مقدمة
1 - منهج الفيزيائي الكلاسيكي في تناول الموضوع
2 - الآلية الوراثية
3 - الطفرات
4 - دليل ميكانيكا الكم
5 - مناقشة واختبار نموذج ديلبروك
6 - النظام والفوضى والإنتروبيا
7 - هل الحياة مبنية على قوانين الفيزياء؟
خاتمة: عن الحتمية والإرادة الحرة
مقدمة
1 - منهج الفيزيائي الكلاسيكي في تناول الموضوع
2 - الآلية الوراثية
3 - الطفرات
4 - دليل ميكانيكا الكم
5 - مناقشة واختبار نموذج ديلبروك
6 - النظام والفوضى والإنتروبيا
7 - هل الحياة مبنية على قوانين الفيزياء؟
خاتمة: عن الحتمية والإرادة الحرة
ما الحياة؟
ما الحياة؟
الجانب الفيزيائي للخلية
الحية
تأليف
إرفين شرودنجر
ترجمة
أحمد سمير سعد
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
استنادا إلى محاضرات ألقيت تحت رعاية معهد دبلن للدراسات المتقدمة بكلية ترينيتي في دبلن، في فبراير 1943.
إلى ذكرى والدي.
مقدمة
يفترض في العالم أن يمتلك معرفة كاملة وشاملة، مستقاة من الخبرة الشخصية المباشرة، ب «بعض» الموضوعات؛ لذا غالبا ما يتوقع ألا يكتب عن أي موضوع ليس خبيرا به. يعتبر هذا من التزامات النبلاء. أرجو - تحقيقا لغرضنا الحالي - أن أتخلى عن هذا النبل، إن وجد، وأن أتحرر من كل ما يترتب عليه من التزامات، وعذري في ذلك ما يلي:
لقد ورثنا عن أسلافنا ذلك التلهف الشديد إلى المعرفة الموحدة والشاملة، بل إن الاسم ذاته الذي أطلق على أرقى المؤسسات التعليمية - ألا وهو الجامعة - يذكرنا بأن الطابع «الجامع الشامل» هو الجدير وحده بنيل كامل الفضل والثناء، وذلك منذ العصور المغرقة في القدم، وعبر قرون عديدة. غير أن التوسع في شتى فروع المعرفة، من حيث الكم والعمق، خلال المائة عام الأخيرة واجهنا بمعضلة غير تقليدية؛ إذ بتنا نشعر، بما لا يدع مجالا للشك، بأننا قد بدأنا الآن فقط نتحصل على مادة موثوق فيها تمكننا من دمج كل ما هو معلوم في كيان واحد، لكن من ناحية أخرى أصبح أقرب إلى المستحيل أن يلم عقل واحد بما هو أكثر من قدر ضئيل ومتخصص من هذه المادة على نحو تام.
لا أرى مفرا من هذه المعضلة (لكيلا نحيد عن هدفنا الحقيقي إلى الأبد) إلا أن يقدم بعضنا على الجمع بين الحقائق والنظريات في توليفات جديدة، وإن كان ذلك من خلال معرفة غير مباشرة وقاصرة ببعض منها، ومجازفة بخداع أنفسنا.
هذا هو عذري. •••
لا يمكن تجاهل صعوبات اللغة؛ فاللغة الأم لأحدنا بمنزلة رداء مناسب تماما لمقاساته؛ فلا يشعر المرء أبدا بالراحة إن لم يكن متاحا، وتعين عليه أن يرتدي آخر بدلا منه. لذا، أود أن أعرب عن شكري لأفضال د. إنكستر (كلية ترينيتي، دبلن)، ود. بادريج براون (كلية سان باتريك، ماينوث)، وأخيرا وليس آخرا، السيد إس سي روبرتس. لقد تعرض ثلاثتهم لصعوبات جمة لأجل أن يجعلوا الرداء الجديد مناسبا لي، وتعرضوا لمصاعب أعظم لممانعتي أحيانا التخلي عن أسلوبي «الأصلي». وفي حال صمد هذا الأسلوب أمام توجه أصدقائي لكبح جماحه، فإن المسئولية ينبغي أن تلقى على عاتقي لا عاتقهم.
كان من المزمع أصلا استخدام عناوين الأقسام المتعددة للكتاب ملخصات هامشية، أما متن كل فصل، فيجب أن يقرأ متصلا.
إرفين شرودنجر
دبلن
سبتمبر 1944
الإنسان الحر لا يفكر في الموت إلا أقل القليل؛ فحكمته تسوقه إلى إمعان التفكير في الحياة، لا الموت.
سبينوزا، «علم الأخلاق»، الجزء 4، قضية 67
الفصل الأول
منهج الفيزيائي الكلاسيكي في تناول
الموضوع
أنا أفكر، إذن أنا موجود.
