Muhawarar Kimiyya da Zamantakewa
مباحث علمية واجتماعية
Nau'ikan
1
نشر البصير في أحد أعداده المتقدمة مقالة عنوانها «أ ب ت ث»، فأعجبني العنوان، وقمت أطالعها وأنا أنتظر أن يكون موضوعها، كما قام في ذهني، الحث على تعليم القراءة البسيطة لعموم الأهالي، خصوصا بعد ما ظهر من الإحصاء الأخير أن البلاد في تأخر عظيم من هذا القبيل. فإن سكان القطر يبلغون زهاء عشرة ملايين، وعدد الذين يقرءون لا يبلغ نصف مليون، نصفه من الغرباء الذين أكثرهم يحسن القراءة، وهذا العدد قليل جدا، ويضعف الأمل بنهوض البلاد من خمولها في زمن قريب. وإذا هي مقالة بليغة تبحث في أصل الحروف الهجائية، تهم المتبحرين في علم اللغات، بعيدة عما قام في ذهني عنها في أول الأمر.
غير أن نفس العنوان أفادني أن نبه أفكاري إلى هذا الموضوع المهم؛ أعني وجوب نشر القراءة بين الأهالي قبل أن نعمم بينهم تلك المباحث التي لا يفقهها إلا العلماء الذين أوتوا من العلم شيئا غير قليل؛ لئلا نكون كالكاتبين على صفحات الماء، أو الخاطبين في الصحراء.
ولا يخفى أن العلم اليوم دخيل في الشرق، أي إنه لم ينتشر فيه على قواعد سنن النشوء والارتقاء، فلم ينشأ في الأمة عن ميل عام فيها إليه دفعها إلى الترقي فيه شيئا فشيئا، بل جاءها من خارج مفاجأة لأسباب طبيعية واجتماعية، هي: تقريب المسافات بين الممالك بالاختراعات العظيمة، وسهولة اختلاط أمم المغرب بأمم المشرق بسبب ذلك. فتألفت من الأولين جمعيات لنشر العلم بين الآخرين، ومقصدها من ذلك نشر لغاتها، وترويج مصنوعاتها، وبسط حماياتها. وبالطبع لم يتيسر لهذه الجمعيات أن توفد وفودها إلى جميع الأماكن على حد سواء، فحيثما تمكنت من هذا الأمر انتشر العلم إلى درجة تعادل انتشاره في أوروبا، مع بقاء البلاد الثانية في ظلمات متلبدة من الجهل.
وهذا القول يصح خصوصا على الممالك العثمانية؛ فإن وفود هذه الجمعيات تمكنت من بعض البلاد تمكنا عظيما، وبلغت في نشر العلم فيها أقصى مبلغه في أوروبا نفسها، كما في بلاد سوريا، وخصوصا ولاية بيروت وجبل لبنان. وقد استفاد من ذلك المسيحيون أكثر من سائر الطوائف؛ فإنك لا تكاد تجد اليوم مسيحيا هناك لا يقرأ مهما كان فقيرا، للمناظرة الشديدة التي قامت في تلك الجهات بين المرسلين الأمريكانيين والمرسلين اليسوعيين، ولكن إذا كان قسم من البلاد هناك استفاد كثيرا في ملة من ملله، فجهات كثيرة من الممالك العثمانية لا يزال أهاليها على الفطرة لا يعرفون الألف من المئذنة، ولا الياء من القصعة.
ومثل هذه الحال تجعل مركز الفريقين صعبا جدا، ومركز الجامعة الوطنية من أحرج المراكز، وحكومات البلاد لم توفق إلى أحسن من ذلك؛ لأنها قامت من الأهالي، فلا يصح أن تكون في استعدادها أصلح منهم، ولكن حب التظاهر، الذي يكون في الضعيف أبلغ منه في القوي، حملها على أن تجاري نظائرها من الحكومات الأخرى التي تعتقد فيها الارتقاء في الصورة فقط لا في الحقيقة، وفي الظاهر لا في الباطن، فأخذت عنها كل ما رأته عندها على سبيل التقليد ، ووضعته في صدر البيت للزينة والتباهي، لا للفائدة والقوة، فشادت في عاصمة بلادها معالم للعلم كالقبور المكلسة تخدع العين ظاهرا، بحيث لو رآها الغريب الذي يكتفي بالظاهر، ولم يسبر أعماق البلاد بالوقوف على سائر أحوال الأمة، لحكم بأن البلاد كسائر الممالك المتمدنة لا ينقصها شيء من معدات التعليم، ولكنه لو طاف البلاد وزار القرى والدساكر، وخبر أحوال الأهالي؛ لضحك من سخافة عقول الحكام على هذا الفخار الفارغ؛ لعدم توفر المدارس البسيطة التي تعلم الناس أن يقرءوا: أ ب ت ث.
