Mece ce Fim
ما هي السينما!: من منظور أندريه بازان
Nau'ikan
من قبيل المفارقة أن عددا من رحلات الاستكشاف السينمائي العظيمة الأولى انطلقت في خدمة الدعاية والإعلان. فقد مولت إحدى شركات تجارة الفراء فيلم «نانوك ابن الشمال» («نانوك أوف ذا نورث»؛ روبرت فلارتي، 1922)؛ ومولت شركة ستروين فيلم «الرحلة السوداء» («بلاك جورني»، «لا كروازيير نوار»؛ ليون بوارييه، عام 1924). وكما هو الحال مع صناع الأفلام، تحكم فلارتي وبوارييه فيما لديهما من مواد، وتلاعبا بها ببراعة من أجل التأثير، لكنهما قاما بهذا بقدر من الصعوبة الواضحة؛ حيث تضمنت الصور والأصوات المسجلة نوعا من المقاومة، محدثة اضطرابا معبرا ومهما، أعتزم إبرازه في هذا الكتاب. أصر إدجار موران على ما يأتي تحديدا: أنه بينما تعكس كل الفنون أحلامنا ورغباتنا، تفعل السينما هذا بشكل فريد من خلال العالم المادي نفسه، أو - بمزيد من الدقة - من خلال مضاعفة هذا العالم. لذا فإن كل الأفلام هي عمليات استحضار خارقة تنتمي لنا جزئيا، وجزئيا فقط. هذا الشد والجذب بين ما هو بشري وبين ما هو غريب، بين ما هو شخصي وبين ما هو دخيل، الذي استغل في كل الفترات، وفي نماذج وأنواع لا حصر لها، تزايدت أهميته خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، حتى ظهور «الموجات الجديدة» العديدة في ستينيات القرن العشرين، التي يتجلى فيها بقوة.
يشجعني جاك أومو على حصر نطاق بحثي في: «الفترة من عام 1945 حتى عام 1960 التي هي بلا نزاع أغنى الفترات، من وجهة نظر تاريخ الأفكار، بشأن الفن السينماتوغرافي.»
9
في الحقيقة، أخطط لاستكشاف ما قبل هذه الفترة، وبكل تأكيد، سأستكمل استكشاف تبعات هذه الفترة وصولا إلى وقتنا الحالي. لكن أومو على حق؛ ففترة ما بعد الحرب هذه، التي كان أندريه بازان يمارس فيها هيمنته المعطاءة، ساعدت في تعميق وجدان السينما ووعيها الذاتي، وفي الوقت نفسه، وسعت سلطانها الثقافي حتى أصبحت تقف بفخر بجانب الفنون الأخرى بوصفها مصدرا للفلاسفة والمنظرين وعلماء الاجتماع، وأي شخص مهتم بالموقف الإنساني في الحداثة.
تنطبق فكرة السينما التي عبر عنها بازان بأفضل طريقة على كل الأفلام والأصناف والأنواع، في كل الفترات. إلا أن أبرز الأمثلة التي تظهر هذه الفكرة على نحو واع تخطر على البال؛ مثل «نانوك ابن الشمال»، و«الأربعمائة ضربة» («ذا فور هندرد بلوز»، «ليه كاتر سون كوب»، 1959) المهدى إلى بازان. وإذ يخطو خارج نظام الاستوديو، بل يخطو حقا خارج الاستوديو؛ فإن فيلم «الأربعمائة ضربة» وكذلك بطله الصغير، يبحثان عن الاكتشاف في حد ذاته. في أحد المشاهد الرمزية، يتجول أنطوان دوانيل، أثناء تغيبه عن المدرسة مع «زميله في الفصل»، في حديقة ملاه؛ حيث يدخل آلة طرد مركزي بشرية. يجسد الممثل الصبي جون بيير لو شخصية دوانيل بطبيعته على أرض الواقع، ويجلس في وضع مستو على جانب الجهاز الدوار من الداخل. يبدو هذا الصبي - الذي لم يكن ممثلا بعد - الممدد في وضع النسر كمشهد أمام أعيننا، متسمرا وعاجزا، لكنه يظهر شعورا نقيا على مركبة تدور كالمنظار المحيائي، وهي تحركه. تعرض لقطة عكسية العالم كما يراه دوانيل، انقلبت الكاميرا المعانقة للحائط رأسا على عقب، ودارت بمعدل رهيب. يترنح لو الدائخ خارجا من باب الجهاز الأسطواني، يتبعه فرانسوا تروفو، الذي نلمحه في الخلفية زميل الصبي أو أخاه الأكبر، أكثر من كونه المخرج. في النهاية، سيخرج لو - هذا الصبي المجهول الذي اختير من بين مجموعة من الصبية في صيف عام 1958 - في وضع دوراني إلى نهاية الأرض، حيث يلتفت ليحدق في تروفو والمشاهد في لقطة ثابتة نهائية. ينتهي الفيلم بالخفوت التدريجي على لقطة مقربة لصبي تلقى تعليمه في الشوارع بمواجهة العالم ومواجهتنا. لن يتعرض لتلاعب «المخرج» بشكل كامل، ولن نعرفه نحن تماما.
