Mabarhanat Firma Akhira
مبرهنة فيرما الأخيرة: المعضلة التي حيرت عباقرة الرياضيات لقرون
Nau'ikan
إن المعضلات المرتبطة بالأعداد، كتلك التي طرحها فيرما، هي أشبه بألعاب الألغاز، وعلماء الرياضيات يحبون حل الألغاز. وقد كانت بالنسبة إلى وايلز، لغزا مميزا للغاية جديرا بأن يكون طموح حياته. لقد ألهمته مبرهنة فيرما الأخيرة قبل ثلاثين عاما حين كان طفلا إذ تعثر بها في أحد كتب المكتبات العامة. وكان حلمه في مرحلة الطفولة والنضج هو أن يتوصل إلى حل لهذه المسألة، وحين أعلن للمرة الأولى عن توصله إلى برهان في صيف العام 1993، إنما كان ذلك نتاج سبع سنوات قد كرسها للعمل على حل هذه المسألة، وتلك درجة من التركيز والإصرار يصعب تخيلها. لم تكن العديد من التقنيات التي استخدمها قد ابتكرت حين بدأ في العمل. وقد جمع أيضا بين أعمال الكثيرين من علماء الرياضيات البارعين؛ فربط بين أفكار وابتكر مفاهيم لم يجرؤ أحد على الاقتراب منها. فمثلما أشار باري ميزور، اتضح أن الجميع كانوا يعملون على معضلة فيرما، لكن بصورة منفصلة، ودون أن تكون لهم هدفا؛ إذ كان البرهان يستلزم تطبيق كل قوة للرياضيات الحديثة، من أجل التوصل إلى إثباته. أما ما فعله أندرو، فهو أن ربط مجددا بين العديد من جوانب الرياضيات التي كانت تبدو شديدة البعد بعضها عن بعض. ومن ثم، فقد بدا عمله تسويغا لجميع أشكال التنوع التي خضعت لها الرياضيات منذ طرح المشكلة.
وفي صميم إثباته لمبرهنة فيرما، أثبت أندرو فكرة تعرف باسم حدسية تانياما-شيمورا قد شكلت جسرا جديدا بين اثنين من العوالم الرياضية الشديدة الاختلاف. إن الكثيرين يرون أن توحيد الرياضيات هدف جليل، ولم تكن تلك سوى لمحة لمثل ذلك العالم. ومن ثم، ففي إثباته لمبرهنة فيرما، دعم أندرو وايلز بعضا من أهم جوانب نظرية الأعداد في مرحلة ما بعد الحرب، ووطد الأساس لهرم من الحدسيات التي قد بنيت عليه. لم يعد ذلك حلا لأقدم الألغاز الرياضية فحسب، وإنما دفع لحدود الرياضيات نفسها. كان الأمر كما لو أن مسألة فيرما البسيطة التي ولدت في عصر كانت الرياضيات فيه في مهدها، ظلت في انتظار هذه اللحظة.
لقد انتهت قصة فيرما في أروع صورة. بالنسبة إلى أندرو وايلز، كانت تعني نهاية الانعزال المهني من نوع يكاد يكون غريبا تماما عن الرياضيات، التي عادة ما تكون نشاطا تعاونيا. إن طقس تناول شاي العصر في معاهد الرياضيات على مستوى العالم، هو وقت يكون المعتاد فيه هو اجتماع الأفكار وتبادل الرؤى قبل النشر. لقد كان الرياضي كين ريبت، الذي كان هو نفسه مساهما أساسيا في البرهان، هو من أخبرني بنبرة بين الجد والمزاح بأن قلق علماء الرياضيات هو ما يستلزم هيكل الدعم الذي يوفره زملاؤهم. أما أندرو وايلز، فقد تجنب كل هذا واحتفظ بعمله لنفسه في جميع المراحل عدا الأخيرة منها. وقد كان ذلك أيضا مؤشرا على أهمية فيرما. لقد كان مدفوعا بشغف حقيقي قوي لأن يكون هو الشخص الذي توصل إلى حل المسألة، وكان شغفه قويا بما يكفي لأن يكرس سبع سنوات من حياته ليحتفظ بهدفه لنفسه. لقد كان يعرف أنه بالرغم مما قد يبدو من افتقار المسألة إلى الأهمية، فإن المنافسة على فيرما لم تضعف قط، ولم يكن ليخاطر أبدا بأن يفصح عما كان يقوم به.
بعد أسابيع من البحث في المجال، وصلت إلى برينستون. وقد كان مستوى العاطفة قويا للغاية بالنسبة إلى رياضيين. لقد وجدت قصة تجمع بين التنافس، والنجاح، والعزلة، والعبقرية، والانتصار، والغيرة والضغوطات الشديدة، والخسارة، وحتى المأساة. ففي صميم حدسية تانياما-شيمورا بالغة الأهمية، تقع الحياة المأساوية التي عاشها يوتاكا تانياما في وقت ما بعد الحرب في اليابان، الذي حظيت بشرف سماع قصته من صديقه المقرب جورو شيمورا. ومن شيمورا أيضا تعرفت على مفهوم «الخيرية» في الرياضيات، حيث تبدو الأمور صوابا فقط لأنها خير. وقد كان شعور الخيرية يتخلل أجواء الرياضيات في ذلك الصيف على نحو ما؛ إذ كان الجميع ينعمون بتلك اللحظة المجيدة.
