وأقبل الخادم يحمل قواريره وأكوابه وهم أن يملأ القدحين، ولكن رءوفا قال له في لهجة حلوة، وعلى ثغره ابتسامة راضية: لا تشق على نفسك يا بني، فسأقوم عنك بهذا الجهد، ولكن امنع علينا بابنا؛ فلسنا في حاجة إلى الواغلين، فانحنى الخادم وانصرف وأغلق الباب من دونه، وأقبل رءوف على قواريره وأكوابه فصب ومزج، وقدم إلى الشاعر قدحه وهو يقول:
وكأس شربت على لذة
وأخرى تداويت منها بها
فاشرب هذه على لذتك، ثم أداويك منها بالأخرى، قال الشاعر: إن أمرك لعجب منذ اليوم، أتتخذ هذه الحجرة لنفسك سجنا منذ آخر الليل، وتحظر على نفسك النزول إلى الحديقة والاستمتاع بصفاء السماء وجمال النهر، ولا تصيب من طعامك شيئا حتى يظن الخدم بك الظنون، ثم هأنتذا الآن لا تملك نفسك ولا تضبط أمرك، وإنما تندفع في ضحك لعل البكاء ... وهنا قاطعه رءوف قائلا: أن يكون خيرا منه. كلا يا سيدي كلا! إنه الضحك الذي يصور الرضا، والأمن، وصفاء النفس، واطمئنان القلب، ولكن ألم أقل لك إنا لن نتحدث حتى نفرغ من قدحنا الأول! ثم قال بعد صمت قصير: بعدا للخدم! لا سبيل إلى أن نخفي عليهم شيئا، ولا سبيل إلى أن نكف ألسنتهم عن الحديث بعلم وبغير علم.
أكان الظمأ هو الذي دفعهما إلى الإسراع في الشرب، أم كان التلهف على الخمر هو الذي أغراهما باستنفاد ما في القدحين، أم كان تعجل الحديث هو الذي حثهما على أن يتعجلا إزالة ما بينهما وبينه من هذه العقبة الرائقة الشائقة التي لم يكن شيء أحب إليهما من إزالتها؟ مهما يكن من شيء فقد أقبل كل منهما على قدحه شرها، فلم تمض إلا دقائق حتى ارتويا هما وظمئ القدحان.
ونهض رءوف فأعاد إلى القدحين ريهما، وأعاد إلى نفسه وإلى صديقه ظمأهما، ولكنه كان ظمأ هادئا مستأنيا لا عجلة فيه؛ فأقبل كلا الرجلين على صاحبه يستبقان إلى الحديث استباقا، وأقبل كلا الرجلين على قدحه يحسو منه في تمهل مثل حسو الطير ماء الثماد. قال رءوف متضاحكا: أما الآن فتستطيع أن تستمع لي يا أبت أو يا بني؛ فسنك وانحناؤك على العصا يجعلانك لي أبا، وسذاجتك وسلامة نفسك تجعلانك لي ابنا؛ فلي من غير شك أن أدعوك بأي الدعاءين شئت، استمع لي إذن، وافهم عني ولا تعجل علي؛ فإنك لن تنبئني بشيء أجهله، لقد أنبأك نعيم بحبه وثورتي على هذا الحب، وإصراره على أن يمضي فيما بدأ، وعطف أمه عليه، ونطقي بهذه الكلمة التي تفرق بين الإلفين، وكل هذا حق، ولكن الشيء الذي لم ينبئك به نعيم لأنه لم يكن يعلمه، ولعله لا يعلمه إلى الآن، هو أن الستار قد أسدل على بعض هذه المأساة؛ فقد اختطف الموت من نعيم هواه، ثم أطرق حينا وأقبل على قدحه، فحسا منه حسوة ورده إلى مكانه في هدوء، والشاعر واجم لا يدري كيف يقول، كأنما سقطت عليه الصاعقة.
