبهذه الكبرياء التي ارتفعت به عن أن يظهر للناس حاجته إليهم أو انتظاره منهم المعروف. انظر إليه حين يمدح الإسفراييني في بغداد، ويستعينه على رد سفينته، كيف يطلب إليه ذلك في حياء وإباء، واعتداد بالنفس، وتصريح بعرفان الجميل إن فاز، وتسجيل للشكر والدعاء إن أدركه الإخفاق.
من أشد ما يملأ قلوبنا إشفاقا على أبي العلاء هذه الحرب العنيفة المتصلة التي ثارت بين طبيعته الإنسانية وغريزته الوحشية نحو ثلاثين عاما، والتي لم تنته إلا حين أزمع العودة من بغداد، وانتهت بانتصار الغريزة الوحشية على الطبيعة الإنسانية الاجتماعية. رجل من الناس ولد في بيئة متحضرة، وولدت معه ملكاته الاجتماعية كلها، فنشأ مستعدا كل الاستعداد ليكون فردا من الجماعة يشاركها في حياتها العامة والخاصة، ويأخذ بنصيبه مما يلم بها من سعادة، وما يصيبها من شقاء، فتأبى عليه غريزته الوحشية، وآفته هذه الطارئة إلا أن ينفرد من هذه الجماعة، ويشذ على ما ألفت من نظام. له ما لغيره من الغرائز الطبيعية والاجتماعية التي تدفعه إلى ألوان الحياة المختلفة دفعا شديدا، وتطالبه بتحصيل ما يحصل غيره من أنواع اللذات والنعيم، وهو خليق أن يجد في ذلك كما يجد فيه غيره من الناس، ولعل آفته هذه الطارئة أن تصور له الحياة ولذاتها على غير وجهها، وأن تخيلها إليه على غير حقيقتها، وأن تجعل تعلقه بها، وحرصه عليها أشد من تعلق غيره بها وحرصه عليها، وأن تجعل ألمه حين يرد عنها، وحسرته حين يحرم الظفر بها أشد مما يصيب غيره من الآلام والحسرات حين يكتب عليه الرد، ويقدر عليه الحرمان، ولكن غريزته تلك الوحشية، وآفته هذه الطارئة تأبيان عليه إلا أن يكظم هذه الغرائز كظما، ويكبتها كبتا، ويضطر جذوتها المضطرمة الملتظية إلى الانطفاء والخمود.
له ذكاء ممتاز، وملكات متفوقة، وقدرة على الإجادة والبراعة فيما لا يجيد الناس فيه ولا يبرعون، وهو من أجل ذلك معتد بنفسه، مكبر لها؛ لأنه شاعر بامتيازها وتفوقها، وهو من أجل ذلك خليق أن يمتاز من الناس في الاستمتاع بالحياة كما امتاز منهم في الكفاية والبراعة، وهو من أجل ذلك خليق أن ينتظر من الناس أن يعرفوا له ذلك، ويمكنوه منه، فإن لم يفعلوا فهو خليق أن يكرههم عليه إكراها، وأن يفرض نفسه عليهم فرضا ، ولكن غريزته تلك الوحشية وآفته هذه الطارئة تأبيان عليه إلا أن يكبح نبوغه كبحا، ويأخذ نفسه بأعنف العنف وأقسى القسوة، لا ليردها إلى التواضع والاعتدال، بل ليحملها حملا على أن تنكر نفسها أشد الإنكار، وتجحد امتيازها أشد الجحود.
وهنا تستطيع أن توازن بين أبي العلاء وبين شاعرين نابهين حكيمين من شعراء المسلمين، كلاهما شاركه في التفوق والنبوغ والامتياز، وأحدهما شاركه في هذه الآفة الطارئة التي نغصت عليه الحياة: وهما: بشار، والمتنبي.
فأما أولهما: فقد كان كأبي العلاء، ذكي القلب إلى أبعد حدود الذكاء، دقيق الحس إلى أقصى غايات الدقة، قوي الشعور إلى أرقى مراتب القوة، غزير العلم واسع المعرفة، فصيح اللسان بارعا في الشعر، قادرا على التصرف فيه إلى حيث لم يسبقه شاعر عربي. وكان كأبي العلاء ضريرا مكفوفا، وكان كأبي العلاء فيلسوفا عميق الفلسفة، مفكرا دقيق التفكير، متشائما مسرفا في التشاؤم، سيئ الظن بالناس، سيئ الظن بالطبيعة، سيئ الظن بكل شيء. ولكنه مع ذلك قد سار في حياته الطويلة سيرة أقل ما توصف به أنها مناقضة كل المناقضة لسيرة أبي العلاء. إذا كانت سيرة أبي العلاء طهارة ونقاء، وبراءة من الإثم والعاب؛ فسيرة بشار هي العهارة والدنس، والتهالك على الإثم، والإغراق في العاب، وإذا كانت سيرة أبي العلاء تواضعا، بل إسرافا في التواضع؛ فسيرة بشار هي الكبرياء، بل تجاوز الكبرياء إلى ما هو شر منها إلى التيه والغرور، وإذا كانت سيرة أبي العلاء زهدا في الدنيا، بل إعراضا عنها، بل بغضا لها؛ فسيرة بشار رغبة في الدنيا، بل تهالك عليها، بل فناء فيها، وإذا كانت سيرة أبي العلاء تعذيبا لنفسه وجسمه، وأخذا لهما بأشد القوانين وأصرمها، وحملا لهما على أعنف المحامل وأخشنها، وصرفا لهما عن أيسر اللذات وأهونها؛ فسيرة بشار تنعيم لنفسه وجسمه، وإرسال لشهواتهما على سجيتها، وحمل لهما على أيسر المحامل وأوثرها، واقتحام بهما إلى أعظم حظ ممكن من اللذة، وأكبر قسط ممكن من النعيم. ومع ذلك فقد كان كل من الشاعرين مجبرا في أكثر أحيانه وأغلب أمره . وكان كل من الشاعرين ينكر التكليف أو يكاد ينكره. وكان كل من الشاعرين يجهر بأنه ليس مسؤولا عما يأتي في حياته من خير وشر، فما بال هذين الشاعرين اللذين اشتركا في هذه الآفة الطارئة كما اشتركا في التفوق والنبوغ قد سلكا هاتين الطريقين المتعاكستين؟
كان كل منهما متشائما، ولكن تشاؤم أحدهما انتهى به إلى العهارة والفجور والإباحة؛ وتشاؤم أحدهما الآخر انتهى به إلى الطهر والبر والنسك والتحرج. أكان مصدر هذا الخلاف البيئة التي عاش فيها كل من الشاعرين؟ فقد عاش بشار في بيئة زندقة ومجون؛ وعاش أبو العلاء في بيئة تحفظ واحتشام وورع، أكان مصدر ذلك الأسرة؟ فقد انحدر بشار من أسرة فارسية خضعت للرق؛ وانحدر أبو العلاء من أسرة عربية لم تعرف إلا العزة والحرية، أكان مصدر ذلك العصر السياسي؟ فقد عاش بشار في عصر ثورة لم تتناول السياسة وحدها، بل تناولت الأخلاق والدين ونظام الاجتماع؛ وعاش أبو العلاء في عصر مهما تفسد فيه الحياة فقد كان فيه استقرار ما للعرف الخلقي والاجتماعي، أم كان مصدر هذا كله ما قدمناه وغير ما قدمناه؟
وشيء آخر يظهر أنه أساسي، وهو أن بشارا كان إنسي الولادة والغريزة؛ وأن أبا العلاء كان إنسي الولادة وحشي الغريزة؟ فنشأ أولهما، ولا حظ له من حياء؛ ونشأ ثانيهما والحياء أظهر صفاته، وأعظم خصاله سلطانا عليه، ونشأ أولهما ولا سلطان له على غرائزه، وإنما لغرائزه على نفسه وجسمه السلطان كله؛ ونشأ ثانيهما ولا سلطان لغرائزه عليه، وإنما عقله هو المسيطر على نفسه وجسمه جميعا، ونشأ أولهما يمتدح بآفته جهرا؛ ونشأ ثانيهما لا يذكر هذه الآفة إلا كارها، فإذا تحدث عنها قال إنها عورة يجب أن تستر، ونشأ أولهما لا يعرف التستر بمباح ولا بمحظور، لا يتحرج أن يظهر سوأته للناس، ويرضي أخس غرائزه بين أيديهم فضلا عن معاقرة الخمر، وتتبع النساء، والتعرض في ذلك لما يخزي ويسوء؛ ونشأ ثانيهما لا يحب الجهر بشيء لا حظ له من محظور عليه، فإذا ألم بأيسر ما يباح له وهو الطعام ألم به سرا وعلى استخفاء، ونشأ أولهما محبا للمال، متهالكا عليه يطلبه من وجهه ومن غير وجهه، ويحصل عليه بالمدح، فإن أعياه ذلك حصل عليه بالهجاء، ونشأ ثانيهما والمال أبغض الأشياء إليه، وأهونها عليه، لا يطلبه بمدح ولا بهجاء، ولا يسعى إليه من وجه، ولا من غير وجه، يتاح له منه ما يقيم الأود، فيقسمه مناصفة بينه وبين خادمه، ولو استطاع لما أصاب منه شيئا، ونشأ أولهما عدوا للناس، مسيئا إليهم، مستطيلا عليهم إلا أن تكون لهم القوة، ويتاح لهم الاستعلاء، فهناك يذل ويستكين، ويظهر من الذلة والاستكانة ما يستحي منه أهون الناس شأنا وأقلهم خطرا؛ ونشأ ثانيهما محبا للناس أشد الحب، رفيقا بهم أعظم الرفق، يغلظ لهم قوله، ويرق لهم قلبه، يعنف عليهم في اللفظ، وينصح لهم في دخيلة النفس وأعماق الضمير، لا يريد بهم شرا، ولا ينتظر منهم خيرا، يقدم إليهم المعروف ما قدر عليه، ولا ينتظر منهم شكرا، بل لا يرى أنه يستحق منهم شكرا. شفع لقومه عند صالح، فلما نجحت شفاعته عاد وهو ينشد:
نجى المعاشر من براثن صالح
رب يفرج كل أمر معضل
ما كان لي فيها جناح بعوضة
الله ألبسهم جناح تفضل
ثم لم يقصر حبه على الناس، وإنما تجاوزهم به إلى الحيوان، فكف عنه أذاه، وود لو يستطيع أن يكف عنه أذى الناس. وعلى الجملة لم يشعر بشار بسجنه الفلسفي في وقت من الأوقات مع أنه حاول الفلسفة واتخذها له صناعة دهرا، ثم انصرف عنها ولم يحفل بها، وإنما حفل بأهوائه ولذاته ليس غير، عاش حرا طليقا ما وسعته الحرية، وما أرسل له العنان، وما زال في شهواته ولذاته وأهواء نفسه حتى انتهى به الشوط إلى بعض مفترق الطرق، وإذا الموت ينتظره فيبطش به بطشا عنيفا فيمضي، وقد كان الناس في حياته يؤثرونه بالبر خوفا منه وإشفاقا، فإذا هم بعد موته يتنفسون الصعداء، ويحمدون الله على أنه أنقذهم من بلاء عظيم! وشعر أبو العلاء بسجنه الفلسفي والطبيعي دائما، ثم لم يكتف بهما ، بل أضاف إليهما سجنا ماديا ثالثا، وأقام في هذه السجون شاعرا بها ملائما بين حياته وبينها، لا حظ له من حرية في سيرته؛ لأنه رفض هذه الحرية، أو اعتقد أنها لم تتح له، ولم تهد إليه، فلم يسئ إلى أحد بيد ولا بلسان ولا بنية، ولم يكد يسيء إليه أحد، ولعل بعض الناس أن يكونوا قد آذوه بأيديهم وألسنتهم فلم يضطغن على أحد منهم، ولم يضمر لأحد موجدة، وإنما عفا وغفر؛ لأنه كان يعتقد أن «من صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور» وقد عمر حتى نيف على الثمانين في عصر كثرت فيه الفتن، واشتد فيه الظلم، وانتشر فيه الفساد، وشاع فيه الكيد، واختلفت فيه على وطنه الدول، فلم يبسط عليه السلطان يده، ولم ينله بأذى على كثرة ما امتنع على السلطان، وعلى كثرة ما نعى على الملوك والأمراء سرا وجهرا. كان وادعا هادئا مكفوف الأذى عن الناس، فكف الله عنه أذى الناس. فلما مات كان الواجدون به أكثر جدا من الواجدين عليه.
وأما أبو الطيب: فقد نشأ وعاش في عصر قريب من عصر أبي العلاء، مشبه له في أكثر خصاله، وقد شارك أبا العلاء في ذكاء القلب، ونفاذ البصيرة، وفي التفوق والنبوغ، وشاركه في الشعور بفساد الحياة العامة للمسلمين من جميع أنحائها، وشاركه في الشعور بتفوقه وامتيازه، وفي اعتداده بنفسه، ولكنه لم يشاركه في هذه الآفة التي اضطرته إلى العجز، وأخذته بالوحدة، وفرضت عليه الاعتزال. ومع أن أصول الفلسفة العلائية توشك أن توجد كلها في شعر أبي الطيب، وقد نبهت إلى ذلك في غير هذا الحديث، ومع أن أصول الفن العلائي يوجد أكثرها في شعر أبي الطيب، وقد نبهت إلى ذلك أيضا في غير هذا الحديث، ومع أن أبا العلاء كان مقلدا لأبي الطيب، مفتونا به حتى لنستطيع أن نعده تلميذا من تلاميذه، مع هذا كله فما أعظم الفرق بين الرجلين لا في حياتهما العملية وحدها، بل في حياتهما العقلية أيضا! كان أبو الطيب عبدا لشهواته بشرط ألا نفهم من هذه الشهوات شهوات اللذة والفسوق، ونعيم الحياة، وإنما نفهم منها شهوات أخرى ممتازة بعض الشيء، شهوات الثروة والغنى والاستعلاء على الناس. أنفق حياته كلها في إرضاء هذه الشهوات، واحتمل في سبيل ذلك ما يطاق وما لا يطاق. ذاق مرارة البؤس، واحتمل ذل السؤال، وباع شعره في سوق الكساد، ومدح من كان يحتقرهم أشد الاحتقار، وتملق من كان يزدريهم أقبح الازدراء، ودفع إلى المخاطرة والمغامرة، وانتهى إلى السجن، وتعرض للموت، وباع نفسه وحريته وكرامته للملوك والأمراء، وتبدل رأيا برأي، ومذهبا بمذهب، وذل للفرس بعد أن كان لهم عدوا، وبهم مغريا، وعليهم محرضا، وما زال يتقلب في هذا الفساد السياسي والخلقي حتى تلقاه الموت في بعض الصحراء، فأراحه وأراح منه!
فأين هذا من أبي العلاء الذي لم يدع لنفسه شهوة إلا أذلها، ولا عاطفة إلا أخضعها لسلطان عقله، والذي اعتد بنفسه فارتفع بها عما تحتاج إليه الحياة من صراع، وآثرها بالعافية، وألزمها القصد والاعتدال، وضن بها على الكذب والمين، وعلى البيع والشراء، ولم يرد أن يتشبه بالملوك والأمراء في ملكهم وإمارتهم، ولا أن يطمع فيما يفيد عندهم الشعراء والأدباء والعلماء من رخيص اللذات، يشترونه بأغلى الأثمان، وإنما أراد ما هو أرفع من ذلك مكانا، وأبعد من ذلك منالا، وأجل من ذلك خطرا. أراد أن يتوحد؛ لأن الله واحد، فقال:
توحد فإن الله ربك واحد
ولا ترغبن في عشرة الرؤساء
وازن بين المطمحين، وقس إلى ضعة أبي الطيب رفعة أبي العلاء إن كان يمكن أن تقاس الرفعة إلى الضعة، ومع ذلك فقد لقي كل من الرجلين في سبيل مطمحه آلاما شدادا لا يبلغها الإحصاء، إلا أن آلام المتنبي تقص فلا تثير في نفسي إلا غيظا وازدراء، وقد تثير في نفس غيري من الناس إكبارا وإعجابا، وآلام أبي العلاء تقص فتثير في نفسي حبا وإجلالا، كما تثير فيها عطفا وحنانا وإشفاقا. وما أرى أنها تثير في نفوس غيري من الناس ازورارا عن الرجل أو تنكرا له، أو استخفافا به. وأنا أقرأ شعر الرجلين فأذكر قول أبي العلاء حين شفع إلى صالح في قومه:
فيسمع مني سجع الحما
م وأسمع منه زئير الأسد
ولكن زئير الأسد كان يدل على شيء حين كان يصدر عن صالح وأشباهه من المغامرين الذين كانوا يعملون ولا يقولون. فأما زئير الأسد الذي كان يصدر عن المتنبي فقد كان فارغا لا يحتوي شيئا، ولا يدل على شيء. وأصدق وصف له قول أبي العلاء حين سمع شعر ابن هانئ الأندلسي: كأني أسمع رحى تطحن قرونا! فقد كان شعر المتنبي جعجعة فارغة إذا فخر وتكثر، ولم يكن شعره ذا غناء. لم يكن شعره يمس النفس، ويبلغ القلب إلا حين كان يتغنى حزنه، ويشكو بثه، ويصور آلامه في تواضع واعتدال. لم يشعر المتنبي قط بأنه سجين إلا حين اضطر إلى السجن بعد ثورته أثناء الشباب، وقد استقبل هذا السجن المادي في أول أمره كبير النفس، حمي الأنف، ولكنه لم يلبث أن ذل واستكان، وأنفق أيامه في السجن ضارعا مستعطفا، يتوسل إلى الأمير، ويتبرأ مما اتهم به حتى أدركه العفو، وردت إليه حريته، هذه الحرية المبتذلة التي يستمتع بها الناس جميعا؛ لأنها حرية الأجسام لا حرية النفوس. فأما أبو العلاء فقد شعر بسجنه، بل بسجونه، وألح على نفسه بهذا الشعور، واحتمل من أجل ذلك آلاما تملأ النفوس رحمة له وإشفاقا عليه، ولكنه استمتع في هذه السجون بهذه الحرية العليا التي لا يستمتع بها إلا الممتازون من الناس؛ لأنها حرية النفس والقلب والعقل. ومع ذلك فقد كان أبو العلاء يرى نفسه مجبرا، ويرى أن ليس له من الحرية حظ!
أرأيت إلى الموازنة بين أبي العلاء وصاحبيه هذين إلام تنتهي؟ وماذا تعقب في النفس من إعجاب مر بهذا الرجل الضئيل النحيل، الذي شارك صاحبيه في كثير من أشياء كانت تقتضي أن تتشابه حياتهم، ولكنه مع ذلك امتاز منهما أشد الامتياز وأعظمه؟
أنا أعجب ببشار وأكبر فنه، ولكني لا أحبه، ولا أراه يثير في نفسي إلا صدودا عنه، وضيقا به. وأنا أقدر فن المتنبي، وأعجب ببعض آثاره إعجابا لا حد له، وأعجب ببعضها الآخر إعجابا متواضعا - إن صح أن يتواضع الإعجاب! - وأمقت سائرها مقتا شديدا. ولا تثير حياة المتنبي في نفسي إشفاقا عليه، ولا رثاء له وإنما هو مغامر طلب ما لم يخلق له، وتعرض لما كان يحسن أن يعرض عنه، فانتهى إلى ما ينتهي إليه أمثاله المغامرون. فأما أبو العلاء فإن له في نفسي شأنا آخر لا يغيظني، ولا يحفظني؛ لأن حياته كلها قد برئت مما يحفظ أو يغيظ، وهو قد يغيظ فريقا من الناس، وقد يحفظهم؛ لأنه يخالفهم في الرأي، ولأنه ينكر ما يعرفون، ويسخر مما يرتفعون به عن السخرية، ويستهزئ بما يرون الاستهزاء به إثما ونكرا. ولكنك تعلم أن الذين يسيغون الحرية ويذوقونها لا يحفظهم خلاف في الرأي، ولا يغيظهم افتراق في المذهب. وأبو العلاء حري بعد ذلك أن يثير في نفسك الإشفاق لا الحفيظة؛ لأنه لم يخالفك في الرأي معاندا ولا مكابرا، وإنما خالفك في الرأي بعد أن اجتهد ما وسعه الاجتهاد، وبعد أن نصح لنفسه ولك ما وسعه النصح. وما يحفظك من رجل أراد الصواب فانتهى إلى ما تراه أنت خطأ؟ وما يغيظك من رجل طلب الخير وجد في طلبه فانتهى إلى ما تراه أنت شرا، وهو قد احتمل في ذلك آلاما لا تكاد توصف ولا تحصى؟
كان هؤلاء الشعراء الثلاثة: بشار، والمتنبي، وأبو العلاء كبارا في أنفسهم، وكانت كبرياؤهم أظهر ما سيطر على حياتهم من خصلة، ومصدر ما لقوا من مكروه. فوازن بين الكبرياء عند هؤلاء الشعراء الثلاثة، ووازن بين ما تركت كبرياؤهم من آثار لهم أولا، ولغيرهم من الناس بعد ذلك. فأما كبرياء بشار فقد أذاقته لذات عارضة، وبغضته إلى الناس، وانتهت به إلى بطش السلطان، ثم أبقت له آثارا يعجب بها الناس إعجابا فنيا خالصا، ولكنهم قلما ينتفعون بها في تقويم الأخلاق والعقول، ولعل أساءتها إلى الأخلاق والعقول أن تكون أكثر جدا من إحسانها. وأما كبرياء المتنبي فقد حرمت عليه اللذة وجرعته الألم أثناء حياته، وأذاقته الذلة والهون، وانتهت به إلى أن يغتاله بعض الأعراب في بعض الصحراء، وأبقت للناس منه آثارا يعجبون بها إعجابا فنيا يختلف قوة وضعفا باختلاف الأذواق والميول، ولكنها لا تجعل من صاحبها مثلا يحتذى، ولا نموذجا يتوخى في تقويم العقول والأخلاق، ولعلها أن تكون إلى إثارة الغرور والاقتناع بالقول دون العمل والرضا بالعرض دون الجوهر أدنى منها إلى إشعار النفس هذا التواضع الخصب المنتج الذي يجعل صاحبه نافعا لنفسه وللناس.
وأما كبرياء أبي العلاء فقد جرعته مزاجا من الألم واللذة أثناء حياته الطويلة، ولكنه ألم يطهر النفس ولا يفسدها، ولكنها لذة ترفع النفس ولا تضعها، وتقويها ولا تضعفها. والغريب من أمر هذه الكبرياء التي لا أعرف أن شاعرا عربيا قد شقي بمثلها أنها أنتجت لأبي العلاء تواضعا لا أعرف أن شاعرا أو فيلسوفا عربيا سعد بمثله. وقد انتهت كبرياء أبي العلاء به إلى موت هادئ لا عنف فيه، بعد حياة طويلة هادئة لا عنف فيها إلا ما كان يشق به أبو العلاء على نفسه من التكاليف. وقد أبقت كبرياء أبي العلاء للناس منه آثارا خصبة أشد الخصب، مختلفة أشد الاختلاف، مختلفة في طبائعها، مختلفة في نتائجها، منها العلم الذي يغذو العقل، ومنها الفن الذي يغذو القلب والذوق، ومنها الفلسفة التي تغذو العقل والقلب والخلق جميعا. وفي آثار أبي العلاء شدة على الناس، شدة في ألفاظها، وشدة في معانيها، وشدة في أساليبها أيضا. ولكن في هذه الآثار شدة على أبي العلاء نفسه! فقد لقي في إنشائها عناء وجهدا، أرجو أن أصورهما بعد حين، فلا أقل من أن نلقى في الفهم عنه والانتفاع به بعض ما لقي من العناء في إفهامنا ونفعنا. وفي آثار أبي العلاء ثقل على النفوس التي لا تحب إلا الهين من الأمر، ولا تألف إلا الحياة اليسيرة الوادعة التي لا تكلف أصحابها مشقة ولا عسرا. ولكن أبا العلاء نفسه لم يكن يحب الهين من الأمر، ولم يكن يألف أقصر الطرق كما قال بول فاليري فيما ترجمت عنه في أول هذا الكتاب، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها. وما ذنب أبي العلاء إذا كان لم يخلق للسهولة ولا للين، وإنما خلق للمشقة والجهد! وحسبه أنه لم يلق في حياته سهولة ولا لينا، أو أنه قد حمل نفسه حملا في حياته على الإعراض عن السهولة واللين.
وفي كثير من آثار أبي العلاء كآبة وشحوب لا تستريح إليهما النفوس التي تألف الإشراق والابتسام، ولكن الحياة ليست إشراقا كلها ولا ابتساما، والرائد لا يكذب قومه، وقد وكل الله بإشراق الحياة وابتسامها من الكتاب والشعراء من يعرضونها على الناس فيملأون نفوسهم إشراقا وابتساما وأملا. ووكل الله بما في الحياة من ظلمة وعبوس كتابا وشعراء يعرضونهما على الناس فيملأون نفوسهم ظلمة وعبوسا، ويشرفون بها على اليأس أحيانا. وصدقني إن الحياة لا تستقيم لك إذا لم تلتمس فيها إلا البهجة والرضا، كما أنها لا تستقيم لك إذا لم تلتمس فيها إلا الحزن والسخط. فلائم بين ذلك، وخذ من هذا ومن ذاك بحظ، وإذا وجدت البهجة والرضا عند هذا الشاعر أو ذاك من الشعراء المتفائلين فلا تكره أن تلتمس شيئا من الحزن والسخط عند بعض الشعراء المتشائمين، فإن السرور المتصل كاذب، وهو خليق أن يقتل النفس، ويميت القلب، وإن الحزن المتصل صادق، ولكن نفوس الناس لا تطيق له احتمالا، فلا أقل من أن تلم به، وتشرف عليه، وتصيب منه قليلا يصلح من أمرها، ويعصمها من هذا النسيان الذي هي منتهية إليه إن كانت حياتها صفوا خالصا، وهل إلى الصفو الخالص من سبيل؟
كشفت آفة أبي العلاء إذن له سجنه الفلسفي، وامتزجت به فأصبحت سجنا من داخل سجن، وألف الرجل هذين السجنين أشد الإلف، وضاق بهما أشد الضيق، ولا تعجب لهذا التناقض فهو قوام حياة أبي العلاء، بل هو قوام الحياة لكل رجل يجمع بين دقة الحس ورقة الشعور، وحدة المزاج وقوة العقل والإرادة جميعا. وقد امتحن الله أبا العلاء بهذه الخصال كلها، فثبت للمحنة ثباتا عجيبا، ولكنه ضاق بها ضيقا شديدا، وشكا منها شكاة متصلة. ولولا هذه الشكاة وذلك الضيق لما نعمنا باللزوميات، وما ترك لنا أبو العلاء من الآثار! وماذا تريد أن يصنع! لقد احتمل حياته في هذين السجنين كارها، فصور كراهته هذه، ولم يكن يستطيع أن يفر من حياة السجن هذه:
وهل يأبق الإنسان من ملك ربه
فيخرج من أرض له وسماء؟
كلا! ليس إلى ذلك من سبيل. فليقم أبو العلاء إذن حيث أراد الله له أن يقيم، وليرتب أمره كما يستطيع في هذين السجنين، وقد فعل، فأنشأ لنفسه هذا السجن الثالث الذي لزمه نصف قرن، وهو بيته في المعرة. وليس المهم أنه أقام في بيته نصف قرن لا يتركه، وإنما المهم أنه أقام في هذا البيت على نحو خاص لم يتعود الناس أو لم يتعود أكثر الناس أن يقيموا عليه في البيوت، وحسبك أنه كان فذا في هذا بين المسلمين جميعا على اختلاف البيئات والعصور!
هوامش
الفصل الخامس
ومن المحقق أن أبا العلاء كان يستطيع أن يكتفي بسجنيه هذين اللذين أطلنا فيهما الحديث دون أن يضيف إليهما هذا السجن الثالث، ومن غير أن يحد ذلك من فلسفته، أو يؤثر في سيرته التي تفرضها عليه هذه الفلسفة. وما أكثر الفلاسفة الذين عاشوا عيشة فلسفية خالصة لاءموا فيها أحسن الملاءمة بين حياتهم العقلية وحياتهم العملية دون أن يحتاجوا إلى اعتزال الناس، ولزوم بيت واحد لا يعدونه! بل منهم من قضت عليه فلسفته أن يخالط الناس ما وسعته مخالطتهم؛ ليؤثر فيهم ما وجد إلى التأثير فيهم سبيلا. ولو أن سقراط اعتزل الناس ولزم بيتا بعينه لا يعدوه لما كان سقراط، ولفقد أخص ما يميزه ويميز فلسفته من الخصال التي كانت تفرض عليه التنقل بتفكيره وسؤاله وجوابه من مكان إلى مكان، ومن مجمع إلى مجمع.
وكان أبو العلاء يستطيع أن يعيش بفلسفته هذه الحادة القاتمة ذاما للدنيا، وناعيا على أهلها، ومتجنبا لذاتها دون أن يحبس نفسه نصف قرن في بيت من بيوت المعرة، ودون أن يؤثر ذلك في فلسفته قليلا أو كثيرا. فما الذي دفعه إلى إيثار العزلة، وحمله على لزوم هذا السجن مختارا إن صح أن يضاف هذا الاختيار إلى أبي العلاء؟
ليس من شك في أنه حين سافر إلى بغداد لم يكن يريد الوحدة، ولا اعتزال الناس، فإن الوحدة لا تطلب في أكبر المدن الإسلامية، وإن اعتزال الناس لا يطلب في أشد البلاد اكتظاظا بالناس، بل لعل أبا العلاء إنما سافر إلى بغداد فرارا إليها من هذه العزلة الإضافية التي لزمها أو لزمته في قريته الصغيرة الخاملة التي لا يجد فيها من يلائم شكله شكله من العلماء والأدباء والفلاسفة. وقد وصل إلى بغداد، وما أسرع ما اتصل بالناس واتصل الناس به، وما أسرع ما أحبه أهل بغداد وخلطوه بأنفسهم وآثروه بمودتهم، وما أسرع ما شهد أنديتهم الخاصة والعامة، واختلف إلى مجالس علمائهم وأدبائهم وفلاسفتهم، وشفى نفسه من حاجته إلى الحياة الاجتماعية العليا التي يتحدث فيها إلى الأضراب والنظراء، ويسمع منهم فيفهم عنهم، ويفهمون عنه. وشفى نفسه أيضا من طموحه الطبيعي إلى الشهرة وبعد الصيت وتسامع الناس به وتحدثهم عنه. ولكنه كان في بغداد قلقا يحس الغربة، ويجد الحنين إلى وطنه في الشام، ويعلن ذلك في شعر رائع مؤثر حفظه سقط الزند، وأحبه البغداديون أنفسهم، ووقفت عنده في غير هذا الكتاب. كما بينت أنه لم يكد يعود من بغداد حتى أخذت نفسه تذوب حسرات لفراقها. وهذه الخصلة من أخص صفات الأديب ذي الحس الدقيق، فهو طامح إلى بغداد إن كان في المعرة، وهو مشوق إلى المعرة إن كان في بغداد، ثم هو محزون على بغداد إن عاد إلى المعرة! وقد صور المتنبي هذه الخصلة تصويرا رائعا في بيته المشهور:
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا!
وصور أبو العلاء نفسه هذه الخصلة تصويرا رائعا في شعره الذي بكى فيه الشام حين كان في العراق، والذي ندم فيه على العراق حين عاد إلى الشام.
كان إذن قلقا في بغداد، ولكني مع ذلك أعتقد أنه لم يكن يميل إلى فراقها، ولو استقامت له الحياة فيها لما فارقها، وأكبر الظن أنه كان يحدث نفسه بإمكان الاستقرار في بغداد إلى آخر أيامه، ولعله داعب هذا الأمل الحلو في أن تلين له الحياة في العراق، فيدعو أمه التي فارقها لتلحق به، وتنفق معه ما بقي من أيامها. وأكبر الظن أن أبا العلاء لم يكن يؤثر بغداد؛ لأنها مدينة العلم والفلسفة فحسب، بل لأن حياتها السياسية كانت أخف عليه، وأهون احتمالا من حياة الشام. فالذين يقرأون اللزوميات وسقط الزند نفسه يشعرون بأن أبا العلاء كان يكره الحياة السياسية في الشام كرها شديدا؛ ذلك أن الشام كانت موضوع نزاع متصل بين الفاطميين والمتغلبين من الأعراب من قيس وطيء والروم. ولم يكن أبو العلاء يحب الفاطميين ولا يرضى عنهم، بل لم يكن أبو العلاء يحب الشيعة عامة، ولا من يتصل بهم من قريب أو بعيد، فهو يعرض بالفاطميين، ويهاجم الإسماعيلية والإمامية، ويهاجم القرامطة مهاجمة عنيفة. ولم يكن حبه للمتغلبين من أعراب قيس وطيء بأكثر من حبه للفاطميين. كان يكره من أولئك الأعراب ظلمهم وجهلهم، وغلظتهم وقسوة قلوبهم، وكان ينكر من الفاطميين مذاهبهم في السياسة، وآراءهم في الدين، وواضح أنه إذا كره أولئك وهؤلاء فلم يكن يحب الروم، ولا يؤثرهم بالمودة، ولا يرضى لنفسه الخضوع لسلطانهم بين حين وحين كما كانت تجري بذلك الأحداث في ذلك الوقت.