ديكارت (1) الطابع العام للكتاب والغرض منه
ولد هذا الكتاب الصغير من رحم مجموعة محاضرات عامة، ألقاها أحد علماء الفيزياء النظرية أمام نحو أربعمائة من الحضور الذين لم يتقلص عددهم كثيرا، على الرغم من تحذيرهم في البداية من أن الموضوع قيد البحث من الموضوعات الصعبة، وأن المحاضرات ليست موجهة للعامة، على الرغم من أن الاستنتاج الرياضي - وهو من أكثر أسلحة الفيزيائي المحاضر إثارة للفزع - لم يكن سيستخدم إلا فيما ندر. لم يكن ذلك لأن الموضوع كان بسيطا للغاية بحيث يمكن شرحه دون الاستعانة بعلم الرياضيات، بل لأنه كان على درجة من التعقيد يتعذر معها التناول الرياضي له على نحو كامل. ثمة سمة أخرى أعطت على الأقل بعضا من الجاذبية للمحاضرات، ألا وهي نية المحاضر بأن يوضح الفكرة الأساسية التي تتراوح بين علمي الأحياء والفيزياء، لكل من عالم الفيزياء وعالم الأحياء.
وعلى الرغم من تنوع الموضوعات المتضمنة فالمقصود، في الواقع، من هذا الجهد في مجمله هو إيصال فكرة واحدة فقط؛ تعليق واحد صغير على سؤال كبير ومهم. وحتى لا ننحرف عن الطريق، ربما يكون من المفيد أن نضع الخطوط العريضة للخطة المتبعة هنا على نحو مختصر جدا مقدما.
إن السؤال الكبير المهم الذي نوقش كثيرا هو:
كيف يمكن للفيزياء والكيمياء أن تفسرا الأحداث التي تقع «في الزمان والمكان» داخل الكائن الحي؟
الإجابة المبدئية التي سيسعى هذا الكتاب الصغير لشرحها والتأسيس لها يمكن تلخيصها في التالي:
إن العجز الواضح للفيزياء والكيمياء بصورتيهما الحاليتين عن تفسير هذه الأحداث ليس سببا على الإطلاق للشك في إمكانية تفسيرهما لها. (2) الفيزياء الإحصائية: الاختلاف الجوهري في التركيب
سيكون ذلك تعليقا تافها لو كان المقصود منه مجرد إثارة الأمل في أن نحقق في المستقبل ما لم نحققه في الماضي. لكن المعنى المقصود أكثر إيجابية بكثير؛ أي إن العجز القائم حتى يومنا هذا مبرر تماما.
اليوم، وبفضل العمل البارع لعلماء الأحياء، خاصة علماء الوراثة، خلال الثلاثين أو الأربعين عاما الماضية، صرنا نعرف قدرا من المعلومات عن التركيب الفعلي للمادة التي تشكل الكائنات الحية ووظائفها، يكفي ليؤكد ويفسر بدقة عجز الفيزياء والكيمياء المعاصرتين عن تفسير ما يحدث في الزمان والمكان داخل الكائن الحي.
إن ترتيبات الذرات في أكثر الأجزاء حيوية من الكائن الحي والتفاعل بين هذه الترتيبات، يختلفان بصورة جوهرية عن كل تلك الترتيبات الذرية التي جعلها علماء الفيزياء والكيمياء مادة لأبحاثهم التجريبية والنظرية حتى الآن. لكن الاختلاف الذي أطلقت عليه لتوي جوهريا هو من النوع الذي قد يبدو بسهولة طفيفا لأي أحد ما عدا الفيزيائي المتشرب تماما بمعرفة تنص على أن قوانين الفيزياء والكيمياء يحكمها الإحصاء على الدوام.
1
فمن وجهة النظر الإحصائية يختلف تركيب الأجزاء الحيوية للكائنات الحية اختلافا تاما عن تركيب أي مادة تعاملنا معها، نحن الفيزيائيين أو الكيميائيين، تعاملا ماديا في معاملنا، أو عقليا على مكاتبنا.
2
يكاد يكون من غير المتصور أن يكون للقوانين وأوجه الانتظام التي اكتشفت تطبيق فوري بالضرورة على سلوك الأنظمة التي لا تحمل ذات التركيب الذي بنيت عليه هذه القوانين وأوجه الانتظام.
ليس من المتوقع أن يلم غير المشتغلين بالفيزياء - فضلا عن أن يقدروا - دلالة هذا الاختلاف في «التركيب الإحصائي» المعبر عنه على نحو مجرد للغاية كالذي استخدمته للتو. وفي سبيل منح الأمر نبضا وحيوية، سأستبق وأذكر ما سيأتي شرحه تفصيلا فيما بعد؛ ألا وهو أن أكثر أجزاء الخلية الحية أهمية، وهو الليفة الكروموسومية، قد يكون مناسبا أن نطلق عليه «البلورة غير المنتظمة أو الدورية». لم نتعامل في الفيزياء حتى اللحظة الراهنة إلا مع «البلورات المنتظمة». في نظر الفيزيائي العادي، تعد الأخيرة مواد شائقة ومعقدة للغاية؛ فهي تمثل واحدامن أكثر تركيبات المادة روعة وتعقيدا التي تخلب بها الطبيعة غير الحية لبه. غير أنها بسيطة ومملة إذا ما قورنت بالبلورات غير المنتظمة. يشبه الفارق في تركيبهما ذلك الفارق بين ورق حائط عادي وتحفة فنية مطرزة ومزخرفة، كلوح رافايل النسيجي المطرز مثلا؛ ففي المثال الأول، يتكرر النمط نفسه مرة تلو الأخرى على نحو دوري منتظم، أما في الثاني، فلا تكرار ممل، بل تصميم دقيق محكم ذو مغزى، نسجه فنان بارع.