قال رءوف: نعم! ماتت خديجة، قتلها أخوها انتقاما لشرفه فيما يظهر، كأن لأمثال هؤلاء الناس شرفا تراق في سبيله الدماء، ويحتمل في سبيله العقاب والعذاب، لقد تغيرت الدنيا وفسد الناس، وهبت على هؤلاء البائسين من أهل القرية وأمثالهم ريح لا أدري من أين جاءتهم، ولكنها حملت إليهم شرا عظيما؛ علمتهم أن لهم شرفا، وأنهم يستطيعون أن يغضبوا لهذا الشرف، وأن يسفكوا في سبيله الدم، ويتعرضوا في سبيله للموت، ومن يدري؟! لعلها علمتهم، أو لعلها أن تعلمهم أشياء أخرى ليست أشد من هذا نكرا، ولن أدهش إذا أنبئت غدا، أو بعد غد بأن هؤلاء الناس يضيقون بخضوعهم لنا، وتسلطنا عليهم، ويرون أن لهم في أنفسهم حقوقا يدافعون عنها، ويتكلفون في الدفاع عنها ما لم يتعودوا أن يتكلفوا، وأن لهم فيما تخرج الأرض من الثمرات حقوقا أكثر مما نعطيهم، وأن لهم في الحياة مطامع وآمالا لم تكن تخطر لهم من قبل، كل هذا ممكن، وكل هذا خطير سيئ العاقبة. لقد كنا نرى هؤلاء الناس يسعدون السعادة كلها حين تهبط إليهم أبصارنا وحين نختصهم بشيء من العطف، أو نلقي إليهم شيئا من التحية، لقد كان أعظم ما يطمحون إليه أن يرقوا إلى هذا القصر خداما لأهله، فإذا رقوا إليه وظفروا بالخدمة فيه، فأعظمهم حظا من السعادة، أقربهم مكانا من السادة، فأين نحن من هذا الآن؟! أترى إلى ابنة الإسكاف يؤثرها ابن سيدها بعطفه ويختصها بحبه، ويمنحها مكانا من قلبه، فتنعم وتسعد، وترى في هذا الإيثار حلما لم يكن يتاح لأمثالها؟! ولكن أخاها ينكر، ثم يغضب، ثم يثور فيقتل أخته ... ولو قد استطاع لقتل معها شخصا آخر.
وهنا برقت عيناه بريقا مخيفا، وجرت في جسمه كله رعدة خفيفة، لم يلبث أن ردها إلى الهدوء، ثم أقبل على قدحه فألقى ما فيه في جوفه إلقاء، ثم نظر إلى الشاعر نظرة حادة وهو يقول: إنك لقليل النشاط إلى الشراب، أفرغ قدحك كما أفرغت قدحي. ولم يجب الشاعر كأنه لم يسمع منه، قال رءوف وهو يضرب بيده على المائدة: أتسمع لي؟! أفرغ قدحك كما أفرغت قدحي أو قم عني؛ فلست في حاجة إلى الجلساء الفاترين. وكان الشاعر يعرف صديقه حق المعرفة، ويعلم أنه عنيف إذا غضب، منكر السيرة إذا عربد على نديمه، فلم يكد يسمع طرق المائدة حتى هب من وجومه مذعورا، ولم يكد يسمع نذير صاحبه حتى أسرع إلى القدح فصبه في فمه صبا، قال رءوف وقد نهض متضاحكا: أما الآن فنعم. ثم أقبل على زجاجاته فصب ومزج، وعاد إلى مجلسه هادئا مطمئنا ينظر إلى قدحه متهالكا عليه.