وكانت بغداد بمأمن من هذا كله، وبمعزل من هذه الفتن المنكرة الخطيرة، فيها تشغيب للجند، وفيها الاضطراب بين الشيعة وأهل السنة من وقت إلى وقت، ولكن هذا كله لم يكن يغير من حياة العلماء والأدباء شيئا، ولم يكن يصرفهم عما كانوا فيه من الفراغ لما يحبون من درس وبحث، ومن مناظرة وجدل، ومن رواية وإنشاد. فكان كل شيء في بغداد يحببها إلى أبي العلاء، ويغريه بالإقامة فيها حتى يدركه الموت، ولكن الحياة لم تستقم له في بغداد؛ لأن أخلاقه لم تكن أخلاق الرجل الاجتماعي الذي يستطيع أن يأخذ من الناس وأن يعطيهم، وأن يقارضهم المنافع بما فيها من خير وشر، وأن يصبر على أذاهم حينا، ويلقاهم بالأذى حين تمكنه الفرصة.
لم يكن أبو العلاء من هذا كله في شيء، وإنما كان دقيق الحس، رقيق الشعور، سريع التأثر، سريع رد الفعل كما يقال. وقصته مع الشريف المرتضى ومع أبي الحسن الربعي تدلان على ذلك دلالة واضحة. فإذا أضفت إلى هذا أن صاحبنا قد ظفر بالشهرة في بغداد، ولكنه ظفر معها بالحسد، ولم يظفر معها بالمال تبينت أنه لم يكن له ببغداد مقام، ولا أمل في المقام. وإذن فقد اضطر إلى أن يفكر في العودة إلى المعرة ليقيم فيها وادعا مطمئنا. وقد رأيت أنه كان يكره كل شيء في المعرة إلا أهلها الوادعين الآمنين، كان يكره إصفارها من العلم والعلماء ودور الكتب، وكان يكره تعرضها لهذه الأحداث السياسية التي تجعلها كالكرة يتقاذفها الفاطميون والأعراب والروم، وكان يعلم أنه إن عاد إلى المعرة دون أن يحتاط لنفسه، ويعتصم بالعزلة التامة، والحيدة المطلقة لم يأمن من أن تعبث به أحداث السياسة كما عبثت بغيره من العلماء والأدباء.
ومن هنا نفهم أنه فكر فأطال التفكير، وروى فأطال التروية، واستشار الخاصة من أصدقائه في بغداد بعد أن بين لهم جلية أمره، فأقروا رأيه، وشجعوه على المضي فيه. وإنه لفي ذلك وإذا الأنباء تأتيه بأن أمه مريضة، فتصور حزنه وإشفاقه، وخيبة أمله، وكذب رجائه! لقد كان يمني نفسه أن يقيم ببغداد، وأن يحمل أمه إلى بغداد، فلما أعجزته الإقامة أخذ يفكر في السفر، ولكنه يتثاقل عنه، ويرجئه ليستزيد من الحياة في بغداد. وإذا مرض أمه يزعجه عنها فجأة، ويدعوه إلى فراقها في أسرع وقت ممكن.
وما يكاد يرتحل عن بغداد، ويمضي في طريقه مسرعا إلى المعرة يسابق الموت إلى أمه حتى يأتيه النبأ بأن الموت قد سبقه إليها.
فهو إذن لم ينكب بالإخفاق فيما كان يرجوه من الحياة الآمنة الخصبة في بغداد فحسب، وإنما نكب فيما كان يرجوه من لقاء أمه تلك التي أحبها حبا لم يحببه أحدا قط، تلك التي مانعت في سفره إلى بغداد إيثارا لنفسها به، وإيثارا له بالعافية، وإشفاقا عليه من المشقة والجهد. فلما ألح عليها في ذلك، وتبينت حرصه عليه، واتصال نفسه به عرفت كيف تضحي بنفسها ابتغاء مرضاته، وكيف تخلي بينه وبين ما أراد.
وقد أظهرت في غير هذا الكتاب جزع أبي العلاء لهذه النكبة، وما صورت هذه النكبة من ذلك الحزن الذي أخرجه عن طوره أو كاد، ولكن المهم أن هذه النكبة وطنت نفسه، وقوت عزمه على ما كان قد صمم عليه من العزلة والانفراد، والاستسلام لغريزته الوحشية.
وقد رويت في غير هذا الكتاب تلك الرسالة المؤثرة التي كتبها إلى أهل المعرة، ينبئهم فيها بعزمه على العزلة، ويطلب إليهم فيها ألا يخفوا للقائه إذا بلغ القرية، ولا لزيارته إذا استقر في داره. ولست أرى بأسا برواية هذه الرسالة مرة أخرى؛ لأني أجد في قراءتها - وأرجو أن تجد في قراءتها - لذة حزينة، تثيرها هذه النغمة الحزينة التي يصطنعها أبو العلاء في تصوير ما يريد:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب إلى السكن المقيم بالمعرة، شملهم الله بالسعادة، من أحمد بن عبد الله بن سليمان خص به من عرفه وداناه. سلم الله الجماعة ولا أسلمها، ولم شعثها، ولا آلمها. أما الآن، فهذه مناجاتي إياهم منصرفي عن العراق، مجتمع أهل الجدل، وموطن بقية السلف، بعد أن قضيت الحداثة فانقضت، وودعت الشبيبة فمضت، وحلبت الدهر أشطره، وجربت خيره وشره، فوجدت أوفق ما أصنعه في أيام الحياة، عزلة تجعلني من الناس كبارح الأروى من سانح النعام، وما ألوت نصيحة لنفسي، ولا قصرت في اجتذاب المنفعة إلى حيزي. فأجمعت على ذلك، واستخرت الله فيه، بعد جلائه على نفر يوثق بخصائلهم، فكلهم رآه حزما، وعده إذا تم رشدا. وهو أمر أسري عليه بليل قضى برقة، وخبت به النعامة، ليس بنتيج الساعة، ولا ربيب الشهر والسنة، ولكنه غذي الحقب القادمة، وسليل الفكر الطويل. وبادرت إعلامهم ذلك؛ مخافة أن يتفضل منهم متفضل بالنهوض إلى المنزل الجارية عادتي بسكناه؛ ليلقاني فيه فيتعذر ذلك عليه، فأكون قد جمعت بين سمجين: سوء الأدب، وسوء القطيعة. ورب ملوم لا ذنب له ، والمثل السائر: «خل امرأ وما اختار»، وما سمحت القرون بالإياب حتى وعدتها أشياء ثلاثة: نبذة كنبذة فتيق النجوم، وانقضابا من العالم كانقضاب القائبة من القوب، وثباتا في البلد إن جال أهله من خوف الروم. فإن أبى من يشفق علي أو يظهر الشفق إلا النفرة مع السواد كانت نفرة الأغفر أو الأدماء. وأحلف ما سافرت أستكثر من النشب، ولا أتكثر بلقاء الرجال، ولكن آثرت الإقامة بدار العلم، فشاهدت أنفس مكان لم يسعف الزمن بإقامتي فيه. والجاهل مغالب القدر! فلهيت عما استأثر به الزمان، والله يجعلهم أحلاس الأوطان، لا أحلاس الخيل والركاب، ويسبغ عليهم النعمة سبوغ القمراء الطلقة على الظبي الغرير، ويحسن جزاء البغداديين، فلقد وصفوني بما لا أستحقه، وشهدوا لي بالفضيلة على غير علم، وعرضوا علي أموالهم عرض الجد، فصادفوني غير جذل بالصنيعات، ولا هش إلى معروف الأقوام، ورحلت وهم لرحيلي كارهون، وحسبي الله عليه يتوكل المتوكلون!
ويريد الحظ أن يعبث بأبي العلاء حتى في حزنه وألمه، وفيما اختار لنفسه من العزلة، وما آثرها به من التوحش، فلا تصل رسالته هذه إلى أهل المعرة. وأكبر الظن أنهم قد خفوا للقائه وزيارته، ولكن التاريخ لم يحدثنا بما لقيهم به أبو العلاء من نفار وازورار، أو انبساط وإقبال. على أن عبث الحظ بأبي العلاء فيما أراد من هذه العزلة لم ينقطع، وإنما لزمه طول حياته، فقد كان أبو العلاء فيما أظن يرجو أن يقيم في داره خاليا إلى نفسه وإلى تفكيره، منقطعا عن الناس أشد الانقطاع وأوحشه، لا يراهم ولا يرونه، إلا أن تدعو إلى ذلك ضرورة ملجئة، وما بالك برجل يريد أن يلزم داره، ولا يخرج مع أهل المدينة إن جالوا من خوف الروم، ولكن داره لم تلبث أن استحالت إلى مدرسة يؤمها الطلاب الكثيرون من أبعد الأقطار الإسلامية وأنآها! منهم من يأتي من خراسان، ومنهم من يأتي من اليمن، ومنهم من يأتي من غير هذين القطرين من أقطار المسلمين، وكلهم يطلب عنده العلم والأدب، ويلتمس منه المعرفة والفقه بأمور اللغة. وأبو العلاء مكره على أن يعطيهم ما يجد، ويتكلف لهم ما يطيق وما لا يطيق لا من العلم والأدب فحسب، بل منهما، ومن المال، والنفقة أيضا؛ لأنه لم يكن بخيلا ولا شحيحا، وإنما كان أبعد الناس من البخل والشح. فقد فاتته العزلة التي رغب فيها، وحرص عليها، وفرضت عليه الحياة الاجتماعية أو فرض عليه لون من ألوانها فرضا، ولكنه على كل حال قد حقق بعض ما كان يريد، وعصم نفسه مما كان يخشاه، فلم يتصل بالأمراء ولا بالرؤساء، وقد حاول أولئك وهؤلاء أن يرفعوه إليهم، ويقربوه منهم، ولكنه عرف كيف يتخلص من ذلك في لباقة وظرف، وكيف يلزم داره كما أراد أن يلزمها لا يخرج منها إلى الناس، وإنما يدخلها الناس عليه راغبين فيما عنده من العلم والأدب.
على أن أبا العلاء لم يعد من بغداد بهذا العزم المصمم على العزلة وحده، وإنما عاد بشيء آخر هو هذه الحياة الخاصة التي فرضها على نفسه أثناء العزلة، والتي حالت بينه وبين الزواج والنسل، وحرمت عليه أكثر اللذات أو قل كل اللذات؛ وحظرت عليه أكل الحيوان، وما يخرج منه، واضطرته إلى أن يعيش على العدس، والزيت، والتين، والدبس، لا يتجاوز ذلك إلى غيره؛ وأن يتخذ من اللباس أخشنه وأقساه، ومن الفراش أغلظه وأجفاه: اللبد في الشتاء، والحصير في الصيف؛ وأن يأخذ نفسه بألوان عنيفة من الرياضة المادية، فلا يتخذ في الشتاء دفئا، ولا يصطنع الماء الساخن، فأما الرياضة المعنوية فإن لنا فيها حديثا قد يطول بعض الشيء.
فلننظر إلى هذا الرجل النحيل الضئيل الضرير، الذي اصطنع لنفسه هذا السجن المادي من داره، وفرض على نفسه فيه حياة السجين وسيرته، وطعامه وشرابه، وغلظته وقسوته، وأقام على ذلك نصف قرن راضيا به مطمئنا إليه، نستغفر الله، بل مفاخرا به! ألم يسم نفسه رهين المحبسين؟ ألم يذكر سجونه الثلاثة في ذينك البيتين اللذين رويناهما منذ حين؟
لننظر إلى هذا الرجل قد سجنت نفسه في جسمه، فحدت بحدوده، وأكرهت على ما أكره عليه من العجز، ثم لم يكف الطبيعة أن اضطرتها إلى هذا السجن، وهو ثقيل أليم بغيض، فأضافت إليه سجنا آخر، وحالت بين هذه النفس وبين أن تنفذ إلى العالم المحيط بها من طريق الإبصار كما ينفذ إليه غيره من النفوس؛ ثم لم يكفها هي أيضا أن اضطرت إلى هذين السجنين فكأنها عاندت الطبيعة التي سجنتها، وأعلنت إليها العناد والتحدي، وقالت لها في صراحة: إن هذا العذاب الأليم لا يضعفني، ولا يفل من حدي، بل قد أرى فيه لذة ورضا، بل قد أراه هينا يسيرا لا يكفيني ولا يشفيني؛ وانظري؛ فسأضيف إليه سجنا آخر وعذابا آخر، وحرمانا آخر، سأحبس نفسي في هذا المنزل لا أعدوه، وسآخذ نفسي بأشد ألوان الرياضة وأقساها، وسأحرم نفسي ما أباح الله للناس من طيبات الحياة! ولو استطعت لأضفت إلى هذه السجون الثلاثة سجنا رابعا وخامسا، ولو استطعت لأضفت إلى هذه الألوان من العذاب والحرمان ألوانا أخرى من العذاب والحرمان، ولكن ماذا أصنع وهذا آخر الطاقة وأقصى الجهد؟ انظري؛ إنك لم تقهريني، ولم تظهري علي، ولكني أنا الذي يقهرك ويظهر عليك؛ لأني أحتفظ أمام قوتك وسلطانك، وأمام بأسك وبطشك بهذا العقل الحر الثائر الذي لن يهدأ، ولن يطمئن حتى يعلم علمك، أو يكون بينك وبينه الفراق إلى آخر الدهر!
أليس هذا الرجل خليقا بالإشفاق عليه والإعجاب به؟ بلى وهو خليق بأن نحبه ونؤثره بالود، وبأن نزوره في هذا السجن الذي اتخذه لنفسه، ونقيم معه فيه يوما أو أياما لنرى كيف كان يعيش فيه، لا عيشته المادية، بل عيشته العقلية الشاعرة المفكرة التي تصورها اللزوميات.
الفصل السادس
وأدخلت على الشيخ في حجرة واسعة بعيدة الأرجاء، قد جلس هو في صدرها على حصير؛ لعله أن يكون أقرب إلى البلى منه إلى الجدة، وبين يديه نفر يكتبون، وفي الحجرة قوم آخرون كثيرون يسمعون ويعجبون، ولكنهم لا يقيدون ما يسمعون، وكان صوت الشيخ شاحبا حزينا قد ألقيت عليه مسحة من كآبة، ولكنه كان في الوقت نفسه ثابتا ممتلئا يمازج حزنه شيء من الرضا والأمن، وشيء آخر لا يكاد يحس كأنه يمثل غبطة هادئة، وابتهاجا متواضعا بما أتيح للشيخ من فوز. وكان يملي هذه الأبيات:
يدل على فضل الممات وكونه
إراحة جسم أن مسلكه صعب
ألم تر أن المجد تلقاك دونه
شدائد من أمثالها وجب الرعب؟
إذا افترقت أجزاؤنا حط ثقلنا
ونحمل عبئا حين يلتئم الشعب
وأمس ثوى راعيك وهو مودع
ولو كان حيا قام في يده قعب!
وقد أعجبني هذا الصوت الشاحب المشرق، والمحزون المبتهج، ووجدت في الاستماع له لذة وأنسا لم أجدهما في الاستماع لصوت قط. ولكني تجاوزت الصوت مسرعا إلى ما كان يملي من الشعر، فوقفت منه عند أمرين، أو قل عند أمور ثلاثة مختلفة، ولكن ائتلافها هو قوام هذه الأبيات.
وقفت عند معناه، ووقفت عند أسلوبه، ووقفت عند لفظه، فأما معناه فقد رأيت فيه إنتاج العقل الفلسفي، وإنتاج الخيال الشعري، وائتلافا غريبا لا يخلو من تكلف بين هذين النوعين من الإنتاج، ولكنه تكلف لا يحفظ ولا يغيظ، ولا يزور بالسامع عنه، ولا عن صاحبه. فأما العقل الفلسفي فقد أنتج لصاحبه بعد التفكير والروية أن الحياة عناء للأجسام؛ لأنها تحملها من أثقال وأعباء ما لا تحتمله إن فقدت الحياة. وهي إنما تحملها هذه الأعباء وتلك الأثقال؛ لأنها تجمع أجزاءها المتفرقة، وتلائم بين بعضها وبعض، وتحدث بينها من التضامن ما يهيئها لحمل ثقلها الخاص أولا، وللنهوض بما يحمل عليها من الأثقال الأجنبية ثانيا. فإذا تفرقت هذه الأجزاء بعد اجتماعها، وتباعدت بعد اقترابها، وفقدت هذا التضامن الذي كان يؤلف منها وحدة متماسكة، يحمل بعضها ثقل بعض، وينهض كلها بأثقال غريبة عنه لم تتكلف مشقة، ولم تتعرض لجهد، ولم تحتمل ثقلا؛ لأنها ليست مهيئة لذلك، ولا ميسرة له، ولا قادرة على النهوض به. وأنت لا تحمل الأشياء المتباعدة شيئا مجتمعا، وإنما سبيلك - إن أردت أن تحمل شيئا على شيء - أن تلائم بين الحامل والمحمول، وأن تهيئ أحدهما لقبول الآخر.
وإذن فالموت مريح للأجسام من احتمال الأثقال، والنهوض بالأعباء؛ لأنه يفرق أجزاءها، ويشتت ما اجتمع منها، ويلغي ما كان بينها من التضامن والتعاون. وإذن فأمر هذا العالم بين جمع وتفريق، وبين تباعد وتقارب، والحياة من أهم عناصر الجمع بعد التفريق، والتقريب بعد التباعد، والموت ينقض ما جمعت، ويفرق ما ألفت. فمن كره الجهد، وتبرم بالمشقة، وسئم العنف واحتمال الأثقال، وآثر الراحة الكبرى فسبيله أن يؤثر الموت؛ لأنه يحط عنه كل ثقل، ويلقي عنه كل عبء؛ ولأنه يبدأ فيحط عنه ثقل نفسه قبل أن يحط عنه ثقل غيرها من الأشياء. وهذا المعنى في نفسه واضح مستقيم لا غموض فيه ولا عوج، وهو في الوقت نفسه مظلم قاتم، عظيم الحظ من التشاؤم، يصور التئام الجسم الحي على أنه شر يصدر عنه الجهد والتعب، ويصور افتراق هذه الأجسام على أنه خير تصدر عنه الراحة والهدوء، فهو يزهد في الحياة، ويرغب في الموت.
ولكن الشيخ حين أراد أن يؤدي هذا المعنى المظلم لم يؤده كما هو، وإنما دار حوله، واتخذ الخيال إليه سبيلا، فجعل الموت الذي يرغب فيه الحكيم صعب المرام كالمجد الذي يرغب فيه الطموح، كلاهما لا ينال إلا بعد الجهد، ولا يبلغ إلى بعد تكلف المشقات، ولكن كليهما يعقب الظافر به غبطة وطمأنينة ورضا.
قدم الشاعر بهذا الخيال بين يدي هذا المعنى على أنه وسيلة إليه وتمهيد له، ثم ألقى هذا المعنى نفسه في البيت الثالث، موجزا، متقنا، دقيقا، صريحا، مرسلا إرسال الأمثال. ثم عاد إلى الخيال فاستنبط منه دليلا يؤيد هذا المعنى، ويوضحه ويجلوه، وضرب هذا الدليل مثلا يفهمه الذكي والغبي، ويسيغه الفيلسوف وغير الفيلسوف، وهو هذا الراعي الذي ينهض بأعباء صناعته ما أتيحت له الحياء، فهو يحتمل أثقالها على اختلافها وتباينها، منها المادي ومنها المعنوي؛ وقد رمز الشيخ لهذه الأثقال بهذا القعب الذي يقوم الراعي وهو في يده فارغا أو ممتلئا، فهو يحمل نفسه أولا، ويحمل القعب ثانيا، فإذا مات وثوى في قبره لم ينهض بعمل، ولم يحتمل ثقلا ولا عبئا، ولم يقم وفي يده قعب أو شيء آخر غير القعب. فهذا المعنى الذي أدي في هذه الأبيات الأربعة يعجب لصحته واستقامته، ولهذا الخيال الذي يسبقه فيمهد له، والذي يتلوه فيزيد الاقتناع به والاطمئنان إليه.
وأما أسلوب هذا الشعر وهذا النظم فقد وقفت عند انحرافه عن مذهب الشعراء المجودين، وانصرافه إلى مذهب الفلاسفة المحققين. ألست تراه في البيت الأول يعرض الأمر على أنه قضية فلسفية، يقيم عليها الحجة، ويقارع دونها بالبرهان، ويصطنع في ذلك ألفاظ الفلاسفة والمتكلمين، ويتكلف في إخضاعها لهذا الوزن الطويل بعض المشقة والجهد؟ فانظر إلى قوله: «يدل على فضل الممات». وانظر إلى قوله: «كونه إراحة جسم». ثم انظر إلى البيت الثاني فستراه ألقي كما يلقى الدليل، واصطنعت فيه أساليب الاستدلال، ثم انظر إلى البيت الثالث فسترى الشاعر قد ألقاه إليك هادئا مطمئنا واثقا؛ لأنه هيأك لتلقيه، وأعدك لفهمه وقبوله، ثم انظر إلى البيت الأخير فسترى أن الشاعر قد ضربه لك مثلا يتم به اقتناعك، ويمحو به ما عسى أن يبقى في نفسك من تردد أو شك. وقد يذهب الشعراء المجودون مذهب الاستدلال أحيانا، ولكنهم يلمون به إلماما خفيفا، ويأخذون منه بمقدار يسير، ويستعينون عليه بتخير اللفظ وتجويده، والارتقاء بالأسلوب عما ألف أصحاب المناظرة والجدل. فأما صاحبنا فلا يحفل من هذا بشيء، وإنما الذي يعنيه أن يصحح معناه ويقومه، ويؤديه إليك في لفظ صحيح واضح مستقيم، ولا عليه أن ينحرف اللفظ والأسلوب عما ألف أصحاب الصناعة والتجويد.
معناه آثر عنده من لفظه، والصواب أحب إليه من التزويق، فسواء عليه إذا حقق الفكرة وحصلها في نفسه وفي نفسك أن تخطئه الصورة الرائعة الرائقة. وأما لفظه فقد وقفت منه عند ما بينت لك آنفا، ولكني وقفت منه بنوع خاص عند هذه القوافي الأربع التي لم تشترك في الحرف الأخير فحسب، ولكنها اشتركت فيه وفي الحرف الذي يسبقه، فهي لم تشترك في الباء وحدها، وإنما اشتركت في الباء والعين: «صعب»، و«رعب»، و«شعب»، و«قعب». وقد كنت أعلم أن بعض الشعراء قد يوفقون أحيانا إلى تقفية قصائدهم على حرفين، يبلغون ذلك عفوا، وفي غير جهد، أو يبلغون ذلك عن إرادة وتعمد، وإطالة للكد، وإعمال للفكر؛ ولكني فيما قرأت من هذا الشعر القليل لم ألاحظ قط أن القافية تسلطت على الشعر، فحكمته ودبرت أمره، ونسقت لفظه وأسلوبه ومعناه كما تفعل في هذه الأبيات.
فما أشك في أنك تقرأ قصيدة كثير:
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا
قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
فلا تتردد في أن الشاعر قد تعمد التزام اللام والتاء، ولكنك في الوقت نفسه لا تشعر بأن كثيرا قد لقي في ذلك جهدا، أو احتمل فيه عناء، وإنما يخيل إليك أنه دعا الألفاظ فاستجابت له، وأهاب بها فأسرعت إليه. وأوضح من ذلك وأظهر أنك لا تحس في بيت من أبيات هذه القصيدة أن القافية هي التي نظمت البيت ودبرت أمره، ووضعت بعض ألفاظه بإزاء بعض، وأجرته على الأسلوب الذي جرى عليه، وإنما تشعر بأن البيت قد نظم، فألفت ألفاظه، واطرد أسلوبه، ومضى حتى انتهى إلى قافيته انتهاء هادئا مطمئنا مريحا. تشعر بأن البيت هو الذي دعا القافية، لا بأن القافية هي التي دعت البيت. فإذا قرأت هذه الأبيات الأربعة لم تجد لهذا الشعور في نفسك أثرا، وإنما أحسست إحساسا قويا أن كلمة «صعب»، هي التي نظمت البيت الأول، وألفت ألفاظه، واختارت له هذا الأسلوب، وأن الشاعر قد وجد هذه الكلمة أولا، ثم نظم لها البيت بعد ذلك، وكذلك «الرعب» و«الشعب» و«القعب».
تحس أن الشاعر قد أراد كلمات تنتهي بعين وباء، فاجتمعت له هذه الكلمات الأربع، فلما اجتمعت له التمس معنى ينظم فيه شعرا على أن تكون هذه الكلمات قوافي لهذا الشعر. وما زال يلتمس المعاني حتى وجد معناه هذا فأخذ يمده ويوسعه، ويدور حوله، ويمهد له، حتى تحققت له هذه الصور الأربع، وهي أن الموت مريح، فيجب أن تكون الطريق إليه صعبة، وأن المجد عسير، فيجب أن تقاسى الشدائد المخوفة في سبيله، وأن افتراق الأجسام لا يهيئها لاحتمال الثقل، وإنما تتهيأ له إذا اجتمعت أجزاؤها، وأن الدليل على ذلك أن الراعي يستريح من الرعي وأثقاله إذا مات ، ويشقى بالرعي ومتاعبه إذا عاش.
فالصورة الأولى تتفق مع كلمة صعب، والصورة الثانية تأتلف مع كلمة الرعب، والصورة الثالثة تلائم كلمة الشعب، وأي شيء يوافق الراعي إلا القعب، وأي شيء يوافق القعب إلا الراعي؟
وإذن فالشاعر لم يعمل في معناه وحده، ولا في لفظه وحده، ولا في أسلوبه وحده، وإنما عمل فيها جميعا، ولقي شيئا من الجهد غير قليل في حملها على أن تلتقي وتأتلف، ويطمئن بعضها إلى بعض، ثم في تمكينها بعد ذلك من أن تلقى نفوسنا فتألفها وتمازجها، ولا تشق عليها.
ووفق أبو العلاء من ذلك إلى ما أحب، فنحن نحس جهده وعناءه، ولكننا لا نبغض هذا الجهد، ولا نضيق بهذا العناء، ولا ننكر ما انتهيا إليه من النتائج. وقد نحتاج إلى شيء من الجهد لنسيغ هذه الأبيات، ونلائم بينها وبين ذوقنا الفني، ولكن أبا العلاء نفسه يعيننا على هذا الجهد ويشاركنا فيه، يعيننا عليه بشيء أحسه إحساسا قويا، ولكني لا أجد يسرا في تحقيقه، ولا في تحديده، ولا في تعيين موضعه من هذا الشعر. أتراه في المعنى الذي لا نكاد ندنو منه حتى تتلقاه نفوسنا هشة له مستريحة إليه؛ أتراه في اللفظ الذي مهما يكن حظه من التكلف فإن له من الجزالة حظا يرضي ذوقنا؛ أتراه في الأسلوب الذي مهما يكن حظه من الالتواء فإن فيه ما يصور جهدا محببا إلى النفس، مثيرا لعطفها وإعجابها، لا لأعراضها وازورارها، أم تراه في هذا كله، وفي شيء آخر يضاف إليه وهو أن أبا العلاء كان خفيف الروح، حلو الشمائل، رضي النفس، سمح الطبع، يصدر عنه الشعر المتكلف الذي يستسمج من غيره، فإذا نحن نلقاه باسمين له، مستريحين إليه؟ لا أدري! ولكني أقرأ هذه الأبيات، وأشعر بما فيها من تكلف وجهد فلا أنكرها، ولا أضيق بها، وإنما أحبها وأستعيدها، ولا أدعها حتى أثبتها في نفسي.
وقف عند البيت الثاني، وانظر إلى قوله: «شدائد من أمثالها وجب الرعب»، فلو أني صادفت هذه الصيغة عند شاعر غير أبي العلاء، عند المتنبي مثلا ، أو أبي تمام لأشبعته لوما ونقدا وتأنيبا، ولكني حين صادفت هذه الصيغة في شعر أبي العلاء لم أزد على أن ابتسمت، ثم استعدت البيت فضحكت ضحكا خفيفا، ثم أحببت هذا الأسلوب في هذا الموضع، واطمأننت إليه. قل إني أوثر أبا العلاء وأحابيه، وأرضى منه أشياء لا أرضاها من غيره، فقد لا تخطئ ولا تبعد، وأظنني نبهتك إلى ذلك في أول هذا الحديث، وقلت غير مرة: إني لا أملي كتابا في البحث العلمي، ولا في النقد الأدبي، وإنما أسجل خواطر أثارتها في نفسي عشرة أبي العلاء في سجنه وقتا ما، واستماعي له وهو ينشد شعر اللزوميات.
وهذه الأبيات التي سمعت أبا العلاء ينشدها فأعجبتني من جميع وجوهها أغرتني بكثرة الاستماع للشيخ حين كان يملي شعره هذا على كتابه وطلابه، كما أغرتني بأن ألزم الشيخ في جميع أطوار يقظته العاملة حين كان يخلو إلى نفسه ما أقمت معه في سجنه، فقد كنت حريصا على أن أحصل لنفسي هذه اللذة الفنية العقلية بالاستماع لإملاء الشيخ، وبالفهم عنه، كما كنت حريصا على أن أشهد الشيخ وهو يعاني ألوان الجهد الفني والعقلي، ويصطنع ألوان الحيل ليجمع بها بين المعاني الفلسفية التي لم يألفها الشعر كثيرا في لغتنا العربية وبين الألفاظ القريبة والغريبة في هذا النظم العسير، وبهذه القافية الشاقة.
وكانت نتيجة لزومي للشيخ آناء الليل وأطراف النهار شهرا وبعض شهر هي هذه التي أريد أن أصورها لك، وأعرضها عليك.
الفصل السابع
وأول ما أواجهك به من ذلك وأنا أقدر أنك ستلقاه منكرا له ثائرا عليه، هو أن اللزوميات ليست نتيجة العمل، وإنما هي نتيجة الفراغ، وليست نتيجة الجد والكد، وإنما هي نتيجة العبث واللعب، وإن شئت فقل إنها نتيجة عمل دعا إليه الفراغ، ونتيجة جد جر إليه اللعب. ولأوضح ذلك بعض التوضيح فقد أهدئ من ثورتك، وأحول إنكارك إلى إقرار واعتراف.
فقد لزم أبو العلاء داره لا يبرحها نصف قرن، فقدر أنت نصف القرن هذا كم يكون من سنة، ومن شهر، ومن أسبوع، ومن يوم ، ومن ساعة. وقدر أنك اضطررت إلى أن تلزم سجنا من السجون، وليكن هذا السجن دارك التي رتبتها كما تريد وتهوى أثناء هذا الدهر الطويل. فهل تتصور احتمالك للإقامة في هذا السجن أثناء هذه الأعوام المتصلة في حياة مطردة مستوية، يشبه بعضها بعضا كما يشبه الماء الماء؟ وهل تقدر أن القوانين المدنية الحديثة حين أرادت أن تشق على المجرمين، وتلائم بين جرائمهم الشنيعة، وآثامهم القبيحة، وما تترك هذه الآثام، وتلك الجرائم في حياة الأفراد والجماعات من آثار ليست أقل منها شناعة وقبحا، وبين العقوبات المكافئة لها الرادعة لهم ولأمثالهم عنها وعن أمثالها، قد فرضت السجن مع الفراغ، أو مع العمل اليسير أو الشاق آمادا تختلف طولا وقصرا، ولكنها لا تبلغ نصف هذا الدهر الذي لزم فيه أبو العلاء سجنه، بل لعلها لا تتجاوز ثلثه في أكثر الأحيان. ومن الحق أن أبا العلاء لم يفرض عليه، ولم يفرض على نفسه الراحة المتصلة، والفراغ المطلق؛ فما أظنه كان يستطيع أن يحتمل ذلك، أو يصبر عليه، ولكنه كان يقرأ كثيرا، ويملي كثيرا، ويلقى التلاميذ والطلاب والزائرين، فيتحدث إليهم ويسمع منهم.
