في ذكر عشق النفوس الإلهية
كل واحد من الأشياء الحقيقية الوجود إذا أدرك أو نال خيرا من الخيرات؛ فإنه يعشقه بطباعه عشق النفوس الحيوانية الصور الجميلة، وأيضا كل واحد من الأشياء الحقيقية الوجود إذا أدرك إدراكا حسيا أو عقليا أو اهتدى اهتداء طبيعيا إلى شيء مما يفيده منفعة في وجوده؛ فإنه يعشقه في طباعه، لا سيما إذا كان ذلك الشيء مفيدا له خاصي الوجود، مثل عشق الحيوان الغذاء والوالدين، وأيضا كل شيء تحقق أن شيئا من الموجودات يفيده التشبه به والتقرب إليه والاختصاص به زيادة فضيلة ومزية؛ فإنه يعشقه بطباعه عشق العبد لمولاه، ثم النفوس الإلهية من البشر والملائكة لا يستحق إطلاق التأله عليها ما لم تكن فائزة بمعرفة الخير المطلق، إذ من البين أن هذه النفوس لن توصف بالكمال إلا بعد الإحاطة بالمعقولات ولا طريق إلى تصور المعقولات المعلولة ما لم تقدم عليها معرفة العلل بالحقيقة، وخاصة العلة الأولى على ما أوضحناه في تفسيرنا المقالة الأولى من «كتاب السماع الطبيعي»، كما لا سبيل إلى وجود المعلولات ما لم يقدم عليها وجود ذوات العلل وخاصة العلة الأولى.
والعلة الأولى هي الخير المحض المطلق بذاته؛ وذلك لأنه لما كان يطلق عليه الوجود الحقيقي، وكل واحد مما له وجود فإن حقيقته لا تعرى عن خيرية، ثم الخيرية إما أن تكون مطلقة ذاتية أو مستفادة، فالعلة الأولى خير وخيريته إما أن تكون ذاتية مطلقة أو مستفادة، لكنها إن كانت مستفادة لم تخل من قسمين، إما أن يكون وجودها ضروريا في قوامه، فيكون مفيدها علة لقوام العلة الأولى والعلة الأولى علة لها هذا خلف، وإما أن يكون غير ضروري في قوامه، وهذا محال أيضا على ما نوضحه آنفا، لكنا وإن أعرضنا عن إبطال هذا القسم فإن المطلوب قائم، وذلك أنا إذا رفعنا هذه الخيرية عن ذاته؛ فمن الواضح أن ذاته تبقى موجودة وموصوفة بالخيرية، وتلك الخيرية إما أن تكون ذاتية أو مستفادة، فإن كانت مستفادة فقد تمادى الأمر إلى ما لا يتناهى وذلك محال، وإن كانت ذاتية فهو المطلوب.
وأقول أيضا: إن من المحال أن تستفيد العلة الأولى خيرية غير ذاتية فيه، ولا ضرورية في قوامه؛ وذلك لأن العلة الأولى يجب أن يكون فائزا في ذاته بكمال الخيرية، من أجل أن العلة الأولى إن لم يكن ذاته مستوفيا لجميع الخيرات التي هي بالإضافة إليه حقيقة بإطلاق سمة الخيرية عليها، ولها إمكان وجود فهو مستفيدها من غيرها ولا غير له إلا معلولاته، فإذن مفيده معلوله، ومعلوله لا خير له وفيه ومنه، إلا مستفادا منه، فإذن معلوله إن أفاده خيرية فإنما يفيده خيرية مستفادة منه، لكن الخيرية المستفادة من العلة الأولى، إنما هي من المستفيد، فإذن هذه الخيرية ليست في العلة الأولى، بل في المستفيد، وقيل إنها في الأولى، وذلك خلف.
والعلة الأولى لا نقص فيها بوجه من الوجوه؛ وذلك لأن الكمال الذي بإزاء ذلك النقص إما أن يكون وجوده غير ممكن، فلا يكون إذن بإزائه نقص، إذ النقص هو عدم الكمال الممكن الوجود، وإما أن يكون وجوده ممكنا، ثم الشيء الذي ليس في شيء ما إذا تصور إمكانه تصور معه علة تحصيله في الشيء الذي هو ممكن فيه، وقد قلنا: إنه لا علة للعلة الأولى في كمالها ولا بوجه من الوجوه، فإذن هذا الكمال ليس بممكن فيه، فإذن ليس بإزائه نقص، فإذن العلة الأولى مستوفية لجميع ما هي خيرات بالإضافة إليها، وإن الخيرات العالية التي هي خيرات من جميع الوجوه لا بالإضافة، وهي الخيرات التي هي بالإضافة إليه خيرات مستوفاة له، وقد اتضح أن العلة الأولى مستوفية لجميع الخيرية التي هي بالإضافة إليها خيرية، ولها إمكان وجود، فقد اتضح أن العلة الأولى خير في ذاتها، وبالإضافة إلى سائر الموجودات أيضا، إذ هو السبب الأول لقوامها وبقائها على أخص وجوداتها وانسياقها إلى كمالاتها، فإذن العلة الأولى خير مطلق من جميع الوجوه، وقد كان اتضح أن من أدرك خيرا فإنه بطباعه يعشقه، فقد اتضح أن العلة الأولى معشوقة للنفوس المتألهة، وأيضا فإن النفوس البشرية والملكية لما كانت كمالاتها بأن تتصور المعقولات على ما هي عليها بحسب طاقتها تشبها بذات الخير المطلق، وأن تصدر عنها أفاعيل هي عندها، وبالإضافة إليها