إنني أقصد هنا الفيزيائي الحق عندما قلت إن البلورة المنتظمة تعد أكثر المواد تعقيدا في بحثه. إن الكيمياء العضوية، من خلال بحثها ومحاولتها سبر أغوار جزيئات أكثر تعقيدا، اقتربت كثيرا في الحقيقة من البلورة غير المنتظمة التي في رأيي هي المادة الحاملة للحياة؛ لذا ليس عجيبا أن يكون لعلماء الكيمياء العضوية إسهامات كبيرة مهمة بالفعل في معضلة الحياة، بينما إسهامات الفيزيائيين تكاد تكون معدومة. (3) منهج الفيزيائي العادي في تناول الموضوع
بعد أن أوضحت بإيجاز شديد الفكرة العامة - أو بالأحرى النطاق الرئيسي - لبحثنا، دعوني أصف طريقتي في تناول الأمر.
أقترح بداية أن نتوسع فيما يمكن لكم أن تدعوه ب «أفكار الفيزيائي العادي عن الكائنات الحية»، وهي الأفكار التي قد تبزغ في ذهن الفيزيائي الذي درس الفيزياء، خاصة الأساس الإحصائي لها، ثم بدأ التفكير في الكائنات الحية، وفي طريقة سلوكها وأدائها وظائفها، وسأل نفسه على نحو واع عما إذا كان يستطيع أن يسهم بما له صلة بالمسألة؛ وذلك من خلال ما تعلمه، ومن منظور علمه البسيط والواضح والمتواضع نسبيا.
سينجلي الأمر عن استطاعته. أما الخطوة التالية فيجب أن تكون مقارنة تكهناته النظرية بالحقائق البيولوجية. سيتبين لاحقا أنه بالرغم من أن أفكاره في مجملها تبدو معقولة تماما، فإنها بحاجة إلى تعديلات كبيرة. بهذه الطريقة يمكن لنا تدريجيا أن نقترب من الطريق الصحيح، أو بتعبير أكثر تواضعا، الطريق الذي أرى أنه صحيح.
حتى لو كنت مصيبا في ذلك، فلا أدري إن كان أسلوبي هذا هو الأفضل والأسهل أم لا لكنه، باختصار، أسلوبي. و«الفيزيائي العادي» هو أنا، ولم أجد أي أسلوب أوضح أو أفضل لتحقيق هدفي إلا أسلوبي الملتوي ذلك. (4) لماذا تتسم الذرات بحجمها الشديد الضآلة؟
من الأساليب الجيدة للتوسع في «أفكار الفيزيائي العادي» البدء بذلك السؤال الغريب، الذي يكاد يكون سخيفا: لماذا تتسم الذرات بحجمها الشديد الضآلة؟ إن الذرات، بداية، صغيرة للغاية بالفعل، ويحوي كل جزء صغير من المادة التي نتعامل معها في حياتنا اليومية عددا هائلا منها. قدم الكثير من الأمثلة لتوضيح هذه الحقيقة وتيسير فهمها على المتلقين، لكن أشدها إثارة للإعجاب هو ذلك المثال الذي ضربه اللورد كلفن: افترض أنك قادر على وضع علامة على الجزيئات التي يحتويها كوب ماء لتمييزها، وأنك صببت محتوى الكوب في المحيط، وقلبت المحيط جيدا حتى تتوزع الجزيئات المميزة بالتساوي على مائه؛ إذا أخذت كوبا من الماء من أي موضع في المحيط، فستجد فيه ما يقارب المائة من جزيئاتك المميزة.
3
يتراوح الحجم الفعلي للذرات
4
بين 1 / 5000 و1 / 2000 من الطول الموجي للضوء الأصفر. إن للمقارنة مغزاها لأن الطول الموجي يحدد على وجه التقريب أبعاد أصغر جسم يمكن رصده بالمجهر، وهكذا سوف يتبين أن هذا الجسم الصغير ما زال يحوي آلاف الملايين من الذرات.