ولكن هذا كله على كثرته وتنوعه لا يستطيع أن يملأ وقت الشيخ، ولا أن يغير ما فيه من التشابه والاستواء والاطراد، ولم يكن أبو العلاء ينفق وقته كله مع الناس قارئا أو ممليا أو متحدثا، وإنما كان ينفق بعض هذا الوقت في هذه الأعمال، وينفق بعضه الآخر فارغا لنفسه خاليا إليها. ولعل الوقت الذي كان يفرغ فيه لنفسه، ويخلو فيه إليها أن يكون أكثر من الوقت الذي يلقى فيه الناس، أو أن يكون مساويا له، أو أن يكون أقل منه شيئا. وهو قد كان على كل حال وقتا طويلا يتكرر في كل يوم دون انقطاع، لا أثناء عام أو أعوام، بل أثناء عشرات الأعوام. ولم يكن أبو العلاء إذا خلا إلى نفسه شغل عنها بالحديث إلى زوجه أو بمداعبة بنيه، وما أحسبه كان يتحدث إلى خادمه فيطيل الحديث، وما أرى إلا أن خادمه كان ينصرف عنه إذا انصرف الناس بعد أن يرتب له من أمره ما يحتاج إلى الترتيب. ولم يكن أبو العلاء إذا خلا إلى نفسه يستطيع أن يقطع الوقت بالقراءة. فهو لم يكن يقرأ إلا إذا وجد قارئا؛ لأنه كان كما حدثنا مستطيعا بغيره، ولم يكن يكتب أيضا لنفس هذا السبب، وما أرى أنه عرف الكتابة والقراءة التي يعرفها أمثاله من المكفوفين وإن أشار إلى هذا النحو من القراءة في قوله:
كأن منجم الأقوام أعمى
لديه الصحف يقرأها بلمس
فلم يحدثنا أحد بأنه قرأ وكتب بيده، وإنما حدثنا هو بأنه استطاع دائما بغيره، وسمى لنا بعض الذين أعانوه على القراءة والكتابة، وشكر لهم ما أسدوا إليه من معونة. كان إذن يخلو إلى نفسه وإلى وقته، ولا يجد من الناس، ولا من القراءة، ولا من الكتابة، ولا من أي عمل من الأعمال اليدوية ما يعينه عليها. وما أرى أنه كان كثير النوم، وإنما كانت حياته القانعة الخشنة خليقة أن تؤرقه، أو أن تجعل حظه من النوم قليلا. فماذا كان أبو العلاء يصنع أثناء ساعات الفراغ تلك التي كانت تفرض عليه في كل نهار، وفي كل ليل، وفي كل أسبوع، وفي كل شهر، وفي كل عام أثناء نصف قرن؟ كان يفكر، ولكن يفكر في ماذا؟ يفكر فيما كان قد حصل من علم وأدب وفلسفة، وفيما كان يقرأ عليه من ذلك، وفيما كان يتهيأ لإملائه منه على الطلاب والتلاميذ.
ونحن نعرف أن غير أبي العلاء من الأدباء والفلاسفة والمعلمين المبصرين قد شغلوا بالتفكير وبالإنشاء وبالتعليم، قرأوا وفكروا فيما قرأوا، وأملوا واستعدوا للإملاء، وأنشأوا وجدوا في الإنشاء، ولكن هذا كله لم يملأ أوقاتهم، ولم يشغلهم عن الحياة الاجتماعية، ولا عن الحياة المنزلية الخاصة. ولم يحرمهم الاستمتاع بما أبيح لهم من طيبات الحياة، بل لم يرد بعضهم عن الاستمتاع بما حرم عليهم من سيئات الحياة. فهم قد وجدوا الوقت للتحصيل والإنتاج، والمشاركة في الحياة الاجتماعية والمنزلية، وهم قد وجدوا مع ذلك أوقاتا للفراغ والراحة. فما ظنك برجل كأبي العلاء قد صرف عن الحياة الاجتماعية، وعن الحياة المنزلية، وعن طيبات الحياة وسيئاتها، وكف بصره فلم يشغله حتى النظر إلى ما حوله من الأشياء؟ إذن فقد كانت أوقات الفراغ لأبي العلاء طويلة شاقة أطول مما يستطيع، وأشق مما يطيق؛ ولم يكن له بد من أن يستعين على هذه الأوقات بما يسليه ويلهيه في براءة للنفس ونقاء للقلب وطهارة للضمير حتى يدركه النوم، وحتى يدخل عليه الطلاب والزائرون. وبماذا تريد أن يتسلى ويتلهى في براءة وطهارة ونقاء، وفي خلو إلى النفس وانقطاع عن الناس واستغناء عنهم أيضا؟ لا بد له من أن يلتمس التسلية والتلهية عند نفسه وعند نفسه وحدها وقد فعل! فاستجابت له ذاكرة قوية، وحافظة نادرة، وعقل ذكي بعيد آماد التفكير. فأما ذاكرته أو حافظته فقد وجد فيها ألفاظ اللغة العربية كلها أو أكثرها على أقل تقدير. وجد فيها ما سمع من الشيوخ، وما قرأ في الكتب، وما روى من الشعر، وما وعى من الأخبار والآثار. وأما عقله فقد وجد فيه ما حصل من العلم على اختلاف ألوانه، ووجد فيه بنوع خاص هذه القدرة على استقصاء الأشياء، والنفوذ إلى أعماقها.
ونظر أبو العلاء فرأى نفسه بين هذه الألفاظ التي لا تكاد تحصى، وبين هذه المعاني والآراء التي لا تكاد تحصى أيضا. ولم يجد معه إلا هذه المعاني وتلك الألفاظ، ثم نظر فوجد أوقات فراغ طويلة لا يطاق احتمالها، ولا يمكن الصبر عليها، فما قيمة ما حفظ من اللغة، وما قيمة ما حصل من العلم إذا لم يعيناه على قطع أوقات الفراغ هذه. غيره من الناس يلعب النرد والشطرنج، ويضرب في الأرض، ويلم بالمجالس والأندية، ويجد في كسب القوت، ويستمتع بألوان اللذات، وليس هو في شيء من هذا، فلم لا يلعب بهذه الألفاظ؟ ولم لا يلعب بهذه المعاني؟ ولم لا يتخذ من الملاءمة بينها على أكثر عدد ممكن من الأوضاع والأشكال والضروب سبيلا إلى التسلية والتلهية، والاستعانة على الفراغ؟ أما أنا فما أشك في أني لم أخطئ، ولم أخدع نفسي حين اعتقدت أني شهدته يعبث بالألفاظ والمعاني ألوانا من العبث؛ لأنه لم يكن يستطيع أن يصنع غير هذا، ألوانا من العبث كثيرة الاختلاف، نثر مرسل، ونثر مسجوع، وشعر حر، وشعر مقيد. والشعر الحر هو الذي يقوله الناس جميعا فيلتزمون أوزانه وقوافيه المعروفة، والشعر المقيد هو الذي يقوله أبو العلاء فيلتزم فيه ما لا يلزم، وهو لا يلتزم ما لا يلزم في القافية وحدها، وإنما يلتزم ما لا يلزم من المعاني أيضا، وهو لا يلتزمه في المعاني التي أودعها ديوان اللزوميات فحسب، وإنما يلتزمها في المعاني التي أودعها كتاب الفصول والغايات أيضا.
وفي هذا الكتاب وفي هذا الديوان يتحدث إلينا أبو العلاء بأنه قصد إلى تمجيد الله والثناء عليه، وهو قد قصد إلى هذا وذاك من غير شك، ولكن أين رأيت شاعرا أو فيلسوفا يفرض على نفسه القول في تمجيد الله، والثناء عليه في كتابين عظيمين يتألف كل واحد منهما من غير مجلد، ويلتزم في أحدهما النظم المقيد بقافيتين لا بقافية واحدة، وربما التزم تقييده بأكثر من قافيتين، ويلزم في ثانيهما هذا النثر المسجع المفصل، الذي تجتمع فيه السجعات ملتئمة فيما بينها التئاما داخليا إن جاز هذا التعبير، ثم تنتهي كل جماعة منها إلى غاية بشرط أن تلتئم هذه الغايات فيما بينها التآما خارجيا؟
ما حكمة هذا التضييق على النفس والتقييد لها، وأخذها بهذا العنف الشديد في اللفظ وفي المعنى، وفي الأسلوب وفي الغرض؟
وقد قلت في غير هذا الكتاب: إن حكمة هذا التحرج تتصل بحياة أبي العلاء نفسها، وبالقانون الفلسفي الصارم الذي أخذ نفسه به، وأخضعها له في حياتها المادية والعقلية من التزام العزلة، والإعراض عن النسل، والانصراف عن لذات الحياة، والإقبال على ألوان الرياضة العنيفة الشاقة. وهذا صحيح، ولكن من الصحيح أيضا أن أبا العلاء تسلى بالشدة عن الشدة، وتلهى بالرياضة عن الرياضة، واستعان على احتمال ما فرض على نفسه من العنف بتنويع هذا العنف نفسه، والافتنان فيه. وقد كان أبو العلاء يستطيع أن يمجد الله في كلام سهل مرسل، فيريح نفسه من هذا الجهد الثقيل الذي احتمله في الإنشاء، ويريح قراءه من هذا الجهد الثقيل الذي يحتملونه في القراءة والفهم. وكان أبو العلاء يستطيع أن يمجد الله، ويذم الدنيا، وينقد حياة الناس، ويناظر الفلاسفة، ويخاصم الفرق، ويناقش ما جاءت به الأديان في نثر مرسل، أو في شعر سمح حر، فيريح نفسه من هذه القيود والأغلال التي احتمل ثقلها، ويريح قراءه مما يتكلفون من فك تلك القيود، ووضع هذه الأغلال عن معانيه. ولعله إن فعل أن يكون ذلك أدنى لشعره ونثره إلى روعة الجمال الفني الممتاز، وألطف مسلكا إلى قلوب الناس وأذواقهم ونفوسهم، وأشيع لآرائه، وأذيع لمذاهبه، وأنهض لما كان يريد أن يقيم عليها من الحجج والبراهين. ولكنه أعرض عن هذا كله إعراضا، وأخذ نفسه بألوان العنف في إنشاء ما أنشأ، وتأليف ما ألف. وأخذنا نحن بألوان العنف في قراءته وفهمه، واستخلاص أغراضه ومراميه؛ وضيق على مذاهبه ميادينها، وقلل عدد القارئين له، والفاهمين عنه، والمصغين إليه، والمعجبين به. فلماذا؟ لأنه أراد أن يشق على نفسه. نعم! ولكن أليس في تأليف ما ألف من الكتب، وإنشاء ما أنشأ من النثر، ونظم ما نظم من الشعر مشقة كافية، وأكثر من الكافية، لو أنه تحرر من هذه القيود؟ ألأنه أراد أن يشق على الناس فيصرف العامة والدهماء عن الارتقاء إليه؛ اتقاء لشرهم، وتحفظا من أذاهم؟
هذا ممكن بالقياس إلى بعض المذاهب والآراء لا بالقياس إلى كثرة ما قال في تمجيد الله، ووعظ الناس. وهؤلاء الفلاسفة الذين عالجوا أشق مسائل الفلسفة وأدقها وأعلاها وأرقاها لم يتكلفوا في ذلك هذه القيود اللفظية التي تكلفها أبو العلاء، ومنهم من كان يروض نفسه على الجهد والمشقة، ومنهم من كان يضن بآرائه ومعانيه على السهولة واليسر اللذين يقربانها من أوساط الناس، وأصحاب الثقافة المحدودة، والرأي القصير، فلا يتحرج هذا التحرج اللفظي الذي التزمه أبو العلاء؛ وإنما يعمد إلى الرمز والإيماء، وإلى الإشارة والتلميح، ويظفر من ألغاز معانيه بما يريد، بل يظفر من ذلك بأكثر مما ظفر به أبو العلاء.
ففي اللزوميات مشقة على القارئ وإجهاد له، ولكنها مشقة تحتمل وإجهاد يطاق. ولعل القارئ أن يجد في هذه المشقة لذة حين يقهرها، ولعله أن يجد في هذا الجهد متعة حين يظهر عليه، وهو منته آخر الأمر إلى الفهم عن أبي العلاء، والوصول إلى أغراضه ومراميه. كلا! لم يرد أبو العلاء أن يعذب نفسه، ويشق عليها وعلى الناس فحسب، وإنما أراد مع ذلك أن يسلي نفسه ويرفه عليها، ويبهر الناس ويكرههم على إكباره والإعجاب به.
وأخرى يحسن أن تفكر فيها، وهي أن أبا العلاء لم يلتزم ما لا يلزم في قصيدة أو قصيدتين، أو في طائفة من القصائد والمقطوعات، ولم يلتزم ما لا يلزم في طائفة من الفصول والغايات، وإنما التزم ما لا يلزم في عدد ضخم من القصائد والمقطوعات، وفي عدد ضخم من الفصول والغايات أيضا. أحصى حروف المعجم فوجدها ثمانية وعشرين حرفا، ثم أحصى الحركات التي يمكن أن تختلف على هذه الحروف فوجدها ثلاثا، وأضاف إليها السكون، فحصلت له من هذا أشكال أربعة للقافية. فلما استقام له هذا الحساب أخذ نفسه بأن ينظم شعرا يقفيه بكل هذه الحروف مضمومة ومفتوحة ومكسورة وساكنة. ولو قد اكتفى بذلك لكان فيه الجهد كل الجهد، والعناء كل العناء، ولكنه أضاف إليه التزام الحرف الذي يسبق القافية في البيت الأول من القصيدة أو المقطوعة، بحيث لا توجد القافية في أي بيت من أبيات القصيدة أو المقطوعة، إلا ومعها هذا الحرف الذي سبقها في البيت الأول كما رأيت في «الصعب» و«الرعب» و«الشعب» و«القعب».
أفتظنه لم يفعل هذا إلا لأنه أراد أن يروض نفسه على الجهد في الإنشاء؟ كلا! بل هو قد فعل هذا لذلك، وليسلي عن نفسه ألم الوحدة، ويهون عليها احتمال الفراغ، وليشعرها ويشعر الناس بأنه قد ملك اللغة، وسيطر عليها، فهو قادر على أن يسخرها لما يشاء، ويصرفها كما يريد، ويعبث بها إن أراد العبث، ويجد بها إن أراد الجد، بل ليعبث بها أثناء الجد في كثير من الأحيان!
فلم أكن إذن مسرفا ولا غاليا حين قلت: إن اللزوميات نتيجة الفراغ واللعب، أو نتيجة العمل الذي دعا إليه الفراغ، والجد الذي جر إليه اللعب. ولكن أبا العلاء لا يقف بعبثه الفلسفي البريء عند هذا الحد، وإنما يتجاوزه أحيانا إلى فنون أخرى من العبث ليست أقل منه تسلية وتلهية له ولنا، وليست أقل منه إثارة لرضائه عن نفسه، وإثارة لإعجابنا به. ويكفي أن أنبه الآن من هذا العبث على ألوان ثلاثة فيها تفكهة ممتعة حقا. فأولها: العبث بالنحو أو بالصرف إن شئت أو بهما جميعا. وأيسر الأمثلة لهذا العبث بيتاه المشهوران:
ما لي غدوت كقاف رؤبة قيدت
في الدهر لم يقدر لها إجراؤها
أعللت علة «قال» وهي قديمة
أعيا الأطبة كلهم إبراؤها
فقد أشار في البيت الأول إلى أرجوزة رؤبة القافية التي ألزم رويها السكون، ولا يمكن أن يتحول عنه إلى حركة ما، يشير إلى حياته التي طالت عليه وألزمته سجنيه أو سجونه الثلاثة. وأشار في البيت الثاني إلى اعتلال «قال»، وما يشبهها من الأفعال التي تنقلب واواتها وياءاتها في وسطها إلى الألفات، فلا يمكن أن تتحول عنها، ولا أن تبرأ منها. يريد أن حياته قد طالت عليه وثقلت، وألزمته سجونه، وما فيها من علل وآلام، ويفسر هذين الرمزين قوله بعد ذلك:
طال الثواء وقد أنى لمفاصلي
أن تستبد بضمها صحراؤها
فترت ولم تفتر لشرب مدامة
بل للخطوب يغولها إسراؤها
مل المقام فكم أعاشر أمة
أمرت، بغير صلاحها أمراؤها
وما أراني أخطأت حين رأيت رضاه عن هذين البيتين، وحين سمعته يكرر إنشادهما في خلوته إلى نفسه في ظلمة الليل أو في وضح النهار، فكلاهما ظلمة بالقياس إلينا جميعا. وما أراني أخطأت حين رأيت كتابه وطلابه الذين لم يكونوا يكتبون يعجبون بهذين البيتين حين أملاهما الشيخ ذات صباح أو ذات مساء، أشد الإعجاب ويستعيدونهما مرة ومرة؛ لأنهم كانوا يحبون أن يسمعوهما من الشيخ ينشدهما في صوته الممتلئ الشاحب، وعلى وجهه ابتسامة ليست أقل شحوبا من صوته، ولكنها تدل على الرضا بهذا الفوز الفني الظريف.
وما أظنني أخطأت حين سمعت الكتاب والطلاب يرددون هذين البيتين بعد انصرافهم عن الشيخ، يريدون أن يحفظوهما، ويقروهما في قلوبهم.
واللون الثاني من ألوان هذا العبث الذي كان يتفكه به أبو العلاء، ويفكه به طلابه وقراءه هو عبثه بالألفاظ اللغوية: يوردها مشتبهة، ثم يفسرها كما يفسر علماء اللغة ما يعرض لهم من الألفاظ المشكلة، وبنفس الأسلوب الذي يفسرون به هذه الألفاظ. ولست أضرب لذلك إلا مثلين اثنين. أحدهما قوله:
نوديت ألويت فانزل لا يراد أتى
سيري لوى الرمل بل للنبت إلواء
وقد زاد هذا التفسير إيضاحا بقوله بعد هذا البيت:
وذاك أن سواد الفود غيره
في غرة من بياض الشيب أضواء
والثاني قوله:
وكل أديب أي سيدعى إلى الردى
من الأدب لا أن الفتى يتأدب
فانظر إليه في البيت الأول كيف استعمل لفظ «ألويت»، ثم فسره مبينا أنه لم يشتق من اللوى الذي يكون من الرمل، وإنما اشتق من ألوى النبات إذا تغير وذوي.
وانظر إليه في البيت الثاني كيف استعمل لفظ الأديب الذي يمكن أن يتوهم اشتقاقه من الأدب بفتح الدال، ثم فسره مبينا أنه لم يشتق من هذا اللفظ، وإنما اشتق من الأدب بسكون الدال، وهو الدعاء إلى الطعام.
ويذكر هذا البيت بقوله في قصيدة أخرى:
وما أدب الأقوام في كل بلدة
إلى المين إلا معشر أدباء
واللون الثالث من ألوان هذا العبث أهم من هذين النوعين، وأجل خطرا؛ لأن أبا العلاء لا يقصد به إلى مجرد التظرف الفني، ولا إلى مجرد التفكه، ولا إلى الجمال الفني الخالص وحده، وإنما يقصد به إلى هذا كله، وإلى إظهار البراعة والتفوق اللغوي ما في ذلك شك. وهو نوع من الجناس ظريف، يلتزم فيه أبو العلاء لفظ القافية نفسه في أول البيت أو في وسطه بحيث يتكرر هذا اللفظ في البيت الواحد مرتين، ويدل على معنيين مختلفين، فيجمع بين الجناس وبين ما يسميه أصحاب البديع رد الصدر على العجز. وربما اكتفى أبو العلاء أحيانا بالجناس المقارب الذي لا تتشابه فيه الحروف كلها في الكلمتين، وإنما يتشابه أكثرها. ولو أن أبا العلاء عمد إلى هذا الجناس في البيت بين حين وحين لكان هذا منه مستظرفا مستحبا كشأنه في هذا العبث اللغوي، أو في ذلك العبث النحوي، ولكنه يلتزمه في القصيدة كلها أو في أكثرها. والغريب أنه إذا عمد إلى هذا النوع من الجناس في قصيدة طولها، وتجاوز بها قدر المألوف من القصائد والمقطوعات في اللزوميات مبالغة في إظهار براعته وتفوقه، وسيطرته على اللغة. وكيف لا وهو يلتزم ما لا يلزم مرتين، مرة في أول البيت ومرة في آخره، ويلتزمه في القصيدة الطويلة المسرفة في الطول!
ولست أضرب لهذا مثلا بالبيت أو البيتين، وإنما أروي لك من اللزوميات قصيدة أو قصيدتين كاملتين لتشاركني في هذا الابتسام الذي لا يفارقني أثناء قراءتي لهذا النحو من الشعر، والذي يصور ما أراد أبو العلاء أن يثيره في نفوسنا من الإعجاب به، والإيمان له بالبراعة والسبق.
ولعل من الخير أن تستريح مني لحظة إلى أبي العلاء نفسه.
خوى دن شرب فاستجابوا إلى التقى
فعيسهم نحو الطواف خوادي
توي دين في ظنه ما حرائر
نظائر آم وكلت بتوادي
رويدك لو لم يلحد السيف لم تكن
لتحمل هام الملحدين هوادي
تغيرت الأشياء في كل موطن
ومن لجواد، نائلا بجواد؟
فما للسوادي بالمعاشر في الدجى
لقد غفلت عن رحلة بسواد
وليس ركابي عن رضاي عوادنا
ولكن عداها أن تسير عوادي
أتجمع في ربع قيان كأنها
شوادن باللحن الخفيف شوادي؟
بواد نأت عنه العيون وعنده
بوادن للأمر القبيح بوادي
وما تشبه الشمس الروادن مردا
كخيل بميدان الفسوق رواد
وكل رواد لا تصاب أبية
متى نوزعت في منطق لرواد
فهل قاتل منهن غيداء مرة
فواد وهل للمومسات فوادي؟
تفرعت الجرد العراب لعزة
كوادن بين المقرفات كوادي
تروح إليهن الغواة عشية
وهن على ضد الجميل غوادي
حوى دين قوم مالهم فنفوسهم
إلى الفتكات المخزيات حوادي
وقامت على أهل الرشاد نوادب
وغصت بأهل المنديات نوادي
أوى دير نصرانية متظاهر
بنسك ألا إن الذئاب أوادي!
سوى ديدن الجهال يذهب عنهم
وقد طال جهري فيهم وسوادي
وتدري المواضي ما دواء دوائب
يبتن، لرهط المرء شر دوادي
وإن دوادا حين أنكر عقله
لغير مقيت عند أم دواد
أتأمل ريا بالورود ركائب
صوادر عن صداء وهي صوادي؟
ولكن هذه القصيدة قصيرة، وهي على قصرها تغني في التمثيل بما أردت التمثيل له، وفي إثبات ما أردت إثباته، ولها نظائر كثيرة في اللزوميات.
ولكني مع ذلك لا أكتفي بها، وإنما أروي لك قصيدة أخرى أطول منها جدا؛ لتزداد علما بالبراعة اللفظية لأبي العلاء، واقتناعا بأنه كان يسلي نفسه بهذا العبث الفني، وابتساما لهذه التسلية الساذجة، التي كان الناس يعجبون بها أشد الإعجاب في ذلك العصر، والتي نعجب نحن بها الآن، ولكن مع ابتسام يوشك أن يكون ضحكا، بل إغراقا في الضحك.
وقد كنت أستطيع أن أنبهك إلى موضع القصيدة من اللزوميات، وأكتفي بذلك من روايتها، ولكني أشفق عليك من الكسل، وأخشى ألا يكون الديوان قريبا منك وأنت تقرأ هذا الحديث، فأعتمد على الله في إثبات هذه القصيدة، واعتمد أنت على الله في قراءتها، وسنلتقي بعد الفراغ من هذه القراءة إن شاء الله.
أواني هم فألقى أواني
وقد مر في الشرخ والعنفوان
وضعت بواني في ذلة
وألقيت للحادثات البواني
ثواني ضيف فلم أقره
أوائل من عزمتي أو ثواني
فيا هند وان عن المكرما
ت من لا يساور بالهندواني
زواني خوف المقام الذمي
م عن أن أكون خليل الزواني
رواني صبري فأضحت إلي
عيون على غفلات رواني
عواني قضاء دوين المراد
وما بكر شأنك مثل العوان
وهل جعل الشائمات الوميض
تواني غير اتصال التواني
فما لركابك هذي الوقوف
عدا حادييها الذي يرجوان
حواني للورد أعناقها
وما علمت أي وقت حواني
ولم يلق في دهره أجربي
هواني فلينأ عني هواني
وعندي سر بذي الحديث
كنت عنه في العالمين الغواني
إذا رملة لم تجئ بالنبات
فقد جهلت أن سقتها السواني
جريت مع الدهر جري المطيع
بين اللياحي والأرجواني
كأني في العيش لدن الغصو
ن من شاء قومني أو لواني
ولا لون للماء فيما يقال
ولكن تلونه بالأواني
وفي كل شر دعته الخطوب
شواسع منفعة أو دواني
وأجزاء ترياقهم لا تتم
إلا بجزء من الأفعوان
فلا تمدحاني يمين الثناء
فأحسن من ذاك أن تهجواني
وإني من فكرتي والقضا
ء ما بين بحرين لا يسجوان
وأن النهار وأن الظلام
على كل ذي غفلة يدجوان
وكيف النجاء وللفرقدي
ن فضل وآليت لا ينجوان
فلم تطلبا شيمي ناشئين
وعما لطفت له تجفوان
فإن تقفوا أثري تحمدا
وإن تعرفا النهج لا تقفوان
وقد أمر الحلم أن تفصحا
ونادى بلطف: ألا تعفوان
فلن تقذيا باغتفار الذنوب
ولكن بغفرانها تصفوان
ولولا القذى طرتما في الهواء
وفي اللج ألفيتما تطفوان
فكونا مع الناس كالبارقين
تعمان بالنور أو تخفوان
فلم تخلقا ملكي قدرة
إذا ما هفا الإنس لا تهفوان
ألم تريا عصري دهرنا
يئودان بالثقل أو يأدوان
وما فتئ الفتيان الحياة
يروحان بالشر أو يغدوان
عدوان ما شعرا بالحمام
فكيف تظنهما يعدوان
ألا تسمع الآن صوتيهما
بكل امرئ فيهما يحدوان
وما كشف البحث سريهما
وما خلت أنهما يبدوان
وكم سروا عالما أولا
وما سروا. فمتى يسروان
وبينهما أهلك الغابري
ن ما يقريان وما يقروان
إذا ما خلا شبحي منهما
فما يقفران ولا يخلوان
قلينا البقاء ولم يبرحا
بنا في مراحله يقلوان
وكم أجليا عن رجال مضوا
وأخبار ما كان لا يجلوان
كما خلقا غبرا في العصو
ر لا يرخصان ولا يغلوان
تمر وتحلو لنا الحادثات
وما يمقران ولا يحلوان
إذا تلوا عظة فالأنا
م لا يأذنون لما يتلوان
مغذان بالناس لا يلغبان
وسيفان لله لا ينبوان
ولو خلقا مثل خلق الجياد
رأيتهما في المدى يكبوان
لعلكما إن تهب الصبا
إلى بلد نازح تصبوان
فلا ريب أن الذي تحبيا
ن أفضل منه الذي تحبوان
فعيشا أبيين للمخزيا
ت مثل السماكين لا تأبوان
إذا شبت الشعريان الوقود
ففي الحكم أنهما تخبوان
وكونا كريمين بين الأني
س لا تنملان ولا تأثوان
إذا الخل أعرض لم تلفيا
لسوء أحاديثه تنثوان
وإن لم تهيلا إلى معدم
طعاما فيكفيه ما تحثوان
وجهل مرادكما في المقي
ظ عهدا من الورد والأقحوان
وما الحاديان سوى الجندبي
ن في حر هاجرة ينزوان
وما أمن البازيان القصاص
وأن يؤخذا بالذي يبزوان
فإن تهملا كل ما تخزنان
فلم يأت بالخزي ما تخزوان
ولا توجدا أبدا كاهنين
تروعان قوما بما تخزوان
ونصا إلى الله مغزاكما
فذلك أفضل ما تغزوان
ولا تعزوا الخير إلا إليه
فيجنى الشفاء بما تعزوان
وإن عريت كاسيات الغصو
ن فلتكسوا الدفء من تكسوان
وضنا بعمركما أن يضيع
ولا تفنيا وقته تلهوان
بذكر إلهكما فأبها
لعلكما بالتقى تبهوان
فيا رب طاهي صلال يبي
ت متخذا طعمه يطهوان
1
وسيرا وساعين في المكرما
ت لا تدلجان ولا تقطوان
مطابكما قدر لا يزال
جديداه في غفلة يمطوان
فويح لخاطئتي مارد
تنصان في ماله تخطوان
فأيسر ما تلاحظه في هاتين القصيدتين، وفي أمثالهما بين قصائد اللزوميات ومقطوعاتها، وهو كثير كما قدمت، أن أبا العلاء يعنى فيها بالألفاظ أشد العناية وأقواها، كأنه قد أخذ على نفسه عهدا أن يستخرج منها كل ما يستطيع استخراجه؛ وأن يخضعها لكل ما يستطيع إخضاعها له، ويصرفها في كل ما يمكن تصريفها فيه. فقد رأيت تحكمه فيها من جهة القافية، واشتراطه على نفسه في هذا الديوان ألا يقفي على حرف واحد، بل على حرفين دائما، وعلى ثلاثة أحرف أحيانا، وبشرط ألا يضطره ذلك إلى إفساد المعنى، أو الانحراف عن مستقيم القول إلى محاله. وتلاحظ في هذه القصائد التي يصطنع فيها هذه الأنواع من الجناس، ويرد أعجازها على صدورها أنه يتحكم في الألفاظ تحكما من نوع آخر. فهو يلتزم ما لا يلزم في أول البيت كما يلتزمه في آخره، وهو يلتزمه في القصيدة كلها أو في أكثرها. وهو يكره الألفاظ التي لا توافق بينها أحيانا على أن تلتئم، وعلى أن تلتئم دون أن تغير من المعنى قليلا ولا كثيرا، وعلى أن تلتئم دون أن تنبو عن الطبع أو ينبو الطبع عنها نبوا قبيحا. فإذا كان شيء من هذا النبو، فلا بد من أن يحدث للسمع أو للنفس لذة ما، كهذا التخالف الذي يحدثه أصحاب الموسيقى بين الأنغام، قاصدين له، عامدين إليه، يتخذونه جزءا من نظامهم الموسيقي.
فانظر إلى هذا البيت مثلا، وما أكثر أشباهه في هاتين القصيدتين وفي أمثالهما:
خوى دن شرب فاستجابوا إلى التقى
فعيسهم نحو الطواف خوادي
أترى إلى الشطر الأول منه كيف يؤدي معناه أداء حسنا دون أن يظهر فيه تكلف أو تعسف أو إكراه للفظ على ما لا يريد! وأي شيء أيسر من أن يقول الشاعر: إن جماعة من الفساق قد استجابوا إلى التقى؛ لأنهم لم يجدوا ميدانا للفسق؟ عكفوا على ما كان عندهم من الخمر، فلما استنفدوه استجابوا إلى التقى. ثم انظر إلى الشطر الثاني فستراه نتيجة للشطر الأول، فإبل هؤلاء الناس تسرع بهم إلى الحج، ولكنك تصادف هذا التوافق اللفظي بين أول البيت وآخره، فتدهش له وتقف عنده، وتحس أن الشاعر لم يصل إليه عفوا، ولم يبلغه في غير تكلف ولا جهد، ولكنه اختار عن عمد كلمة «خوى»، وكلمة «الدن»؛ ليجمع في أول البيت بين الخاء والواو والألف والدال التي لا بد له من أن يختم بها البيت، وليتحقق له بذلك الجناس على بعض أشكاله كما يتحقق له التزام ما لم يلزم في أول البيت وفي آخره. فإذا وصلت إلى هذا فستستبين فورا أن البيت كله نتيجة لهذا التكلف، وأثر من آثاره. ولولا أنه قصد إلى هذا النحو من الجناس لأمكن جدا أن يأتي البيت على غير هذه الصورة، وفي غير هذه الألفاظ. فليس من الضروري أن يعبر الشاعر عن استنفاد الشرب لما عندهم من الخمر بأن دنهم قد خوى، وقد كان يستطيع أن يجد من آنية الخمر أشياء غير الدن، وأن يجد للدلالة على فراغ هذه الآنية فعلا آخر غير خوى. وكذلك كان يستطيع أن يعبر عن إسراع القوم إلى الحج بغير خديان العيس، كما كان يستطيع أن يصور استجابة القوم إلى التقى بغير الإسراع إلى الحج كالعكوف على الصلاة، أو الانقطاع إلى الصوم. ولكنه محتاج إلى قافية فيها دال مكسورة، وواو بينهما ألف، وقد استعرض ما حفظ من اللغة فوجد كلمة الخوادي، ثم هو محتاج إلى أن يبدأ البيت بما يشاكل آخره، فيستعرض ما يحفظ من اللغة فيجد كلمة خوى وكلمة الدن، ويجتمع له منهما ما يشبه القافية.
وما أكثر ما تجد هذا، قافية تلتزم ويصعب على الشاعر أن يجد كلمة واحدة تشبهها ليبدأ بها البيت، فيؤلف هذا الشبه من كلمتين، يأخذ الكلمة الأولى كلها، ويأخذ حرفا من الكلمة الثانية. وقد فعل هذا نفسه في البيت الذي يأتي بعد ذلك وهو:
توى دين في ظنه ما حرائر
نظائر آم وكلت بتوادي
فالقافية هي التوادي، فيها كما ترى الواو وألف والدال والياء، ولم يستقم للشاعر لفظ واحد في أول البيت يشبه آخره، فحقق هذا الشبه بالجمع بين لفظين، يأخذ اللفظ الأول كله، وفيه التاء والواو والألف، ويأخذ حرفين من اللفظ الثاني، وهما: الدال، والياء. وقد يعجزه تحقيق هذا الشبه مهما يسلك إليه من الطرق، فلا يعدل به ذلك عما قصد إليه من تحقيق الجناس على نحو من الأنحاء، على نحو أوسع من المألوف بحيث لا تخلو القصيدة أو لا يخلو أكثرها من الجناس الصريح، أو الجناس المتوهم.
