وكان ملوك غسان يقتنون كثيرا من الجواري الروميات، ويكثر في قصورهم المغنون من مكيين وبابليين ويونانيين، والموسيقيون من كلا الجنسين، وكانوا يسرفون في شرب الخمر، وإذا صح ما رواه أبو الفرج في «الأغاني» من أن جبلة كان إذا جلس للشراب فرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين، وضرب له العنبر والمسك في صحاف الفضة والذهب وأوقد له العود الندي إن كان شاتيا، وإن صائفا بطن بالثلج ، وأتى هو وأصحابه بكساء صيفية يتفضل «يمتاز» هو وأصحابه بها، وفي الشتاء بالفراء وما يشبهها، نقول - إذا صح هذا - كان دليلا على ما تمتع به الغساسنة من ترف وحضارة، وقد وجد عدد كبير من شعراء العرب في ملوك غسان أعظم رعاة لهم، وعندما نشب الخلاف بين النابغة الذبياني والملك الحيرى وجد النابغة في بلاط غسان خير ملجأ له، وقد حارب لبيد أحد أصحاب المعلقات في جانب الغساسنة في معركة حليمة كما زار بلاطهم، وامتدحهم في الجاهلية حسان بن ثابت الشاعر المدني قبل أن يصبح شاعر النبي عليه السلام.
أما ديانة الغساسنة فكانت - بحكم جوارهم للروم - النصرانية، ولكنها كانت على المذهب المنوفستي الذي كان شائعا في منطقتهم، والذي عرف فيما بعد باسم المذهب اليعقوبي نسبة إلى يعقوب البرادعي الرهوي.
أما لغتهم فكانت العربية، ولكنهم أيضا اتخذوا لغة الشام الآرامية لغة ثانية لهم فكان شأنهم في ذلك شأن كل القبائل العربية التي سكنت أرض الهلال الخصيب كالتدامرة والمناذرة، أعني أنهم كانوا مزدوجي اللغة.
ولم تكن عاصمة الغسانيين واحدة كما كانت عاصمة المناذرة الحيرة، وفي مبدأ دولتهم كانت عاصمتهم معسكرا متحركا، ثم اتخذ لهم فيما بعد عاصمة ثانية في الجابية، وقد ذكر بعض المؤرخين أن عاصمتهم كانت دمشق أو جلق القريبة منها، وقال آخرون: البلقاء، وقال غيرهم: تدمر، وقال بعضهم: صفين، ومهما يكن من أمر فمما لا شك فيه أنهم أقاموا بجلق فترة غير قصيرة من الزمن، وتقع جلق إلى الجنوب الغربي من دمشق وإلى الشمال من نهر اليرموك.
الفصل التاسع
تاريخ كندة
تمهيد
ذكر الأستاذ نيكلسون في كتابه «تاريخ الأدب العربي» أن دولة كندة كانت لتابعة اليمن ما كان اللخميون لملوك الفرس.
ودولة كندة هذه هي التي كانت تنتظم معظم بلاد نجد مما يلي الحجاز شرقا وتمتد إلى طرف الشام والعراق من ناحية الشمال، وتمارس نفوذا على قبائل عمان في الجنوب، ولم تكن دولة على غرار دولتي المناذرة والغساسنة، بل كانت عبارة عن اتحاد أو تحالف يجمع عدة قبائل، ولقد بدأ ظهورها في منتصف القرن الخامس الميلادي، واستمرت قائمة أكثر من قرن ونصف قرن.
والكنديون قد يكون أصلهم من عرب الجنوب، والظاهر أن التبابعة لجئوا إليهم ليهيمنوا لهم على الطرق التجارية الشمالية التي كانت ترتادها قوافل اليمن التجارية حتى يأمنوا اعتداء قبائل البدو الشمالية عليها، ولم يكن للكنديين مدن كما كان للمناذرة والغساسنة، ولكن الظاهر أنهم - بعد أن توطد سلطانهم - أصبحوا منافسا خطرا لهاتين الدولتين، وخاصة دولة المناذرة التي تمكنوا بممالأة الفرس من طرد ملكها المنذر الثالث، وضمها إلى حلفهم العظيم كما سيأتي.
Shafi da ba'a sani ba