شاع بين الناس أن الفلسفة موضوع لا تتناوله إلا عقول خاصة، وأنها لا تلذ إلا لقوم نظريين لم يروا في الحياة خيرا من أن يجهدوا عقولهم في حل مسائل هي إلى الخيال أقرب منها إلى الحقيقة، وأنها تبحث في خيالات عقيمة لا ينبني عليها في الحياة عمل؛ وإنهم في زعمهم لمخطئون.
لم يرفع الإنسان عن مستوى الحيوان إلا فكره وقوته العاقلة، فالحيوان يرى ويسمع بل ويتذكر، ولكنه لا يستخدم هذه القوى إلا في حاجاته الوقتية؛ أما الإنسان فيرى ظواهر الكون على اختلاف أنواعها فيتصورها ويكون له فيها رأيا، ثم يجتهد في تعرف عللها وعلاقة حقائق الكون بظواهره؛ وهذا طريق فهم الشيء فهما واضحا، فإن فعل هذا قلنا: إنه يتفلسف، ولا نعني بهذه الكلمة إلا أنه يفكر في شيء خاص - ذاتا كان أو معنى - ويحاول الإجابة على هذه الأسئلة: (1)
ما هذا الشيء الذي يبحث فيه عقلنا؟ (2)
ما أصله؟ (3)
ما علاقته بغيره من الذوات أو المعاني؟
وبعبارة أخرى معنى «يتفلسف» أنه يبحث في ماهية الأشياء وأصولها وعلاقة بعضها ببعض، وليس يخلو إنسان من هذا العمل وقتا ما، فساغ لنا أن نقول: إن كل إنسان متوسط الفكر يتفلسف، وإن كل الناس فيلسوف إلى حد ما، مع تفاوت فيما بينهم، إلا من استعبدته شهواته وانغمس في اللذائذ المادية، إلا أن كلمة «فيلسوف» إذا استعملت بدقة لا تطلق على من ينظر إلى الشيء أحيانا فيتأمله ويفحصه أو يشك فيه، ثم يرى فيه رأيا يعتقده ويتمسك به، بل كما أنا لا نسمي زجاجا ولا قفالا من أصلح في بيته لوح زجاج كسر، أو عالج قفلا فسد، إنما الزجاج أو القفال من اتخذ ذلك العمل حرفة في حياته، ولم يقتصر على التعليم الصحيح، بل أكسبته المثابرة على العمل مرانة وبراعة، وعرف كيف يصل إلى نتيجة خير مما يصل إليها غير المتمرن بجهد أقل من جهده، فكذلك لا نسمي فيلسوفا إلا من كان أهم أغراضه في حياته درس طبائع الأشياء وتعقلها، وعدته في ذلك فكره، وكان له بمزاولة ذلك قدرة على إدراك الأشياء بسرعة، وكما أن الصناع على اختلاف أنواعهم يعرفون دقائق عملهم، وإن شئت فقل ينبغي أن يعرفوا ذلك، وأن يكونوا على علم بأحدث ما اخترع مما يتعلق بعملهم، كذلك الفيلسوف المتخصص للفلسفة يجب أن يعرف ما وصل إليه من قبله، وما قالوه في المسائل التي تشغل فكره.