فانظر إلى هذا البيت:
رويدك لو لم يلحد السيف لم تكن
لتحمل هام الملحدين هوادي
فالقافية هنا هوادي كما ترى، ولم يستطع الشاعر أن يجد كلمة واحدة تشبهها ليبدأ بها البيت، ولا أن يجد كلمة وبعض كلمة، فلم يؤيسه ذلك، ولم يقف به في وسط الطريق. وما له لا يعدل عن الجناس الصريح إلى جناس ملحوظ؟ فإذا قرأت البيت فسترى فيه الهاء والألف في «هام»، وسترى فيه الدال والياء في «الملحدين»، وسترى فيه الواو في «رويدك»، وفي «لو»، وسترى بعض هذه الحروف مكررا في كلمات أخرى، بحيث لا تصل إلى القافية إلا وقد نطقت بحروفها كلها، فأنت تعيد النطق بها مجتمعة حين تنطق بالقافية . على أنه لم يلبث أن عاد سيرته الأولى فحقق الجناس الصريح بين القافية وغيرها من بعض ألفاظ البيت كما ترى حين تمضي في قراءة القصيدتين.
وأنا واثق بأنك قد تضحك من هذا الكلام إن كنت حسن الاستعداد أثناء قراءته، وقد تضيق به وتعرض عنه إن كنت سيئ الاستعداد حين تبلغ هذا الموضع من الحديث، ولكن هذا لن يغير من الأمر شيئا؛ فقد قصد أبو العلاء إلى هذا العبث اللفظي، وأطال التماسه، وجد في البحث عنه، ورضي حين انتهى إليه، ووجد من سامعيه وقرائه من رضي عنه كما رضي، وابتهج به كما ابتهج. وقد كان هذا التكلف اللفظي شائعا في عصر أبي العلاء، ومن قبل أبي العلاء بزمن طويل، وقد ظل شائعا بعد أبي العلاء، والناس يختلفون في الرضا عنه والسخط عليه. ولست أرضى عنه كل الرضا، ولا أسخط عليه كل السخط، ولا أحب أن أوجه شباب الكتاب إلى هذا المذهب أو ذاك، وإنما أنا أتوسط بين الأمرين، وأحب أن يقاوم شباب الكتاب والشعراء بعض المقاومة هذه الثورة العنيفة التي ثرناها على العناية باللفظ، وأن يقدروا أن للألفاظ في نفسها قيما ذاتية - إن صح هذا التعبير - تقدرها الأذن، وتحدث في النفس لذة موسيقية خاصة، لا ينبغي أن يهملها الأديب، بل يجب أن يعنى بها ما وسعته العناية؛ بشرط ألا تفسد عليه معناه، ولا تضطره إلى الهذيان والاستغلاق.
والمهم هو أن أبا العلاء لم تصرفه فلسفته العليا، ولا زهده في زخرف الحياة من جمال اللفظ وزينته، وعن تكلف هذه الزينة وذلك الجمال، وعن اتخاذهما وسيلة إلى اللهو البريء، والتسلية التي لا تعقب حسرة ولا ندما.
على أن عناية أبي العلاء بالألفاظ، واستعانته بها على قطع الوقت، واحتمال الحياة تثير فكرة أخرى لا تخلو من ظرف؛ لأنها تصور تناقضا شديدا، فقد كان مستقرا في هذه النفس الممتازة، وفي هذا العقل الغريب، وهو مستقر في أمثالها من نفوس الشعراء والكتاب الممتازين.
فهذا الرجل الحر الذي لم يعرف المسلمون من يشبهه فيما أباح لنفسه من حرية عقلية لا يستطيع أن يتمتع بها مسلم في هذا العصر الحديث؛ عصر الدستور، والديمقراطية، والحياة النيابية، هذا الرجل الحر في رأيه وتفكيره، وفيما تصور وفيما خيل إلى نفسه وإلى الناس، وفيما انتهى إليه من حكم، وفيما دعا إليه الناس من مذهب، هذا الرجل الذي تجاوز الحرية إلى الثورة قد فرض على نفسه قيودا محكمة وأغلالا ثقالا. وليس المهم أنه فرض على نفسه العزلة واجتناب الزواج والنسل، والإعراض عن لذات الحياة، والاكتفاء بأغلظ ما أتيح له من العيش، فهذه كلها قيود وأغلال تقتضيها فلسفته، فهي نتيجة عملية في السيرة لهذا النحو من التفكير الذي دفع الرجل إليه، وإنما المهم أنه حرر نفسه من القيود الدينية والاجتماعية والطبيعية أيضا، ثم فرض عليها هذه القيود الفنية التي ننظر إليها فنبتسم، والتي أقل ما توصف به أنها ساذجة، لا تلائم جد الفيلسوف ومرارته.
وما رأيك في رجل يحرم على نفسه طيبات الثمر والزهر، وألوان اللذات النقية البريئة، ثم يفرض على نفسه الجناس وأشباهه من ألوان البديع، ويفرضه على نفسه في الشعر والنثر، وفي أسفار ضخمة ودواوين طوال؟
هذه فكرة يحسن أن نروي فيها بعض الشيء؛ فقد نجد فيها ما يسلي، وقد نجد فيها ما يعظ؛ وقد نجد فيها ما يعجب حين نلاحظ أن بعض الفلاسفة قد يبلغون من كبر العقل وقوته، ومن حصافة الرأي ونفاذ البصيرة، ومن صرامة العزم ومرارة الجد ما شاء الله أن يبلغوا، ثم لا يمنعهم ذلك من أن يسلوا عن أنفسهم بألوان من العبث البريء ربما يحسدهم عليها الأطفال.
على أن التزام أبي العلاء ما التزم من القيود الفنية، وتعلقه بما تعلق به من زينة اللفظ، وإغراقه في ذلك، وتهالكه عليه لم ينتج له الخير الفني من جميع الوجوه.
فقد نسرف على أنفسنا، وعلى الفن الأدبي إن ظننا أن شعر اللزوميات جيد كله من هذه الناحية الفنية الخالصة؛ بل نسرف على أنفسنا وعلى الفن الأدبي إن ظننا أن كثرة هذا الشعر جيدة، وإنما المحقق أن الجيد من شعر اللزوميات قليل يمكن أن يستخلص في مجلد نحيف يجمع إلى الجمال الفني خلاصة الفلسفة العلائية كلها. ولولا أن أبا العلاء لم يكن يقصد إلى الفلسفة وحدها، وإنما كان يقصد إلى البراعة اللفظية، والاستعانة على الوقت، والتسلي عن الحياة وآلامها، لقد كان يستطيع أن يقول للناس ما أراد أن يقول، وأن يصور لهم ما أراد أن يصور من آرائه في الإلهيات والنبوات والحياة الاجتماعية في أيسر اللفظ وأقله، وأسرعه مدخلا إلى النفوس. ولكنه لم يرد شيئا من هذا، وإنما أراد أن ينظم شعرا على حروف المعجم كلها مضمومة ومفتوحة ومكسورة وساكنة، وأن يلتزم مع ذلك حرفا ثانيا أو حرفين آخرين. ولا بد له من أن يستوفي هذا الشرط مهما يكلفه ذلك من الجهد، ومهما يحمله ذلك من العناء؛ لأنه قد جعل ذلك غاية لنفسه وفنه، وأخذ نفسه بالوصول إلى هذه الغاية، فكان أول ما أنتج له هذا التكرار والإعادة اللذين ينتهيان بالقارئ إلى ملل وسأم لا سبيل إلى وصفهما، ولا إلى احتمالهما إلا أن يكون القارئ من الذين يتخذون البحث صناعة، أو من الذين قد ألفوا التشاؤم كما ألفه أبو العلاء، فهو لا يكره أن يبدئ فيه ويعيد.
فالذي يبغض هذا التكرار إلى النفس، ويثقله على الطبع أن أبا العلاء لا يكرر أشياء يحب الناس أن يسمعوها، أو يكلف الناس بأن يلموا بها بين حين وحين. وإنما هو يكرر أشياء بغيضة إلى النفس؛ لأنها تبغض إليها الحياة، وتصرفها عنها، وتوئسها منها. وقد يستحب الناس من ذلك، بل قد يجب على الناس أن يستحبوا من ذلك شيئا، يقومون به أخلاقهم، ويثقفون به عقولهم، ويروضون به نفوسهم على احتمال المكروه، والثبات للخطوب، ويردون به نفوسهم عما قد يدفعهم إليه النعيم أحيانا من البطر والأشر.
ولكن هذا شيء والإغراق في بغض الحياة وتبغيضها، وتصويرها في أبشع الصور وأقبح الأشكال شيء آخر، ولا سيما حين ينظم فيه ديوان يتألف من مجلدين ضخمين، وكتب منثورة لا نستطيع أن نحصي صحفها؛ لأن أيسرها قد وصل إلينا، وأكثرها قد حجب عنا، ولعله يكشف لنا كله أو بعضه في يوم من الأيام.
على أن التكرار ليس هو العيب الوحيد أو الظاهر الذي اضطر إليه أبو العلاء حين أخذ نفسه بهذه القيود الفنية، وإنما هناك عيب آخر ربما كان أشد منه خطرا، فقد نستطيع أن نعتذر عن أبي العلاء من هذا التكرار بأنه لا يستطيع أن يعطي إلا ما عنده، ولم يكن عنده إلا التشاؤم، فقد أعطانا من التشاؤم ما استطاع، وما ينبغي أن نكلف الشعراء فوق ما يطيقون، فأنت تظلم أبا نواس إن طلبت إليه التشاؤم، وتظلم أبا العلاء إن طلبت إليه الابتهاج. وأبو العلاء لم يفرض على الناس قراءة كتبه ودواوينه، وإنما تركها لهم يقبلون عليها أو يعرضون عنها، وليقرءوها كلها أو بعضها، وليأخذوا منها بما يحبون، وليرفضوا منها ما لا يحبون.
فقد يمكن الاعتذار من تكرار أبي العلاء، ولكن هناك عيبا لا يمكن الاعتذار منه، وهو الاستسلام للفظ إلى هذا الحد، وتحكيم اللفظ وحده في المعنى والفن إلى الحد الذي انتهى إليه أبو العلاء؛ أن يفرض الشاعر على نفسه اصطناع الجناس أو غيره من ألوان البديع في كل ما يقول من الشعر أو في بعضه دون بعضه الآخر هذا شيء مألوف قد نقبله وقد نرفضه، وقد نرتاح إليه وقد نزور عنه. ولكن أن يتخذ الشاعر الخضوع للقافية، وللقافية وحدها قانونا فنيا صارما يذعن له الإذعان المطلق لا في قصيدة ولا في قصيدتين ولا في قصائد، بل في ديوان ضخم، وأن يشترط في هذه القافية هذا الشرط القاسي الذي اشترطه أبو العلاء، وأن يلتزم هذا الشرط ويجريه في جميع حروف المعجم مهما تكن هذه الحروف، ومهما تكن المعاني التي يريد الشاعر أن يقول فيها، هذا هو الشيء الذي لا يطاق، ولا يمكن أن ينتهي بصاحبه إلى الخير. ومن هنا تطول القصيدة وتقصر، وتنبسط المقطوعة وتنقبض؛ لا لأن المعنى يريد الطول أو القصر، والانبساط أو الانقباض، بل لأن القافية التي اشترطها الشاعر على نفسه تواتيه فيمتد النفس، أو لا تواتيه فيقصر النفس. وقد تضيق أنت بهذا الطول؛ لأن الشاعر أدى إليك ما كان يريد أن يؤديه، ولولا القافية لاكتفى بالمقدار اليسير من الأبيات. وقد يعجبك المعنى ويرضيك، وربما أعجبك اللفظ نفسه وأرضاك أيضا، فأنت في حاجة إلى أن يطيل الشاعر بعض الشيء؛ لأن صوته يعجبك، ولأن نغمته تلذك، ولأن معناه يلائم هوى في نفسك، ولكن الشاعر ينقطع بك عند البيتين أو الأبيات، لا لأنه أرضى نفسه، وأدى ما كان يريد أن يؤديه، بل لأن القافية تضطره إلى الوقوف، وتكرهه على الانقطاع.
وهذا يثير في نفس القارئ - سواء أحب ذلك أو لم يحببه - شيئا غير قليل من الغيظ، وقد يدفعه إلى لوم أبي العلاء، والتشديد عليه في اللوم، ولكن يجب أن نذكر أن أبا العلاء لم يفكر في السامع وفي القارئ وحدهما حين أنشأ ما أنشأ من اللزوميات، وإنما فكر في نفسه معهما، بل هو فكر في نفسه قبل أن يفكر فيهما. أراد أن يعبر عما لم يجد بدا من التعبير عنه، ويصور ما لم يجد بدا من تصويره، وأراد بنوع خاص أن يسلي نفسه ويلهيها كما قدمت. فرض الرجل على نفسه لونا من ألوان الرياضة الشاقة، فقد يلائمك هذا اللون من ألوان الرياضة وقد لا يلائمك، ولكن هذا آخر ما يحفل به أبو العلاء.
ولعل أبا العلاء نفسه قد صور هذا المعنى أجمل تصوير وأروعه في هذه الأبيات التي أحبها أشد الحب، وأكلف بها أشد الكلف، وأراها تصور النفس الممتازة ذات الشخصية القوية أصدق تصوير وهي قوله:
خذي رأيي وحسبك ذاك مني
على ما في من عوج وأمت
وماذا يبتغي الجلساء عندي
أرادوا منطقي وأردت صمتي
ويوجد بيننا أمد قصي
فأموا سمتهم وأممت سمتي
وندع البيت الثاني من هذه الأبيات فقد نعود إليه بعد حين، وإنما نقف عند البيت الأول والبيت الثالث. فأبو العلاء يقدم رأيه للناس، ويرى أنهم لا يملكون أن يطالبوه بأكثر من هذا الرأي، بل هو يرى أن الناس يجب أن يأخذوا رأيه على ما فيه وفي صاحبه من عوج وأمت. وليس لهم أن يقوموه، ولا أن يقوموا رأيه، وإنما لهم أن يقبلوا منه هذا الرأي، أو أن يردوه عليه. وما أعرف اعتدادا بالحرية العقلية والشخصية الفلسفية يشبه هذا الاعتداد.
وأبو العلاء يعرف أنه معوج، ويعرف أن فيه أمتا وانحرافا، ولكنه يعرف أن ذلك يعنيه هو ولا يعني غيره؛ وأنه يؤثر أن ينحطم على أن يقوم اعوجاجه وانحرافه. ثم هو في البيت الثالث يسجل ما بينه وبين الناس من الأمد البعيد، ويسجل أن الناس قد مضوا في طريقهم، وأنه قد مضى في طريقه، وكما أنه لم يكرههم على أن يعودوا إليه، فليس لهم أن يكرهوه على أن يعود إليهم. وثق أن أبا العلاء لا يريد بهذا رأيه الفلسفي وحده، وإنما يريد بهذا شخصيته كلها كاملة غير منقوصة، وموفورة غير مبتورة. يريد رأيه الفلسفي، أو قل آراءه الفلسفية، فهو لا يستطيع أن ينزل عن هذه الآراء إذا اقتنع بها؛ إلا أن يحوله عنها شك طارئ أو برهان جديد. ويجب أن يأتيه هذا الشك من نفسه لا من غيره، ويجب أن يأتيه هذا البرهان من عقله لا من عقل سواه. والناس أحرار في أن يشاركوه في هذه الآراء أو أن يخالفوه. ويريد سيرته العملية، فهو قد صمم على العزلة، وأعرض عن اللذات، وآثر خشونة العيش، لا يصرفه عن ذلك صارف حتى داعي الدعاة بما بذل من وعد ووعيد، ومن ترغيب وترهيب. والناس أحرار في أن يوافقوه على ذلك أو يخالفوه فيه.
ويريد مذهبه الفني هذا الذي يشتد فيه العوج والأمت؛ لأنه محسوس تدركه الأذن، وتشقى بما فيه من غريب قد ينبو عنه السمع، ومن قيد قد يزور عنه الذوق، ولكنه حريص عليه، كلف به، لن ينزل عنه ابتغاء مرضاتك، وهل ابتغى أبو العلاء مرضاة أحد؟ وهل نزل أبو العلاء عن شيء ليرضي أحدا؟ فخذ اللزوميات كما هي، فإن أعجبتك فذاك، وإن لم تعجبك فدعها، والتمس لذة نفسك ومتاعها فيما شئت من الكتب والدواوين. فأبو العلاء لم ينظمها لك، وإنما نظمها لنفسه، وهو عنها راض وبها مكتف.
ستقول: فإن هذه هي الكبرياء، بل هي الكبرياء الجامحة. فهذا صحيح، ولكن ماذا تريد أن تصنع وقد خلقت هذه الكبرياء مع أبي العلاء، وركبت في طبعه، لم يكتسبها وإن كانت حياته قد زادتها قوة ونموا. وكيف تريد ألا يكبر أبو العلاء عليك وعلى أمثالك من الناس، وهو الذي لم يستطع أن يكف كبرياءه عن أن ترقى به إلى ما لا يرقى الناس إلى أمثاله؟ فقد قدمت لك أن أبا العلاء شقي؛ لأنه لم يفهم حكمة الله، ولم يستطع أن يبلغ كنهها، ولم يستطع أن يرضى بهذا القصور، فلا تطالب أبا العلاء بالنزول عن كبريائه، ولكن أشفق عليه، وارث له من هذه الكبرياء. ثم عد بنا إلى البيت الثاني فسترى أن أبا العلاء خليق بكثير من الإشفاق الباسم:
وماذا يبتغي الجلساء عندي
أرادوا منطقي وأردت صمتي
فهل هذا حق؟ أما أن جلساء أبي العلاء أرادوا منطقه، فذلك شيء لا شك فيه. فهو لم يدعهم إلى نفسه، ولم يعرض عليهم علمه وأدبه، ولم يستقدمهم من أقطارهم النائية وبلادهم القاصية؛ هم أقبلوا عليه يلتمسون عنده العلم والأدب، ويلحون عليه في ذلك، ولكن أمن الحق أن أبا العلاء أراد الصمت؟ هذه هي المسألة التي أشك فيها أعظم الشك وأقواه. وأبو العلاء لا يضيق بالكلام في هذا البيت وحده، بل يضيق بالإملاء في بيت آخر فيقول:
أما لي فيما أرى راحة
يد الدهر من هذيان الأمالي
فلاحظ مسرعا هذا الجناس بين أول البيت وآخره، ثم عد إلى ما نحن فيه وأنبئني: أحق أن أبا العلاء كان يضيق بالكلام والإملاء؟ ومن الذي أكرهه على الكلام والإملاء؟ قد يمكن أن يكون إقبال الناس عليه، وإلحاحهم في التماس ما عنده من علم اللغة والأدب قد أكرهه على الدرس والإملاء. وقد يمكن أن يكون اتصال الناس به، وإلحاحهم عليه بالمنظوم والمنثور من الرسائل قد اضطره إلى تأليف هذه الرسالة أو تلك، وإلى نظم هذه القصيدة أو تلك من قصائد سقط الزند. ولكن من الذي اضطره إلى نظم اللزوميات، وإلى إملاء الفصول والغايات؟ لم يضطره إلى ذلك أحد، وإنما هو الذي اضطر نفسه إليه اضطرارا، وأخذها به أخذا؛ لأنه لم يكن يستطيع غير ذلك. كانت تجيش في نفسه الآراء والخواطر فلا يستطيع لها كتمانا ولا كظما، وكانت تعرض له المثل الفنية من النظم والنثر فلا يستطيع أن يكف نفسه عن محاكاتها، وعن تحقيقها، وإخراجها من القوة إلى الفعل. وإذا حقق هذا المثال أو ذاك من الشعر أو النثر في خلوته إلى نفسه فقد كان عاجزا كل العجز عن أن يحتفظ به في ذاكرته ليستمتع به وحيدا فريدا، وكان مضطرا كل الاضطرار إلى أن يجريه على لسانه، وأن يلقيه في أسماع الناس وفي قلوبهم، ويتمنى أن يذوقوه، ويسيغوه، ويعجبوا به لسبب يسير جدا، وهو أن أبا العلاء كان فيلسوفا، ولا بد للفيلسوف من أن يعلن رأيه، ويدعو إليه. وكان شاعرا ولا بد للشاعر من أن يتغنى، ومن أن يسمع الناس ما يضطرب به صوته من الغناء.
وكل الفلاسفة يؤثر الصمت فيما يقول، ولكنه مع ذلك لا يؤثره فيما يعمل؛ لأن قوة الرأي وقوة الحياة الاجتماعية أشد من إيثاره لنفسه. وكل الشعراء الذين يستحقون هذا الوصف ينظمون الشعر لأنفسهم، ويلتمسون فيه لذتهم ومتعتهم، ولكنهم لا ينعمون بهذا الشعر إلا إذا أذاعوه، ورجع إليهم صداه بعد أن يسمعه الناس. وأكبر الظن - بل المحقق - أن أبا العلاء لو أخذ الناس أمره بالجد، وخلوا بينه وبين ما أراد من العزلة والانقطاع لخرج إليهم أو لدعاهم إليه ليسمعوا منه شعره، وليأخذوا عنه فلسفته. ولكن الشاعر والفيلسوف وصاحب الفن طفل مهما يكبر! فهو يحب الصمت، ولكنه يقبل على الكلام ويغرق فيه، وهو يحب العزلة ولكنه في أثنائها متصل النفس بالناس، لا يستطيع أن يقطع بينها وبينهم الأسباب. واقرأ اللزوميات، وتتبع ما فيها من النقد الاجتماعي والسياسي، فسترى أن أبا العلاء لم ينقطع قط عن الناس انقطاعا تاما، وإنما عاش معهم، وتأثر بما تأثروا به، وراقبهم مراقبة متصلة دقيقة، فأنكر من أمرهم ما أنكر، وعرف من أمرهم ما عرف، واتخذ من هذا كله مادة لفلسفته وشعره، فسلى نفسه، ووعظ الناس.
لم يفكر فيك أبو العلاء إذن، ولم يحفل برضاك حين نظم اللزوميات، وإنما فكر في نفسه، وحفل برضاه هو، بل لعلي أغلو في ذلك بعض الشيء، فما أشك في أن الناس في عصر أبي العلاء كانوا يحفلون بهذا التكلف، ويرون فيه مهارة وبراعة واقتدارا كما كان أبو العلاء نفسه يحفل به، ويرى فيه مهارة وبراعة واقتدارا. ولو أعرض الناس عن هذا التكلف أيام أبي العلاء لكان من الجائز جدا - بل من الراجح - أن يعرض أبو العلاء عنه، وأن يلتمس لنفسه بابا آخر من أبواب التسلية وقطع الوقت لنفس السبب الذي بينته آنفا: وهو أن الصلة بين الشاعر وقرائه وسامعيه أمتن جدا من أن تقطعها الفلسفة مهما تميز صاحبها من الناس، ومهما ترتفع به عن طبقتهم، ومهما تمعن به في التشاؤم، وإيثار الوحدة والانفراد. وما أكثر ما يتساءل أبو العلاء عن الطير حين تتغنى أيعنيها أن يسمع الناس لغنائها، وأن يجدوا فيه لذة ومتاعا؟ وعن الزهر حين يتضوع، وحين يتألق أيعنيه أن يجد الناس في طيبه لذة، وإلى جماله راحة واطمئنانا، وعن الشمس حين تبعث الحرارة والضوء أيعنيها أن يجد الناس في حرارتها وضيائها حياة ونشاطا، ومرحا وفرحا، ورضى وابتهاجا.
بل أتشعر الطير بما يصدر عنها من غناء؟ أيشعر الزهر بما ينشر عنه من عبير؟ أتشعر الشمس بما تبعث من حرارة وضوء؟ أتقدم الطبيعة على ما يصدر عنها من مختلف الأمر عن شعور به وإرادة له، ورغبة في تحقيق ما نرى فيه نحن من الغايات؟ وواضح أن أبا العلاء لم يظفر بجواب على هذا السؤال، وأن عقله قد هداه إلى الجواب المحزن الأليم: وهو أن الطبيعة لا تحفل بنا، ولا بما نجد من لذة أو ألم حين تتصل بنا آثارها؛ لأنها لا تعقل ولا تشعر، فهي إذن لا تريد وإنما هي ميسرة لما خلقت له، مسخرة لما دفعت إليه. ولكن أبا العلاء نفسه يشعر ويفكر ويقدر ويريد، وهو يحس أثر ما يصدر عنه من غناء أو فلسفة، ويعرف رضى الناس عنه أو سخطهم عليه؛ وهو من أجل ذلك يقبل عليه أو يعرض عنه، فهو كالطير وكالزهر وكالشمس تصدر عنه آثاره سواء أراد أو لم يرد؛ ولكنه يخالف الطير والزهر والشمس في أن له عقلا يميز به هذه الآثار، ويعرف به نتائجها في نفوس الناس. ويدفعه ذلك إلى أن يتزيد من هذه النتائج، وإلى أن يلائم بين آثاره وبين الذين يتلقونها من الناس، فيسهل حينا، ويحزن حينا آخر، ويعنف مرة، ويلين مرة أخرى، ويصرح طورا، ويلمح طورا آخر، ولكنه منشئ آثاره ومذيع لها، وملح في إنشائها وإذاعتها على كل حال.
والظريف أن أبا العلاء قد كان يخدع عن فنه أحيانا، فيظن أنه يشق على نفسه، ويكلفها الصعب العسير من الأمر، على حين أنه لم يكن من ذلك في شيء، أو قل إنه كان يعرف أنه لا يتكلف مشقة ولا عناء، ولكن الطريق تستقيم له فيمضي فيها ليستوفي الشرط الذي شرطه على نفسه من جهة، وليرضي حاجته إلى الفلسفة والغناء من جهة أخرى.
وربما كان فصل الهاء من اللزوميات من أوضح الأدلة على هذا، فأبو العلاء في كثير من قصائده في هذا الفصل يلتزم الهاء مضمومة أو مفتوحة أو مكسورة أو ساكنة، ثم يلتزم معها حرفا آخر كدأبه في اللزوميات كلها. وقد خيل إلى نفسه أنه يحتمل في ذلك من المشقة والجهد ما كان يحتمله في حرف الدال أو الجيم أو الباء، مع أن أيسر النظر في الأمر يدل على أن جهده خفيف محتمل حقا. فالهاء التي يلتزمها ليست إلا الضمير المتصل مبنيا على الضم أو على الفتح أو على الكسر أو مسكنا بالوقف، فإذا التزم هذا الضمير فهو لا يغير شيئا، ولا يتكلف في حقيقة الأمر إلا قافية واحدة وهي الحرف الذي يسبق هذا الضمير. وأي شيء أيسر على أبي العلاء من هذا؟
انظر إلى هذه القصيدة التي أولها:
لعمري لخير الذخر في كل شدة
إلهك ترجو فضله وإلاه
فالقافية هنا هي هذا الضمير، وقد التزم الشاعر اللام قبلها. وأنت تستطيع أن تمضي فيها إلى آخرها، فإذا هي قد نيفت على الأربعين بيتا، وإذا الضمير هو القافية دائما، وإذن فأبو العلاء لم يغير، ولم ينوع إلا في الكلمة التي تسبقها، والتي يجب أن تنتهي باللام وألف الردف. فهذه الكلمة مرة فعل ينصب الضمير، وهي مرة اسم يضاف إليه.
وكأن أبا العلاء قد أحس هذا بعد أن فرغ من هذه القصيدة، فوجد فيه سهولة ويسرا لا يلائم ما أراد أن يأخذ به نفسه من الرياضة العنيفة، ولا بد له مع ذلك من أن يستوفي الشرط، ومن أن يلتزم الهاء، فهو ينظم شعره لا يلتزم الهاء وحرفا قبلها فحسب، وإنما يلتزم قبلها حرفين اثنين.
فانظر إلى هذه القصيدة التي أولها:
أخوك معذب يا أم دفر
أظلته الخطوب وأرهقته
فهو يلتزم الهاء، ويلتزم قبلها التاء والقاف، ولكنه مع ذلك لا يسلم من السهولة؛ لأن الكلمة الأخيرة من البيت دائما فعل ماض آخره قاف وقد ألحقت به تاء التأنيث، ثم الضمير المتصل.
فالصعوبة الصعبة التي التزمها أبو العلاء في حقيقة الأمر إنما هي التزام أفعال قافية اللام ليس غير، فهو في حقيقة الأمر لم يغير إلا في حرف واحد هو القاف لا يشذ من هذه القصيدة التي نيفت على الخمسين في ذلك بيت واحد. وهو قوله:
أقات الشيء بعد الشيء فيها
ليمسكني فليتي لم أقته
فالقاف هنا ليست لام الفعل المضارع، وإنما هي فاءه كما ترى، والتاء جزء منه، وليست تاء التأنيث. ومع ذلك فإن أبا العلاء يعترف بالمصاعب حين تلقاه، ولا يخدع نفسه عنها، ولا يحاول ابتكار المحال، فهو قد يصادف الحروف التي لا يتأتى له معها النظم الكثير مع التزام ما لا يلزم، فيكتفي منها بأيسر ما يمكنه من تحقيق الشرط.
فهو لم ينظم على الظاء مع غيرها من الحروف إلا عشرين بيتا، قسمها على ثماني مقطوعات. في الظاء المضمومة مقطوعتان، وفي الظاء المفتوحة مقطوعتان ، وفي الظاء المكسورة ثلاث مقطوعات، وفي الظاء الساكنة مقطوعة واحدة.
ولم ينظم في الغين إلا أربعة عشر بيتا في مقطوعات ست؛ واحدة في الغين المضمومة، وواحدة في الغين المفتوحة، وواحدة في الغين المكسورة، وثلاث في الغين الساكنة.
ونظم في الواو سبعة وعشرين بيتا في مقطوعات ست؛ واحدة في الواو المضمومة، واثنتان في الواو المفتوحة، وواحدة في الواو المكسورة، واثنتان في الواو الساكنة.
وأكبر الظن أن هذا العسر كان يغيظ أبا العلاء، ولكن ماذا يصنع والله لا يكلف نفسا إلا وسعها، والتحرج الفني مهما يشتد بصاحبه فهو لا يستطيع أن يحمله على المحال. وإنما الظريف الذي يثير الابتسام هو حرص أبي العلاء على أن يستوفي شرطه مهما تكن النتيجة، ومهما يكلفه ذلك من جهد أيضا.
وهناك عيب آخر دفع إليه أبو العلاء بحكم هذه القيود الفنية التي التزمها، وهو الإضاعة للوحدة المعنوية في القصيدة إذا طالت، بل في المقطوعة القصيرة أحيانا، والاكتفاء بهذه الوحدة المادية التي تأتي من القافية، وبهذه الوحدة الضئيلة المهلهلة التي تأتي من أن اللزوميات كلها قد نظمت في الحكمة والموعظة. والمحقق أن أبا العلاء الذي يحسن بناء القصيدة كل الإحسان في سقط الزند؛ بحيث لا تنتقل من جزء إلى جزء إلا حين يدعو التفكير المنطقي إلى هذا الانتقال، وبحيث تستطيع أن تقسم القصيدة إلى أجزاء قد أقيم بعضها على بعض، وجمعت بعضها إلى بعض وحدة التفكير والشعور.
أبو العلاء الذي أحسن بناء القصيدة في سقط الزند قد أفسد بناءها في اللزوميات إفسادا شديدا، فالقصيدة أو المقطوعة متحدة في الوزن والقافية والموضوع العام ليس غير. ومن أيسر الأشياء في كثير جدا من مطولات اللزوميات أن تفرق الأبيات فتفترق، وأن تقدمها أو تأخرها فتتقدم أو تتأخر، وأن تنظر إليها على أنها حكم سائرة وأمثال مرسلة قد نظمتها القافية في سلك متقن؛ لأنه مؤلف من حرفين أو من أحرف، ولكن من اليسير أن تنتثر دون أن يفسدها هذا الانتثار. وليس هذا محتوما على اللزوميات كلها، ولكنه شائع في كثرتها. وهناك قصائد تتحقق فيها وحدة التفكير والشعور، ولكنها نادرة، وهي من أجل ذلك رائعة وقد نقف عند بعضها إن أتيح لنا ذلك.
وهناك قصائد تتحقق الوحدة في بعض أجزائها دون بعضها الآخر، فقد يلم أبو العلاء في أثناء القصيدة بوصف يطيل فيه أو معنى يفصله، فتحقق الوحدة في هذا المعنى أو ذلك الوصف، ولكنها غير متحققة بالقياس إلى ما يسبقه أو يتلوه. وليس لهذا كله مصدر إلا أن القافية هي الحاكم المطلق فيها يؤلف اللزوميات من لفظ ومعنى وأسلوب.