قال الشاعر: لقد أنبأني نعيم أنه أرسل فتاته أمس إلى العاصمة، ليلحق بها اليوم، فكيف ... فقاطعه رءوف قائلا: كيف قتلها أخوها، أو أين قتلها؟ أدركها في العاصمة، وقتلها بملأ من الناس، وأسلم نفسه للشرطة، وأكبر الظن أنه كان يرقب أخته، وأنه كان يعلم من أمرها كل شيء، وأنه كان يدبر هذا الشر تدبيرا، والمهم أنه فعل فعلته، وأنه بهذه الفعلة قد رد عنا شرا عظيما، ونبهنا لخطر عظيم، أراحنا من هذا الزواج المنكر، وقطع على نعيم طريق التمرد والعصيان، ونبهنا إلى أن في أمثاله من أهل القرية نزوعا إلى شيء جديد ، فيجب أن نسير معهم سيرة جديدة، وأن نلائم بين طموحهم هذا الطارئ وسياستنا لأمورهم، ولكن هذا حديث لم يحن حينه بعد؛ فقد نستطيع أن نفكر ونروي متى أتيح لنا التفكير والتروية، فأما الآن فقد يظهر أن لدينا ما يشغلنا من الأمر. ثم رفع القدح إلى فمه فكاد يأتي على نصف ما فيه، ثم أشار إلى الشاعر أن اشرب، قال الشاعر: إن لم تكن في حاجة إلى عقلك فقد تكون في حاجة إلى بعض عقلي؛ فأمهلني ولا تشتط علي. قال رءوف: أما أنا فشديد الحاجة إلى عقلي كله، وإنك لتعلم أن الخمر أعجز من أن تذهب به، وأما أنت فلست في حاجة إلى عقلك؛ لأني لا أريد منك روية ولا تفكيرا ولا مشورة، وإنما أريد منك طاعة وتنفيذا للأمر وتحقيقا لما أريد.
قال الشاعر: وعندك إذن أمر تريد أن تصدره إلي؟ وما عسى أن يكون هذا الأمر؟ قال رءوف: أتعرف لماذا حجبتك آنفا؟ قال الشاعر: لأنك كنت مشغولا ببعض الضيف. قال رءوف: ألم تر هذا الضيف؟ ألا تعرف من هو؟ قال الشاعر: لقد كنت مشغولا عنك وعنه بالنظر في ذلك الكتاب. قال رءوف: فإنه حاكم الإقليم، قد أقبل يزورني، ويسألني في بعض حديثه عما سمع من أن نعيما معتزم أن يسافر إلى إيطاليا وغيرها من بلاد أوروبا؛ ليقضي عاما أو أكثر من عام! قال الشاعر: فإني لم أسمع قط بشيء من حديث هذه الرحلة. قال رءوف: لم تسمع أنت ولكن حاكم الإقليم سمع، وأقبل ينبئني بما سمع، ويجب أن يتحقق ما سمع، وأن يرحل نعيم إلى حيث يريد من بلاد الله، فيغيب عن هذه الأرض عاما أو أكثر من عام، في هذه الرحلة تهدأ نفسه، ويستقر قلبه بين جنبيه، ويسترد شيئا من صواب، وينتفع بما تفرض الغربة على المغتربين من التجارب. أعدده إذن لهذه الرحلة، ويسر له أمرها، واصحبه فيها إن شئت أو شاء؛ ذلك أجدر أن يريح الأسرة من بعض اللغط، وأن يرد عنها بعض الشر، وأن يصلح بعض ما في النفوس. ثم رفع القدح وأتى على ما فيه، وأشار إلى الشاعر فلم يجد منصرفا عن الطاعة، فأفرغ قدحه، وهم رءوف أن يصب، ولكن الشاعر استعفاه قائلا: لم أحتج قط إلى عقلي كما أحتاج إليه الآن، وإذا لم يكن للخمر سلطان عليك، فإن سلطانها علي عظيم. ثم نهض متثاقلا، قال رءوف: إلى أين؟ قال الشاعر: إلى حيث ألقى نعيما، ثم إلى حيث أصلح من أمري، ثم إلى حيث أنفذ ما تريد. قال رءوف: إن نعيما مسافر إلى العاصمة اليوم؛ فاصحبه في سفره وتحدث إليه في أثناء الطريق، وما زال عندك فضل من وقت فأقم؛ فما أريد أن أجلس وحدي إلى مائدة الغداء. ثم ضرب إحدى يديه بالأخرى، فأقبل الخادم، فأشار إليه أن يرفع أداة الشراب، وقال له وهو ينصرف: أرسل إلي خليلا.
Shafi da ba'a sani ba