فالحياة لا تحب الناس إلا حين يعملون لكسب حبها وهي لا تحتقر أحدا كما تحتقر الذين يعيشون عيالا على غيرهم، وقد خلقت عاجزا عن كل عمل منتج إلا هذا الشعر الذي أقرضه وأجد اللذة في قرضه، ويجد الناس المتعة في قراءته والاستماع له، ولكنه على ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع! ولقد نشر لي منه هذا السيد الصديق غير ديوان، وما أشك في أن الناس قد قرءوه وما أشك مع ذلك في أني لم أفد من نشره شيئا! غيري أقدر مني على حل هذه المشكلة! فأما أنا فحسبي أن أقرض الشعر وأن يقرأه الناس وأن أحس رضاهم عنه وإعجابهم به، وما دامت الحياة ميسرة لي كأحسن ما يكون اليسر فلا علي أن أكون سيدا أو عبدا، ولا علي أن أكون عزيزا أو ذليلا ...
11
ما أحب أن أقتحم الباب الذي لم يقتحمه الشاعر، وأن أدخل بك على صاحب القصر خاليا إلى ضيفه، لا لأني أخشى أن يردنا الخادم عن هذا الباب مكبرا لنا حفيا بنا كما رد الشاعر، أو ناهرا لنا متعللا علينا كما كان خليقا أن يصنع بكل من يحاول اقتحام هذا الباب، فأنت وأنا مطمئنان إلى أننا نستطيع أن نقتحم الباب دون أن يشعر بنا هذا الحاجب؛ لأن الفن قد منحنا هذه القلنسوة السحرية التي تخفينا على عيون الحجاب والرقباء، وتتيح لنا أن نذهب حيث نشاء ومتى نشاء وكيف نشاء، دون أن يستطيع أحد لنا ردا أو صدا، بل دون أن يستطيع أحد أن يفطن لنا أو أن يشعر بمكاننا.
ولست أدري لماذا لا يتنبه القراء إلى هذه الخصلة الرائعة من خصال الفن، وإلى قدرته على أن يخفي الكاتب وقراءه على العيون والأسماع، وسائر أدوات الحس والشعور، بل علي أن يتيح للكاتب وقرائه قدرة هائلة يلغون بها مسافات الزمان والمكان، وما يقوم في الزمان والمكان من عقبات تحول بين الناس وبين أن يروا ويسمعوا ويعلموا ما يريدون أن يروا وأن يسمعوا وأن يعلموا، فنحن نستطيع من غير شك أن ننسل إلى داخل المكتب دون أن يشعر بنا أحد، وأن نرى صاحب القصر وضيفه، ونسمع ما يدور بينهما من حديث دون أن يأذنا بدخولنا عليهما، أو يعرفا مكاننا منهما، بل نحن نستطيع أن نرقى إلى أي عصر من عصور التاريخ وما قبل التاريخ، في أي قطر من أقطار الأرض، فنرى ونسمع ونعلم ما نريد كما أننا نستطيع أن نسبق الزمن، وأن نمضي في أعماق المستقبل، إلى حيث نحب أن نمضي في أي قطر من أقطار الأرض، بل في أي نجم من نجوم السماء، لا يحد قدرتنا على ذلك إلا ما نريد نحن لا ما تريد الأحداث.
وبعبارة أدق: يستطيع الكاتب وحده أن يفعل هذا كله وأن ينبئ قراءه إن أراد بما رأى وما سمع وما علم، أو ببعض ما رأى وما سمع وما علم، فأنا قادر إذن على أن أتجاوز باب المكتب وأشارك في زيارة هذا الضيف لصاحب القصر، ولكني لا أفعل لسببين: أولهما يتصل بالأخلاق؛ فأنا لا أحب اقتحام الأبواب، ولا التسمع على الناس حين يتحدثون، وأبغض شيء إلي التطفل والوغول، ولن أغير من أخلاقي شيئا لأرضي القراء، مهما يكن حرصي على رضاهم ومهما يكن لرضاهم من خطر. والثاني يتصل بالفن؛ فقد يحسن أن أعرف صاحب القصر إلى القراء، قبل أن أدخلهم عليه، حتى لا أفجأهم به وبضيفه وبما يديران بينهما من حديث. ذلك أجدر أن يهيئهم للقائه عن علم به ومعرفة لخصاله، لفهم ما يصدر عنه من أعمال نابية، وأقوال نائية عما يلائم الرشد والصواب، والقراء بعد ذلك ليسوا خيرا من الشاعر الذي هو صديق حميم لصاحب القصر، وإذا كان هذا الشاعر قد رضي أن يرد عن صديقه، وقبل أن ينتظر حتى يخلو له وجهه ويؤذن له بالدخول، فليس على القراء بأس من أن ينتظروا كما انتظر.
والشاعر يستعين على الانتظار بالكتاب الذي ينظر فيه، فليستعن القراء على الانتظار بما سأسوق إليهم عن صاحب القصر من حديث، وقد لا يكون هذا الحديث ممتعا إمتاع هذا الكتاب الذي ينظر فيه الشاعر، ولكنه سيكون على كل حال كلاما يقرأ، وما أكثر ما يفرغ القراء للكلام المكتوب الذي يساق إليهم في كل يوم، على ما يكون فيه من سخف، وعلى ما يكون له من قيمة وإمتاع!