والآن، لماذا تبدو الذرات شديدة الضآلة؟
يبدو واضحا أن هذا السؤال مراوغ؛ لأنه لا يقصد في الواقع حجم الذرات ، بل حجم الكائنات الحية، وبالأخص حجم ذواتنا المادية أو أجسادنا. تبدو الذرة صغيرة بالفعل بالنسبة إلى وحدات الطول المدنية التي نستخدمها، كالياردة أو المتر. في الفيزياء الذرية، من المعتاد استخدام وحدة قياس تسمى الأنجستروم (ورمزها
Å ) وهي تساوي 10
10
جزء من المتر، أو في الترقيم العشري، 0,0000000001 متر. والقطر الذري يتراوح بين 1 و2 أنجستروم. إن وحدات القياس المدنية تلك (التي تبدو الذرة متناهية الصغر بالنسبة إليها) ذات صلة وثيقة بحجم أجسادنا. هناك قصة ترجع أصل الياردة إلى الحس الفكاهي لأحد ملوك إنجلترا الذي سأله مستشاروه عن وحدة القياس التي سيعتمدونها، فمد ذراعه إلى جانبه، وقال: «خذوا المسافة من منتصف صدري إلى أطراف أصابعي، وسوف يفي هذا بالغرض.» وسواء أكانت القصة حقيقية أم لا، فهي دالة على غرضنا؛ فالملك أشار تلقائيا إلى طول يمكن مقارنته بطول جسده، مدركا أن أي شيء آخر لن يكون ملائما للغاية. ورغم ولع الفيزيائي بالأنجستروم، فإنه يفضل أن يقال له إن بزته الجديدة تحتاج إلى ست ياردات ونصف الياردة من الصوف، على أن يقال له: إنها تحتاج إلى خمسة وستين مليار أنجستروم من الصوف.
اتفقنا إذن على أن الغرض الحقيقي لسؤالنا هو إبراز النسبة بين طولين، طول جسدنا وطول الذرة، وبما أن للذرة ووجودها المستقل أولوية لا مراء فيها، فإن السؤال في الحقيقة هو: لماذا تبدو أجسادنا غاية في الضخامة مقارنة بالذرة؟
يمكنني أن أتخيل أن كثيرا من طلاب الفيزياء أو الكيمياء المتحمسين ربما يستنكرون الحقيقة القائلة إن كل عضو من أعضاء الحس في أجسادنا، الذي يشكل جزءا كبيرا منها بصورة أو بأخرى (في ضوء القيمة المذكورة عنها)؛ ومن ثم يتكون من عدد لا يحصى من الذرات، إنما هو من القوة بحيث لا يظهر عليه تأثير أي ذرة منفردة. نحن لا نستطيع أن نرى الذرات المنفردة أو نشعر بها أو نسمعها، وفرضياتنا عنها تختلف اختلافا كبيرا عن النتائج الفورية التي ترصدها أعضاء حسنا الضخمة، ولا يمكن اختبارها بالملاحظة المباشرة.
هل من مفر من ذلك؟ هل يوجد سبب جوهري لذلك ؟ هل يمكن إرجاع هذا الوضع إلى مبدأ أول، حتى نتأكد ونفهم لماذا لا يتناسب شيء ما مع قوانين الطبيعة؟
هذه قضية يستطيع الفيزيائي، هذه المرة، أن يوضحها تمام التوضيح. إن الجواب عن كل هذه التساؤلات إنما هو بالإيجاب. (5) عمل الكائن الحي يتطلب قوانين فيزيائية دقيقة
لو لم يكن الأمر كذلك، أي لو كنا كائنات حية حساسة للغاية لدرجة أن ذرة واحدة أو حتى بضع ذرات قادرة على إحداث تأثير ملموس على حواسنا، فيا إلهي! كيف كانت ستبدو الحياة؟! دعونا نؤكد نقطة واحدة: إن كائنا حيا كهذا لن يتمكن، بكل تأكيد، من تطوير هذا النوع من التفكير المنظم الذي يؤدي في النهاية، بعد اجتياز سلسلة طويلة من مراحل سابقة، إلى تكوين فكرة الذرة، من بين الكثير من الأفكار الأخرى.
رغم اختيارنا تلك النقطة فقط، فإن الاعتبارات التالية سوف تنطبق أيضا بالضرورة على عمل الأعضاء الأخرى بخلاف المخ والجهاز الحسي. غير أن الشيء الواحد والأوحد محل اهتمامنا البالغ في ذواتنا هو أننا نشعر ونفكر وندرك. فبالنسبة إلى العملية الفسيولوجية المسئولة عن التفكير والإحساس، كل ما عدا ذلك يلعب دورا ثانويا، من المنظور البشري على الأقل إن لم يكن من المنظور البيولوجي الموضوعي البحت. إضافة إلى ذلك، مما سيسهل كثيرا من مهمتنا، هو أن نختار لبحثنا العمليات التي تجري مصحوبة بأحداث غير موضوعية، رغم جهلنا بالطبيعة الحقيقية لهذه المصاحبة الوثيقة. وأرى، في الحقيقة، أن ذلك يقع خارج نطاق العلوم الطبيعية، وغالبا خارج نطاق الفهم البشري كله.