وشيء آخر خدع أبو العلاء عنه نفسه فجر عليه ألما كثيرا، وأذى شديدا، ولكن ليس له صلة بالقافية ولا باللفظ، وإنما هو متصل بالمعنى أو قل: إنه متصل بتفكير أبي العلاء، وفلسفته كلها. فأبو العلاء متشائم وهو لا يتحدث عن الأشياء والأحياء إلا حديث المتشائم، وهو بطبيعة الحال ساخط دائما، فهو ناقد دائما، ويختلف نقده شدة ولينا باختلاف استعداده في اللحظات التي ينظم فيها الشعر أو يؤلف فيها النثر، ولكنه مع ذلك قد اعتقد أنه لم يهج أحدا، ولم يكن من الهجاء في قليل ولا كثير. وقد تحدث بذلك إلى بعض زائريه، فقال له في شيء من المكر: لم تهج أحدا إلا الأنبياء؟ فتأذى بذلك أبو العلاء، وتغير له وجهه، ومع ذلك فلم يكذبه زائره، وإنما اشتد عليه.
فليس من الحق أن أبا العلاء لم يهج أحدا إلا الأنبياء، ولكن الحق أن أبا العلاء قد هجا الناس جميعا ومنهم الأنبياء. هجا الناس جميعا وذلك شائع في اللزوميات كلها، وأيسر ما نضرب لذلك من الأمثال هذه الأبيات التي تجاوز فيها طوره حتى هجا نفسه أقذع الهجاء:
رأيت قضاء الله أوجب خلقه
وعاد عليهم في تصرفه سلبا
وقد غلب الأحياء في كل وجهة
هواهم وإن كانوا غطارفة غلبا
كلاب تغاوت أو تعاوت لجيفة
وأحسبني أصبحت ألأمها كلبا
أبينا سوى غش الصدور وإنما
ينال ثواب الله أسلمنا قلبا
وأي بني الأيام يحمد قائل
ومن جرب الأقوام أوسعهم ثلبا
وهجا الأنبياء ما في ذلك شك، وأيسر ما نضرب لذلك من الأمثال هذين البيتين:
ولا تحسب مقال الرسل حقا
ولكن قول زور سطروه
وكان الناس في عيش رغيد
فجاءوا بالمحال فكدروه
وهذه الأبيات:
أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما
دياناتكم مكر من القدماء
أرادوا بها جمع الحطام فأدركوا
وبادوا وماتت سنة اللؤماء
يقولون إن الدهر قد حان موته
ولم يبق في الأيام غير ذماء
وقد كذبوا ما يعرفون انقضاءه
فلا تسمعوا من كاذب الزعماء
وواضح ما في البيتين الأخيرين من هجوم شنيع على ما جاءت به الديانات من اقتراب الساعة، وإشراف هذا الدهر على آخره.
وتشنيع أبي العلاء على الديانات أشهر وأظهر وأكثر من أن نقف عنده، أو نطيل فيه، وهو صريح غالبا، وقد يلجأ أبو العلاء إلى التعريض في كثير من الأحيان.
وأكبر الظن أن أبا العلاء كان مخدوعا عن نفسه حين ظن أنه لم يهج أحدا؛ لأنه فهم من الهجاء أو أراد أن يفهم من الهجاء ما ذهب إليه الشعراء من قبله حين عمدوا إلى أشخاص بأعينهم فثلبوهم أقبح الثلب، وتتبعوا ما فيهم من النقائص اليسيرة أو الكثيرة فأظهروها، وغلوا فيها.
ومن الحق أن أبا العلاء لم يهج أحدا بهذا المعنى، كما أنه لم يعب أحدا بهذه العيوب التي تمس شخصه، وتحقره بين مواطنيه، وإنما استقصى عيوب الناس المشتركة بينهم، وتعمق نفوس الناس فأظهر دخائلها في لهجة عنيفة حادة قاسية، وهو مع ذلك متجنب كل التجنب للإقناع وإذاعة الفاحشة. ثم هو لا يريد بهجائه إساءة، ولا انتقاما، ولا تشهيرا، وإنما هو صاحب أخلاق يريد التهذيب والتأديب والإصلاح، وقد تغلبه الحدة أحيانا فتجور به عن القصد، وتخرجه عن طور الفيلسوف إلى طور الشاعر الهجاء، ولكنه حسن النية على كل حال، قاصد إلى الخير والبر.
على أن المهم أن أبا العلاء لم يبتكر هذا الفن من الهجاء الذي يصدر عن سوء الرأي في الناس من جهة، وعن الرغبة في الإصلاح، والعجز عنه من جهة أخرى، وإنما كان له في هذا الفن أستاذ هو أستاذه في كثير من فنون الشعر، وأريد به المتنبي، فقد كان المتنبي أسوأ الشعراء رأيا في الناس، وأكثرهم إظهارا لذلك، وأشدهم تشاؤما به، وهو الذي فتح لأبي العلاء باب النقد الاجتماعي اللاذع العنيف، ومهد له طريق التشاؤم في الشعر، ولكن بين الرجلين فرقا عظيما، فالمتنبي لم ينس قط نفسه الطامعة الطموح العاجزة مع ذلك عن تحقيق مطمع أو بلوغ مطمح، على حين أعرض أبو العلاء إعراضا تاما، طائعا أو كارها عن كل مطمع، أو مطمح، أو منفعة، وأقبل على هذا النقد اللاذع العنيف سليم الصدر من كل غل، بريء القلب من كل حقد، قاصدا إلى الإصلاح عاجزا عنه، يائسا منه شافيا نفسه من ألم هذا العجز ومرارة هذا اليأس.
فإذا قال أبو العلاء: إنه لم يهج أحدا فهو صادق؛ لأنه لم يهج أحدا بعينه إلا ما كان من أمر هذا القارئ الذي تلا بين يديه آيات من القرآن يعرض في تلاوتها بآفته، فهجاه أبو العلاء بهذين البيتين:
هذا أبو القاسم أعجوبة
لكل من يدري ولا يدري
لا ينظم الشعر ولا يقرأ ال
قرآن وهو الشاعر المقري
وإذا قال قائل: إنه قد هجا الناس جميعا، ولم يعف الأنبياء من هجائه فهو صادق؛ لأن أبا العلاء قد نقد الناس جميعا ومنهم الأنبياء نقدا لا يريد به الشر، ولكنه لا يخلو من الحدة التي تبلغ أقصى العنف أحيانا. وماذا تريد أن أقول وأبو العلاء قد أثنى على الله أحسن الثناء وأطيبه وأبقاه في اللزوميات كلها، ولكنه مع ذلك لم يتحرج من مخاصمة الله أحيانا في الجبر والتكليف، وفي العقاب والثواب، ثم انتهى به الأمر إلى أن يعترف بأنه إذا تأله فإنما يتأله خوفا وإشفاقا، وذلك حيث يقول:
خلقت من الدنيا وعشت كأهلها
أجد كما جدوا وألهو كما لهوا
وأشهد أني بالقضاء حللتها
وأرحل عنها خائفا أتأله
وجملة القول أني أقمت معك أيها الشيخ الكريم بضعة عشر يوما في سجنك المظلم الكئيب، فحمدت هذه الإقامة؛ لأني وجدت فيها لذة عقلية ممتازة، وألما عقليا ممضا، ولأني رحمتك وأشفقت عليك من كل ما وجدت في سجنك من لذة وألم، ولو استطعت لأطلت الإقامة معك، فإني لم أرض حاجتي من جوارك بعد، وما أظن أني سأرضيها في يوم من الأيام. وما أعرف أن شيئا من الأشياء أحب إلي وآثر عندي من التحدث إليك والاستماع منك والحديث عنك، ولكني مضطر الآن إلى أن أودعك راغما.
فقد تقدم الليل، وإذا أشرقت شمس الغد فلا بد من الرحلة إلى باريس، وأنت لا تعرف ما باريس، وما أظنها كانت قادرة على أن تصرفك عن حزنك وتشاؤمك، بل أنا واثق بأنك لو عرفتها لأمعنت في حزنك وتشاؤمك كشأنك حين عرفت بغداد. أما أنا؛ فإن باريس تصرفني عن الحزن والتشاؤم، وتثير في نفسي لذات عقلية ليست أقل من هذه اللذات التي أجدها في الحديث إليك والحديث عنك. وهي على كل حال تزعجني عن سجنك الذي كنت أود لو أطيل المقام فيه. ومن يدري؟ لعلي أسأم لذات باريس فأفزع منها إليك من حين إلى حين. فليكن وداعي لك الآن موقوتا، ولأقل لك في لهجة المحب المشفق الوامق. إلى اللقاء.
مورزين
3 أغسطس-17 أغسطس 1938
هوامش
الفصل الثامن
وقد طويت كتب الشيخ فيما طويت، وأسلمتها فيما أسلمت إلى السفر الذي أسلمت إليه نفسي، فكانت قريبة مني بعيدة عني، تلزمني لزوم الظل، وتنأى عني نأي النجوم، لا أنتقل من مرحلة إلى مرحلة إلا سألت عنها، وتبينت مكانها، واطمأننت إلى أن ليس عليها بأس. ولكني مع ذلك قد تعرض لي الحاجة إليها فلا أبلغها، ولا أجد لي عليها سبيلا، وإنما هي طوع أيدي هؤلاء الذين يتصرفون فينا وفي أمتعتنا حين نسلم أنفسنا وأمتعتنا إلى الأسفار.
وقد كانت رحلتي إلى باريس طويلة جميلة لم تخل من مشقة وجهد، ولم تبرأ من ثقل وعنف، وكانت مع ذلك مختلفة متنوعة لا مستقيمة مضطردة، فقد مضيت أنحدر من الجبل وأصعد فيه، وأرقى من السهل وأهبط إليه، وتدور بي سفينة في البحيرة تلم بهذه القرية من قرى فرنسا، وبتلك المدينة من مدن سويسرا، وتكثر حولي الأحاديث في مظاهر الطبيعة ومناظرها، وفي شئون الناس وأطوارهم، وفي أنباء الحرب التي كانت تتراءى، والسلم التي كانت تتناءى، ثم أتهيأ في آخر النهار وأول الليل لركوب القطار من غد إلى باريس، فأشتري لهذه الرحلة كتابا سخيفا فيه قصص سخيف أريد أن أستعينه على هذا اليوم الطويل يوم القطار.
ويمضي بنا القطار من الغد، وما أدري أيهما كان أسرع من صاحبه أهو القطار الذي كان ينهب الأرض نهبا؟ أم هو صاحبي الذي كان ينهب الكتاب نهبا؟ ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أني منذ ودعت الشيخ وطويت كتبه، وأسلمت نفسي إلى الرحيل، وخيلت إلى نفسي أني سأفارقه، ومنيت نفسي بلقائه والعودة إليه، لم أفارقه ولم أنصرف عنه، أو قل لم تفارقني ذكراه، ولم تنصرف عني على كثرة ما بذلت من الجهد لأخلص لنفسي وأسرتي أياما. وإنما لزمتني ذكرى الشيخ لزوما متصلا ملحا، صرفني عن نفسي وعن أسرتي، واضطرني إلى أن أكون طليقا سجينا، وحرا مقيدا، أتنقل في الجبال والسهول، ولكني مع ذلك لا أفارق هذا السجن الذي أقام فيه أبو العلاء نصف قرن يفكر ويقدر، وينظم وينثر، ويملي ويعلم.
وأنا ألحظ نفسه وهي تفكر، وأسمع صوته وهو يملي وينشد، وأسأل نفسي عما تحصل من هذا كله فلا أظفر منها إلا بهذا الجواب الغريب، وهو أنها لا تحصل شيئا، ولا تريد أن تحصل شيئا؛ وإنما قصاراها أن تشهد وتسمع وتجد اللذة في أن تشهد وتسمع، ولا عليها أن تعود آخر الأمر، وكأنها لم تشهد شيئا، ولم تسمع شيئا، فإن هذه اللذة التي تجدها خليقة أن تغنيها عن كل تحصيل، وأن تدفعها إلى أن تلح في الاستماع للشيخ حين يقول، وفي الاستماع لنفسه حين تجيل في ضميرها ما تجيل من الخواطر والآراء.
وما أدري أكانت المصادفة هي التي تسمعني إنشاد الشيخ قصائد بعينها من اللزوميات؛ لأني أحببتها وكلفت بها، أم كان هناك تدبير خفي لا أعرف كنهه، ولا أبلغ سره، أراد أن ينصف الشيخ مني، وأن يضطرني إلى الوفاء بما قدمت من وعد، وإلى الاعتراف بأن الشيخ إن أذعن للقافية وخضع لسلطانها، وأطاعها في تفكيره وتقديره وتدبيره لشعر اللزوميات، فقد يسيطر على القافية أحيانا ويقهرها، ويرتفع بفنه وفكره على ضروراتها وقيودها دون أن يخرجه ذلك عما رسم لنفسه من خطة، وما فرض على نفسه من شرط، فهو يلتزم ما لا يلزم، ولكنه لا يجد في ذلك شدة ولا جهدا، ولا يحس في ذلك قسوة ولا عنفا، ولا يضطر في ذلك إلى أن ينحرف بلفظه أو معناه عن الطريق الطبيعية الواضحة المستقيمة التي ينبغي أن يسلكها بهما، سواء أفرض على نفسه قيود اللزوميات أم لم يفرضها.
وقد ترددت في نفسي هذه الفكرة التي أومن بها، وأترك لغيري أو لنفسي في غير هذا الوقت، وفي غير هذا الموضع تحقيقها وبسط القول فيها. وهي أن الفن الرفيع قيد حر إن صح هذا التعبير، فهو يفرض على صاحبه أثقالا وأغلالا لا يستطيع أن يخلص منها دون أن يفسد فنه إفسادا، وينحرف به عن طريقه المستقيمة المقسومة له. ولكنه مع ذلك لا يكاد ينهض بأثقال هذا الفن وأعبائه، إن كان ميسرا له غير متكلف فيه؛ حتى تستقيم له الأمور، وتمتد له الأسباب، وترخى له الأعنة. وإذا هو يمضي بفنه حيث يشاء، أو يمضي في فنه حيث يشاء، لا يثقله قيد، ولا يرهقه غل، ولا يضيق به سجن، وإنما هو مطلق كأعظم الناس حظا من الحرية، سمح النفس في كل ما يأتي وما يدع. يخيل إلى من يرقبه، وهو يصطنع فنه ويتصرف فيه أنه قد أرسل نفسه على سجيتها وأمضاها على طبعها، فهو لا يتكلف مشقة، ولا يلقى جهدا. قل: إن مصدر ذلك هي العادة، وكثرة المران، أو قل: إن مصدر ذلك هي الفطرة، وخصب الطبيعة، واعتدال المزاج. قل ما شئت من ذلك ومن غير ذلك، ولكن ثق بأن أبا العلاء يظفر بحريته المطلقة في اللزوميات على ثقل ما فرض على نفسه من قيد وتعقد ما سلكها فيه من غل. يظفر بحريته في اللفظ، ويظفر بحريته في المعنى، ويظفر بحريته في الأسلوب؛ والغريب أنه يشركك معه في هذه الحرية، ويلغي من نفسك الشعور بالضيق الذي كنت تجده حين تلتزم معه ما التزم من الشروط والقيود.
فأنت ضيق الصدر من غير شك بهذه القيود التي يأخذك الشاعر بها؛ لأنه أخذ بها نفسه، وأي غرابة في ذلك أنه يصحبك ويهديك في هذه الطريق التي يسلكها، والتي فرض على نفسه ما يكون فيها من عوج والتواء، وما يقوم فيها من صعاب وعقاب، فأنت واجد من الجهد مثل ما يجد، وأنت لاق من العنف مثل ما يلقى، وأنت محتمل من الضيق مثل ما يحتمل. فإذا نفس عن صدره فقد نفس عن صدرك، وإذا رفه على نفسه فقد رفه على نفسك، وإذا تخفف من قيوده وأغلاله دون أن يضعها عن نفسه فقد خفف عنك هذه القيود والأغلال دون أن يضعها عنك.
أنت إذن شريكه فيما يجد من مشقة، وأنت شريكه فيما يجد من لين، أنت مقيد إن كان هو مقيدا، وأنت مطلق إن كان هو مطلقا.
وعلى هذا النحو وحده فيما أظن يفهم الأثر الفني ويذاق، فأعجب لأبي العلاء الذي يضيق أحيانا بنظم اللزوميات، فإذا ألفاظه مستعصية، وإذا أساليبه ملتوية، وإذا أنت تشقى معه بهذا الالتواء وذلك الاستعصاء، والذي ينهض أحيانا أخرى بقيوده وأغلاله، وبأعبائه وأثقاله، فيضطرب في جو الفن رشيقا خفيفا كأنه لا يحمل شيئا، ولا يشقى بشيء، وإذا أنت تنهض معه رشيقا خفيفا كأنك لا تحمل شيئا، ولا تشقى بشيء.
واقرأ معي هذه القصيدة التي حقق فيها أبو العلاء هذه الحرية تحقيقا حسنا، فلم يضق بلفظ، ولم يضق بمعنى، ولم يضق بأسلوب؛ وإنما فرغ لفنه، وفرغ فنه له، وفرغ لفلسفته، وفرغت فلسفته له، وفرغت أنت له وللفلسفة وللفن، تسمع وتنظر، وتستمتع وتذوق، لا تجد في ذلك عنفا ولا عسرا.
اقرأ معي هذه القصيدة فستجد هذه اللذة الفنية الممتازة التي تأتي من هذه الملاءمة الرائعة بين الحرية والتقييد، وبين السجن والإطلاق. فأنت لن تخلص من التزام حرفين بل ثلاثة أحرف، فالقيد ملحوظ دائما، ولكنه قيد خفيف لا يعوقك عن الخطو، بل لا يعوقك عن السعي، بل لا يعوقك عن العدو، لا يعوقك عن شيء من هذا، ولكنه يشعرك بنفسه، ويشعرك بهذه اللذة التي يجدها من يجري وهو مقيد برغم القيد، ومن ينهض وهو مثقل برغم العبء الذي يحمله.
اقرأ معي هذه القصيدة فسترى أن الفن قد واتى فيها أبا العلاء مواتاة حسنة حقا، لم يشغله قيده عن العناية بما عداه مما يجمل به اللفظ، ويصح به المعنى، ويعتدل به الأسلوب. وإلام أراد أبو العلاء في هذه القصيدة؟ إلى ما تعود أن يريد إليه في أكثر قصائد اللزوميات ومقطوعاتها؟ إلى ما قرأته ألف مرة ومرة منذ بدأت في قراءة اللزوميات إلى أن انتهيت إلى هذه القصيدة في آخر الديوان؟ فنحن في النون المفتوحة إلى هذه الفلسفة المظلمة المضيئة، القاتمة الباسمة التي ينعى فيها الشباب، وتقطع أسبابه، وتقطع أسباب اللذة والأمل مع أسباب الشباب والقوة، والتي يأمر فيها بالإذعان والاستسلام لحكم الأيام ما دامت الآمال لا تواتى، وأسباب الأماني لا تتصل، والتي يأمر فيها بالاحتياط للمستقبل الذي يكون بعد الموت، أو الذي لا يكون لأنه مجهول، فالخير أن يحتاط له الرجل العاقل، وأن يدخر له ما وسعه الادخار من صالح الأعمال، أو مما يرى أنه من صالح الأعمال.
فأبو العلاء ينهى عن طائفة من الآثام، ويأمر بطائفة من الحسنات، حتى إذا فرغ من النهي والأمر عاد إلى ما بدأ به من الشك الذي ينتهي بصاحبه إلى اليأس والقنوط، ولكنه يأس حلو، وقنوط سائغ لا تجد فيه مرارة لاذعة، ولا ينتهي بك إلى جزع مهلك، وإنما هو منته بك إلى الأناة التي يمازجها الرضى، وإلى الهدوء الذي يشيع فيه الإذعان، وإلى هذه الحال النفسية الممتازة التي ينظر فيها الفيلسوف إلى الحياة وأحداثها وأهوائها وآمالها نظرة فاترة شاحبة، تصحبها ابتسامة ساخرة، فيها كثير من الازدراء الحلو المريح.
اقرأ معي هذه الأبيات، وحدثني عن هذه الجزالة التي تشيع فيها وفي القصيدة كلها، والتي تأتي من التزام ما لا يلزم قبل أن تأتي من أي شيء آخر، فهاء السكت هذه التي التزمها أبو العلاء في آخر كل بيت بعد هذه النون المفتوحة، وبعد هذه الضاد الساكنة، تمنح البيت قوة معتدلة، هي الجزالة بنفسها، ضخامة في الضاد، ثم خفة في النون، ثم حلاوة في هذه الهاء الساكنة التي قلما يلجأ إليها الشعراء، والتي تشيع في الشعر وفي النثر حلاوة وظرفا حيثما وجدت. وما أبعد أن أبا العلاء قد ذكر ظرف عبيد الله بن قيس الرقيات في قصيدتيه المشهورتين:
بكرت علي عواذلي
يلحينني وألومهنه
و:
ذهب الصبا وتركت غيتيه
ورأى الغواني شيب لمتيه
ومعروف أن ابن قيس الرقيات إنما نزع إلى هذه الهاء متأثرا للقرآن الكريم في مثل قول الله - عز وجل:
فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه
وفي مثل قوله:
وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه * يا ليتها كانت القاضية * ما أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه .
قال أبو العلاء:
لأمواه الشبيبة كيف غضنه
وروضات الصبا كاليبس إضنه
فانظر إلى هذا التصريع بين غضنه وإضنه، كيف يرتفع بالبيت، أو قل يثب به إلى هذه الجزالة الشائعة في شطريه. ثم انظر إلى قوله: لأمواه الشبيبة كيف غضنه، وإلى هذا المعنى المجمل المفصل، والموجز المطنب الذي يذهب الشاعر فيه إلى حسرات لا تنقضي، وإلى تعجب حزين لا ينتهي، يشعرك بهذا الإيجاز في اللفظ، ويشعرك بهذا الإطناب في المعنى، فأنت واجد ألفاظا قليلة، وأنت شاعر بالحذف والاختصار.
ولكنك في الوقت نفسه واجد معاني واسعة لا تكاد تنقضي، وأنت تلحظ الألفاظ التي تستطيع أن تؤدى بها هذه المعاني، لولا أن الشاعر قد حذفها، واجتزأ عنها بالحذف والاستفهام.
ثم انظر إلى الشاعر كيف أشرف بك على كل هذه الحسرات والغمرات، فأشعر نفسك الحزن، وأشاع في قلبك الأسى، وأظهر عقلك على شيء لا سبيل إلى استدراكه، ثم أقبل بك بعد هذا على هذه الحقيقة الناصعة القاطعة التي نؤمن بها جميعا، ونلهو عنها جميعا، فإذا لهونا عنها تورطنا في الحسرات والغمرات، وإذا ذكرنا إيماننا بها وجدنا فيها السلوة والعزاء.
وآمال النفوس معللات
ولكن الحوادث يعترضنه
وهل حياة الناس إلا هذا، تعلل متصل بالأمل، ويأس بين حين وحين، تضطرنا إليه هذه الحوادث الواقعة التي تكذب الآمال وتخيب الرجاء.
ثم انظر كيف يفصل أبو العلاء هذا المعنى نفسه تفصيلا، ويعيد عرضه في صورة ليست أقل روعة من الصورة التي عرضها في البيت السابق. فإذا هو يصور الحياة على أنها صراع بين الأيام التي لا تمل من إيذاء الناس بحوادثها الواقعة التي لا تلائم أهواءهم وأغراضهم، والنفوس التي لا تمل من الاستسلام للآمال، والاسترسال مع الأماني.
فلا الأيام تغرض من أذاة
ولا المهجات من عيش غرضنه
ثم انظر إليه كيف ينتهي من هذا كله إلى هذا البيت الذي يصور مذهبين من مذاهبه؛ أحدهما مذهبه في الجبر، والآخر مذهبه في الفن، هذا الذي يستعير فيه من علوم العربية اصطلاحاتها؛ ليؤدي بها آراءه الفلسفية العليا.
فهو يشبه أسباب المنى بأسباب الشعر، وهو يشبه ما يعرض للمنى من الخيبة واليأس والقنوط والحرمان، بما يعرض لأسباب الشعر من الكف والقبض اللذين ينقصانها، وينحرفان بها عن وجوهها المألوفة.
وأسباب المنى أسباب شعر
كففن بعلم ربك أو قبضنه
ولكن الشاعر هو الذي يكف أسبابه أو يقبضها، تدفعه إلى ذلك صناعته، ويدفعه إلى ذلك فنه، وتدفعه إلى ذلك ضرورات الوزن. ونحن نعلم أصول الصناعة وأصول الفن، ودقائق الضرورات التي تدعو الشاعر إلى أن يكف أسبابه أو يقبضها. فأما أسباب المنى فليس الناس هم الذين يكفونها أو يقبضونها؛ لأنهم ليسوا هم الذين ينظمون قصيدة الحياة، وإنما تكف أسباب المنى، وتقبض بعلم الله الذي خلق الحياة والأحياء، ودبر أمور هؤلاء وتلك بحكمة لا يعرفها أبو العلاء، ولا يعرفها غيره، وإذن فلا بد من الإذعان للقضاء، والرضى بالحوادث الواقعة، والاحتياط من القضاء، ومن الحوادث الواقعة، ولا بد من أن يكف الإنسان أذاه عن غيره، ويصرف شره عما عداه وعمن عداه. وقد فعل أبو العلاء ذلك ، فهو لا يروع آمنا، ولا يثير ساكنا.
وما الظبيات مني خائفات
وردن على الأصائل أو ربضنه
وهو ينصح لك، ويرأف بك، ويود لو تذهب مذهبه وتسير سيرته، فلا تفجع الطير في بيضها، فإنه لها لا لك، وما ينبغي لك أن تعتدي عليها ما دمت تكره أن يعتدى عليك.
فلا تأخذ ودائع ذات ريش
فما لك أيها الإنسان بضنه
ثم هو لا يكفيه من نفسه، ولا يكفيه منك الإعراض عن ترويع الآمن، وإثارة الساكن، وتفجيع الطير في ودائعها، ولكنه يريدك كما أراد نفسه على أكثر من هذا، يريدك على أن تروع نفسك بحرمانها طائفة من اللذات؛ لتجنبها طائفة من الآلام. يريد أن يصرفك عن الغانيات، وعما تثير حياتهن وزينتهن في نفسك من لهو وشهوة وفتنة؛ لأن هذا كله ينتهي بك إلى آلام لا تحصى، وحسرات لا تقضى، وفيم تحمل الآلام وتجشم الحسرات ما دامت كلها منتهية إلى هذه الآخرة المنكرة التي تعرفها، ولكنك تجهل ما بعدها وهي الموت، إنما يحتمل الألم حين ينتهي إلى لذة، فيجب أن تترك اللذة حين تنتهي إلى ألم.
وشاعرنا في تأدية هذا المعنى الذي يكلف بترديده معتمد دائما على حفظه، وعلى ما ورث من الألفاظ والأخبار والأساطير، يصرف هذا كله في شعره تصريفا جميلا رائعا، يشعرك بهذه البداوة الحلوة المرة، ويصور لك حكمته هذا التصوير الجزل الذي لا يلين كل اللين، ولا يعنف كل العنف، وإنما يتخذ بين ذلك سبيلا.
فراع الله واله عن الغواني
يرحن ليمتشطن ويرتحضنه
وطئن السابري وخضن بحر ال
نعيم وهن في ذهب يخضنه
وللسمرات في الأشجار عيب
إذا ما قال مخبرهن حضنه
نجائب لامرئ القيس بن حجر
وقصن أخا البطالة إذ يرضنه
وانظر إلى قوله:
نجائب لامرئ القيس بن حجر
وقصن أخا البطالة إذ يرضنه
كيف يشير فيه إشارة ظريفة إلى عبث امرئ القيس. وإلى قوله: وخيل اللهو جامحة علينا. كيف يشير فيه إلى أفراس الصبا التي عراها زهير.
ثم انظر إلى قوله:
فيا غضا من الفتيان خير
من اللحظات أبصار غضضنه
كيف أشار فيه إلى قول الله - عز وجل:
قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم
وكيف جانس فيه بين وصف الغض الذي يكون للفتى وللغصن، وبين فعل الغض الذي يقع على الأبصار.
فإذا فرغ أبو العلاء من هذا النهي أو من هذه الفلسفة السلبية، أقبل على الأمر أو على فلسفة إيجابية، يتم بها ما ينبغي للرجل العاقل الحازم من الاحتياط، وهو يأخذ فلسفته الإيجابية هذه من الدين، فهو يأمر بإيتاء الزكاة، وما يمنعك من إيتاء الزكاة، ومن أن تحل مالك عن نفسك مريدا لذلك قبل أن ينحل المال عنك برغمك. ويأمر بإقامة الصلاة، وأي شيء أعجز من أن تقصر في إقامتها، ورياضة نفسك بها، وهي أيسر من أن تلقاها بالإعراض، أو أن يصرفك عنها الكسل. وهو يأمر بصوم رمضان، ولا سيما حين يشتد القيظ؛ لأن في ذلك رياضة للنفس على الشدة، وأخذا لها بالعنف، وتهوينا للمشقة عليها. ولكنه يقف عند ذلك من أركان الإسلام، فهو لا يأمر بأداء الحج، وأكبر الظن أن رأيه في الحج سيئ، تثبت ذلك نصوص في اللزوميات قد مر بعضها، وقد نعرض لبعضها بعد حين، وهو لا يأمر صراحة بالركن الأول من أركان الإسلام، وهو أن تشهد بأن لا إله إلا الله وبأن محمدا رسول الله. لا يأمر بذلك صراحة، إما لأن في نفسه من النبوات شيئا كما قدمت، وإما لأن هذا الأمر مفهوم ضمنا من أمره بالزكاة والصلاة والصوم، وإن كان شكه في النبوات يفهم أيضا من سكوته عن الحج في هذه القصيدة، ومن تصريحه برفض الحج في مواضع أخرى من اللزوميات، فهو يؤمن ببعض الكتاب، ويكفر ببعض.
ففض زكاة مالك غير آب
فكل جموع مالك ينفضضنه
وأعجز أهل هذي الأرض غاو
أبان العجز عن خمس فرضنه
وصم رمضان مختارا مطيعا
إذ الأقدام من قيظ رمضنه
على أن الشيخ لا يلبث بعد هذا النهي والأمر أن يعود إلى بؤسه ويأسه، وأن يشركنا معه في البؤس واليأس؛ لأنه يؤديهما إلى قلوبنا في لفظ هين وادع رقيق رفيق ، جزل مع ذلك متين، فهو ينبئنا بأن الفناء مصير كل شيء، إليه يصير الناس، وإليه تصير النجوم. وإليه يصير حتى هذا الذكر الذي يعلل به الناس أنفسهم إذا عرض لهم ما يؤذيهم في الحياة، وما يثبط همهم ويفل عزائمهم، ويصرفهم إن استجابوا له عما هم مقدمون عليه من جلائل الأعمال، أنهم يعزون أنفسهم حينئذ بأن التاريخ سيعرف لهم من البلاء ما ينكره عليهم المعاصرون. ولعلهم يضللون أنفسهم حين يؤمنون بوفاء التاريخ، وبما سيذكرون به من خير إن أقدموا، وبما سيذكرون به من خير إن أحجموا، فإذا هم يقدمون أو يحجمون زاهدين في رضى الناس، معرضين عن سخطهم، راغبين مع ذلك في رضى التاريخ، مشفقين من سخطه؛ كأنهم سيذوقون لذة ذلك الرضى، ويحسون لذع هذا السخط بعد أن يشتملهم الفناء. فأبو العلاء يرد من غرورهم هذا، ويكف عن غلوائهم، وينبئهم بأن هذه الأحاديث نفسها صائرة إلى الفناء، وإن ظنوا بها البقاء. ليس هناك شيء يستطيع أن يخلد، لن يخلد الناس ولن تخلد الكواكب، ولن تخلد أحاديث التاريخ. فالسرور بالسير والأحاديث غرور، والإيمان بأحكام الأيام لغو، والتعزي بإنصاف التاريخ باطل، والأمر كله صائر إلى الفناء. فمن أقدم على خير فليقدم عليه لأنه الخير، لا لأنه سيعقب مكافأة من الناس، أو إنصافا من التاريخ، ومن أحجم عن شر فليحجم عنه لأنه الشر، لا لأنه سيعقب سخطا من الناس، ولوما من التاريخ.
وليس من هذا الفناء مخرج، وليس عن هذا الفناء منصرف، فإن استطعت أن تتخذ سلما في السماء، أو نفقا في الأرض فافعل؛ فإن ذلك لن يغني عنك شيئا، ولن يصرفك عن هذا الفناء الذي أنت صائر إليه. وإن استطعت أن تتخذ لنفسك جناحين تطير بهما في الجو، وتبعد بهما في الطيران فافعل، فلن يغني ذلك عنك شيئا، فسيهاض جناحاك، رضيت ذلك أم كرهته، وستقع مهما تصعد في السماء، وسترد إلى ذلك الفناء الذي خرجت منه، ولست تدري كيف خرجت، والذي تعود إليه، ولست تدري ماذا ينتظرك فيه.
