فلما جاءت الدولة العباسية 132-656ه عظمت حضارة المسلمين، وهضموا ما أخذوه بالفتح عن الفرس والروم والهند، ونقلوا علوم الأمم التي سبقتهم في المدنية ولا سيما الهند واليونان، وفي زمن أبي جعفر المنصور والرشيد والمأمون ومن بعدهم - ولا سيما المأمون - توسع الناس - وخاصة السريانيين - في ترجمة علوم اليونان على اختلاف أنواعها: من طب وهندسة وهيئة وتقويم بلدان، وفلسفة بفروعها المختلفة من طبيعيات وإلهيات ومنطق ونفس وسياسة وأخلاق - إلى اللغة العربية، فترجموا في القرن الثاني والثالث للهجرة كتب أفلاطون وأرسطو وإقليدس وبطليموس وجالينوس وغيرهم، وبحثوا فيها وتداولوها يشرحونها مرة ويختصرونها أخرى، وخصص كثير من المسلمين حياتهم لدراسة الفلسفة وتفهمها؛ فكانوا بعد فلاسفة.
وكان أغلب مؤسسي الفلسفة عند العرب ومؤيديها أطباء وعلماء في الطبيعيات أكثر منهم رجال دين، وعلى العكس من ذلك فلاسفة الغرب في القرون الوسطى، فقد كان أكثرهم قساوسة؛ ولهذا لم يقصر المسلمون نظرهم على الإلهيات، بل كان البحث في الطب القديم والعلوم الطبيعية عندهم يسير جنبا لجنب مع البحث في الإلهيات وما وراء الطبيعة، وترجموا كلام جالينوس في الطب وإقليدس في الهندسة كما ترجموا كلام أرسطو في الإلهيات.
1
غير أنه يظهر أن ما ابتكروه من عند أنفسهم قليل إذا قيس بما نقلوه من اليونان، نعم إنهم في بعض فروع العلم كالكيمياء وعلم المعادن والطب وعلم وظائف الأعضاء كان لهم أثر ظاهر، واستكشفوا من القوانين ما لم يصل إليها اليونان قبلهم، ولكنهم في غير ذلك من فروع العلم كالمنطق والنفس والأخلاق كانوا نقلة أكثر منهم مبتكرين، وكانوا في طريقتهم العلمية ونظامهم في البحث، وأنظارهم إلى العالم، وترتيب فلسفتهم وقواعدهم متأثرين تأثرا عظيما بفلسفة أرسطو والأفلاطونية الحديثة.
ولهم الفضل على الغرب بكل ما نقلوا أو ابتكروا، فكثير من كتب اليونان وأبحاثهم ما كان يصل إليها الغربيون لولا حفظ العرب لها ودراستهم إياها، كما أن كثيرا من مبتكراتهم واختراعاتهم تعد - بحق - من أسس المدنية الغربية.
ابتدأ المسلمون لأول عهدهم بالفلسفة يدرسون الفلسفة «الأفلاطونية الحديثة» (وهي مذهب مزيج من الفلسفة والدين، ظهر في أواخر القرن الثاني للميلاد، وكان مقره الأصلي الإسكندرية، حاول مؤسسوه التأليف بين الدين المسيحي والمذاهب الشرقية ومذاهب اليونان ولا سيما أفلاطون، وأطلق عليه «فلسفة أفلاطون الحديثة»، من أشهر دعاته أفلوطين، ولد في مصر سنة 204م، قيل: إنه رحل إلى فارس ودرس الفلسفة الشرقية وعلم في رومة من سنة 244م، ومات نحو سنة 264م، وكانت تعاليمه مزيجا من الفلسفة العلمية والتصوف الديني)، والذي دعا المسلمين إلى اعتناقهم هذا الضرب من الفلسفة أنها كانت فاشية لعهدهم في الشام، وأنها مصبوغة بالصبغة الدينية، ثم ارتقوا منها إلى النظر في فلسفة أفلاطون وأرسطو، ولكن كانت قد غلبت عليهم فلسفة أفلاطون الحديثة، فلما أن نظروا بعد في فلسفة أفلاطون وأرسطو نظروا إليها بعيون متأثرة بالأفلاطونية الحديثة.
وأول من اشتهر من المسلمين بالفلسفة يعقوب الكندي، ويلقب «بفيلسوف العرب» لأنه عربي صميم تبحر في الفلسفة، وقد كان تابعا للأفلاطونية الحديثة وتعاليم أرسطو أكثر منه فيلسوفا مستقلا، وأكثر ما له من الفضل جاء ما ناحية الترجمة والنقل، وقد ظهر له في عهد المأمون والمعتصم كتب كثيرة بعضها ترجمة، وبعضها تأليف، وصل إلينا من أسمائها نحو 256 كتابا عدها صاحب أخبار الحكماء وفهرست ابن النديم، ومات نحو سنة 260ه.
وجاء بعده أبو نصر الفارابي المتوفى سنة 334ه، عاش تحت كنف سيف الدولة بن حمدان، وكان يعرف لغات كثيرة، وبرز في الموسيقى والرياضيات وعلم اللغة والفلسفة، درس فلسفة اليونان ومهر فيها، وقد كان كالكندي تابعا للأفلاطونية الحديثة (وإن لم يعرف هو هذا الاسم) وتعاليم أرسطو، وكان معشوقه من فلاسفة اليونان أرسطو حتى قيل: إنه وجد «كتاب النفس» لأرسطو وعليه بخط الفارابي: «إني قرأت هذا الكتاب مائة مرة!» وقد لقب بالمعلم الثاني - والمعلم الأول هو أرسطو - لحله معميات الفلسفة اليونانية، وكان الفارابي كسائر فلاسفة المسلمين يرون أن الإسلام من قرآن وسنة حق، وأن الفلسفة حق، والحق لا يتعدد، فوجب أن تكون الفلسفة والإسلام متفقين! غير أنه يؤخذ على فلاسفة الإسلام أنهم لم ينظروا إلى الفلسفة اليونانية كما كان ينبغي أن ينظروا إليها؛ من أنها مجموعة أقوال ومذاهب قد يناقض بعضها بعضا، وأن ما يذهب إليه أرسطو في مسألة قد يكون مناقضا لما يذهب إليه أفلاطون فيها، بل نظروا إليها كأنها حقيقة واحدة ملتئمة، وقالوا: إن أفلاطون قد يختلف مع أرسطو في طريقة البحث أو التعبير عن المقصد، ولكن آراءهما في الفلسفة واحدة.
2
وصلت إليها تعاليم أفلاطون كما حكاها فورفريوس - وهو من أصحاب مذهب الأفلاطونية الحديثة - وتعاليم أرسطو كما حكاها متأخرو المشائين، ودخل عليهم فيما نقل إليهم من فلسفة اليونان ولا سيما فلسفة أرسطو خلط وتشويش، يدل على ذلك أنه في زمن المعتصم ترجم أحد نصارى لبنان جزءا من أنيدة
Shafi da ba'a sani ba