يجابهنا إذن السؤال التالي: لماذا من الضروري أن يتكون عضو كالمخ، والجهاز الحسي المتصل به، من عدد هائل من الذرات، من أجل أن تكون حالته المتغيرة فيزيائيا في توافق وثيق مع تفكير غاية في التطور؟ وعلى أي أساس لا تكون المهمة الأخيرة للعضو المذكور متوافقة مع كونه، في مجمله أو في بعض من أجزائه الطرفية المتفاعلة مباشرة مع البيئة، آلية دقيقة وحساسة بما يكفي لتتأثر بذرة واحدة من الخارج وتستجيب لها؟
يعزى ذلك إلى أن ما نطلق عليه التفكير أولا: هو في ذاته أمر منهجي؛ وثانيا: لا يمكن تطبيقه إلا على مادة ما، أي على مدركات أو خبرات، على درجة معينة من المنهجية والترتيب. إن لمثل هذه الحقيقة نتيجتين؛ الأولى: لكي يكون أي نظام فيزيائي في توافق وثيق مع التفكير (كتوافق مخي مع تفكيري)، لا بد أن يكون نظاما في غاية الترتيب، وهو ما يعني امتثال الأنشطة التي تجري داخله لقوانين فيزيائية صارمة، على درجة عالية جدا من الدقة على الأقل. أما النتيجة الثانية، فهي أن التأثيرات الفيزيائية التي تحدثها أجسام أخرى من الخارج على هذا النظام المتصف بالترتيب الفيزيائي الجيد تتوافق بوضوح مع إدراك التفكير المطابق وخبرته، مكونة مادته، كما أطلقت عليها. وعلى هذا، يجب أن تتسم في الغالب التفاعلات الفيزيائية بين نظامنا والأنظمة الأخرى بدرجة معينة من التنظيم الفيزيائي؛ أي بعبارة أخرى، ينبغي أن تمتثل لقوانين فيزيائية صارمة على درجة معينة من الدقة. (6) القوانين الفيزيائية تستند إلى إحصاءات ذرية؛ ومن ثم فهي تقريبية فقط
لماذا لا يمكن أن يتحقق كل ذلك في كائن حي مكون من عدد متوسط من الذرات فقط، وحساس بالفعل لتأثير ذرة واحدة أو عدد قليل من الذرات فحسب؟
لأننا نعرف أن كل الذرات تقوم طوال الوقت بحركة حرارية غير منتظمة تماما، وتتعارض، إن جاز التعبير، مع سلوكها المنتظم، وهو ما لا يسمح للأنشطة التي تجري بين عدد ضئيل من الذرات أن تخضع لأي قوانين معروفة. لا تبدأ القوانين الإحصائية عملها، ولا تتحكم في سلوك الذرات بدقة، إلا في حالة تعاون عدد هائل من الذرات، وتزداد دقة القوانين الإحصائية مع تزايد عدد الذرات المشاركة، وبهذه الطريقة تكتسب الأنشطة سمات منظمة حقيقية. تتصف كل القوانين الفيزيائية والكيميائية التي تلعب دورا مهما في حياة الكائنات الحية بهذه السمة الإحصائية؛ أي نوع آخر من المطابقة أو التنظيم الذي قد نفكر فيه، سيضطرب ويتعطل دائما بفعل الحركة الحرارية الدائبة للذرات. (7) تعتمد الدقة على العدد الكبير من الذرات المشاركة (7-1) المثال الأول: «البارامغناطيسية»
دعوني أوضح ذلك بأمثلة قليلة اخترتها عشوائيا إلى حد ما من بين آلاف الأمثلة، وربما لا تكون أفضل ما يجذب قارئا يطلع لأول مرة على مثل هذه الظاهرة، التي تعد أساسية وجوهرية في الفيزياء والكيمياء المعاصرتين، وتعادل في أهميتها الحقيقة القائلة إن الكائن الحي مكون من خلايا في علم الأحياء، أو قانون نيوتن في الفلك، أو حتى سلسلة الأعداد الصحيحة 1، 2، 3، 4، 5 ... في الرياضيات. ينبغي ألا يتوقع القارئ المبتدئ أن يكتسب من الصفحات القليلة القادمة فهما وتقديرا كاملين للموضوع الذي يقترن بأسماء لامعة، مثل لودفيج بولتسمان وويلارد جيبز، والذي تتناوله المراجع تحت اسم «الديناميكا الحرارية الإحصائية».
إذا ملأت أنبوبا مستطيلا من زجاج الكوارتز بغاز الأكسجين ثم وضعته في مجال مغناطيسي، فستجد الغاز قد تمغنط.