أهذا اليأس القاتم شر؟ أهذا البؤس الحالك مثبط للهمم؟ مفتر للعزائم؟ أما بالقياس إلى ضعاف النفوس الذين لا يعملون إلا ليلقوا جزاء ما عملوا، ولا يعرضون إلا ليتقوا شر ما أعرضوا عنه فنعم. وأما بالقياس إلى أقوياء النفوس الذين يعملون ويعرضون لا راغبين ولا راهبين، بل لأن طبائعهم تدفعهم إلى العمل، أو تدفعهم عنه فلا.
ومن هنا أنتجت هذه الفلسفة الحالكة المشرقة، المثبطة المنشطة في حياة الناس نتيجتين مختلفتين أشد الاختلاف، دعا إليها أبيقور قبل أبي العلاء بقرون طوال، فاستجاب لها فريقان من الناس، كلاهما فهمها على وجهها، ولكن كليهما ذهب بهذا الفهم في طريق مضادة لطريق صاحبه.
فأما أول هذين الفريقين، فقد استيأس من جزاء الخير والشر، فارتفع بنفسه عن انتظار الجزاء، ونزهها عن البيع والشراء، وطهرها من اللذة وآثامها وآثارها، وراضها على الألم حتى ألغى شعورها بالألم، وصرفها عن النعيم حتى ألغى تقديرها للنعيم.
وقد سلك أبيقور نفسه هذه الطريق، ولكن كثيرا من معاصريه، والذين قرأوا فلسفته سلكوا تلك الطريق. وسلك أبو العلاء طريق أبيقور، ولكن كثيرا من الذين قرأوا فلسفة أبي العلاء سلكوا تلك الطريق، فأي الفريقين أخطأ، وأي الفريقين أصاب؟ كلاهما مخطئ في أكبر الظن لسبب يسير، وهو أن هذه الفلسفة تقوم على الإسراف في الإيمان بالعقل، والاطمئنان المطلق إلى أحكامه وأقضيته وقياس الأشياء بمقاييسه القاصرة الضيقة. فمن يدري لعل للأشياء مقاييس أخرى أبعد وأوسع من هذه المقاييس التي نقيس بها الخير والشر، ونقدر بها الثواب والعقاب.
ومن يدري لعل من الإسراف في الغرور والكبرياء أن نتخذ أنفسنا وعقولنا مقاييس للأشياء، وألا نلحظ حين نقدم أو نحجم إلا ما يعود علينا من نفع أو ضر، ومن خير أو شر، ومن مثوبة أو عقوبة. أليس من الممكن - بل أليس من الحق - أن نخفف من هذه الأثرة، وأن نلحظ ما قد يكون لإقدامنا أو إحجامنا من أثر في الجماعة التي نعيش فيها، وفي النوع الذي نتأثر به ونؤثر فيه؟ أليس من الممكن بل من الحق علينا أن نتساءل: ألا يجوز أن تكون لأعمالنا آثار تتجاوزنا وتتجاوز الجماعة وتتجاوز النوع نفسه إلى كائنات أخرى نعرفها أو لا نعرفها، ونحن نجهل - على كل حال - آثار أعمالنا فيها وفي مصيرها؟
الأمر كله يرجع إلى ما رددت إليه بؤس أبي العلاء ويأسه، وهو هذه الكبرياء العقلية التي تلغي ما سوى العقل، وتقف الثقة كلها على العقل، فهل من الحق أن العقل جدير بكل هذه الثقة، وأن أحكامه جديرة بهذه الطمأنينة التي تدفعنا إلى اليأس المسرف في الطغيان، أو إلى الأمل المسرف في التهالك على اللذات والآلام؟ ومع ذلك فأبو العلاء نفسه يعترف بقصور العقل وحيرته، وعجزه عن القضاء في كبار المشكلات.
فاقرأ قبل كل شيء هذه الأبيات التي يصور فيها الشيخ بؤسه ويأسه تصويرا هادئا، ولكنه مؤثر لطيف المدخل إلى النفس:
عيون العالمين إلى اغتماض
وأبصار النجوم سيغتمضنه
وقد سر المعاشر باقيات
من الأنباء سرن ليستفضنه
أرى الأزمان أوعية لذكر
إذا بسط الأوان له نفضنه
قد انقرضت ممالك آل كسرى
سوى سير لهن سينقرضنه
فطر إن كنت يوما ذا جناح
فإن قوادم البازي يهضنه
وكم طير قصصن لغير ذنب
وألزمن السجون فما نهضنه!
ثم انظر إلى هذا البيت الذي يعترف فيه أبو العلاء اعترافا صريحا قاطعا بعجز العقل وقصوره فيقول:
متى عرض الحجا لله ضاقت
مذاهبه عليه وإن عرضنه
فهذا العقل الجبار الذي يقبل ويدبر ويكر ويفر، وتتسع له المذاهب حين يعرض لكثير من المشكلات، فإذا هو يبني ويهدم، وإذا هو ينقض ويبرم، لا يكاد يعرض لله حتى تضيق عليه المذاهب، وتؤخذ عليه من أقطارها، فإذا هو عاجز قاصر لا يستطيع أن يصول ولا أن يجول.
وليس الغريب أن يعترف أبو العلاء بقصور العقل، وعجزه حين يعرض لله، وإنما الغريب أن يقف أبو العلاء بهذا الاعتراف عند هذا الحد، وألا يستقصي نتائجه المنطقية؛ فإن العقل إذا عجز عن فهم الله، وتعرف كنهه كان خليقا أن يعجز عن فهم كثير من الأشياء التي تصدر عن الله. وهو إذا اعترف بهذا العجز كان خليقا أن يتواضع، فلا يعني نفسه ، ولا يمنيها، ولا يجشمها هذه الأهوال التي تتجشمها في سبيل التحليل والتعليل والتأويل. وإنما قصارى العقل أن يجد ما وسعه الجد، وأن يفهم ما استقام له الفهم، وأن يدبر أموره في هذه الحياة كما تستقيم له الظروف، فإذا انتهى إلى حيث لا يطيق أن يبعد في سبيله وقف وقفة المتواضع الذي لا يطغى، ولا يتكبر، ولا يتجبر، ولا يتورط في هذا الإنكار العنيف الذي يثير اليأس والبؤس والقنوط، إنما تفهم الكبرياء الجامحة من عقل الملحد الذي لا يؤمن بالله، ولا يعترف بوجوده ولا بحكمته.
فأما العقل الذي يؤمن بالله، ويثبت له العدل والحكمة فهو ظالم لنفسه إن تمرد، وباغ عليها إن ورطها في الإنكار والجحود.
ولكن أبا العلاء معذور بعض العذر فيما تورط فيه ودفع إليه، فقد كان مضطرا إلى أن يعيش في بيئته التي عاش فيها، وإلى أن يشارك هذه البيئة فيما كانت قد دفعت إليه من ألوان الجدل في الدين والفلسفة، فهو إذن مضطر إلى أن يثبت وينفي، وإلى أن يعرف وينكر، وإلى أن يقبل ويرفض. وليس هو الذي ابتكر هذه المشكلات التي عرضت له أو عرض لها، وإنما أقبل إلى الحياة وبلغ الشباب، فوجد هذه المشكلات قد وضعت موضع البحث من أقدم العصور، وكثر فيها الاختلاف، واشتد فيها الأخذ والرد، ونشأ عن ذلك شر عظيم في حياة الناس، وفساد منكر في أمورهم، فلم يكن له بد من أن يستعرض ما استعرض الناس من قبله، ويستقبل ما استقبلوا، ويقول فيه مثل ما قالوا أو غير ما قالوا. وقد فعل، وانتهى به هذا كله إلى هذه الحيرة المؤلمة المهلكة، ومن يدري إلى أي حال كان يصير أبو العلاء لو أنه نشأ في بيئة بريئة لم تعرض لها هذه المشكلات، ولم تدفع إلى ما دفعت إليه بيئة أبي العلاء من ألوان الجدل؟
ولكن هذا سؤال لا يغني ولا يفيد، فأنت تستطيع أن تلقيه بالقياس إلى كل مفكر تأثر بما وجد في بيئته من المشكلات القديمة أو الطارئة، وبالقياس إلى كل إنسان من رجال التفكير أو من رجال العمل دفعته بيئته إلى أن يفكر أو إلى أن يعمل. وهذا السؤال ظريف حله يتيح لمن يلقيه أن يذهب في الفرض مذاهب لا تحصى، ولكنه لا ينتهي آخر الأمر إلى شيء.
فلنأخذ أبا العلاء كما هو، كما أرادت فطرته وبيئته وظروفه أن يكون، ولنرث له من هذا البؤس الملح، وهذه الحيرة المضنية، ولنستمتع بهذه اللذة الحلوة المرة التي نجدها عندما نسمع صوته المشرق الحزين ينشر هذا الشعر، الذي إن صور شيئا فإنما يصور رجولة قوية، ومروءة صادقة، وقلبا رحيما، وعقلا ذكيا نافذا، وشكا مهما يعنف فهو لا ينتهي بصاحبه إلى هذا التمرد الوقح الذي نجده عند كثير من الذين أسرفوا في الثقة بعقولهم، وإنما ينتهي به إلى الخوف والإشفاق، والغلو في الحذر، والاحتياط للنفس، والاجتهاد في الخير، ولا ينتهي به إلى هذه السخرية اللاذعة التي تقطع الأمل على كل آمل، والقول على كل قائل، وإنما تنتهي به أحيانا إلى سخرية رفيقة باسمة، لا تقطع على مخالفيه أسباب التفكير، بلا لا تقطع عليهم أسباب محاورته، والرد عليه.
نعم، يجب أن نعذر أبا العلاء، فنلاحظ ما أغرق فيه الفلاسفة والمتكلمون والفقهاء والمتصوفون والمجادلون عن الفرق السياسية، باللسان أحيانا، وبالسيف أحيانا أخرى، من ألوان التأويل والتعليل والتضليل، وأن نلاحظ أنه وقد فطر كما فطر ذكي القلب، قوي العقل، مرهف الحس، دقيق الشعور، لم يكن يستطيع أن يلقى هذا كله غير حافل به، ولا ملتفت إليه، أو أن يمر بهذا كله ساخرا منه، وعابثا به كما فعل بشار وأبو نواس. وإنما فكر الرجل فشقي بتفكيره. وحسبه أن شقاءه بالتفكير لم يدفعه إلى أكثر من أن يشتد على نفسه، ويأخذها بما أخذها به من العنف، ويدفعها إلى ما دفعها إليه من النسك، ويصرف شرها عن الناس، ولا يمنح الناس من آثارها إلى ما يدعوهم إلى الروية والتفكير، ويثير في نفوسهم اللذة والمتاع.
واقرأ هذه الأبيات التي تصور يأسه من إسراف المؤولين فيما أولوا، ومن إسراف المعللين فيما عللوا ، ومن إسراف الفقهاء وأصحاب الكلام فيما حاولوا من ألوان التوفيق والتفريق، ثم انظر إلى البيت الأخير منها فسترى يأسا مهلكا، ولكنه لا يثير في النفس ثورة، ولا يدفعها إلى جموح، وإنما هو منته بها إلى الرضا والإذعان:
وقد كذب الذي يغدو بعقل
لتصحيح الشروع إذا مرضنه
هي الأشباح كالأسماء يجري ال
قضاء فيرتفعن وينخفضنه
وتلك غمائم الدنيا اللواتي
يسفهن الحليم إذا ومضنه
غدت حجج الكلام حجا غدير
وشيكا ينعقدن وينتقضنه
لعل الظاعنات عن البرايا
من الأرواح فزن بما استعضنه
وللأشياء علات ولولا
خطوب للجسوم لما رفضنه
وغارت لانصرام حيا مياه
وكن على ترادفه يفضنه
أرأيت إلى هذه القصيدة التي لم تسرف في الطول، ولم تسرف في شيء من الأشياء كيف ألمت بألوان مختلفة من هذه الفلسفة المظلمة، التي أنفق فيها الشيخ حياته؟ بدأت بالأسف والحزن، وانتهت باليأس والقنوط، وافتن الشيخ بين ذلك في ألوان من التفكير، منها ما يصور الحذر والاحتياط، ويحاول تطهير النفس مما يراه العقل والدين إثما، ومنها ما يصور التواضع والاعتراف بالقصور، ومنها ما يصور الثورة على الناس لا على الله؛ وهي على كل حال، وفي كل فن من الفنون التي ألمت بها لا تخلو من هذه الشخصية القوية الضعيفة، الثائرة الهادئة، المتكبرة المتواضعة، شخصية أبي العلاء.
ثم أرأيت إلى فنه اللفظي في هذه القصيدة كيف استقام له واستجاب لدعائه، فلم يمتنع ولم يتمنع، ولم يلتو ولم يعوج، وإنما استجاب مسمحا طيعا، فأشاع في القصيدة هذه الجزالة الحلوة، وأشعرك مع ذلك بنفسه، وأنبأك بأنه ليس من الطاعة والاستسلام، بحيث تظن أو بحيث يظن الشيخ نفسه، وإنما هو على كل حال فن عزيز منيع لا يبلغ إلا بعد الجهد، وكل ما في الأمر أن هذا الجهد قد يكون عنيفا شاقا أحيانا، وقد يكون رفيقا هينا أحيانا أخرى.
أما أنا فقد استعذبت نغمة هذه القصيدة، واسترحت إلى صوت الشيخ وهو ينشدها، وأردت أن أستزيد من هذه المتعة، فأقمت مع الشيخ وصحبته ذات مساء، حتى إذا تقدم الليل خلوت إلى نفسي، فخلوت إلى ذكرى الشيخ، وسمعته ينشد قصيدة أخرى ليست أقل جمالا وروعة من هذه القصيدة، ولكنها أطول منها، وأسرع سعيا إلى النفس، وأعذب موقعا فيها، ولا بد من أن أحمل إليك صدى إنشاد الشيخ لهذه القصيدة الرائعة.
وأيسر ما أحمله إليك من هذا الصدى ترديد لمقطوعات من هذه القصيدة، وتصوير لبعض الآراء التي نثرها الشيخ في هذه الأبيات.
وقد التزم الشيخ في القصيدة هاء السكت، والتزم معها النون والسين، وظهر لالتزامه هذا أثر واضح في الفن اللفظي؛ فقد تحكمت القافية أحيانا، ولكنها تحكمت في سماحة وعذوبة، وفي شيء من الدل والتيه، واستجابت بعد هذا التحكم، فكانت استجابتها حلوة شائقة مرضية لحاجات النفس، ونزعات العقل جميعا، ومطلع هذه القصيدة قول أبي العلاء:
تهاون بالظنون وما حدسنه
ولا تخش الظباء متى كنسنه
ولكن لنمر مسرعين بهذا البيت وبالأبيات التي تأتي بعده، والتي يصور فيها أبو العلاء عبث الزمان بالناس والأحداث على نحو ما يفعل في كثير من شعره ونثره، وينهى فيها عن الكلف بالغانيات، ويفتن في وصفهن وصفا يصد عنهن، ولنقف عند هذه الأبيات:
تشابهت الخلائق والبرايا
وإن مازتهم صور ركسنه
وجرم في الحقيقة مثل جمر
ولكن الحروف به عكسنه
غنى زيد يكون لفقر عمرو
وأحكام الحوادث لا يقسنه
وما أريد أن أقف عند فنها اللفظي؛ فهو أظهر وأدنى من أن يحتاج إلى الحديث عنه، أو إلى تقريبه إلى القارئ. ما أريد أن أقف عند القيمة الفلسفية لمعاني هذه الأبيات؛ فقد يدفعني ذلك إلى ألوان من القول، وإلى فنون من الإطالة لست في حاجة إليها. وإنما أريد أن أقف عند شيئين اثنين تصورهما هذه الأبيات تصويرا قويا واضحا، ويحتاجان إلى كثير من التعمق والاستقصاء:
الأول: أن هذه الفكرة التي يصورها الشيخ في البيت الأول، ويقيم الدليل عليها في البيت الثاني مشتركة بينه وبين أصحاب أبيقور، لا في جوهرها فحسب، بل في طريقة عرضها أيضا. فأي الناس قرأ ديوان الشاعر اللاتيني لوكريس الذي يعرف بطبيعة الأشياء يعلم أن هذه الفكرة شائعة في هذا الديوان كله، وأن الشاعر اللاتيني يعرضها غير مرة على نفس النحو الذي يعرضها عليه أبو العلاء.
فهو يتحدث عن تشابه الأشياء وإن اختلفت صورها الظاهرة، وهو يمثل لذلك بألفاظ لاتينية يعبث بها نفس العبث الذي يعبثه أبو العلاء ب «جرم»، و«جمر» في البيت الثاني.
ومن المحقق أن أبا العلاء لم يقرأ لوكريس، ولم يظهر عليه، وأكبر الظن أنه لم يسمع بديوانه، بل لم يسمع باسم الشاعر نفسه، ولو قد قرأه لقرأه بالعربية، وليس من سبيل إلى ترجمة هذا العبث اللفظي من اللاتينية إلى اللغة العربية، وقد ظهر عجز التراجمة الفرنسيين عن نقله من اللاتينية إلى الفرنسية.
ليس من شك إذن في أن أبا العلاء لم يتأثر بالشاعر اللاتيني من قريب ولا من بعيد، وكل ما يمكن أن يفترض هو أن فلسفة أبيقور قد عرفت عند المسلمين على نحو ما، واتصلت أصولها بأبي العلاء، فصادفت من مزاجه استعدادا وقبولا، ففكر فيها واستقصى مذاهبها مجتهدا مستنبطا من نفسه، وانتهى إلى مثل ما انتهى إليه القدماء من أصحاب أبيقور، وإلى مثل ما انتهى إليه الشاعر اللاتيني من مذاهب التفكير، والتعبير ومن مذاهبهم في السيرة أيضا.
والشيء الثاني هذا البيت:
غنى زيد يكون لفقر عمرو
وأحكام الحوادث لا يقسنه
فإلى أي فكرة ذهب أبو العلاء في هذا البيت إذا لم يكن قد ذهب إلى تصوير عجز العقل عن فهم الحوادث التي تعرض للناس والأشياء، وتعليلها وتحليلها من جهة، وإلى إثبات أن هذه الحوادث التي لا تعلل ولا تحلل ولا تؤول تنتج في حياة الناس أشياء يراها العقل ظلما وجورا، فينكرها وينبو عنها؟ فالخيرات التي تنتجها الأرض، وتنتجها الحضارة كلها محصورة لا يمكن أن تتفاوت حظوظ الناس منها، إلا إذا كان الظلم مصدر هذا التفاوت، فإذا ظفر زيد بالغنى فلا بد من أن يضطر عمرو إلى الفقر. وليس من الميسور، ولا من المعقول أن يكون الناس كلهم أغنياء. وإذن فلم يستأثر زيد بالغنى، ويضطر عمرو إلى الفقر؟ وكيف السبيل إلى رفع هذا الظلم ، ووضع العدل مكانه، وتحقيق الإنصاف بين هذين الرجلين اللذين يظفر أحدهما بأكثر من حاجاته، ويحرم أحدهما أيسر هذه الحاجات؟
سبيل ذلك تحقيق المساواة من غير شك، سبيل ذلك أن يؤخذ من الغني، وأن يرد على الفقير، حتى لا تكون بينهما هذه الفروق التي تبيح لأحدهما أن يظلم الآخر، ويستعلي عليه، وتكره أحدهما الآخر على أن يبغض صاحبه، ويضمر له الضغينة والموجدة. ولكن أبا العلاء ليس صاحب إصلاح عملي، وإنما هو مفكر شاعر ناقد، يرى الشر فيدل عليه، وما أكثر ما يرى الشر! ويرى الخير فيدعو إليه، وما أندر ما يرى الخير! وهو في الوقت نفسه لا يقطع بأن الشر الذي يراه شر مطلق، وبأن الخير الذي يراه خير مطلق، هو لا يقطع، وهو من أجل ذلك، ومن أجل أشياء أخرى لا يعمل، وإنما يعتزل الناس، وينفرد عنهم، ويؤثر نفسه بالعافية، يرفض الثروة، فيبرأ من ظلم المعدمين، والاستعلاء عليهم، ويبرأ في الوقت نفسه من حقدهم عليه، وبغضهم له، ويطمئن إلى الفقر، وتستريح نفسه إليه، فلا يشعر بألم الحرمان، ولا يتعرض لهذه العواطف المؤلمة التي يثيرها الحرمان في النفوس، فهو قانع مطمئن إلى قناعته، لا يظلم الناس، ولا يرى أن الناس يظلمونه، أو هو عاف لهم عما قد ينزلون به من الظلم.
هو اشتراكي لولا أنه صاحب قناعة وزهد واعتزال للناس، وإعراض عن الحياة العاملة، وما يكون فيها من جهاد. هو اشتراكي الرأي، فلسفي السيرة، ولنقتصد مع ذلك في اللفظ وفي الحكم أيضا، فلا ينبغي أن يفهم من اشتراكية أبي العلاء ما يفهم من اشتراكية كارل ماركس، وإنما ينبغي أن يفهم من اشتراكية أبي العلاء ما يفهم من اشتراكية العصور القديمة، ومن اشتراكية الثائرين والساخطين، في القرن الثالث والرابع للهجرة بنوع خاص.
فأبو العلاء قد عرف ثورة صاحب الزنج، وعرف ثورة القرامطة، ولام صاحب الزنج كما لام زعماء القرامطة، ونعى عليهم آمالهم، ونعى عليهم فلسفتهم، ولكنه استبقى من هذه الفلسفة شيئا واحدا؛ لعله أن يكون هو الذي أنشأ هذه الفلسفة: وهو الشعور بالظلم في توزيع الثروة، والإنكار لما يكون من انقسام الناس إلى طبقات؛ الأغنياء والفقراء.
وتستطيع أن تنظر إلى هذه الأبيات التي رد فيها أبو العلاء على الشيعة، وعلى صاحب الزنج، وعلى القرامطة، فسترى أنه أنكر عليهم جميعا ما كانوا يطلبون أو يحاولون، أو ينتظرون من تحقيق العدل في الأرض. أنكر عليهم الإمام الذي كانوا ينتظرونه، ولكنه اعترف بأن الجور شيء واقع، ولا سبيل إلى الإفلات منه، وصرح بأن ليس للناس إمام يستطيعون أن يثقوا به ويطمئنوا إليه إلا العقل. ولكن العقل يستطيع أن يكشف الظلمة، وأن يجلب الرحمة بشرط أن يطاع وليس إلى طاعته سبيل؛ لأن في طبيعة الناس، وفي طبيعة الحياة ما يجعل طاعة العقل عسيرة إلا على أمثال أبي العلاء. وهذه الأبيات هي قوله:
يرتجي الناس أن يقوم إمام
ناطق في الكتيبة الخرساء
كذب الظن لا إمام سوى العق
ل مشيرا في صبحه والمساء
فإذا ما أطعته جلب الرح
مة عند المسير والإرساء
إنما هذه المذاهب أسبا
ب لجذب الدنيا إلى الرؤساء
غرض القوم متعة لا يرقو
ن لدمع الشماء والخنساء
كالذي قام يجمع الزنج بالبص
رة والقرمطي بالأحساء
فانفرد ما استطعت فالقائل الصا
دق يضحى ثقلا على الجلساء
أترى إلى اشتراكية أبي العلاء؟ إنه يستمدها من الحياة المادية والعقلية لعصره، يستمدها من الثورات التي اضطرب لها النظام الاجتماعي والسياسي أيام العباسيين، ولكنه لا يحكم فيها شهوته، فليست له شهوة، ولا يحكم فيها هواه؛ فليس له هوى، وإنما يحكم فيها عقله، فينتهي به العقل إلى هذا اليأس المريح المؤلم الذي يكون للفلاسفة والشعراء.
ينتهي به العقل إلى أن الجور واقع لا شك فيه، وإلى أن العدل أمل لا سبيل إليه، وإلى أن اليأس المريح على ما يثير من الآلام المحضة خير من الجهاد الذي لا يغني، والمغامرة التي لا تجدي. هو يلتقي مع المتنبي في الشعور بالجور، وفي أخذ هذا الشعور من المذاهب الاقتصادية والسياسية التي كانت شائعة في ذلك العصر، ولكنهما لا يكادان يلتقيان حتى يفترقا. فأما المتنبي فيغامر، ويخاطر حتى ينتهي إلى ما ينتهي إليه المغامرون المخاطرون، وأما أبو العلاء فيشرب كأس اليأس هذه التي تريحه وتريح منه.
وهنا نبلغ المسألة التي أثارها الأستاذ ماسينيون، والتي أشرت إليها في أول هذا الحديث، والتي قرأت اللزوميات من أجلها: وهي تأثر أبي العلاء بالإسماعيلية. وأظن أن الجواب على هذه المسألة يسير جدا، فأبو العلاء قد عرف كل ما أثاره المسلمون من خصومة عقلية أو سياسية أو اقتصادية، وأبو العلاء قد روى في هذا كله تروية الرجل الذي يصطنع الجد، ولا يحب الهزل، وأبو العلاء قد تأثر من غير شك بهذه المذاهب المختلفة تأثرا عقليا، فدرسها، وجادل فيها، ولكنه لم يستبق منها لنفسه إلا خلاصتها، وأدناها إلى مزاجه. فمن قال: إن أبا العلاء قد تأثر بالشيعة وبصاحب الزنج، وبالقرامطة خاصة، فشعر بأن الأرض قد ملئت جورا، وصور هذا الجور ورده إلى مصادره الاقتصادية والسياسية المختلفة، فقد قال حقا، ومن قال: إن أبا العلاء قد تجاوز هذا الحد في تأثره بأصحاب المذاهب الثائرة الساخطة، فرسم خطة عملية لرفع الجور، وانتظر إماما سيأتي، أو استجاب لإمام قائم، فقد أخطأ.
فليس أبو العلاء إسماعيليا، ولا قرمطيا، ولا شيعة بوجه عام، هو يؤمن بأن الأرض قد ملئت جورا، ولكنه يائس من أن يرفع هذا الجور صاحب الزنج في البصرة، وزعيم القرامطة في الأحساء، والأئمة القائمون من الفاطميين في القاهرة، والإمام الذي ينتظره أولئك أو هؤلاء من الذين كانوا ينتظرون الأئمة المغيبين.
إمامه مستقر في نفسه، يهديه حينا، ويجور به حينا آخر، ويسلك به هذه الطرق المعوجة الملتوية التي نراها في اللزوميات، ويحمله ألوان الجهد، ويكلفه ضروب العناء، ولكن أبا العلاء يحبه ويأنس إليه، ولا يرضى به بديلا.
وامض بعد ذلك في قراءة ما يأتي بعد هذه الأبيات، فسترى أبا العلاء يعرض عليك تشاؤمه مطمئنا له مستريحا إليه، حتى يقول:
وليت نفوسنا والحق آت
ذهبن كما أتين وما أحسنه
قدمنا والقوابل ضاحكات
وسرنا والمدامع ينبجسنه
فهو يكره الحياة كما ترى، ويود لو أننا لم ندفع إليها. والغريب أنه يعلل هذا بنفس التعليل، أو قل يصور هذا نفس التصوير الذي ذهب إليه لوكريس من استبشار الناس حين يتلقون المولود، وابتئاسهم حين يشيعون الموتى. فأبو العلاء أبيقوري في تشاؤمه هذا؛ ثم هو يذهب مذهب أبيقور ولوكريس فيثبت للعناصر التي ائتلفت منها أجسامنا طهرا ونقاء في حالها الأولى، ويثبت لها دنسا وكدرا طرأ عليها بعد أن تألفت منها الأجسام.
وامض بعد ذلك في القراءة حتى تبلغ إلى حيث ينبئنا أبو العلاء بتكتمه وتحفظه، واحتياطه في إعلان ما يضطرب في نفسه من الخواطر، وما يثور فيها من العواطف، وما يعرض لها من الآراء، وذلك حيث يقول:
ألم ترني حميت بنات صدري
فما زوجتهن وقد عنسنه؟
ولا أبرزتهن إلى أنيس
إذا نور الوحوش به أنسنه؟
ففي نفس أبي العلاء إذن أسرار مكتومة قد طال ضنه بها، وكتمانه لها. فما عسى أن تكون هذه الأسرار؟ ما أظن إلا أنها هذه المذاهب التي ينثرها أبو العلاء في اللزوميات، مصرحا مرة، وملمحا مرة، ومحتاطا دائما. وهو على كل حال يصطنع فيها التقية، فقل: إنه يذهب في هذا مذهب الشيعة، أو قل إنه يذهب في ذلك مذاهب كثير من الفلاسفة القدماء الذين كانوا يرون من العلم ما يباح للناس جميعا، ويرون منه ما لا يجوز الإفضاء به إلا إلى الأكفاء القادرين على تلقيه وتحمله.
وانظر بعد ذلك إلى تصريح أبي العلاء باصطناعه لمذهب أبيقور، وتصويره لهذا الزهد الذي اضطر إليه لا راغبا فيه، بل مكرها عليه إكراها، وذلك قوله:
وقال الفارسون: حليف زهد
وأخطأت الظنون بما فرسنه
ورضت صعاب آمالي فكانت
خيولا في مراتعها شمسنه
ولم أعرض عن اللذات إلا
لأن خيارها عني خنسنه
ولم أر في جلاس الناس خيرا
فمن لي بالنوافر إن كنسنه؟
فالذين يظنون به الزهد مخطئون، فليس هو زاهدا، ولكنه رجل عاجز عن تحقيق آماله، قد راض هذه الآمال فامتنعت عليه، ولم تذعن له، وأدركه اليأس من انقيادها، فخلى بينها وبين الشموس، وأعرض عن لذاته لا رغبة عنها، بل قصورا وعجزا، هي التي أفلتت منه، فلم يستطع أن يلحق بها؛ فآثر القعود على سعي لا غناء فيه!
وهو حين آثر القعود لم يطق أن يقعد مع الناس، ولا أن يرى في مجالستهم خيرا، فهم يرضون بما لا يرضى به، ويطمحون إلى ما لا يطمح إليه، ويقنعون بما لا يرى فيه مقنعا، ويختصمون فيا لا يرى فيه موضعا للخصام. فليعرض عنهم كما أعرض عن آمالهم ولذاتهم، ولينفر نفور الظباء حين يلزمن الكناس.
فهو إذن ساخط على الدنيا؛ لأنها أعجزته، لا لأنه زهد فيها. وفلسفته إذن - كما قلت في أول هذا الحديث - فلسفة المحنق المغيظ لا فلسفة المرتفع عن نعيم الحياة ولذاتها. أو قل: إنها فلسفة المرتفع عن نعيم الحياة ولذاتها، لا لأنه أراد أن يرتفع، بل لأنه أكره نفسه على هذا الارتفاع. طمعه أكثر من طاقته، فهو يؤثر أن يفقد كل شيء على أن يقنع ببعض الشيء.
أترحم هذا الرجل وترثي له، أم تضيق به وتسخط عليه؟ أما أنا فأختصه بالرحمة والعطف؛ لأنه أحب الدنيا، وأعرض عنها، ورغب في اللذات ثم صدف عنها؛ ولأنه حين أعرض عن الدنيا وصدف عن اللذات لم يضمر لأحد شرا، ولم يحسد الناس على ما أصابوا منها، وإنما رضي عن الحرمان، واطمأنت نفسه إليه، وعاش وادعا هادئا لا يؤذي أحدا، ولا كاد أحد يؤذيه.
وامض بعد ذلك في القراءة حتى تصل إلى حيث يعود أبو العلاء إلى نوع من إنكار هذه المصادفات التي تسيطر على الأحياء والأشياء، فتقسم الحظوظ في غير حكمة ظاهرة، ولا عدل بين للعقل حين يريد العقل أن يعلل أو يؤول. فالمساواة ليست ملغاة بالقياس إلى الناس وحدهم فيما يكون من تقسيم الثروة بينهم، ولكنها ملغاة أيضا بالقياس إلى الأشياء التي لا تعقل ولا تحس. فما بال بعض الأماكن يؤثر بالتجلة والتكرمة، وبعضها الآخر يهمل إهمالا دون أن يكون هناك فرق ظاهر يلحظه العقل بين هذه وتلك؟ أمصدر هذا مصادفة لا نستطيع لها تأويلا؟ وإذن فليس على أبي العلاء بأس، وإنما الأمر في هذا كالأمر في غيره من الأشياء التي يعجز العقل عن فهمها، أم مصدر هذا ما يكون من حمق الناس، وخرقهم واندفاعهم إلى ما يدعون إليه في غير روية ولا تبصر ولا تفكير؟ وإذن فهو الانحراف عن الإسلام، والازورار عن الدين، فالأماكن التي يذكرها أبو العلاء في هذه الأبيات - كما سترى - هي صخرة بيت المقدس، وركنا قريش، ومقام إبراهيم.
وقد قدمت أن أبا العلاء لا يطمئن إلى الحج، ينكره صراحة بالقياس إلى النساء في قوله:
أقيمي، لا أعد الحج فرضا
على عجز النساء ولا العذارى
ويهمله إهمالا حين يذكر أركان الإسلام في القصيدة السابقة، فيأمر بالصلاة والصوم والزكاة، ولا يذكر الحج.