عادلة كالفضائل البشرية، وكتحريك النفوس الملكية للجواهر العلوية، موجبة لاستبقاء الكون والفساد تشبها بذات الخير المطلق، وإنما تتولى هذه التحريكات لتجوز بها القربى من الخير المطلق، وتستفيد بالتقرب الفضيلة والكمال، وإن ذلك بتوفيقها وهي متصورة لذلك منه، وقد قلنا: إن مثل هذا عاشق للمتقرب منه، فواجب على ما أوضحناه سالفا أن يكون الخير المطلق معشوقا لها، أعني لجملة النفوس المتألهة، وأيضا فإن الخير المطلق لا شك أنه سبب لوجود ذوات هذه الجواهر الشريفة، ولكمالها فيها، إذ كمالها إنما هو بأن يكون صورا عقلية قائمة بذواتها، وإنها لن تكون كذلك إلا بمعرفة، وهي مصورة لهذه المعاني منه، وقد قلنا إن مثل هذا عاشق لمثل هذا السبب، فيتبين على ما أوضحناه سالفا أن الخير المطلق معشوق لها، أعني لجملة النفوس المتألهة، وهذا العشق فيها غير مزائل البتة؛ وذلك لأنها لا تخلو عن حالتي الكمال والاستعداد ضرورة، وقد أوضحنا ضرورة وجود هذا العشق فيها حالة كمالها، وأما حالة استعدادها فلن توجد إلا في النفوس البشرية دون الملكية؛ لفوز الملكية بكمال ما وجدت وقد وجدت، وهي - أعني النفوس البشرية - بحالة الاستعداد لها شوق غريزي إلى معرفة المعقولات التي هي كمالها وخاصة ما هو أقود للكمال عند تصوره، وأهدى إلى تصور ما سواه، وهذه صفة المعقول الأول الذي هو علة لكون كل شيء معقول سواه معقولا في النفوس وموجودا في الأعيان، فلا محالة أن لها عشقا غريزيا في ذاتها للحق المطلق أولا، ولسائر المعقولات ثانيا، وإلا فوجودها على استعدادها لخاص كمالها معطل، فإذن المعشوق الحق للنفوس البشرية والملكية هو الخير المحض.
الفصل السابع
في خاتمة الفصول
نريد أن نورد في هذا الفصل أن كل واحد من الموجودات يعشق الخير المطلق عشقا غريزيا، وأن الخير المطلق متجل لها لذاته، إلا إن قبولها لتجليه واتصالها به على التفاوت، وأن غاية القربى منه هو قبول تجليه على الحقيقة، أعني على آكد ما في الإمكان، وهو المعنى الذي تسميه الصوفية «الاتحاد»، وأنه لجوده عاشق أن ينال تجليه، وأن وجود الأشياء تجليه.
فنقول لما كان في كل واحد من الموجودات عشق غريزي لكماله؛ وإنما ذلك لأن كماله معنى به تحصل له خيريته، فبين أن المعنى الذي به تحصل للشيء خيريته حيث ما توجد وكيف ما توجد أوجب أن يكون ذلك الشيء معشوقا لمستفيد الخيرية، ثم لا يوجد شيء أولى بذلك من العلة الأولى في جميع الأشياء، فهو إذن معشوق لجميع الأشياء، وكون أكثر الأشياء غير عارف به لا ينفي وجود عشقه الغريزي فيها - كما لا يوجب ذلك بقاء العشق الغريزي - في هذه الأشياء لكمالاتها، والخير الأول بذاته ظاهر متجل لجميع الموجودات، ولو كان ذاته محتجبا عن جميع الموجودات بذاته غير متجل لها لما عرف، ولا نيل منه، ولو كان ذلك في ذاته بتأثير الغير؛ لوجب أن يكون في ذاته المتعالية عن قبول تأثير الغير وذلك خلف، بل ذاته بذاته متجل، ولأجل قصور بعض الذوات عن قبول تجليها يحتجب، فبالحقيقة لا حجاب إلا في المحجوبين، والحجاب هو القصور والضعف والنقص.
وليس تجليه إلا حقيقة ذاته، إذ لا متجلي بذاته في ذاته إلا هو، وإنه كما أوضحه الإلهيون فذاته كريم متجل؛ ولذلك ربما سماه الفلاسفة صورة للعقل، فأول قابل لتجليه هو الملك الإلهي الموسوم بالعقل الكلي فإنه بجوهره ينال تجليه كجوهر الصورة الواقعة في المرآة لمتجلى الشخص الذي هي مثاله، وقريب من هذا المعنى ما قيل إن العقل فعال مثاله، فاحترز أن تقول مثله، وذلك هو الواجب الحق، فإن كل منفعل عن سبب غريب فإنما ينفعل بتوسط مثال واقع من العلل فيه وبالعكس، وكل منفعل إنما ينفعل في قابل الانفعال عنه بتوسط مثال يقع منه فيه، وذلك بين بالاستقراء، فإن الحرارة النارية إنما تفعل في جرم من الأجرام بأن تضع فيه مثاله وهو السخونة، وكذلك سائر القوى من الكيفيات، والنفس الناطقة إنما تفعل في نفس ناطقة مثلها بأن تضع فيها مثالها، وهو الصورة المعقولة، والسيف إنما يقطع بأن يضع في المنفعل عنه مثاله وهو شكله، والمسن إنما يحدد السكين بأن يضع في جوانب حده مثال ما ماسه وهو استواء الأجزاء وملاستها.
Shafi da ba'a sani ba