أما أبناؤه قد ظلوا على ما خلفهم أبوهم عليه، ولكن المنذر الثالث أخذ يسعى بينهم بالوقيعة انتقاما لنفسه منهم ومن أبيهم حتى تحاربوا، فقتل شرحبيل ملك بكر في معركة تعرف عند العرب بيوم الكلاب «وهو ماء بين البصرة والكوفة» قتله رجال أخيه سلمة الحاكم على تغلب، وبلغ أخاه معد يكرب قتله فجزع، وكذلك أدرك سلمة في الآخر نوايا المنذر السيئة، فخرج من تغلب، والتجأ إلى بكر بن وائل فأذعنت له، وقالوا: لا يملكنا غيرك، فبعث إليهم المنذر الثالث يدعوهم إلى طاعته فأبوا، فسار إليهم وكانت بينه وبينهم المعركة المعروفة عند العرب بيوم أوارة الأول الذي انتصر فيه المنذر عليهم، وأسال دمهم على جبل أوارة، وأحرق النساء.
وكان طبيعيا بعد قتل الأخوين سلمة وشرحبيل أن يضعف أثر ملوك كندة ويتضعضع نفوذهم، وأول ما ظهر ذلك كان في خروج بني أسد على حجر بن الحارث ونبذهم طاعته ورفضهم دفع الإتاوة إليه، فحاربهم عليها وأخضعهم، وأباح أموالهم، وحبس أشرافهم، وكانت النتيجة أنهم حقدوا عليه، واغتنموا فرصة فقتلوه.
امرؤ القيس بن حجر الكندي
كان حجر قبل موته قد عهد إلى أحد أصحابه أن يدفع بتركته من سلاح وخيل إلى أي واحد من أبنائه الكثر لم يجزع لموته، ونفذ الصديق الوصية فمر على أبناء حجر الواحد بعد الآخر، وروى لهم حكاية مقتل حجر، فكل جزع، حتى إذا أتى امرأ القيس وكان ببعض أرض اليمن يلعب النرد مع بعض أصحابه فلم يجزع، وانتوى الثأر لأبيه على الرغم من أن أباه كان مهملا له في صباه بسبب قوله الشعر وتشبيبه بالنساء، فأسلم إليه الصديق المال والسلاح، وأخذ امرؤ القيس يطوف بقبائل العرب يستنصرها على قتلة أبيه بني أسد ، فمنهم من كان يمده، ومنهم من كان يرفض خشية بطش بني أسد، وإغضاب المناذرة والفرس، حتى انتهى به الأمر إلى أن يستودع أمواله ودروعه الشاعر اليهودي السموأل الذي كتب له كتابا إلى الحارث بن أبي شمر الغساني يطلب إليه فيه أن يتوسط لامرئ القيس عند قيصر الروم ليساعده على الانتقام من قتلة أبيه وبخاصة لأن ملوك الحيرة - وهم عمال الفرس أعداء قيصر - ساعدوهم.
وقبل الحارث ما أشار به السموأل، وسار امرؤ القيس يقصد قيصر، ولكنه مات في الطريق عند أنقرة في خبر تجد تفصيله في كتب الأدب، فارجع إليه.
ولم يبق بعد موت امرئ القيس من ملوك كندة إلا معد يكرب على قيس عيلان وبعض أمراء صغار لهم شبه سيادة على بعض قبائل العرب التي كانت ضمن مملكة كندة قبل تضعضعها، وما زال الأمر كذلك حتى جاء الإسلام فاكتسح هذه الدويلات إن صح هذا التعبير، كما اكتسح دولتي المناذرة والغساسنة فلم نعد نسمع عنها شيئا في التاريخ.
وليس للكنديين حضارة خاصة؛ لأنهم كما أسلفنا كانوا بدوا ليس لهم مدائن أو حصون، والشيء المهم في قيام دولتهم القصيرة العمر هو أنه كان أول محاولة في داخل بلاد العرب لتوطيد مجموعة من القبائل حول سلطة مركزية لها زعيم واحد، ولم تخلد أو تنجح هذه المحاولة؛ لأن التوحيد العام نجح على يد نبي الإسلام محمد عليه السلام.
وسينطبق كلامنا عن حال العرب الاجتماعية في الشمال على الكنديين؛ لأنهم على الرغم من إرجاع معظم المؤرخين أصلهم إلى الجنوب، لا يختلفون عن عرب الشمال في كثير أو قليل.
الفصل العاشر
تاريخ الحجاز
Shafi da ba'a sani ba