المشاعر النقية لصبي. «الأربعمائة ضربة».
وجه لو ذو الأربعة عشر عاما، بمنزلة أيقونة لغموض السينما، وسجل للقائنا المبهم مع صبي حقيقي يؤدي دورا في قصة مسقطة على مدينة باريس منذ 50 عاما. اللقطة الثابتة، والتقطع الميكانيكي للأسطوانة، وظهور المخرج الخاطف؛ كل هذا يرفع فيلم «الأربعمائة ضربة» لمستوى تجريدي يخالف واقعية صوره (الصبي والمدينة) والقصة التي يعرضها. هذا فيلم عن تطلعات السينما بقدر ما هو عن تطلعات جون بيير لو الذي لن تعود حياته كما كانت أبدا. إنه تسجيل لمصاعب صناعة الأفلام ومتعها، وكذلك مصاعب المراهقة ومتعها، واللحظة التي ينفصل فيها الصبي اليافع عن والديه. في صدفة رمزية ومؤثرة، توفي بازان في 11 نوفمبر 1958، وهو اليوم الذي بدأ فيه تصوير «الأربعمائة ضربة». سارع تروفو ليكون بجانب معلمه ومربيه في لحظاته الأخيرة. الفيلم الذي طالما قرئ على أنه سيرة ذاتية هو أيضا فيلم عن فكرة السينما التي دعمها بازان ونقلها للابن.
في لحظة وعي ذاتي أخرى، يذهب لو وصديقه ليختبئا في السينما ثم يعودان لاحقا إلى دار العرض، وينزعان صورة للممثلة الفاتنة هارييت أندرسون التي تؤدي دور مونيكا في فيلم «صيف مع مونيكا» («سمر ويذ مونيكا»، «سومارن مد مونيكا»، 1953). من وجهة نظر تروفو وكل النقاد المتجمعين من حول «كاييه دو سينما» في سنواتها الأولى، كانت مونيكا أيقونة للنزعة الجنسية المتحررة، وكان برجمان رمزا لصناعة الأفلام المتحررة. بانجذابه للفيلم نفسه، قال جودار إن بازان علمه كيف ينتبه ويفهم العلاقة المبهرة بين الممثلة والمشاهد غير المتاحة في السينما الكلاسيكية. تومئ هارييت أندرسون لنا برأسها بخبث، مثلما تفعل جولييتا مازينا في نهاية فيلم «ليالي كابيريا» («ذا نايتس أوف كابيريا»، «لي نوتي دي كابيريا»؛ فيليني، 1957)، ودعوني أضف: مثل جون بول بلموندو في بداياته في فيلم «منقطع الأنفاس» («بريثلس»، «آ بو دو سوفل»؛ جودار، 1960).
ممثلة تخرج من تقمص الدور. «ليالي كابيريا».
من الواضح أن بازان أقر الخيال المراهق لممثلة تخرج من الدور، وتكاد تغادر الشاشة، لتتفاعل مباشرة مع المشاهد المتيم. لكن دعونا لا نتسرع في ذم المراهقة، وهي فترة التساؤل والوعي بالذات. أدرك بازان وجودار أن الممثل شخص وشخصية في الوقت نفسه، ليس حيا فقط داخل العالم التخيلي، ولكنه، بوصفه إنسانا، حاضر لدى المشاهد أيضا. لا ينتقص الوعي بالذات من الخيال (بالضرورة على الأقل) لكنه يسمح لنا برؤية الشرارة التي تقفز من العالم إلى داخل العمل. «لإعادة اختراع السينما» أو «لصنع فيلم وكأنه للمرة الأولى»؛ مثل هذه المقولات يمكن أن يعيد اقتباسها فقط من عرفوا تاريخ السينما عن ظهر قلب، ومخرجي «الموجة الجديدة» الذين درسوا في المعهد السينمائي الفرنسي، الذين اعتبروا أنفسهم بفخر أول جيل يمتلك مثل هذه المعرفة. كان الوعي الذاتي يفهم بشكل متناقض بوصفه شرطا لإعادة السحر للسينما.
Shafi da ba'a sani ba