وهو هنا يقول هذه الأبيات:
وقد غابت نجوم الهدي عنا
فماج الناس في ظلم دمسنه
وقد تغشى السعادة غير ندب
فيشرق بالسعود إذا ودسنه
وتقسم حظوة حتى صخور
يزرن فيستلمن ويلتمسنه
كذات القدس أو ركنا قريش
وأسرتهن أحجار لطسنه
يحج مقام إبراهيم وفد
وكم أمثال موقفه وطسنه!
وأكبر الظن أن أبا العلاء هنا إنما يذهب مذهب أبيقور في إنكاره حمق الناس وخرقهم، واستجابتهم للأوهام. وآية ذلك ما قدمت من إعراض أبي العلاء عن الحج، وإنكاره له في غير موضع من اللزوميات. وآية ذلك هذا البيت الذي يأتي مباشرة بعد هذه الأبيات، وهو قوله:
تشاءم بالعواطس أهل جهل
وأهون إن خفتن وإن عطسنه!
فذكره بما يكون من تشاؤم الناس وتفاؤلهم في هذه السخرية اللاذعة بعد ذكر ركني قريش ومقام إبراهيم، وإقبال الناس عليها دون غيرها من الأماكن، مصور لمذهبه أوضح تصوير وأجلاه، هو مذهب يخالف جوهر الإسلام، وطبيعته مخالفة لا تحتمل شكا ولا تأويلا.
على أنه يمضي في هذه السخرية بأوهام الناس، واستجابتهم لما يكون من دعوة الداعين، وتصديقهم لما يقال لهم من الأقوال، وما يقص عليهم من الحديث، فيقول:
وأعمار الذين مضوا صغارا
كأثواب بلين وما لبسنه
فالأطفال الذين يدركهم الموت قبل أن يرشدوا لا ينشرون ولا يحشرون، ولا يلقون عقابا، ولا ثوابا. أقبلوا على الحياة ولم يريدوها، وأخرجوا من الحياة ولم يستمتعوا بها. أقبلوا من العدم وصاروا إلى العدم، وليس لذلك حكمة معروفة أو علة ظاهرة، هم كالثياب التي تبلى دون أن تلبس، ففيم وجدت، وفيم بليت؟
ثم يقول:
وهان على الفراقد والثريا
شخوص في مضاجعها درسنه
وما حفلت حضار ولا سهيل
بأبشار يمانية يدسنه
سخف إذن كل ما يذاع في الناس فيصدقونه، ويطمئنون إليه من أخبار الكواكب والنجوم فيما بينها، ومن عناية الكواكب والنجوم بالناس، ورعايتها لهم، وتأثيرها فيهم بالخير مرة وبالشر مرة أخرى. فالكواكب والنجوم لا تحفل بنا، ولا بما يعرض لنا من الحوادث والخطوب. ومن يدري لعلها لا تحفل بنفسها، أو لعلها لا تشعر بنفسها! وإذن فالناس يستجيبون للأوهام، ويؤمنون بالسخف حين يصدقون ما يقص عليهم، ويذاع فيهم من أمر الكواكب والنجوم. مصدر ذلك ضعف عقولهم من جهة، وتعلقهم بالكبرياء والغرور من جهة أخرى. يرون أنفسهم شيئا، وليسوا في حقيقة الأمر شيئا.
وكذلك صور أبو العلاء في هذه القصيدة الرائعة تشاؤمه المظلم القاتم في ألفاظ رقيقة شفافة، ولكنها تشف عن هذا الحزن المؤلم المظلم.
والغريب أني شغلت بهاتين القصيدتين، وبقصائد أخرى تشبههما في اللزوميات، وتركت صاحبي يمضي في قراءة ذلك الكتاب السخيف الذي اشتريناه لنستعينه على القطار، يظن أني أسمع له، وأصغي إليه، والله يشهد أني ما كنت أسمع إلا للشيخ ينشد شعره هذا الرائع الحزين!
والقطار ينهب الأرض بنا نهبا، يجن حينا، ويعقل حينا آخر، وأنا عن هذا كله لاه، ولهذا كله ناس، لا أحفل إلا بهذا السجن المظلم الذي أقام فيه الشيخ، واقتحمته أنا على الشيخ. وما أزال كذلك حتى نبلغ باريس. والمقبلون على باريس حين يبلغونها يعنون بأشياء كثيرة مختلفة، ولكن أقل ما يعنون به لأول قدومهم الكتب والنظر فيها.
والله يشهد ما بلغت الفندق حتى طلبت إلى صاحبه أن يضيف إلى الغرفات التي نحتاج إليها غرفة أخلو فيها إلى أبي العلاء. وما كان الغد حتى كانت كتب أبي العلاء قد خرجت من مكامنها، وحتى كنت مقبلا على الشيخ في سجنه أسمع منه، وأتحدث إليه، ولكن لا من طريق اللزوميات، بل من طريق الفصول والغايات.
الفصل التاسع
وكان القدماء يظنون بهذا الكتاب الظنون، ويقولون فيه عن علم وعن غير علم، منهم من لم يقرأه وإنما سمع عنه، ومنهم من قرأه ولم يفهم عن أبي العلاء فيه، منهم من أساء الظن بالشيخ، فقضى في الكتاب بما استقر في نفسه من سوء الظن، ومنهم من أحسن الظن بالشيخ فأحسن الظن بالكتاب. فرأى بعضهم أن الكتاب معارضة للقرآن، ورأى فيه لونا من ألوان الكفر، ورأى بعضهم أن الكتاب تمجيد لله وثناء عليه، فرأى فيه لونا من ألوان الدين والتقوى.
وأقبلت أنا على الشيخ وهو يملي هذا الكتاب، لا أحفل برأي الناس فيه، وإنما أحفل بما سيتركه في نفسي من أثر، وأحفل بهذه النغمات التي يترنم بها الشيخ حين يتحدث إلى نفسه بما ألف من هذه الفصول حين تستأثر به الخلوة، فيردد ما ألف، يجري به لسانه ليسمعه، وليحقق أمستقيم هو أو معوج، وحين كان يملي هذا الذي ألفه على طلابه راضيا عنه معجبا به، ثم يملي عليهم تفسير ما وقع فيه من غريب.
وأشهد لقد تصورت الشيخ في حالين مختلفتين، كان في إحداهما فيلسوفا مفكرا، وفي الأخرى أستاذا معلما. وكان في إحداهما ساخطا على نفسه، مصغرا لها، وكان في الأخرى راضيا عن علمه معجبا به.
كان فيلسوفا ساخطا في الليل حين يخلو إلى نفسه، فتضاف ظلمة الليل إلى ظلمة بصره، وإلى ظلمة يأسه وبأسه، ويتردد في هذه الظلمات المتكانفة المتراكبة ضوء ضئيل، ولكنه قوي عزيز، هو ضوء عقله وقلبه يهديه من ضلال، ويرشده حين تشتبه عليه الطرق. يهديه إلى هذه المعاني الكثيرة المختلفة المختلطة التي حفظها من علم الأولين. وإذا هو يميز منها ما يلائمه، ويهديه إلى هذه الألفاظ الكثيرة المختلفة التي حفظها من لغة الأولين، وإذا هو يميز منها ما يلائم معناه، ويهديه في طريقه الفنية، فإذا هو يصب معناه في ألفاظه صبا، ثم يتناولها بالتقريب والترتيب، وبالحذف والزيادة، حتى تستقيم له فصلا ممتعا يسيرا أو عسيرا، منتهيا إلى غايته التي أرادها له على كل حال. فإذا بلغ من ذلك ما أراد أجرى هذا الفصل على لسانه، فسمعته أذنه، وطابت عنه نفسه، واستأنف السير في طريقه يلتمس معنى آخر وألفاظا أخرى؛ ليضيف فصلا إلى فصل، وغاية إلى غاية، وما يزال كذلك حتى يبلغ منه الجهد ويدركه الإعياء، ويضمه النوم في رفق بين ذراعيه. وما أرى إلا أن نفسه كانت تعمل نائمة كما كانت تعمل مستيقظة؛ وما أرى إلا أن لسانه كان يدور في فمه ببعض الأسجاع، حتى إذا استيقظ وجد في ضميره آثار هذا الجهد النائم فادخره إلى أن يأتي المساء.
وكان أستاذا معلما حين يقبل عليه طلابه مع الضحى فيملي عليهم ما أعد لهم من ليلته، فيبسمون ويرضون ويعجبون، ويكتبون ويستفسرون ويستوضحون. ويملي عليهم الشيخ تفسير ما عمي عليهم من الألفاظ مكتفيا بالبيان حينا، مستشهدا على ما يقول حينا آخر. وما أرى إلا أنه كان يرضى عن نفسه حين كان يفسر، فيرضي العقول، ويشفي الصدور، وينقع غلة طلاب المعرفة.
ولكن لم ألف أبو العلاء كتاب الفصول والغايات؟ إنه هو ينبئنا بهذا حين يقول: «علم ربنا ما علم أني ألفت الكلم، آمل رضاه المسلم، وأتقي سخطه المؤلم، فهب لي ما أبلغ به رضاك، من الكلم والمعاني الغراب.»
وأبو العلاء صادق فيما يقول، فهو إنما ألف الكلم يبتغي بها رضا الله، ويتقي سخطه. كتابه إذن نوع من أنواع التقرب إلى الله، ولون من ألوان العبادة له، والإمعان في تسبيحه، والثناء عليه. ولكن أبا العلاء يعبد الله، ويتقرب إليه كما يريد هو ويختار، لا كما يريد الناس ويختارون. فهو يثني على الله ما في ذلك شك، وما أعرف أن أحدا أثنى على الله كما أثنى عليه أبو العلاء، ولكنه يثني عليه ثناء الرجل الحر الذي جمع بين خصلتين متناقضتين؛ هو حر فلا يمنعه شيء من أن يتحدث إلى ربه حديث المؤمن به المطمئن إليه، يصارحه بما فهم، وبما لم يفهم، ويجاهره بما رضي، وبما لم يرض ، ويظهره على ما يعرف وما ينكر، في هدوء واطمئنان وثقة، وفي خوف وفزع، وهلع أيضا. هو مؤمن بالله، ولكنه مؤمن بعقله أيضا، فإيمانه بالله يدفعه إلى الحب والأمن، والثقة حينا، ويدفعه إلى الخوف والإشفاق والقنوط حينا آخر.
وإيمانه بالعقل يدفعه إلى الشك والإنكار مرة، ويدفعه إلى الإيمان واليقين مرة أخرى، وهو إذن متردد في الفصول والغايات كما هو متردد في اللزوميات.
يقطع بشيئين: أحدهما: وجود الله وحكمته، والثاني: انقطاع الصلة بين الله والناس إلا من طريق العقل، ومن طريق العقل وحده. وإذن فهو في حاجة إلى أن يفهم حكمة الله، وهو عاجز عن فهم هذه الحكمة، وإذن فهو غير مطمئن إلى النبوات، وهو محتاط إلى إعلان شكه في النبوات.
وأنت تقرأ هذا الجزء الذي نشر من الفصول والغايات، فترى أنه قد ذكر النبي
صلى الله عليه وسلم
فيه نيفا وعشرين مرة، ولكنه لم يذكره إلا عرضا ليستشهد بكلمة قالها أو قيلت له، أو ليستدل بحديث من الأحاديث استدلالا لغويا ليس غير. وهو إذا ذكر النبي مجده، وصلى عليه، ولكنه لا يزيد على ذلك. وهو ينكر في الفصول والغايات ما أنكر في اللزوميات من أمر الحج، ويثبت في الفصول والغايات ما أثبت في اللزوميات من وجوب الطاعة والتقوى، وإقامة الصلاة والبر بالفقراء، ورياضة النفس، وأخذها بما تكره من الشدائد.
وهنا تعرض مسألة لا بد من التفكير فيها؛ ما عسى أن تكون الصلة بين اللزوميات والفصول والغايات من ناحية الفلسفة العلائية أولا، ومن ناحية الفن اللفظي ثانيا؟ فأما أنا فرأيي في ذلك صريح واضح لا لبس فيه ولا غموض، وهو أن أحد الكتابين صورة صادقة للآخر، صورة تطابق الأصل كل المطابقة، بحيث يجب أن يفسر أحدهما بصاحبه، وأكبر الظن أن الفصول والغايات هو الذي أنشأ اللزوميات من الناحية اللفظية على أقل تقدير.
أكبر الظن أن أبا العلاء تصور كتاب الفصول والغايات أولا، فلما استقامت له طائفة من هذه الفصول خطر له أن ينظمها، أو أن ينظم شيئا قريبا منها، وأن يلتزم في الشعر مثل ما التزم في النثر أو بعض ما التزم في النثر.
وواضح جدا أن الشعر يكلف صاحبه من المشقة أكثر مما يكلفه النثر، ففي النثر حرية لا تستقيم للشاعر، يستطيع الكاتب أن يلتزم هذه القيود أو تلك، فإذا ضاق بها أو سئمها تحول عنها إلى الحرية إن شاء، وإلى قيود أخرى إن أراد، دون أن يفسد ذلك عليه نثره. ولكن الشاعر لا يستطيع أن يمنح نفسه هذه الحرية في الشعر؛ لأنه لا يكاد يعدل عن هذه القيود التي التزمها حتى يضطرب نظام القصيدة، وإذا هو مضطر إلى أن يستأنف قصيدة أخرى يصطنع فيها الحرية أو يلتزم ما شاء فيها من قيد.
ومهما يكن من شيء فإن الآراء الفلسفية التي صورها أبو العلاء في اللزوميات هي بعينها الآراء الفلسفية التي صورها في الفصول والغايات؛ وإن قارئ الكتابين يخرج من قراءته بصورة واحدة لأبي العلاء؛ هي صورة الرجل المؤمن بإله حكيم، المضطرب المتردد فيما عدا ذلك من الأمر.
ومهما يكن من شيء أيضا فإن القيود الفنية التي فرضها أبو العلاء على نفسه في اللزوميات قد فرضها على نفسه في الفصول والغايات. ولعله أن يكون قد عذب نفسه في هذا الكتاب المنثور أكثر مما عذبها في ذلك الديوان المنظوم. فقد افتن في القيود التي فرضها على نفسه في هذا الكتاب، وافتن في تنويعها، والاستزادة منها حتى لم يكن مصدر ضيق لنفسه فحسب، بل كان مصدر ضيق لقارئيه وسامعيه أيضا. كان مصدر ضيق، وكان مصدر إعجاب لا حد له، فما أعرف أن أحدا وعى اللغة العربية كما وعاها أبو العلاء، وما أعرف أن أحدا راض اللغة العربية كما راضها أبو العلاء، وما أعرف أن أحدا صرف هذه اللغة في أغراضه وحاجاته الفنية كما صرفها أبو العلاء.
ليت آماله في الحياة استقامت له كما استقامت له اللغة العربية! وليت أمانيه انقادت له كما انقادت له ألفاظ هذه اللغة وأساليبها! إذن لكان أحسن الناس حظا، وأبعدهم عن التشاؤم، وأشدهم إغراقا في التفاؤل والرضا. ولكن أبا العلاء حرم تحقيق الأماني، ورد عن إدراك الآمال، وعزي عن هذا كله بهذه الألفاظ وهذه المعاني، يعبث بها كما يعبث الطفل بلعبه، حتى يدركه الملل، وحتى يدرك الملل قارئيه وسامعيه، وحتى تستحيل هذه التعزية هما ثقيلا، وعناء لا يطاق.
وأول ما التزم أبو العلاء في الفصول والغايات هذه الغاية التي يختم بها فصوله، فقد أراد - ويا لعبث الأطفال الكبار! - أن يختم كل فصل من فصوله بكلمة يلتزم آخرها في جملة من الفصول وأراد - ويا لعبث الأطفال الكبار! - أن يرتب هذه الكلمات على حروف المعجم كلها، فيلتزم الهمزة في بعض غاياته، حتى إذا بلغ منها حاجته انتقل إلى الباء، ثم إلى التاء، ثم إلى الثاء حتى يبلغ آخر الحروف، والجزء الذي بين أيدينا ينتهي بالخاء.
وقد أراد - ويا لعبث الأطفال الكبار! - أن تكون غايته ساكنة؛ لأنه يقف عندها في آخر الفصل، فلا بد له من أن يستريح، ومن أن يريح قارئه وسامعه. والسكون الذي هو علامة الوقف أدنى إلى الراحة، وأجدر أن ينتهي إليه المسافر بعد شدة النشاط، وكثرة الحركة والاضطراب. وقد أراد - ويا لعبث الأطفال الكبار! - أن يكون هذا السكون مريحا حقا، فاشترط أن يسبق الحرف الساكن بألف ساكنة، فهو يلتزم في الغاية حرفين، يتغير أحدهما بتغير حروف المعجم، ولا يتغير ثانيهما بحال من الأحوال، وهو هذه الألف الساكنة.
وهو من هذه الجهة يشق على نفسه في الفصول والغايات أكثر مما يشق عليها في اللزوميات. وما رأيك في رجل يلتزم الألف في غايات الكتاب كله، وقد رتبت هذه الغايات على الحروف كلها، ونظمت كتابا يقع في أربعة مجلدات ضخام؟ ولكن أبا العلاء لا يكتفي بهذين القيدين الثقيلين، وإنما يضيف إليهما قيودا أخرى ينوعها، ويفتن في تنويعها، فقد لا يكتفي بالتزام الألف في غاياته، وإنما يلتزم قبلها حرفا آخر في طائفة من الغايات، حتى إذا ضاق بهذا الحرف أو ضاق الحرف به تركه إلى حرف غيره، فالتزمه وقتا طويلا أو قصيرا.
هذه هي القيود التي فرضها أبو العلاء على نفسه في غاياته. ولكن أبا العلاء ينكر نفسه، ويجحد فنه وبراعته إن اكتفى بهذه القيود. فلا بد له من قيود أخرى يفرضها على نفسه في الفصول نفسها. وأنت هنا ترى الأعاجيب، فأبو العلاء يلتزم السجع أحيانا، ولكنه لا يسجع كغيره من الكتاب، وإنما يلتزم في السجع ما يلتزمه في قافية اللزوميات، فيفرض على نفسه حرفين، وقد يفرض على نفسه أكثر من حرفين، وهو قد يتجاوز هذا السجع الذي التزمه إلى نوع آخر من القيد في الفصل نفسه. فإذا فرض على نفسه سجعات بعينها انتهى إلى الهمزة، واستأنف سجعات أخرى، ثم انتهى إلى الباء، ومضى كذلك حتى يتم حروف المعجم قبل أن يبلغ الغاية.
وقد لا تعجبه هذه القيود كلها فيفرض على نفسه قيودا أخرى يلتزمها لا في فصل واحد، بل في فصول مختلفة، يجعل غايته الحاء أو الخاء، ويلتزم في الفصول من أمام هذه الغايات ومن ورائها حرفا بعينه، بحيث يكون الالتزام مؤتلفا ومختلفا. التزام في الغايات والتزام في الفصول على تباعدها وتباينها. وفصول أبي العلاء تقصر وتطول، تقصر حتى تتألف من جمل، وتطول حتى تصبح، وكأنها فصل طويل من كتاب.
وفصول أبي العلاء تستقل أحيانا، ويتبع بعضها بعضا أحيانا أخرى، تستقل فلا تكون بينها صلة، وترتبط فإذا طائفة منها تؤلف قصة واحدة، كلما انتهى جزء من القصة ختم الفصل بغاية، واستؤنف جزء آخر من القصة في فصل آخر ينتهي بغاية أخرى، ويستأنف بعده جزء ثالث في فصل ثالث، وما يزال الأمر كذلك حتى تتم القصة في عدد من الفصول والغايات كثير أو قليل.
وقد ذكرت القصة وما أكثرها فيمن بين أيدينا من الفصول والغايات، ما أكثرها وما أروعها، وما أشد اختلافها وتنوعها! منها ما يقصر حتى يؤدى في جمل، ومنها ما يطول حتى يؤدى في فصول، والخيال فيها رائع ومتواضع معا، رائع لطرافته، ولغرابة الملائمة بينه وبين ما قصد إليه أبو العلاء من تمجيد الله، ومتواضع لأن أبا العلاء لا يبتكره، ولا يستأنفه استئنافا، وإنما يستمد عناصره من الشعر العربي القديم ، ومن الأساطير العربية القديمة، ومن أخبار التاريخ، ومن أصول العلوم اللغوية وقواعدها. فكل ما صور الشعر العربي القديم من وصف الصيد قد سلكه أبو العلاء في الفصول والغايات قصصا جميلا رائعا، يدور حول الوعظ والإرشاد، وحول تمجيد الله والثناء عليه.
وكثير مما صور أصحاب النحو والصرف من أصولهم وقواعدهم قد سلكه أبو العلاء في كتابه قصصا جميلا رائعا أو حوارا بديعا ممتعا يدور حول تمجيد الله والثناء عليه، وقل مثل ذلك في العروض والقافية، بل قل مثل ذلك في الموسيقى نفسها.
وليس تفسير أبي العلاء لفصوله وغاياته بأقل طرافة وغناء من الفصول والغايات نفسها. فما أكثر ما يشتمل هذا التفسير على كنوز لا تقوم في تاريخ اللغة العربية وعلومها وآدابها، بل في تاريخ الحياة الفنية للمسلمين بنوع خاص. ولو أني ذهبت أفصل خصائص هذا الكتاب، وما يمكن أن يستكشف فيه الباحثون من حقائق التاريخ الأدبي العربي لما فرغت من هذا الحديث، وما أشد حاجتي إلى أن أفرغ منه!
فلأقف عند طائفة من الفصول لا بد من الوقوف عندها؛ لأنها تصور نفس أبي العلاء كما نعرفها من اللزوميات، ومن الحق علي، ومن الحق لي أيضا أن أثبت هذا وأسجله، بل لعل بعض هذه الفصول يصور لنا نفس أبي العلاء خيرا مما صورتها اللزوميات.
وأول ما أثبته من ذلك هذا الفصل الذي يؤرخ لنا فيه أبو العلاء بدء حياته الفلسفية، وأظنك توافقني على أن لهذا التاريخ خطره، فسترى أن أبا العلاء لم يجلب حياته الفلسفية من بغداد، وإنما بدأها وأقام عليها في المعرة دهرا، ثم ارتحل إلى بغداد، وعاد إلى المعرة، وقد أتمها وأكملها بالعزلة. وما أكاد أشك في أنه حين ارتحل إلى بغداد حمل معه طائفة من لزومياته، ومن فصوله وغاياته.
فلنقرأ هذا الفصل قبل كل شيء: «منكراتي كمعارف الجياد، وكعوب المران، فليت شعري هل أنا مع الخطأ مصيب، سهمي في المعصية معلى الأسهم، وفرسي في حلبتها لاحق أو الوجيه، وناقتي في مراحلها وجناء الجمحي، ونجمي في ليلها الفرقد، وأنا في مضالها رافع بن عميرة، وحنيف الحناتم؟ فهل لي في الخير نصيب! رب عجل حدث عن خجل. ألا أنتظر غراب الليل ينهض، وبازي الصبح يقع، وشرقه تطلع من وراء الخباء! لكل ثمر إدراك، وليس بكل واد أراك. اصبر إن الصريف سيروب! إن الله - وله علو المكان - جعل الشر غريزة في الحيوان، فأبعدهم من الشرور أقلهم حظا في المعقول. ألا ترى الحجر الموضوع مر به العاثر، فأدمى الإبهام، ولا ذنب للحجر لكن للواضع والعاثرين؟ يا خدعة لمن تخدعين؟ لو كنت امرأة طلقتك أبين طلاق، أو أمة سرحتك سراح الكريم، أو ضائنة عبطتك لأول الطارقين! قد أخلقت الجسد فما تريدين؟ اظعني عنه لا يحمدك في الحامدين، وانزلي بالجدب أو الخصيب! ما زلت آمل الخير وأرقبه حتى نضوت كملا ثلاثين، كأني ذبحت بكل عام حملا أبرق، بياضه الأيام وسواده لياليه. وهيهات! كأنني قتلت بالسنة حية عرماء! إن الزمن كثير الشرور. فلما تقضت الثلاثون وأنا كواضع مرجله على نار الحباحب، علمت أن الخير مني غير قريب. الرجل كل الرجل من آتى الزكاة ورحم المسكين، وتبرع بما لا يجب عليه، وكره الحنث، وكفر عن اليمين. لولا خشية المنقلب لكنت أحد الفائزين، يأتيني الرزق ما سعت فيه القدم، ولا عرق الجبين، وأصيب من الطيب غير حسيب. إد إلى التقوى كما يئد البعير، وبد الكافر فإنه عند الله دحير، واتئد في أمرك فإن التؤدة من رب العالمين. وإذ كانت اللحى الشيب لا تكف عن قبيح، فكن ثدا ما حييت. واعلم أن الجدث جد ليس موضعه من الكلأ بحميد. وحاسب نفسك على ما أصبت فإنك بالمحاسبة جدير، والخد المتصعر سيوضع من الأرض في أخدود. فذد الخطايا عنك كما تذاد الزرق المترنمات؛ فإن ذيادها يسير، وأرد على آمرك بغير الجميل، وزد عملك عن الخير إن وجدت المزيد. وإياك وسدا لا ضياء فيه، وشد الحسنة وثاق الطائر، ولا تأمنن أن تبين، وصد أفعال الخير، فإن صادتها ليسوا بكثير. ومت وإناؤك من الصدقة ضديد، وطد بناءك على أس، حسنك معدود، وسيئك ليس بعديد. اغد على ذكر الله، وأمس إليه، فنعم الصاحب والضجيع. وفد ناهيك عن المنكر مع المفدين، وقد نفسك إلى الواجب ولو بجرير، وكد معاديك بأن تجتنب أفعال الكائدين. ودل السائل إذا لم تعط لتكون نعم الدليل، ودم على ما قربك من الأبرار الطيبين، ودن من فعل خيرا معك فإنك مدين، وفي خالقك ود إن كنت من الوادين، وضع الأيدي عند من ذم وشكر، فإن الله رزق الشاكر والكنود، واعلم أن الحياة أخبرت عن الموت كما دل على الكلمة بالحروف هاج.»
1
ولست أفسر غريب هذا الفصل فقد فسره أبو العلاء في الفصول والغايات، فارجع إليه، ومن الخير أن تفعل، بل لعلي لم أكتب هذا الحديث إلا لأرغبك في الإلمام بهذا السجن الذي يزار فيه الشيخ. ولست أفصل ما في هذا الفصل من خصال فنية مختلفة رائعة، فقد يطول ذلك، وقد لا يتسع له وقت المعجل الذي يتهيأ لسفر قريب.
وإنما أقف عند ثلاثة أشياء سجلها أبو العلاء في هذا الفصل، ومن الخير أن تسجل في هذا الحديث للأسباب التي قد أشرت إليها آنفا.
وأول هذه الأشياء رأي أبي العلاء في أن الشر غريزة في الحيوان قد برئ منها الجماد، فالشر يدور مع الحياة وجودا وعدما، وهو يقوى كلما قوي حظ الكائن من الحياة، ويبلغ أقصاه حين يبلغ حظ الكائن من الحياة غايته، فيجمع الحس والشعور، والإرادة والعقل. وهذه الفكرة هي التي فصلتها في أول هذا الحديث، وهي شائعة في اللزوميات، وفي الفصول والغايات جميعا. والمثل الذي ضربه أو العلاء في هذا الفصل لا يخلو من دلالة، فهذا عاثر قد عثر بحجر في طريقه، فدميت أصبعه، فأيهما المسئول عن هذا الشر؟ ليس هو الحجر من غير شك، ولكنه واضع الحجر في موضعه، هذا الذي جعله عرضة لأن يؤذي من قد يمر فيعثر به، والعاثر نفسه؛ لأنه لم يتبين موضع قدمه، ولم يقدر لرجله موضعها قبل الخطو، كما يقول الشاعر القديم.
وما ينبغي أن تقف عند المعنى القريب لهذه الجملة من حديث أبي العلاء، فأبو العلاء أذكى وأعمق فلسفة من أن يقف عند هذا المعنى في تفكيره، فكن أنت من الذكاء ونفاذ البصيرة بحيث تستطيع أن تسمو معه إلى ما أراد. وأكبر الظن أن هذه الصورة المادية رمز لصور معنوية كثيرة، فما يكون في حياة الناس من شر يتصل بأجسامهم وأعمالهم، وإرادتهم، وسيرتهم بوجه عام، إنما ينحل في حقيقة الأمر إلى نوعين من أنواع التبعة: أحدهما تبعة الذي هيأ أسباب هذا الشر، وجعلها في مواضعها من حياة الناس، بحيث يعثرون بها، ويتورطون فيها. فلو لم تتهيأ هذه الأسباب لما عثر الناس ولا تورطوا، فهذه تبعة إيجابية هي تبعة خلق العالم كما هو، وفيه ما فيه من أسباب الشر.
والنوع الثاني تبعة الناس الذين يرون أسباب الشر فلا يتجنبونها، ولا يعدلون بأنفسهم عنها، وإنما يقبلون عليها، ويسرعون إليها، فهذه تبعة سلبية. وأيسر ما يستخلص من تحقيق هاتين التبعتين أن الإنسان ليس مسئولا كل السؤال عن سيئاته؛ لأنه لم يبتكر أسبابها، ولم يخلق دواعيها، ولم ينصب أشراكها في طريقه. ولكنه في الوقت نفسه ليس معفى كل الإعفاء من هذه السيئات؛ لأن له عقلا يهديه في هذا الطريق، ويدله على مواضع هذه الأشراك، فمن الحق عليه أن يهتدي وهو ملوم إذا لم يفعل. وإذن فهو الجبر الملطف، إن صح هذا التعبير، الجبر الذي يعذر الإنسان بعض العذر، ولكنه لا يعفيه من التبعات كلها.
الجبر الذي يبيح لأبي العلاء أن يلوم الناس على آثامهم، ويأمرهم بالخير، ويفرض عليه أن يحتاط لنفسه فيصطنع الخير ما وجد إلى ذلك سبيلا، ويكف أذاه عن الأحياء ما وسعه أن يكف أذاه عنهم.
وهذا الرأي من آراء أبي العلاء شائع في اللزوميات شيوعا شديدا على تفاوت في ذلك، فهو مرة يسرف في الجبر، ومرة يقتصد فيه، وهو على كل حال يؤمن بمقدار منه يتيح له أن يطمع في العفو مهما تعظم السيئات إذا كانت التوبة النصوح. على أنه قد يسوء ظنه، ويشتد خوفه، ويعظم يأسه، فيكاد يقنط من روح الله قنوطا.
هذا كله حين يفكر في نفسه، وفي الناس، وفي حياتهم العاملة، وفيما قد يصيبهم أو لا يصيبهم من التبعات. أما إذا فكر في الأمر تفكيرا فلسفيا مطلقا، فهو يمضي في الجبر إلى أبعد حدوده، ولعله يتجاوز الجبر إلى ما هو أعظم منه خطرا؛ فلا ينكر التكليف، ولا يجادل في أن الثواب والعقاب عدل، وإنما ينكر البعث إنكارا، ويصبح ماديا أبيقوريا بأوسع معاني هذه الكلمة، وأدقها في وقت واحد.
والشيء الثاني الذي أريد تسجيله من هذا الفصل هو رأي أبي العلاء في النفس، وهو رأي يثبته في اللزوميات كما يثبته هنا، وهو متصل بالرأي الذي صورته آنفا، فالحياة مصدر الشر؛ لأن النفس مصدر الحياة، والجسم من غير النفس جماد، لا يحسن ولا يسيء، وإنما يبدأ إحسانه وإساءته حين تنبعث منه النفس فيحيا. وأبو العلاء يلوم نفسه ويزجرها، ويرى أنها تحاول أن تخدعه وتغشه، ويأبى عليها هذا الغش، وذلك الخداع، ويعلن إليها أنه لو استطاع فراقها لفعل فطلقها كما تطلق الزوج، أو أعتقها كما تعتق الأمة، أو ذبحها كما تذبح الشاة، وهو على كل حال يدعوها إلى فراقه، وإلى أن تنزل بعد هذا الفراق حيث تشاء.
ورأي أبي العلاء هذا في النفس مثبت في اللزوميات كما قدمت. واقرأ قوله:
أعائبة جسدي روحه
وما زال يخدم حتى ونى
وقد كلفته أعاجيبها
فطورا فرادى وطورا ثنا؟
والمهم هو أن نعرف من الذي يتحدث إلى نفس أبي العلاء بهذا الحديث، ليس هو جسم أبي العلاء من غير شك، فالجسم وحده جامد هامد لا يرسل حديثا، ولا يرجع صدى. وليست هي نفس أبي العلاء من غير شك، فالنفس لا تتحدث إلى نفسها بهذا الحديث، ولا تنذر نفسها هذا النذير، ولا تأمر نفسها بفراق نفسها. وإذن فهو العقل الذي ينظر إلى النفس والجسم جميعا، ويفكر فيهما، وفيما بينهما من صلة، ويمتاز منهما ويصرفهما إن استطاع تصريفهما فيما يريد. فالشخص الإنساني عند أبي العلاء مثلث لا مزدوج، جسم لا يحسن ولا يسيء، وإنما هو خادم مسير لسيده، أو قل لسيدته، ونفس تسيء بطبعها ولا تحسن إلا أن تهدى فتهتدي، وعقل يحاول أن يدبر أمر النفس والجسم جميعا. وهذا التثليث في شخص الإنسان أبيقوري أيضا، فأبيقور يصور الفرد الإنساني، ويصوره بعده لوكريس على أنه جسم تشيع فيه نفس هي مصدر الحركة والشعور والحس، وهي مصدر الحياة، وعقل مستقر في الصدر هو الذي يأمر النفس فتعمل، وينهاها فتكف.