5
ترجع هذه المغناطيسية إلى أن جزيئات الأكسجين عبارة عن مغناطيسات صغيرة، وتميل إلى الوجود بمحاذاة المجال المغناطيسي، كإبرة البوصلة، لكن يجب ألا تظن أن جميعها تتوازى بالفعل؛ إذ لو ضاعفت قوة المجال المغناطيسي، فستحصل على ضعف المغناطيسية في الجسم الأكسجيني. ويستمر هذا التناسب حتى يصل إلى مجالات ذات قوة شديدة، مع ازدياد المغناطيسية بمعدل ازدياد قوة المجال.
شكل 1-1: البارامغناطيسية.
يعد هذا مثالا واضحا على نحو خاص على قانون إحصائي بحت. فتعمد الحركة الحرارية إلى المقاومة المستمرة للوضعية التي يميل المجال إلى إنتاجها؛ إذ تعمل هذه الحركة على ترتيب الجزيئات في وضعية عشوائية. يسفر هذا الصراع في الحقيقة عن مجرد تفضيل بسيط للزوايا الحادة على تلك المنفرجة بين المحاور الثنائية القطب والمجال. وعلى الرغم من أن الذرات المنفردة تغير وضعياتها باستمرار، فإنها تنتج في المتوسط (نظرا لعددها الضخم) ترجيحا ضئيلا وثابتا للوضعية في اتجاه الحقل، وعلى نحو متناسب معه. يعود الفضل في هذا التفسير البارع إلى الفيزيائي الفرنسي بي لانجفان، ويمكن التأكد منه بهذه الطريقة: لو أن المغناطيسية الضعيفة المرصودة هي حقا نتيجة الاتجاهات المتنافسة؛ أي المجال المغناطيسي الذي يعمل على ترتيب كل الجزيئات بحيث تكون متوازية، والحركة الحرارية التي تعمل على ترتيبها في وضعية عشوائية، فحري إذن أن يكون من الممكن زيادة المغناطيسية بإضعاف الحركة الحرارية؛ أي بتقليل الحرارة، بدلا من تقوية المجال. يتأكد ذلك بالتجربة التي ستخلص إلى أن المغناطيسية تتناسب عكسيا مع درجة الحرارة المطلقة، وهو ما يتفق كميا مع الجانب النظري (قانون كوري)، بل إن المعدات الحديثة تمكننا عن طريق خفض درجة الحرارة من تقليل الحركة الحرارية إلى مقدار غاية في الضآلة بحيث يسمح للميل التوجيهي للمجال المغناطيسي بفرض سيطرته على نحو كاف على الأقل، إن لم يكن تاما، لإنتاج قدر كبير من «المغناطيسية الكاملة»، وفي هذه الحالة لن نتوقع أن تؤدي مضاعفة قوة المجال إلى مضاعفة المغناطيسية، بل ستزداد الأخيرة بقدر أقل فأقل مع زيادة قوة المجال، مقتربة مما يسمى «التشبع». إن مثل هذا التنبؤ تأكد كميا أيضا بالتجربة.
لاحظ أن هذا السلوك يعتمد بالكامل على عدد ضخم من الجزيئات التي تتعاون في إنتاج هذه المغناطيسية الملاحظة، وإلا فلن تكون المغناطيسية ثابتة على الإطلاق، بل ستشهد على تقلبات الصراع بين الحركة الحرارية والمجال، وذلك بتذبذبها العشوائي من لحظة إلى أخرى. (7-2) المثال الثاني: «الحركة البراونية والانتشار»
إذا ملأت الجزء السفلي من إناء زجاجي مغلق بالضباب المتكون من قطرات دقيقة من الماء، فستجد أن الحد العلوي من الضباب قد بدأ ينحدر تدريجيا بسرعة محددة بدقة، تحددها لزوجة الهواء وحجم القطرات وثقلها النوعي. لكنك متى فحصت إحدى هذه القطرات تحت المجهر، فستجد أنها لا تنحدر دائما بسرعة ثابتة، بل تؤدي حركة غير منتظمة للغاية، وهي التي يطلق عليها الحركة البراونية، والتي تتوافق مع انحدار منتظم في المتوسط فحسب.
إن هذه القطرات ليست بذرات، لكنها صغيرة وخفيفة بما يكفي لتكون معرضة لتأثير إحدى تلك الجزيئات، التي تطرق أسطحها في تأثير دائم. هكذا تتعرض تلك القطرات لخبطات طوال الوقت، ولا يسعها الاستجابة لتأثير الجاذبية إلا بمعدلات متوسطة.
شكل 1-2: الضباب المنحدر.
شكل 1-3: الحركة البراونية لقطرة منحدرة.
يبين هذا المثال كم سيبدو حالنا مضحكا ومضطربا إذا ما قدر لحواسنا أن تكون معرضة لتأثير عدد قليل من الجزيئات. توجد بكيتريا وكائنات حية أخرى على قدر من الضآلة يجعلها تتأثر بشدة بهذه الظاهرة؛ إذ تتأثر حركاتها بالتقلبات الحرارية في الوسط المحيط، ولا خيار أمامها. إن كانت لتلك الكائنات قدرة مستقلة على التحرك، فربما تنجح في التنقل من مكان لآخر لكن ببعض الصعوبة؛ لأن الحركة الحرارية تتقاذفها كقارب صغير في بحر هائج.
