كانت نفسي بالأمس شجرة قوية مسنة، تمتد عروقها إلى أعماق الأرض، وتتعالى غصونها نحو اللانهاية.
ولقد أزهرت نفسي في الربيع، وأثمرت في الصيف، ولما جاء الخريف جمعت أثمارها في أطباق من الفضة، ووضعتها على قارعة الطريق، فكان العابرون يتناولون منها ويأكلون، ثم يسيرون في سبيلهم.
ولما انقضى الخريف وتحولت تهاليله إلى الندب والولولة، نظرت فلم أر في أطباقي سوى ثمرة واحدة، أبقاها الناس لي، فتناولتها وأكلت، فألفيتها مرة كالعلقم، حامضة كالحصرم. فقلت لنفسي: «ويحي لقد وضعت في أفواه الناس لعنة، وفي أجوافهم عداء، فماذا ترى فعلت يا نفسي بالحلاوة التي امتصتها عروقك من أحشاء الأرض، وبالأريج الذي تشربته قضبانك من نور الشمس؟»
بعد ذلك اقتلعت شجرة نفسي القوية المسنة.
اقتلعتها بعروقها من التربة، التي نمت فيها وترعرعت، اقتلعتها من ماضيها ونزعت عنها ذكرى ألف ربيع، وألف خريف.
وعدت فزرعت شجرة نفسي في مكان آخر.
زرعتها في حقل بعيد عن سبل الزمن، وكنت أسهر بجانبها قائلا: إن السهر يدنينا من النجوم. وكنت أسقيها بدمي ودموعي قائلا إن في الدم نكهة، وفي الدموع حلاوة.
ولما عاد الربيع أزهرت نفسي ثانية.
وفي الصيف أثمرت نفسي، ولما جاء الخريف جمعت أثمارها الناضجة بأطباق من الذهب، ووضعتها على ملتقى السبل، فمر الناس أفرادا وجماعات، ولكن لم يمد أحد يده ليتناول منها.
فأخذت إذ ذاك ثمرة وأكلت، فوجدتها حلوة كالشهد، لذيذة كالكوثر، طيبة كالخمر البابلية، كأنفاس الياسمين، فصرخت قائلا: «إن الناس لا يريدون البركة في أفواههم، ولا الحق في أجوافهم؛ لأن البركة ابنة الدموع، والحق ابن الدماء.»
Shafi da ba'a sani ba