ولكن الأبيقوريين لا يرون خلود النفس، ولا يرون خلود العقل، وإنما يرون أن الموت يحل الجسم والنفس والعقل جميعا، وأن مادة هذه الكائنات الثلاثة تنحل بعد الموت إلى أصولها، وتستأنف وجودها وتطورها المادي على نحو ما كانت قبل وجود الفرد.
أما أبو العلاء فقد اضطرب في هذا أشد الاضطراب؛ لأنه قرأ فلسفة الفلاسفة الذين يرون خلود النفس، ولم يقو على جحدها كما جحدها الأبيقوريون، وعرف الديانات السماوية، وفيها ما فيها من أمر البعث والنشور، فلم يزده هذا إلا اضطرابا إلى اضطراب. وإذا هو ينكر البعث حينا، ويثبته حينا، ويرى خلود النفس مرة، وفناءها مرة أخرى، ويقطع من مذهب الأبيقوريين بفناء الجسم وتفرقه بعد الموت، وخضوعه لكل ما تخضع له المادة من ألوان التطور والانتقال.
وقد فكر أبو العلاء في هذا كله، وفي غير هذا كله من الأمور الفلسفية منذ عهد الشباب، ولم يبلغ الثلاثين حتى كان رأيه في أمر سيرته على الأقل قد استقر.
وهذا هو الشيء الثالث الذي أريد تسجيله من هذا الفصل، والذي أراه عظيم الخطر جدا في تاريخ الحياة الفلسفية لأبي العلاء. ويكفي أن تقرأ هذه القطعة لترى أن أبا العلاء لم يبلغ الثلاثين حتى غير حياته التي كان يشارك الناس فيها، واستأنف حياة جديدة هي التي أنتجت لنا اللزوميات والفصول والغايات:
ما زلت آمل الخير وأرقبه حتى نضوت كملا ثلاثين، كأني ذبحت بكل عام حملا أبرق، بياضه الأيام، وسواده لياليه. وهيهات! كأنني قتلت بالسنة حية عرماء! إن الزمن كثير الشرور. فلما تقضت الثلاثون وأنا كواضع مرجله على نار الحباحب، علمت أن الخير مني غير قريب!
ثم يمضي أبو العلاء بعد ذلك في ألوان من الوعظ إن صورت شيئا فإنما تصور أخص ما أخذ نفسه به من خصال الخير.
فلندع هذا الفصل، وإن كنت أود إطالة الوقوف عنده لننتقل إلى فصل آخر ليس أقل منه خطرا.
فاقرأ هذا الفصل:
أنا كسير الجناح، فمتى نهضت أنهضت، ولو صلحت للبذلة لكنت السعيد، ولكن حال الجرير دون البرير، إنما أنا حي كالميت أو ميت كالحي! وما اعتزلت إلا بعد ما جددت وهزلت، فوجدتني لا أنفذ في جد ولا هزل، ولا أخصب في التسريح ولا الأذل، فعلي بالصبر، لا بد للمبهمة من انفراج!
2
فأبو العلاء يعلل لنا في هذا الفصل إيثاره للعزلة بعد أن علل في الفصل الذي فرغنا من الحديث عنه إيثاره للحياة الفلسفية. وهو في ذلك الفصل ينبئنا بأنه ظل ثلاثين سنة يأمل الخير ويرقبه، ويعاني مع ذلك ألوان الشدة والسهول، يعد في هذا الانتظار أعوامه، بل أيامه ولياليه، فلما بلغ الثلاثين ولم يبلغ الخير استيأس منه، واستأنف حياة جديدة.
وهو في هذا الفصل ينبئنا بأنه كسير الجناح، لا يستطيع أن ينهض وحده، وإنما هو مستطيع بغيره، كما قال في غير هذا الموضع، ولو استطاع بنفسه لكان سعيدا. وفقد بصره هو الذي اضطره إلى هذا العجز، وهو ينبئنا بأنه قد شارك الناس في جدهم وهزلهم، فرأى أنه لا ينفذ في جد ولا في هزل. وليس فقد بصره وحده هو الذي أعجزه عن أن ينفذ في الجد والهزل، فقد جد قبله بشار وهزل. وإنما أعجزه عن ذلك فقد بصره، وأعجزته عن ذلك طبيعته التي كانت إنسية الولادة، وحشية الغريزة، وأعجزته عن ذلك فلسفته التي اضطر إليها، بعد أن ارتقب الخير ثلاثين عاما فلم يظفر به. وإذن فلم يكن له بد من أن يتم حياته الفلسفية الجديدة بهذه العزلة التي ينقطع بها عن الناس، وعما يكونون فيه من هزل وجد. والعزلة شاقة عسيرة الاحتمال، فليستعن عليها بالصبر، فلا بد للمبهمة من أن تنفرج حين يأتي الموت، فيريحه ويريح منه!
وما أعرف أروع من هذين الفصلين في تصوير الناحية الإنسانية من شخص أبي العلاء، على أن الصبر لم يكن هينا عليه دائما، وإنما كان يعوذه أحيانا، فيكاد يخرج عن طوره لولا فضل من قوة الإرادة، وحزم الأمر، وضبط النفس. فاقرأ هذا الفصل الذي يصور ضيقه بالعزلة، ويأسه مما كان قدر أنه قد يظفر به فيها من الأمن، وراحة الضمير، والعزاء عن تركه بغداد.
فإذا هو لا يظفر من هذا كله بشيء، وإذا هو يندم على ترك العراق بعد أن انقطعت الأسباب بينه وبين العراق، كالراهب يفرض على نفسه لزوم الدير، ثم يتبين له بعد فوات الوقت أنه قد حاول ما لا يطيق فيندم حين لا يغني الندم عنه شيئا.
وقد كان أبو العلاء يرى ترك العراق ولزوم بيته لونا من ألوان الطاعة والبر، والتواضع، والإعراض عن غرور النفس، وكذب الشهرة والصيت. فلما تم له من ذلك ما أراد رأى أنه قد حرم خيرا لا تطيب عنه نفسه، فما عسى أن يكون هذا الخير؟ ليس خيرا ماديا، فلم يكن أبو العلاء ناعم البال في العراق، ولا مستمتعا بطيبات الحياة، وإنما هو خير عقلي، هو هذه الحياة العلمية الفلسفية التي كان يحياها بين إخوانه وأصفيائه من العلماء والأدباء والمفكرين: «لا عتيبة بقي ولا قتيبة، كم فتى من هذيل، يضرب بالذيل، كان العذيق والجذيل، غودر برمل أو رميل، ما خلفه النضر بن شميل، خير من خلف أبي مليل، والفرخ أبي العديل. عيلا عيلا! قد ورث كعب جعيلا، وترك عتر قيلا، وسار في توبة رثاء ليلى، ثم أضحوا بالترب هيلا، لم يصيدوا جميلا. طويت المنازل عن العراق كأنني في الطاعة، وأظن ذاك بعض المعصية، وأحسبني لو وفقت لانقلبت عائدا على أدراج!»
3
وقد يبلغ الضيق بأبي العلاء أقصاه، وينتهي الحرج به إلى أبعد آماده، فيفكر في أن يصوم عن الطعام والشراب حتى يدركه الموت، ولكنه خائف دائما، خائف مما بعد الموت، فهو مضطر إلى أن يصبر، وإلى أن يحتمل، يؤثر ذلك على أن يسرع إلى الموت، فيلقى من ورائه ما يكره. فاقرأ أول هذا الفصل:
لو أمنت التبعة لجاز أن أمسك عن الطعام والشراب حتى أخلص من ضنك الحياة، ولكن أرهب غوائل السبيل!
4
هو إذن في الفصول والغايات كما هو في اللزوميات؛ يائس من الخير لنفسه وللناس، مضطر إلى الفلسفة والعزلة، يأخذ بذلك نفسه؛ لأنه يقدر عليها، ولا يأخذ بذلك الناس؛ لأنه لا يقدر عليهم، فهو ينصح لهم حين يأمرهم باصطناع الخير، واجتناب الشر، وإيثار العافية ما وجدوا إلى ذلك سبيلا. والآلام الكبار التي يشكو منها أبو العلاء في اللزوميات وفي الفصول والغايات، والتي دعته إلى هذه الفلسفة، وإلى هذه السيرة العنيفة الشاقة قليلة إن أردنا إحصاءها، ولكن آثارها ونتائجها لا تحصى؛ فأبو العلاء يشكو فقد بصره، وفقد أبويه، واضطراره إلى ترك بغداد. وكل ما يكون في حياته من ألم يمس شخصه إنما يتصل بهذه الألوان من الحرمان، فرضت عليه فكونت له هذا المزاج الحاد، يحس كل شيء كأدق ما يكون الحس، ويشعر بكل شيء كأقوى ما يكون الشعور المظلم الذي لا يكاد يتصل بشيء حتى يسبغ عليه ظلمته القاتمة مهما يكن مشرقا مضيئا.
وليس كتاب الفصول والغايات أنينا وشكاة على هذا النحو الذي رأيته فيما رويت لك من الفصول، وإن كان من العسير أن تجد في كتاب الفصول والغايات فصلا لا شكاة فيه ولا حزن، فقد كان أبو العلاء كله شكاة وحزنا! ولكن أبو العلاء يخرج أحيانا عن حزن نفسه ومللها إلى جمال الفن الخالص وروعته. يأخذ في القصة فتعجبه فيمضي في تصويرها، ولعله يجد في هذا التصوير تسلية وعزاء، فيبسط ويطيل، ويأخذ في التفسير بعد ذلك فيعجبه العلم ويروقه، فيطنب فيه ويطيل، ويظهرنا - كما قلت - على كنوز لا تحصى كهذا التفسير الذي عرض فيه لأضرب الغناء، ففسرها لنا تفسيرا واضحا جليا، أرجو أن يعني به أصحاب الموسيقى والغناء، فسيجدون فيه حلا لرموز الأغاني.
5
وما أكثر ما يطرفنا به أبو العلاء في تفسيره مما يمس تاريخ العروض، وتاريخ ما يعرف الجاهليون، وما لم يعرفوا من أوزان الشعر. وقد تغلبه الطبيعة الفنية على نفسه، فإذا هو يتكلف الوعظ تكلفا، يتخذه وسيلة إلى عرض ما يريد أن يعرضه من الصور. وربما كان من الظريف أن تقرأ هذا الفصل الغريب الذي أسجله لغرابته؛ ولأنه يوشك أن يكون لغزا، وأمثاله في الفصول والغايات كثير، فاقرأه وسل نفسك عما أراد به أبو العلاء:
عجبت وفي القدرة عجب، فوحد الله فيمن وحد، لدابة لا رجل لها ولا يد، إذا غفل عن الجسد من كان له يتعهد، نشأت من الإهاب، فإذا ظفر بها البائس جعلها بين ظفريه، فأسمع أذنه لها صوتا، أف لها عقيرة وأف له طالب ثأر! إن الله لصفوح وهاب.
لو تركها البائس لنشأ لها أخوات، فكثرن كثرة النبات، فأوقعن البشرة في التهاب.
سبحان خالق النسمة، الباكية والمبتسمة. ما تقول غبراء مترنمة، هي بالتسبيح مهينمة، تستتر في الأوقات الشبمة، وتبرز أوان الغتمة، القسمة بها موسمة، تنفذها بمولمة، أحد من غروب السلمة، توقظ المؤمن إلى الحسنات الجمة، والكافر لغير مكرمة، أمجوسية هي أم مسلمة، أما القراءة فزمزمة، ليست عن الدم بملجمة، بل من الأمم المتقدمة، لا ترى اجتناب النشمة، وتقنع بفصيد السنمة، قينة غير معلمة، تجيبها ألف رنمة، لا يفهم عنهن الفهمة، لو جاءت كل واحدة بكلمة، أوفين على نظام النظمة، تقع على الخادر بالأجمة، بين القصرة والجمجمة، إنها لمتهجمة، كأنها في القصب تراسل القصاب.
6
فواضح جدا أن الناحية الفنية هي التي غلبت أبا العلاء على هذه الفصول، وإن استطاع أن يجعل بينها وبين الحكمة والموعظة سببا.
وهناك فن يكثر منه أبو العلاء في الفصول والغايات كما أكثر منه في اللزوميات، وهو الملاءمة بين أسماء النجوم والكواكب، وأسماء الناس والحيوان، والعبث بهذه الملاءمة في شيء من السخرية بالناس وما سموا، وبالأوهام وما خيلت لأصحابها. وهو في ذلك يذهب المذهب الذي أشرنا إليه أثناء الحديث عن بعض قصائد اللزوميات مذهب لوكريس في إنكار أوهام الناس، والعبث بما يكون بين الألفاظ من تشابه يضربه مثلا لما يكون بين الصور من تشابه، وربما كان بعض هذا الفصل مغنيا في الدلالة على هذا الفن الذي يستغله أبو العلاء، فيستخرج منه كثيرا من الحكم والمواعظ، وكثيرا من روائع الفن أيضا.
قال أبو العلاء:
هل مازن وهوازن القبيلتان في ملك الله إلا كمازن النملة، والهوازن من الطير النافرة؟ وكذلك كلاب بن ربيعة، وكلب بن وبرة، إنما هما كلب مفرد، وكلاب مستنبحة. وقضاعة بن مالك كالدابة الخارجة من خضارة، وقريش كذاك، وفرقد السماوة كفرقد السماء، والجرباء ذات النجوم بمنزلة الناقة الجرباء.
7
وفي أثناء هذا اللعب الفني الكثير بالألفاظ والمعاني على اختلافها وتباينها يلقى أبو العلاء هنا أو هناك هذا الفصل أو ذاك، فيضطرك إلى أن تقف حائرا مبهوتا، تسأل ماذا أراد، وإلام قصد، وفيم فكر. ولا تكاد تطيل النظر في هذا الفصل أو ذاك حتى تستكشف أن أبا العلاء قد عرض لمشكلة من أشد المشكلات الفلسفية خطرا، فأمضى فيها رأيه الذي خطر له في اللحظة التي كان يكتب فيها، وأمضاه مسرعا لبقا كأنما يسترقه منك استراقا، أو كأنما يسترق طريقه إلى نفسك، فيلقي فيها هذا الرأي الخطير مسرعا، ثم يمضي في طريقه فيستأنف فصلا من هذه الفصول المألوفة التي يكثر فيها العبث اللفظي، والمعاني القريبة.
ولأضرب لذلك مثلا هذا الفصل الذي تقرأه فتبتسم وقد تضحك، ولكنك لا تكاد تمضي في قراءته حتى يأخذك شيء من الدهش، يعظم قليلا قليلا، فإذا فرغت من قراءة الفصل وقفت حائرا مبهوتا، ثم لا تكاد تفكر حتى ترى أنك بإزاء مشكلة من أخطر المشكلات. فاقرأ هذا الفصل أولا:
يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه، ويسمع الأصوات بيده، وتكون بنانه مجاري دمعه، ويجد الطعم بأذنه، ويشم الروائح بمنكبه، ويمشي إلى الغرض على هامته، وأن يقرن بين النير وسنير، حتى يريا كفرسي رهان، وينزل الوعل الرعل من النيق، ومجاوره السوذنيق، حتى يشد فيه الغرض، وتكرب عليه الأرض، وذلك من القدرة يسير. سبحانك ملك الملوك، عظيم العظماء!
8
أترى إلى هذا الإنسان الذي صوره أبو العلاء بخياله هذا الغريب ناظرا بقدميه، ماشيا على رأسه، سامعا بيديه، باكيا بأصابعه، ذائقا بأذنيه ؟! أترى إلى هذين الجبلين قد استقر أحدهما في الشام، والآخر في نجد، وقد جمع بينهما في قرن فهما يستبقان؟ أترى إلى الوحش التي ألفت أعالي الجبال، وقد تغير إلفها، فاطمأنت في السهول المنخفضة؟ أترى على الجملة إلى هذه المفارقات التي تكثر في الفصول والغايات كثرة تثير الدهش حقا؟ ماذا أراد بها أبو العلاء؟ أما ظاهر هذا الفصل فواضح لا غموض فيه، فأبو العلاء ينبئنا بأن قدرة الله شاملة، تسع كل شيء ممكن في رأي العقل، وأن هذا العالم كما هو ليس إلا صورة ممكنة من صور أخرى ممكنة أيضا، وأن الذي أوجد هذه الصورة الممكنة قادر على أن يوجد غيرها من الصور. وهذا كما ترى لون من ألوان التمجيد لله، والإشادة بقدرته الشاملة. ولكن أمن الحق أن أبا العلاء لم يقصد إلا إلى هذا؟ أمن الحق أننا نستطيع أن نكتفي منه بظاهر القول، وهو الذي يقول:
لا تقيد علي لفظي فإني
مثل غيري تكلمي بالمجاز
وهو الذي ينبئنا في غير موضع، وفي غير كتاب بأنه يؤثر الرمز، ويصطنع الألغاز، ولا يكره التحرز بالتقية. وإذن فماذا أراد بهذا الفصل وأمثاله، وماذا أراد بهذه المفارقات التي بثها فيما ترك من شعر ونثر؟
أما أنا فما أشك في أن أبا العلاء قد قصد بهذا الفصل خاصة إلى رأي من أشد الآراء الفلسفية الأبيقورية خطرا، وهو إنكار العلة الغائية، وإثبات أن العالم كما هو لم يخلق لغاية معينة من هذه الغايات التي نعرفها نحن، ونزعم أن الأشياء قد خلقت لتحقيقها.
وقد صور أبيقور وصور لوكريس من بعده هذا الرأي تصويرا قويا رائعا، فليس من الحق عند الأبيقوريين أن العين خلقت ليبصر بها الناس، ثم ليحققوا بهذا الإبصار ما تعودوا أن يحققوا من أغراضهم ومآربهم، وليس من الحق أن القدمين قد خلقتا ليمشي عليهما الناس، وإنما أبصر الناس بالأعين؛ لأنها وجدت كذلك، ومشى الناس على الأقدام؛ لأنها وجدت كذلك. أو قل كما يقول لوكريس أن الأعضاء قد أوجدت غاياتها، ولم توجد هي لتحقيق هذه الغايات . وإذن فمن الكبرياء المسرفة أن يظن الإنسان أنه قد اهتدى إلى أسرار الكون، ومن الكبرياء المسرفة أيضا أن يظن الإنسان أنه الغاية من وجود العالم، وأن الطبيعة قد خلقت له، وسخرت لمنافعه وأغراضه. والحق على الإنسان أن يقتصد ويتواضع في حياته العقلية والعملية أيضا، في حياته العقلية فلا يزعم أنه قد عرف الحقائق كلها، واستكشف الأسرار كلها، ولا يزعم أن بارئ هذا الكون قد فكر كما يفكر الإنسان، وقدر كما يقدر الإنسان، وأنشأ الأشياء لأغراض يسيرة ضئيلة كهذه الأغراض التي يتصورها الإنسان.
وفي حياته العملية فلا يغلو في إكبار نفسه وفي انتحال ما ينتحل لها من السلطان على الكائنات، ولا يزعم أنه خلق ليسود الطبيعة، فيجب أن تستذل له الطبيعة كلما أراد لها إذلالا.
وليس الذي يعنيني أن يكون هذا الرأي الذي يراه الأبيقوريون ملائما أو غير ملائم لأصول الديانات السماوية، وإنما الذي يعنيني هو أن أبا العلاء قد أخذ بهذا الرأي الأبيقوري كما أخذ بغيره من آراء أبيقور. فإذا كانت قدرة الله تستطيع أن توجد العالم على غير صورته التي نعرفها، وأن تضع ملكة الإبصار في القدمين، وملكة الشم في المنكبين، وملكة السمع في اليدين، وملكة الذوق في الأذنين، وتستطيع أن تجعل سهول الأرض وجبالها في غير الأماكن التي قسمت لها، وأن تقر في السهل ما ألف الجبل، وفي الجبل ما ألف السهل، فلماذا اختارت قدرة الله هذه الصورة الواقعة دون غيرها من الصور الممكنة؟
أما أبو العلاء فجوابه يسير لا غبار عليه، وهو يوافق الأبيقوريين من ناحية، ويخالفهم من ناحية أخرى. جوابه يسير، وهو أن لله حكمة لا يفهمها الإنسان، ولا يستطيع العقل أن يبلغ كنهها.
وإذن؛ فكل ما يصل الإنسان إليه من التحليل والتعليل في أقضية العقل، وكل ما يصل الإنسان إليه من الغرور والتسلط على الأحياء والأشياء باطل لا أصل له. ليس من حق الإنسان أن يأكل الشاة؛ لأنها لم تخلق ليأكلها، ولا أن يشرب اللبن؛ لأنه لم يخلق ليشربه، ولا أن يختلس ضرب النحل؛ لأن النحل لم تجمع ضربها له، وإنما جمعته لأنفسها. وقصيدة أبي العلاء في اللزوميات صريحة واضحة في هذا كله:
غدوت مريض العقل والدين فالقني
لتسمع أنباء الأمور الصحائح
فأبو العلاء هنا موافق ومخالف للأبيقوريين، يوافقهم في إنكار العلة الغائية، ويخالفهم في اعترافه بحكمة الله هذه التي لا يفهمها العقل. فالأبيقوريون - كما هو معروف - ماديون لا يعترفون بقدرة الإله على شيء من الخلق.
وأبو العلاء ليس مؤمنا بالله - كما قلنا - غير مرة فحسب، ولكنه شديد الحرص على تنزيهه. يبلغ به حرصه على هذا التنزيه أن يشارك المعتزلة في الارتفاع بالله عن الصفات فيقول:
لا أعلم كيف أعبر عن صفات الله، وكلام الناس عاة واصطلاح! وإن فعلت ذلك خشيت التشبيه، وأشركت الضعفة العاجزين مع القوي القادر في بعض المقال، إذا قلت فعل الأول وفعل النعمان. وهيهات! ما أبعد بين الفعلين! لولا اجتهاد الناطق لفضلت السكوت، كيف يوصف بشيء خالق الصفات؟
9
ومع أنه ينكر الصفات كالمعتزلة، وينكرها لنفس الأسباب التي حملت المعتزلة على إنكارها، وهي خشية التشبيه، وأن خالق الصفات لا يمكن أن يوصف بها، فهو يخالف المعتزلة أشد الخلاف في أهم أصل من أصولهم الأولى، وهو تخليد صاحب الكبيرة في النار. فأبو العلاء يثبت العفو، ويثبته في غير تحفظ ولا اقتصاد. فاسمع له كيف يصور ما يمكن أن يقترف من الذنوب، وما يمكن أن يمحو هذه الذنوب من عفو الله في كلام رائع لا ينقصه من الشعر إلا الوزن:
لا آيس من رحمة الله، ولو نظمت ذنوبا مثل الجبال سودا كأنهن بنات جمير، ووضعتهن في عنقي الضعيفة كما ينظم صغار اللؤلؤ فيما طال من العقود، ولو سفكت دم الأبرار حتى أستن فيه كاستنان الحوت في معظم البحر، وثوباي من النجيع كالشقيقتين، والتربة منه مثل الصربة، لرجوت المغفرة إن أدركني وقت للتوبة قصير، ما لم يحل الغصص دون القصص، والجريض دون التعريض. ولو بنيت بيتا من الجرائم أسود كبيت الشعر يلحق بأعنان السماء، ويستقل عموده كاستقلال عمود الوضح، وتمتد أطنابه في السهل والجبل كامتداد حبال الشمس، لهدمه عفو الله حتى لا يوجد له ظل من غير لباث!
10
وأين يقع من هذا الجد الرائع هذا الشعر العابث لأبي نواس حين يقول في ظرفه المعروف:
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
لا تحظر العفو إن كنت امرءا فطنا
فإن حظركه بالدين إزراء
ولا بد من أن أصور لك تردد أبي العلاء بإزاء البعث في كتاب الفصول والغايات كما تردد بإزائه في اللزوميات. فهو في هذا الفصل القصير يقطع بوجود الأرواح متعالية عند ربها بعد أن تبلى الأجسام في القبور، ولكنه لا يعرف أمنعمة هي أم معذبة، فيقول: «الديار خالية، والأجساد في الحفر بالية، والأرواح عند ربنا متعالية، لا يعلم أنعيم هي فيه أم عذاب.»
11
ومن قبل هذا صور شكه في البعث تصويرا رائعا مؤلما، فذكر أنه يرى الموتى فيما يرى النائم فيسمع منهم، ويتحدث إليهم، ويكاد يصدق ما يسمع لولا أنه يتهم خواطر الأحلام بالكذب، وذلك حيث يقول:
سبحانك مؤبد الآباد، هل للمنية نسب إلى الرقاد؟ لا أتخيل إذا انتبهت أحدا من الأموات، وإذا هجعت لقيني قريب عهد بالمنية، ومن قد فقد منذ أزمان، أسألهم فيجيبون، وأحاورهم فيتكلمون، كأنهم بحبل الحياة متعلقون. لو صدق الرقاد لسكنت إلى ما يخبر عن سكان القبور، ولكن الهجعة كثيرة الكذاب!
12
وما أحب أن أدع حديث البعث دون أن أروي هذا الفصل المؤثر الممتع الذي يذكر فيه أباه فيصلي عليه، ويهدي إليه التحية، ويعلن اليأس من لقائه. ولكن لماذا يعلن هذا اليأس؟ ألأنه يائس من البعث جملة؟ أم لأنه واثق بأن أباه يستمتع بنعيم الله، ومشفق من أن تضطره سيئات أعماله إلى الجحيم؟ قال أبو العلاء:
أدعوك وعملي سيئ ليحسن، وقلبي مظلم لكي ينير، وقد عدلت عن المحجة إلى بنيات الطريق. وأنت العدل ومن عدلك أخاف! يا من سبح له زرقة الأفق، وزرقة الماء، وحمرة الفجر، وحمرة شفق الغروب، وإن كان الدمع يطفئ غضبك فهب لي عينين كأنهما غمامتا شتي تبلان الصباح والمساء، واجعلني في الدنيا منك وجلا لأفوز في الآخرة بالأمان، وارزقني في خوفك بر والدي وقد فاد، بره إهداء الدعوة له بالغدو والآصال، فاهد اللهم له تحية أبقى من عروة الجدب، وأذكى من ورد الربيع، وأحسن من بوارق الغمام، تسفر لها ظلمة الجدث، ويخضر أغبر السفاة، ويأرج ثرى الأرض، تحية رجل للقيا ليس براج!
13
وبعد، فهل أراد أبو العلاء إلى معارضة القرآن في الفصول والغايات كما ظن بعض القدماء؟ نعم ولا. نعم إن فهمنا من المعارضة مجرد التأثر، ومحاولة المحاكاة، إن فهمنا من المعارضة أن أبا العلاء قد نظر إلى القرآن على أنه مثل أعلى في الفن الأدبي فتأثره وجد في تقليده، كما يتأثر كل أديب ما يعجب به من المثل الفنية العليا.
ذلك شيء لا شك فيه، فأيسر النظر في كتاب الفصول والغايات يشعرك بأن أبا العلاء حاول أن يقلد قصار السور وطوالها. وليس المهم أنه وفق في هذا التقليد أو لم يوفق، بل المحقق أن التوفيق لم يقدر له كما لم يقدر لغيره، بل المحقق أنه لم يظفر إلا بمثل سجع الكهان، ولكن المهم أن هذه المحاولة ظاهرة ملموسة في الكتاب، وهي لا تضير الشيخ، ولا تلزمه إثما ولا حوبا.
وأنا لا أفهم من المعارضة الاستجابة للتحدي، ومحاولة الإتيان بسورة أو سور مثل سور القرآن، فهذا خاطر ما أحسبه خطر لأبي العلاء، فقد كان أشد تواضعا من أن تبلغ به الكبرياء إلى هذا الحد، وقد كان أعقل من أن يطاول ما لا سبيل إلى مطاولته، وقد كان أحرص على الاحتياط والتحفظ من أن يعرض نفسه لمثل هذا الخطر العظيم.
أرأيت إلى كتاب الفصول والغايات كيف يشبه اللزوميات من كل ناحية، ولا يخالفها إلا من ناحية واحدة، وهو أنه منثور، وديوان اللزوميات منظوم؟ الموضوعات واحدة، والمذاهب الفلسفية واحدة، وطريقة عرضها مفرقة مختلطة طريقة واحدة، واضطراب الشيخ فيها وتردده بين متناقضاتها هو بعينه الذي نلحظه في الكتابين، والتقيد بهذه القيود العسيرة الثقيلة هو بعينه الذي نلحظه في الكتابين أيضا.
الفصول والغايات لا يناقض اللزوميات في شيء، وحسبك أن بعضه يناقض بعضا، كما أن بعض اللزوميات يناقض بعضا. ليس بين الكتابين تناقض، ولكن أحدهما متمم لصاحبه، ومفسر لما غمض فيه. وإذا كنت آسف لشيء فإنما آسف؛ لأن هذا الكتاب قد ذهب عنا أكثره، ولم يبق لنا إلا أقله، ومع ذلك ففي هذا الجزء الذي بقي منه غناء عظيم.
وما أشد حاجتنا إلى أن يدرس هذا الجزء درسا مفصلا دقيقا، ومن يدري! لعلي أفرغ لذلك، أو يفرغ له غيري من الباحثين ذات يوم!
هوامش
الفصل العاشر
ويزعجني السفر عن باريس، وعن غرفة أبي العلاء، فتطوى كتب الشيخ مرة أخرى، وتسلم إلى شياطين السفر، فتصاحبني إلى بروكسل حيث أشهد مؤتمر المستشرقين، فأشغل به عن الشيخ، وعن حديثه الحلو المر. ومن ذا الذي لا يشغل بمؤتمر المستشرقين، وحياة أعضائه حديث في العلم إذا كان النهار، وحديث عن العلم إذا أقبل الليل؟
ولكني أعود إلى باريس فلا أفرغ للشيخ، ولا أخلو إليه على كثرة ما كانت نفسي تنازعني إلى ذلك، وإنما هو الاضطراب العنيف الذي لا بد منه لمن يريد أن يهيئ العودة إلى مصر.
ثم تكون هذه العودة، فلا أكاد أبلغ القاهرة حتى ألقي نفسي في العمل الجامعي إلقاء، وإذا أنا أشغل عن كل شيء غير هذا العمل الجامعي، وإذا حديثي إلى الشيخ أو حديثي عن الشيخ ينقطع إلا في تلك اللحظات الحلوة التي كنت أنفقها مع الطلاب في قراءة أطراف من الفصول والغايات ساعة في كل أسبوع.
ساعة كانت تكلفني الخلوة إلى الشيخ بين حين وحين لأعد الدرس قبل أن ألقى به الطلاب، ولكني لم أكن أجد في هذه الخلوة إلى الشيخ من اللذة الفنية والمتاع العقلي ما كنت أجد حين كنت أخلو إليه في غرفة من غرفات هذا الفندق أو ذاك من فنادق فرنسا؛ لسبب يسير؛ وهو أني في فرنسا كنت أخلو إلى الشيخ حبا له، وإيثارا لنفسي بلذة حديثه، فأما في مصر فقد أزوره لألتمس عنده ما أقول للطلاب، كان غاية في فرنسا، وكان وسيلة في مصر، وشتان بين الغاية والوسيلة!
ثم أفرغ من شؤون الجامعة وأخلو إلى نفسي، يشهد الله لقد كان سجن أبي العلاء أول ما خطر لي، ولقد كان حديث أبي العلاء أول ما ملأ قلبي ونفسي وعقلي معا!
وإذا أنا أملي في أيام هذه الفصول التي أتم بها هذا الحديث، كما أمليت في أيام تلك الفصول التي بدأت بها الحديث.
وكم كنت أود لو طالت تلك الأيام فطال مقامي مع الشيخ في فرنسا، وكم كنت أود لو طالت هذه الأيام فاتصل مقامي مع الشيخ في مصر! ولكن السفر أزعجني عن الشيخ في العام الماضي، وهو يزعجني عن الشيخ في هذا العام، وإذا أنا أودع الشيخ كارها في هذه الليلة من ليالي القاهرة، كما ودعت الشيخ كارها في تلك الليلة من ليالي مورزين. وإذا أنا أتمثل قول الشيخ:
وإذا أضاعتني الخطوب فلن أرى
لوداد إخوان الصفاء مضيعا
خاللت توديع الأصادق للنوى
فمتى أودع خلي التوديعا؟
نعم، متى أودع خلي التوديع، وأفرغ لأبي العلاء عامين أو أعواما فأؤدي للزوميات، وللفصول، والغايات، ولأدب الشيخ كله، وعلمه كله ما هي أهل له من العناية، وما تستحقه من الدرس والبحث والاستقصاء؟
علم هذا كله عند الله.
القاهرة في 11 يونيو سنة 1939
Shafi da ba'a sani ba