شكل 1-4: الانتشار من اليسار إلى اليمين في سائل ذي تركيزات متنوعة.
إن «الانتشار» ظاهرة قريبة جدا من الحركة البراونية. تخيل وعاء ممتلئا بسائل، فلنقل ماء، مع كمية ضئيلة من مادة ملونة ذائبة فيه، فلنقل برمنجنات البوتاسيوم، دون تركيز موحد، بل كما هو موضح في الشكل
1-4 ؛ حيث تدل النقاط على جزيئات المادة الذائبة (البرمنجنات) وتضاؤل تركيزها من اليسار إلى اليمين. لو أنك تركت هذا النظام دون تدخل، فستبدأ عملية بطيئة جدا من «الانتشار»؛ حيث ستنتشر البرمنجنات من اليسار إلى اليمين؛ أي من المواضع الأعلى تركيزا إلى تلك الأقل تركيزا، إلى أن تتوزع على نحو متساو في الماء.
إن الأمر المميز في هذه العملية البسيطة التي قد تبدو في ظاهرها غير مثيرة للاهتمام هو أنها ليست - كما قد يظن المرء - نتيجة أي ميل أو قوة تقود جزيئات البرمنجنات بعيدا عن المنطقة المزدحمة إلى الأقل ازدحاما، تماما كانتشار سكان بلد ما إلى المناطق الأقل ازدحاما. لا شيء من هذا القبيل يحدث لجزيئات البرمنجنات في الحالة المذكورة، فكل واحد منها يتصرف باستقلالية تامة عن الجزيئات الأخرى، ولا تتلاقى تلك التصرفات إلا في القليل النادر. يعاني كل جزيء منها، سواء في منطقة مزدحمة أو خالية، المصير نفسه، ألا وهو تلقي الضربات المتواصلة من تأثيرات جزيئات الماء؛ ومن ثم التحرك تدريجيا في اتجاه غير متوقع، ناحية التركيز الأعلى أحيانا، وناحية التركيز الأقل أحيانا، وبميل أحيانا أخرى. كثيرا ما شبهت حركتها بحركة شخص معصوب العينين على سطح كبير وهو مفعم برغبة معينة في «المشي»، لكن بلا تفضيل لأي اتجاه خاص؛ ولذلك يغير مساره باستمرار.
إن ما يثير الحيرة لأول وهلة هو أن الحركة العشوائية لجزيئات البرمنجنات - وهي الحركة نفسها تماما للجزيئات جميعا - تؤدي إلى تدفق منتظم تجاه التركيز الأقل، وتؤدي في النهاية إلى توزيع منتظم، لكن الحيرة ستعتريك للوهلة الأولى فحسب. فإذا تأملت الشكل
1-4 ، فستلاحظ شرائح رقيقة ثابتة التركيز تقريبا. إن جزيئات البرمنجنات الموجودة في شريحة محددة في لحظة معينة سوف تحمل، بحركتها العشوائية، نحو اليمين أو اليسار باحتمالية متساوية. لكن نتيجة لذلك تحديدا، سوف يعبر المسطح الفاصل بين شريحتين متجاورتين عدد من الجزيئات القادمة من اليسار أكبر من تلك الآتية من الاتجاه المعاكس؛ وذلك ببساطة لأنه على اليسار يوجد عدد أكبر من الجزيئات المنخرطة في حركة عشوائية مقارنة بعدد الجزيئات المنخرطة في الحركة ذاتها على اليمين. وما دامت الحال كذلك فسيظهر التوازن تدفقا منتظما من اليسار إلى اليمين إلى أن نصل إلى توزيع منتظم.
عندما نترجم هذه الاعتبارات إلى لغة رياضية، سنتوصل إلى قانون الانتشار الدقيق في صورة معادلة تفاضلية جزئية:
لن أرهق القارئ بشرح المعادلة، على الرغم من أن معناها في اللغة العادية بسيط أيضا.
