وقد اخترنا «حياة الحيوان» لأن هذا الموضوع، الحيوان، لا يمكن إلا أن يكون موضوعا علميا تدون فيه المشاهدات ويقتصر عليها، ولكن كتاب القرون الوسطى لم ينسوا عند ذكر الحيوان قصة الهدهد مع سليمان يضيفونها جنبا إلى جنب مع مشاهدة علمية دقيقة، فهم ينظرون للدنيا نظرا غيبيا، ويعتمدون في كل ما يكتبون على السلف، وقد يحق لنا أن نقف هنا فنتساءل: لماذا نظر الناس في تلك القرون هذه النظرة الغيبية؟ ولماذا لم يسيروا على النهج الذي نهجه الإغريق القدماء مثل أفلاطون أو أرسطوطاليس؟
وهنا يجب أن ننبه إلى أن هذا النظر الغيبي يرجع في بعض نواحيه إلى الإغريق، كما يتضح من أفلاطون، ثم إن الانحطاط الذي شمل الدولة الرومانية وما أعقبه من فوضى قد حصرا التعليم بين طبقة صغيرة جدا من الناس، وإذا انحصر التعليم كبر في ذهن المتعلم شأن السلف، ثم إن مقاومة الدين للثقافة القديمة وإلغاء المدارس الوثنية جعلا التعليم كله دينيا فأصبح المتعلم، الذي نشأ على الفصل بين الروح والجسم، والإنسان والشيطان، ينظر هذه النظرة نفسها إلى الأشياء الأخرى ويصر، بالعقلية التي اكتسبها من التعليم الديني، على أن يرى في الكواكب والأرقام معاني أخر غير ظاهرهما الطبيعي، ثم لما اعتمد المتعلمون الاعتماد الكلي على السلف زالت ثقتهم بأنفسهم، فكفوا عن التفكير والابتكار واتجه نظرهم إلى الماضي دون المستقبل.
ويمكننا دون أن نخطئ أن نسمي القرون المظلمة، سواء بين العرب أو الغربيين، بالقرون الغيبية، وهي سواء عند الاثنين في السمات، هنالك نجد العلم في الأديان يحمله الرهبان، وهنا نجد الغيبيات تغير على الكيمياء والشعر والتاريخ والأدب عامة.
وارجح الظن أن النظر الغيبي لم يبلغ عند العرب ما بلغه في أوروبا؛ ولذلك يمكننا أن نقول: إن الظلام لم يعم العالم العربي بالمقدار الذي عم به العالم الأوروبي، وإن كنا نحن ما زلنا نتعثر بهذا النظر الغيبي إلى وقتنا هذا.
وقد ذكرنا كتاب «حياة الحيوان» للدميري، ونحن نذكر إلى جنبه كتابا آخر لراهب إنجليزى يدعى «برتفرت» الذي مات سنة 1011 للميلاد حين انحدر الذهن الأوروبي إلى أحط دركاته، والكتاب خليط من المعارف، يكفي القارئ ان ننقل منه هذه النبذة من كلام المؤلف عن الرقم 4 حيث يقول: «إن الرقم 4 هو رقم كامل وهو يتحلى بفضائل أربع هي: الاستقامة، والاعتدال، والجلد، والتصبر، ثم هذا الرقم يتتوج بالفصول الأربعة في السنة، وهذه أسماؤها: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء، ثم هو تزينه أيضا مذاهب الإنجيليين الأربعة الذين يقال إنهم الحيوانات الأربعة التي ذكرت في كتاب حزقيال النبي المشهور، ثم هذا العدد هو عدد محترم إذ انه اسم الله «في اللاتينية» وهو أيضا اسم أول إنسان خلقه الله وهو آدم، ثم هو رقم له جاذبية لا يمكن أن نمر بها ونحن سكوت، وأنا أعني بذلك أن هناك زمنين للاعتدال الشمسي، وزمنين للانقلاب الشمسي، وهناك أربع رياح أصلية هي الرياح الشرقية والغربية والشمالية والجنوبية.
وهناك أيضا أربعة عناصر: الهواء، والنار، والماء، والتراب، وهناك أربع جهات للدنيا هي: الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب، وإذا درسنا هذه الأجزاء بعناية وجدناها جميعها في اسم «لآدم» طبقا للأعداء الإغريقية» ا.ه.
وقليل من المؤلفين العرب من انحط إلى هذه الدرجة، بل لا أكاد أعرف واحدا بلغها، وهو، أي: برتفرت، في كل ما يقوله يعتمد على أحد الثقات من السلف حتى جدول الضرب لا يأتمن فيه نفسه بل يرده إلى أحد السالفين، وعنايته بالألفاظ لا تقل عن عناية الدميري.
على أن هذه القطعة التي نقلناها تدل القارئ على النظر الغيبي، وهو أنه يرى علاقة واضحة بين الاسم اللاتيني لآدم وبين ظواهر الكون، أي: إن الإنسان «كما قال ابن سينا» هو العالم الأصغر للعالم الأكبر، ومن هنا تبرير التنجيم لأننا نحن والنجوم من طبيعة واحدة، بل من هنا نسبة الصفات الإنسانية للأرقام والأجسام والإيمان بالسحر والأرواح والشياطين.
وقد تخلصنا من كثير من هذه الثقافة المظلمة، ولكن النور الجديد، نور العلم، لم يقشعها كلها.
فضل العرب في القرون الوسطى
Shafi da ba'a sani ba