هلا هزئت بغيرنا يا بوزع
9
أنت بالطبع عجل، تريد أن ترى صاحب القصر وأنا مثلك عجل أريد أن أراه؛ لأن الأمد بينه وبيني قد بعد وأسرف في البعد، والشاعر نفسه يريد أن يلقاه منذ سمع من نعيم ما سمع، وعرف من أمر الأسرة ما عرف، وروعه من هذا الطلاق ما روعه. وهو من أجل ذلك حريص على أن يسرع الخطو، لولا أن إسراع الخطو لا يليق بالشيوخ، الذين أفناهم مر الغداة وكر العشي، وعطفتهم الأيام على العصا وعلمتهم المشي على ثلاث، فخطوهم متقارب وسعيهم بطيء. وشاعرنا حريص دائما على أن يكون شيخا متهالكا، قصير الخطو بطيء السعي، وهو على ذلك كله عجل يريد أن يلقى صاحب القصر، فيسمع منه ويقول له، وهو من أجل ذلك لا يمد الخطو لأنه لا يستطيع، أو لا يريد أن يستطيع أن يمد الخطو، وإنما يتعجل على أسلوبه في التعجل، فيسعى إلى أمام، لا يقف كما تعود أن يقف دائما أمام آيات الفن هذه الرائعة التي نسقت في أبهاء القصر تنسيقا ليس أقل منها روعة وجمالا.
والشاعر متعود ألا يمر بهذه الآيات مرا سريعا أو بطيئا، دون أن يقف عندها، ملقيا إليها تحيات الإعجاب والحب، واقفا عند هذا التمثال مطيلا إليه النظر، مهديا إليه الحديث، منتظرا منه الجواب، وواقفا عند هذه الصورة محللا معللا مستوحيا مفتونا، وواقفا عند هذه القطعة أو تلك من قطع الأثاث الفخم القديم، يلتهمها بعينه التهاما، ويداعبها بيده مداعبة رقيقة، يصنع ذلك كلما دخل القصر ليلقى صاحبه في مكتبه أو في حجرة من حجرات الاستقبال، لا يمنعه من ذلك مانع مهما يكن، ولا يصرفه عنه صارف مهما تكن الظروف. وهو من أجل ذلك ينفق وقتا غير قصير منذ يبلغ أرقى سلم القصر إلى أن يصل إلى صاحبه، سواء كان على موعد أم زار على غير ميعاد، وربما ضرب لصاحب القصر موعدا للقاء في الساعة الحادية عشرة، ولكنه يقول ضاحكا: على أني سأكون هنا قبل أن تبدأ الساعة العاشرة، وربما نسي الموعد نسيانا تاما، وانتظره صاحب القصر، فلما طال عليه الانتظار خرج يلتمسه في هذا البهو أو ذاك، فوجده قائما أمام صورة، أو تمثال، أو أثاث، وقد استأثر به إعجاب ينتهي إلى شيء يشبه الذهول.
ذلك أن هذا القصر، ليس كغيره من قصور الأغنياء المترفين، يزدان بفخامته وضخامته، وامتلائه بالأثاث الفاخر الكثير، وقد نسق على وجه يلائم الذوق أو لا يلائمه، ولكنه يدل دائما على ضخامة الثروة، وكثرة المال، وحب الإنفاق، وإنما هو قصر له فخامته وضخامته، ولكنه أشبه بالمتحف منه بالقصر، فليس فيه إلا ما يروق النفس ويلذ العين ويملأ القلب رضا وإعجابا، قد جمعت فيه آيات من الفن، على اختلاف هذا الفن في النوع وفي العصر والطراز؛ ففيه القديم والحديث وما بين ذلك من آيات المثالين والمصورين، ومن آيات العصور البعيدة التي يتحدث عنها التاريخ القديم، وفيه من طرف الأثاث ضروب وألوان، بحيث لا يستطيع ذو الذوق المترف أن يدخله إلا لقي فيه فتنة أي فتنة، وبحيث يستطيع ذو الذوق المترف أن يزوره مصبحا وممسيا في كل يوم من أيام الأسبوع دون أن يقضي عجبه أو إعجابه بما فيه من هذه الروائع والآيات، فإذا مر الشاعر قصير الخطو بطيء السعي بهذه الآيات والروائع، غير واقف عندها ولا مطيل نظره إليها، فذلك الدليل كل الدليل على أنه معجل حقا، على أن الذي يعجله عما أحب وما سيحب دائما، لا يمكن أن يكون إلا أمرا ذا بال.
ومما يدل على أن الشاعر كان معجلا حقا، وعلى أنه كان أشد عجلة منك ومني إلى لقاء صاحب القصر، أنه انتهى إلى البهو الذي ينبسط أمام المكتب، وهم أن يمضي إلى المكتب فيطرق بابه طرقا خفيفا دون أن يقف وقفته تلك الطويلة أو يدور دورته تلك البطيئة حول هذه الكتب التي نسقت أجمل تنسيق وأدقه إلى هذه الجدران العراض المرتفعة، ودون أن يمر يده في كثير من الحب والهيام على صفوف هذه الكتب، كأنما يحييها بيده تحية تشبه عطف الأب حين يمسح رأس ابنه في كثير من الحنان - وربما أخذ منها كتابا، فجمع يديه حول دفتيه، ثم فتحه ونظر فيه قائما فأطال النظر، ثم آثر صحبة الكتاب على لقاء صديقه، فانحاز إلى زاوية من زوايا البهو، وفرغ لكتابه منصرفا إليه عن كل شيء وعن كل إنسان، حتى يأتي صديقه، فيفرق في عنف أو في رفق بينه وبين هذا الكتاب الحبيب - ولكنه في هذه المرة لم ينظر إلى الكتب، كما أنه لم ينظر إلى التماثيل والصور إلا نظرات قصارا خاطفة، ومضى أمامه مستأنيا، يريد باب المكتب ليطرقه ويفتحه ويغلقه من دونه حين يسمع الإذن له بالدخول، غير أنه لم يمكن من الوصول إلى الباب؛ فقد لقيه الخادم مكبرا له حفيا به، ولكنه يؤذنه بأن سيده لن يلقى أحدا الآن؛ لأنه خال في هذه الساعة إلى ضيف قد أقبل منذ حين.
10
لست أدري أرضي الشاعر عن هذا الحجاب أم ضاق به، ولكني أعلم أنه تحول في بطء إلى صف من صفوف هذه الكتب، فحياه بطرفه، ثم مسحه بيده، ثم استخرج منه كتابا، وانزوى في ناحية من نواحي البهو، وجعل ينظر فيه مقبلا عليه غير فارغ له مع ذلك، بل رافعا رأسه ومديرا طرفه في البهو من حين إلى حين، كأنما كان يترقب أن يخلو له وجه صديقه هذا الذي جعل أمره يتعقد منذ اليوم.
ثم جعل يحدث نفسه: إنما أشفق أن تنقطع بيني وبينه الأسباب، وأن أصير إلى مثل الحال التي كنت أضيق بها وكانت تضيق بي حين اتصلت أسبابي بأسبابه ذات مساء منذ تلك الأعوام الطوال!
لقد كنت في تلك الأيام - لا ردها الله - بائسا ممعنا في البؤس، شقيا مغرقا في الشقاء، بارعا في كل شيء إلا فيما يوفر علي حياة هينة وادعة لا أجد فيها الجوع في أكثر أيام الأسبوع، ولا أتعرض فيها لذلك الخزي الذي أذكره الآن، فتدور بي هذه الحجرة وأود لو كنت نسيا منسيا ...
Shafi da ba'a sani ba