ولهذه الأسباب كانت أحوال الأهالي في ممالك الشرق متباينة جدا غير متناسبة، كأرض مختلط غورها بنجدها، فإنك لتجد فيها العالم الكبير بجنب الرجل الذي لا يزال على الفطرة؛ مما يجعل منظر البلاد مشوها كالوجه المشوه، عينان جميلتان وأنف كأنف ابن حرب، ومركزها الاجتماعي مضطربا جدا لعدم تقارب الجمهور في الأفكار والأميال. وإذا امتنع التناسب من أمة في القراءة والعلم خفت صوت الجرائد، ولم يلتفت إلى مطالبها؛ لأن الحكام كسائر البشر ربما ثقل عليهم الإرشاد، فضلا عن أنهم في مراكزهم التي نالوها ببذل النفس والنفيس أحيانا لا يطلبون بعد تحقيق الأمل إلا الراحة من العمل إن لم يخشوا عصا الأمة، وكيف تخشى عصا أمة لا تقرأ ما يطلب لها، ولا تعرف ما تحتاج إليه؟ ولذلك كانت أصمخة آذان أكثر حكام المشرق مسدودة إلا عما يخدش مسامعها الشريفة البالغة الغاية القصوى في الإحساس من هذا القبيل فقط.
وإذ قد بسطنا الكلام على الداء وجب علينا البحث في الدواء. ولا يكفي أن نقول إن الدواء نشر التعليم؛ فهذه الكلمة قد أكثرت الجرائد من ذكرها حتى ألفتها الآذان، وصارت تمر على مسامع الخاص والعام من دون أدنى تأثير يحدث في العقل أقل تفكير. وإذا كررت السؤال وحددت الكلام، بادهك أصحاب الشأن بين تقليب الشفاه وتقطيب الجباه، بقولهم إنا عارفون بما يطلب منا، وقد عملنا كثيرا، ونحن في غنى عن تطفل أمثالك. قالوا ذلك إذا تنازلوا لمقابلتك وسماع كلامك، وإذا قرءوه في جريدتك قالوه في وجه جريدتك آسفين أنهم لا يستطيعون أن يقولوه في وجهك. وما يقول هذا القول إلا جاهل واجباته، مخدوع بنفسه، آمن سيطرة الرقيب . والدليل على صحة ذلك أنه لا يجسر أن يقول هذا القول، بل ينقلب كله آذانا ناصتة في البلاد للجمهور فيها رأي يعتد به. تلك هي أخلاق البشر عموما، والشاذ لا يعتد به، بل يلزمنا أن نبسط الكلام على أقرب الطرق التي تنيلنا ذلك.
ولا ريب أن حكومة مصر من هذا القبيل أصلح نوعا من أكثر حكومات المشرق. قلنا أكثر حكومات المشرق لأن اليابان أصلح منها؛ فقد عملت أشياء، ولكن لا يزال ينقصها أشياء، ربما كانت الأهم لأنها الأساس، بنت للعلوم العالية معالم لا ينقصها شيء من المعدات اللازمة لإتقان العلوم والفنون، ولكنها أهملت التعليم البسيط إلى الغاية القصوى. والإنكليز مع إتيانهم للإصلاح في جميع الفروع الإدارية لم يأتوا في أمر التعليم إصلاحا عظيما، كما ينطق بذلك إحصاؤهم بعد خمس عشرة سنة من احتلالهم للبلاد، والسبب هو أن الحكومة الإنكليزية في فتوحاتها قلما تهتم بالتعليم، ولا تجرد الحسام إلا لتفتح طريقا لنشر ثوب الخام؛ توسيعا لنطاق تجارتها لتحويل ثروة الأمم إلى خزائنها. وإن من يقابل بين آثار احتلالها لمصر العلمية كل هذه المدة مع توفر أسباب السلم، وآثار الاحتلال الفرنساوي على عهد بونابرت مدة سنتين فقط مع كثرة الحروب الداخلية والخارجية؛ يتعجب من أعمال أولئك الرجال، كأنهم كانوا من نسل انقرض اليوم، حتى من نفس الذين هو منهم يسمى نسل الجبابرة، فإن أعمال الحملة الفرنساوية العلمية لا تزال حتى اليوم موضوع إعجاب أصحاب الأفكار في كل الأقطار.
على أن نشر معرفة القراءة في مصر غير صعب، وممكن بسرعة أيضا إذا أرادت الحكومة ذلك، يمكن فيها رفع عدد الذين يقرءون إلى 60 و70 في المائة في زمن أقصر جدا مما يظن؛ وذلك بجعل العلم إجباريا، كما أن التطعيم للجدري إجباري أيضا، وإقامة المدارس البسيطة في كل المدن والقرى على نسبة عدد الأهالي؛ مدارس يعلم فيها أ ب ت ث، وشيء أكثر من «بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين»؛ يعلم فيها المعلمون غير الجلبة والصياح وهز الرءوس والظهور في أماكن ينفذها الهواء أنظف من مذاود البقر، يعلمون فيها أن مصر قطعة من أفريقيا، وأن الصحة تتوقف على النظافة، والنظافة تقوم بغسل الوجوه واليدين والرجلين، وبتغيير الملابس وغسلها بالماء والصابون قبل أن تبلى على الأجسام، وأن النظافة لا تتوقف على الغنى؛ فإن فلاح جبل لبنان أفقر من فلاح مصر، وهو مع ذلك في بعض الجهات أنظف منه بكثير، يلبس الثوب المرقع، ولكنه يلبسه نظيفا، وأن البشر كلهم خلقة الله، ليس بينهم كافر أو مؤمن، ولا طاهر أو نجس، إلا الذي روائحه يكاد يغمى عليك منها، وأن العبادات لا دخل لها في المعاملات،
Shafi da ba'a sani ba