ورءوف صاحب القصر شيخ تقدمت به السن شيئا، ولكنها لم تبلغ من قوته ولا من شباب قلبه وجسمه شيئا، وإنما هو رجل طوال، يميل إلى البدانة أكثر مما يميل إلى النحافة، وهو رائع الطلعة، رائق المنظر، لا تقتحمه العين، وإنما تتصل به فتطيل الاتصال، تجد شيئا من اللذة في النظر إلى وجهه الذي لا يخلو من جمال مهيب، والذي تضطرب فيه عينان صغيرتان نفاذتان، فيهما شيء من حدة، ولكنهما تصوران هدوءا ودعة وثقة، تقرأ فيهما الإيمان بالنفس، والشك فيما عداها ومن عداها من الأشياء والناس، وتقرأ فيهما الرضا المطمئن عن النفس، والسخط على من عداها وما عداها من الأشياء والناس، وتقرأ فيهما أن لصاحبهما ضميرا مرنا أشد المرونة، يسيرا أعظم اليسر، يؤثر نفسه بكل شيء، ويرى أن الحياة لم تخلق إلا له ولم توقف إلا عليه، وأنه إنما يحتمل مشاركة الناس له فيها احتمالا، ويطيقها عن تفضل وتطول.
تقرأ في هاتين العينين الأثرة في أبشع صورها، وفي أظرف صورها أيضا، وهذه القراءة لا تكذبك ولا تغرك عن الحقيقة الواقعة؛ فصاحبنا أثر كأبشع ما تكون الأثرة، وكأظرف ما تكون الأثرة في وقت واحد؛ يندفع إلى ما يريد في غير هوادة ولا أناة ولا إسماح، لا يقبل أن تقوم بينه وبين ما يريد عقبة مهما تكن طبيعتها، ومهما يكن مصدرها، وهو من أجل ذلك غضوب جامح الغضب، عنيف مسرف في العنف، لا يروض الصعاب حين تعرض له، وإنما يحطمها أو يحطم نفسه من دونها، وهو من أجل ذلك يمر حتى لا يسيغ مذاقه أشد الناس رياضة لنفسه على احتمال المكروه والصبر على الأذى ومراس أصحاب العنف والجماح، ولكنه على ذلك تحلو شمائله، وتحسن أخلاقه، وترق حواشيه حين يقبل على اللذة ويأنس إلى الناس، لا يصدر في عنفه ولينه عن بغض للناس وحب لهم، وإنما يصدر فيهما عن حب لنفسه وإيثار لها بما يراه خيرا، يبتغي ذلك باللين حين يكون اللين سبيلا إليه، ويبتغي ذلك بالعنف حين لا يكون من العنف بد، وهو على كل حال أقل الناس حظا من القصد والاعتدال، لا تراه يوما أو ساعة على خلق سواء، وإنما هو مندفع في الغضب حتى يصرف الناس عنه، أو مندفع في الرضا حتى يتهالك الناس عليه. وأصل ذلك فيما يظهر أنه كان وحيد أبويه، قد ولد في بيئة ناعمة مترفة موفورة الحظ من الثراء، قد يسرت لها الأمور كلها تيسيرا، ولم يولد له إخوة يشاركونه في حب أبويه له، وعطفهما عليه، وحرصهما على تدليله وتنويله كل ما تطمح إليه شهواته الجامحة أو تطمع فيه أهواؤه التي أرسلت على سجيتها إرسالا. وقد وصف الشاعر القديم بعض الممدوحين بأنه لم يقل: «لا» قط إلا في تشهده، وبأن لاءه كانت خليقة أن تكون «نعم» لولا تشهده وإيمانه بالله.
ويمكننا أن نقول: إن صاحبنا هذا لم يسمع «لا» قط في صباه ولا في شبابه إلا حين كان يتعرض لما كان يمكن أن يسوءه أو يؤذيه. ومع ذلك فقد كان أبواه والموكلون بخدمته لا يصدونه عما يسوؤه ولا يردونه عما يؤذيه إلا في كثير من الرفق والاحتيال، وفي ألوان من الترغيب والإغراء، بحيث لم يكن يشعر أن هذه الكلمة البغيضة كلمة «لا» تقال أو توجه إليه، لم يكن يسمع هذه الكلمة ولكنه كان يقولها كثيرا، يقولها لأبويه ويقولها لخدمه ويقولها لأترابه حين يلقى أترابه، وكان هؤلاء جميعا يسمعون منه هذه الكلمة، فيرضون عنها ويبتهجون بها ويستجيبون لها؛ ولذلك نشأ على حب هذه الكلمة حين يجري بها لسانه هو، وعلى بغضها حين يجري بها لسان غيره من الناس.
وكان من الطبيعي ألا يعرف المصاعب، ولا يمرن على رياضتها وتذليلها، وكان من الطبيعي كذلك ألا يفهم كيف يمتنع عليه غرض من الأغراض أو يفوته أمل من الآمال، كان مدللا كأقصى ما يكون التدليل، مترفا إلى أبعد حدود الترف، سيئ الخلق من أجل ذلك كأسوأ ما يكون الخلق، ضعيفا كأشنع ما يكون الضعف، عنيفا كأبشع ما يكون العنف. وليس من الغريب بعد ذلك أن نلاحظ أنه، وقد أنفق حياة فارغة ميسرة، لم يتعلم إلا بمقدار ما استطاع، وبمقدار ما أتاحت له هذه الحياة المدللة أن يتعلم، فهو لم يذهب إلى مدرسة وإنما سعى إليه المعلمون، وهو لم يذعن قط لمعلم أو أستاذ وإنما أذعن له دائما أساتذته ومعلموه، منهم من وجد إلى قلبه سبيلا فألقى فيه بعض العلم وأودعه بعض المعرفة، ومنهم من لم يجد إلى قلبه سبيلا فألقى أهواءه ونزواته، وقنع من الجهد بما كان يتاح له من الأجر في آخر الشهر.
Shafi da ba'a sani ba