أقدم الجامعات في أوروبا هي جامعات طليطلة وقرطبة وإشبيلية، وهي التي ازدهرت في أيام العرب، ثم كان أقدم الجامعات التي ظهرت في أوروبا المسيحية بعدها جامعات دينية أنشئت في باريس وأكسفورد، وكانت المدارس في سالرنو وبولونيا ومونبيلييه في إيطاليا وفرنسا ثغورا للثقافة العربية.
وكان من ميزات الثقافة العربية أنها عنيت بعلوم الإغريق دون آدابها، فنقلها العرب وزادوا عليها ونقحوا فيها، فقد أخذوا الكيمياء المصرية فجعلوها علما تجريبيا لم يختلط بالصوفية إلا في أواخر تاريخهم، أما الطب والفلك والبصريات والميكانيات فقد برعوا فيها، وأخذوا الجبر الهندي الممزوج بالبلاغة، فاستعملوه في الرياضة كما أخذوا الأرقام الهندية.
وهذه العلوم هي أصل النهضة الأوروبية، وقد كان يسايرها أدب الإغريق وثقافتهم في الفلسفة والمنطق وما إليهما، ولكن هذه الثقافة كانت تؤخر أوروبا بينما هذه العلوم كانت تعمل لتقدمها، ولكن نرى «روجر بيكون» في القرن الثاني عشر يراقب هاتين الحركتين، حركة الأدب والفلسفة من الإغريق وحركة العلوم التجريبية من العرب، فيقول: «لو كان لي أن أفعل ما أشاء لأحرقت جميع الكتب التي ألفها أرسطوطاليس؛ لأن درسها لا يؤدي إلا إلى ضياع الوقت ولا ينتج غير الجهل».
وقد ولد روجر بيكون، ومات خلال القرن الثالث عشر، وكان يدرس في جامعة أكسفورد، وهو يمثل لنا الفرق بين الطريقة الإغريقية، طريقة التفكير الفلسفي، والطريقة العربية، طريقة التجربة التي اندفع إليها العرب بتجاربهم الكيماوية، ونحن ننقل هذه القطعة التالية منه؛ لأنها تمثل صراعا بين طريقتين في زمنه. «أما وقد شرحنا المبادئ الأساسية لحكمة اللاتينيين كما هي موضحة في اللغة والرياضة والبصريات، أرغب الآن في أن أشرح مبادئ العلم التجريبي، وذلك لأنه بدون التجارب لا تمكن معرفة شيء على وجه الكفاية، وذلك أن هناك طريقتين للتعلم أو اكتساب المعرفة هما: طريقة التفكير، وطريقة التجربة، فبالتفكير نستنتج النتائج ونسلم بها، ولكن التفكير لا يجعل النتائج يقينية ولا هو يزيل الشكوك حتى يسكن العقل إلى الحقيقة ما لم يهتد العقل إلى هذه الحقيقة عن سبيل التجربة.
ومن الناس كثيرون يستطيعون المناقشة فيما يمكن معرفته ولكنهم لا يناقشون؛ لأن التجربة تنقصهم وبذلك لا يتجنبون الضرر ولا يتبعون المفيد، وذلك أنه إذا كان ثم رجل لم ير النار يمكنه بالتفكير أن يثبت أن النار تحرق وتتلف الأشياء، فإن عقله لا يقنع بذلك، وهو أيضا لا يتجنب النار بذلك ما لم يضع يده أو يضع شيئا يحترق في النار فيثبت بالتجربة ما قاده إليه تفكيره، وبعد أن يجرب هذه التجربة العلمية بالنار تتضح له الحقيقة، وعلى ذلك نقول: إن التفكير لا يغنينا وإنما الغناء في التجربة».
ويجمع الآن المؤرخون حوادث تلك القصة التي سبقت «كوبرنيكوس» بنحو أربعمائة سنة، وهي قصة تسرب المعارف العلمية إلى أوروبا قبل النهضة الكبرى.
وخلاصة هذه القصة: إنه عقب إحراق المكتبة الثانية التي كانت بالإسكندرية انتشرت الثقافة الإغريقية في الشرق الأدنى، وذلك؛ لأن البلاط الفارسي رحب بالعلماء اليهود والنسطوريين الهراطقة والأفلاطونيين فتوافدوا إلى فارس، وترجمت الكتب العلمية الإغريقية إلى اللغة السريانية ثم بعد ذلك إلى العربية.
ولما استتب الإسلام صارت بغداد ملتقى الدراسات الإغريقية لبطليموس وأرخميدس وأقليدس وأبقراط، وأيضا للدراسات الهندية التي عرف العرب بوساطتها الجبر، هذا العلم الذي صار بعد ذلك أكبر معوان لتقدم الميكانيات في القرن السادس عشر في أوروبا، وكانت الأزياج الهندية في الفلك قد أدخلت في فارس قبل تأسيس مدرسة بغداد بنحو خمسين سنة، ومعها الحساب الهندي، وكلاهما دخل بعد ذلك بغداد.
وقد افتتحت مدرسة بغداد بترجمة المجسطي لبطليموس، وهندسة أقليدس، ومؤلفات أبقراط، نقلها إلى العربية مترجمون من اليهود، وكانت أزياج طليطلة «سنة 1080» والأزياج الألفونسية طلائع البحث في الفلك وأساس الملاحة مدة الاكتشافات الكبرى، ولما أخرج المسلمون من إسبانيا بقي اليهود فكانوا يختصون بالفلك في برتغال وبالطب في إسبانيا، وكان الطب في ذلك الوقت يدرس باعتباره ثقافة وليس باعتباره موضوعا؛ ولذلك فإنه كان ينتظر من الطبيب أن يعرف الرياضيات.
وقبل أن يخرج العرب من إسبانيا كان اليهود الإسبانيون المتعربون قد انتشروا في أوروبا يحملون معهم ترجمة العلوم الإغريقية ومؤلفات الخوارزمي وابن سينا وابن رشد، ونرى في القرن الثاني عشر بل قبله طوائف من اليهود ينشئون في أوروبا مدارس للطب ويستعملون الكتب العربية أو المنقولة من العربية إلى اللاتينية، وكان النقل أحيانا من العبرانية التي بقيت مدة ما لغة التعارف والثقافة بين الأمم، ونرى في نهاية القرن الحادي عشر أن العالم اليهودي «إبراهيم بارشيا» وهو من المترجمين الذين أدخلوا الرياضيات الجديدة في أوروبا، يلوم اليهود الفرنسيين لأنهم يجهلون الرياضيات.
Shafi da ba'a sani ba