وفي خضم كل هذه الأحداث، لا يعجب المرء كثيرا من حجم المسئولية التي شعر بها أندرو مع ظهور العيب تدريجيا على مدى خريف العام 1993. فبالرغم من توجه أنظار العالم بأكمله نحوه، وبالرغم من مطالبات زملائه بنشر البرهان، تمكن بطريقة ما لا يعرفها إلا هو، من مواصلة العمل. لقد تحول فجأة عن العمل سرا بوتيرته الخاصة، إلى العمل علنا. إن أندرو رجل يقدر الخصوصية بدرجة كبيرة، وقد ناضل بقوة لحماية أسرته من العاصفة التي كانت تهب حوله. فعلى مدى ذلك الأسبوع الذي قضيته في برينستون، اتصلت به هاتفيا، وتركت الرسائل في مكتبه وعلى عتبة داره ومع أصدقائه، بل إنني قدمت هدية من الشاي الإنجليزي والمارمايت. ومع ذلك، فقد قاوم مبادراتي إلى أن حانت فرصة ذلك الاجتماع في يوم رحيلي. تلت ذلك محادثة هادئة مركزة، لم تتجاوز مدتها في النهاية خمس عشرة دقيقة.
كنا قد عقدنا اتفاقا في ذلك العصر قبل أن نفترق، وهو أنه إذا تمكن من إصلاح البرهان، فسوف يأتي إلي لمناقشة الإعداد لفيلم، وكنت مستعدا للانتظار. بالرغم من ذلك، فقد شعرت في تلك الليلة في رحلة عودتي إلى لندن، بأن أمر هذا البرنامج قد انتهى؛ إذ لم يتمكن أحد على الإطلاق من إصلاح أي فجوة في البراهين العديدة التي حاولت إثبات مبرهنة فيرما على مدى ثلاثة قرون. لقد كان التاريخ ممتلئا بالادعاءات الخاطئة، وبقدر ما كنت أتمنى أن يكون أندرو هو الاستثناء، فقد كان من الصعب أن أتخيل أنه سيكون أي شيء سوى شاهد ضريح في تلك المقبرة الرياضية.
وبعد عام، تلقيت المكالمة. فبعد تحول رياضي استثنائي، ووميض من البصيرة الحقيقية والإلهام، تمكن أندرو أخيرا من الانتهاء من أمر فيرما في حياته المهنية. وبعد عام آخر، وجدنا له الوقت الذي سيخصصه للتصوير. وبحلول ذلك الوقت، كنت قد دعوت سايمون سينج للانضمام إلي في صناعة الفيلم، وقضينا معا وقتا في صحبة أندرو، نتعرف فيه من الرجل نفسه على القصة الكاملة لتلك السنوات السبع التي قضاها في الدراسة المنعزلة، والعام العصيب الذي تلا ذلك. وفي أثناء التصوير ، أخبرنا أندرو، كما لم يخبر أحدا من قبل، عن جوهر مشاعره بشأن ما حققه. أخبرنا كيف أنه قد تمسك على مدى ثلاثين عاما بحلم طفولته، وكيف أن قدرا كبيرا من الرياضيات التي درسها على مدى حياته كانت - دون علم منه في ذلك الوقت - بمثابة جمع للأدوات من أجل معضلة فيرما التي هيمنت على حياته المهنية، وكيف أن كل شيء قد تغير لديه: شعوره بالفقد تجاه المسألة التي لن تعود رفيقه الدائم، وإحساس التحرر المشجع الذي كان يشعر به الآن. بالرغم من أن الموضوع الذي يدرسه هذا المجال يصعب فهمه للغاية على الجمهور من غير المتخصصين، فقد كان مستوى الانفعال العاطفي في محادثاتنا أعظم من أي شيء قد اختبرته في مجال صناعة الأفلام عن العلوم. لقد كانت نهاية فصل في حياة أندرو. وقد كان شرفا لي أن أكون قريبا منه.
أذيع الفيلم على شبكة «بي بي سي» التليفزيونية تحت عنوان «هورايزون: فيرماز لاست ثيورم» (هورايزون: مبرهنة فيرما الأخيرة). والآن، قد طور سايمون سينج تلك الرؤى والمحادثات الحميمية، مع كل ما تتضمنه قصة فيرما من ثراء وما يحيط بها من تاريخ وعلوم رياضية، وضم ذلك كله في هذا الكتاب الذي يمثل تسجيلا مكتملا وتثقيفيا بشأن واحدة من أعظم القصص في التفكير البشري.
جون لينش
محرر حلقات «هورايزون» من إنتاج شبكة «بي بي سي» التليفزيونية
Shafi da ba'a sani ba