ولكن ما الحامل على التفلسف؟ وماذا يجني من ورائه؟ يقول أرسططاليس: «إن الدهشة أول باعث على الفلسفة.» برز الإنسان إلى هذا الوجود فرأى نفسه في عالم مختلف في ظواهره، وواجهه الزمان بظروفه فراعه ذلك واستخرج منه العجب، فبدأ يسأل: لماذا؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ رأى هذا العالم أمامه لغزا فحاول حله، وتلك المحاولة هي الفلسفة. وقد كان أول حامل له على حله ما يرجوه من المنفعة من وراء ذلك، ولهذا قيل: إن المصريين هم واضعو أساس علم الهندسة لما ألجأتهم الحاجة إلى تحديد ما يمتلكه الأفراد إثر فيضان النيل السنوي، وقبائل البدو من الكلدانيين نظروا في النجوم ليهتدوا بها في السير بقطعانهم. وعلى الجملة فقد حاول الإنسان كشف معميات الحياة ليكون أقدر على تحصيل مصالحه ورعايتها؛ جسمانية كانت أو روحية، وقد ظل العقل الإنساني يتلمس السبيل للوصول إلى فهم العالم والحياة فهما جليا ثابتا صادقا، ويحل ما يعترضه من ألغازهما، وتنوعت أمامه المسائل؛ فمن أرض ذات فجاج إلى سماء ذات أبراج زينت بالنجوم للناظرين، فما أكثر متناول العقل! وما أوسع بيداء الجهل! حيث يجوب العقل البشري فيها يرتاد «واحة» ويجد في البحث لينفذ إلى أسرار الطبيعة ينشرها بين الناس؛ لينتفعوا بها، وبينا هو يتطلب معرفة الأشياء فرارا من الجهل إذ انبعثت فيه رغبة في المعرفة نفسها، وصار يتطلب المعرفة للمعرفة لا قصدا للفائدة العملية. والإنسان مفطور على حب الاستطلاع، وهذه الرغبة المتأصلة في أعماق نفسه لا تستأصل، وهي دافع قوي يقوى بنمو العقل، ويحمل على تطلب معرفة الحقائق الكبرى الأساسية لهذا الوجود وتلك الحياة، وعلى البحث في علل الأشياء وعلاقة بعضها ببعض، وهذا ما دعا الإنسان أن يتفلسف، أحس من نفسه الجهل بالشيء فشك فنظر ففكر؛ فاعتقد الحق فيما رأى، وليس ما يعتقده الإنسان بعد البحث حقا مقصورا على التأمل العقيم، بل غاية هذا التأمل أن يستخدم في الحياة العملية؛ فالفلسفة إذا شوق وجد وراء معرفة الأسباب الخفية للأشياء للتوفيق بين آرائنا وأعمالنا، وهذا هو قصدنا في الحياة، فليس ثمة غرض إلا الفرار من الجهل، والوقوف على الحق، وكشف النقاب عن باطل تقنع بحجاب سخيف يوهم أنه حق.
وأصل كلمة فلسفة وتاريخها يدلان على ما ذكرنا؛ فقد روى المؤرخ اليوناني «هيرودوت» أن «كريسس» قال «لسولون»: «لقد سمعت أنك جبت كثيرا من البلدان متفلسفا.» أي متطلبا للمعرفة، واستعمل «بركليس» كلمة «الفلسفة» يريد بها «الجد وراء التهذب» ومهما يكن من شيء فمنشأ الكلمة يشعر بالاعتراف بالجهل والشوق إلى المعرفة، قال «فيثاغورس» والأصح نسبته إلى سقراط: «الحكمة لله وحده، وإنما للإنسان أن يجد ليعرف، وفي استطاعته أن يكون محبا للحكمة، تواقا إلى المعرفة، باحثا عن الحقيقة.» وهذا ما يدل عليه اشتقاق كلمتي فلسفة وفيلسوف؛ فإنهما مأخوذتان من «فيلوس» ومعناها «محب» و«سوفيا» ومعناها «الحكمة» فمعنى فيلسوف: محب الحكمة، ومعنى «سوفوس»: الحكيم. وقد كانت كلمة «سوفوس» في الأصل تطلق على كل من كمل في شيء - عقليا كان أو ماديا - فأطلقوها على الموسيقي والطاهي والبحار والنجار، ثم قصرت بعد على من منح عقلا راقيا، فلما جاء سقراط سمى نفسه فيلسوفا أي محبا للحكمة؛ تواضعا وتمييزا له عن السوفسطائيين (المتجرين بالحكمة) الذين يطوفون البلاد يعرضون على الناس ما عرفوه بالثمن - كما يفعل بعض الباعة - وما كان المشترون ليشتروها أيضا إلا رغبة في الفائدة العملية.
فالفلسفة إذا تبحث عن كل مسألة يمكن البحث فيها، وإن شئت فقل: عن العالم، ونحن نقسم مسائلها إلى ثلاثة أنواع تبعا لموضوع البحث: (1)
مسألة الوحدة: أعني علة العلل القادرة على كل شيء، الخالقة لكل شيء، مفيضة الحياة على العالم. وهذا القسم يسمى ما بعد الطبيعة أو ما وراء المادة. (2)
Shafi da ba'a sani ba