6
إن السبب وراء ذكر هذا القانون الصارم «المنضبط رياضيا» هو التأكيد على أن دقته الفيزيائية يجب اختبارها مع كل تطبيق معين. فنظرا لكونه مبنيا على الصدفة البحتة، فإن صحته لا تعدو أن تكون تقريبية فقط. ولو أنه تقريب جيد جدا، فذلك يعزى فقط إلى العدد الهائل من الجزيئات التي تعمل معا في هذه الظاهرة. وكلما قل العدد، ازدادت الانحرافات العشوائية التي يجب أن نتوقعها والتي يمكن ملاحظتها تحت ظروف مواتية. (7-3) المثال الثالث: «حدود دقة القياس»
آخر مثال سنضربه قريب جدا من المثال الثاني، لكن له أهمية خاصة. كثيرا ما يستخدم الفيزيائيون جسما خفيفا معلقا بخيط طويل رفيع في حالة اتزان لقياس القوى الضعيفة التي تحرفه عن وضع الاتزان، مع استخدام القوى الكهربية أو المغناطيسية أو قوى الجاذبية للفه حول محوره الرأسي. (الجسم الخفيف يجب - بكل تأكيد - اختياره بما يناسب الغرض المعين.) إن المجهود المستمر المبذول لتحسين دقة هذه الأداة الشائعة الاستعمال بكثرة التي تتسم ب «الاتزان الالتوائي»، قد جابهه حد غريب، شديد الإثارة في ذاته؛ فعند اختيار أجسام أخف فأخف وخيوط أرفع وأطول؛ وذلك كي نجعل الاتزان حساسا لقوى أضعف فأضعف، وصلنا إلى الحد الذي أصبح الجسم المعلق عنده حساسا على نحو ملحوظ لتأثيرات الحركة الحرارية للجزيئات المحيطة، وبدأ في أداء «رقصة» مستمرة غير منتظمة حول وضع الاتزان، تماما مثل ارتجاف القطرات في المثال الثاني. على الرغم من أن هذا السلوك لا يقر حدا مطلقا لدقة القياسات التي نحصل عليها عن طريق الاتزان، فإنه يضع حدا عمليا. إن تأثير الحركة الحرارية الذي لا يمكن التحكم فيه يتنافس مع تأثير القوة المراد قياسها، مما يجعل الانحراف الوحيد الملحوظ غير ذي بال. عليك مضاعفة مشاهداتك من أجل التخلص من تأثير الحركة البراونية لأداتك. أعتقد أن لهذا المثال قيمة توضيحية في بحثنا الحالي، فأعضاء حسنا في النهاية هي نوع من الأدوات. وهكذا نستطيع أن ندرك كيف ستصير هذه الأعضاء بلا فائدة لو أنها كانت حساسة أكثر من اللازم. (8) قاعدة
سنكتفي، حاليا، بهذا القدر من الأمثلة. سأضيف فقط أنه لا يوجد قانون واحد في الفيزياء أو الكيمياء ذو صلة بالكائن الحي أو بتفاعلاته مع بيئته قد لا أختاره مثالا. ربما يكون التفسير المفصل أكثر تعقيدا، لكن النقطة البارزة ستظل دائما واحدة، وهكذا سيصبح التفسير مملا ورتيبا.
لكنني أود أن أضيف عبارة كمية مهمة جدا تتعلق بدرجة عدم الدقة المتوقعة في أي قانون فيزيائي، وهو ما يدعى بقاعدة . سأوضحها بداية بمثال بسيط ثم سأعممه.
إذا أخبرتك أن غازا معينا تحت ظروف معينة من الضغط ودرجة الحرارة له كثافة معينة، وإذا عبرت عن ذلك بالقول إنه في داخل حجم معين من الغاز، يوجد تحت هذه الظروف عدد
من جزيئات الغاز، فربما تكون متأكدا أنك لو استطعت أن تختبر صحة عبارتي في لحظة محددة من الزمن، فسوف تجدها غير دقيقة. وسيكون الانحراف ما قيمته ؛ ومن ثم إذا كان
يساوي 100 فستجد انحرافا قيمته 10 تقريبا؛ ومن ثم يكون الخطأ النسبي 10٪. لكن عندما تساوي
مليون جزيء، فعلى الأغلب ستجد انحرافا يقدر بحوالي 1000، وسيكون الخطأ النسبي 1 / 10٪. إن هذا القانون الإحصائي ، بصورة إجمالية، عام إلى حد كبير، وقوانين الفيزياء والكيمياء الفيزيائية غير دقيقة ضمن حدود خطأ نسبي محتمل بقيمة ، حيث
هو عدد الجزيئات التي تتعاون كي تجسد هذا القانون؛ أي كي تحقق صحته ضمن هذه النطاقات من المكان أو الزمان (أو كليهما)، من أجل بعض الاعتبارات أو لتجربة محددة.
يتبين لك من هذا مرة أخرى أن الكائن الحي يجب أن يحظى ببنية ضخمة نسبيا حتى يتمتع بميزة القوانين الدقيقة نوعا ما، من أجل حياته الداخلية ومن أجل تفاعله مع العالم الخارجي، وإلا فسيفقد «القانون» دقته بشدة لو كان عدد الجزيئات المتعاونة أقل من اللازم. ويعد الجذر التربيعي هو المسألة الملحة للغاية؛ إذ على الرغم من أن المليون رقم ضخم إلى حد معقول، فإن دقة بقيمة 1 في الألف فقط هي دقة ليست جيدة للغاية لتصف شيئا يدعي شرف كونه أحد «قوانين الطبيعة».
هوامش
الفصل الثاني
الآلية الوراثية
الوجود أبدي، ومهمة القوانين هي الحفاظ على كنوز الحياة التي يعتمد عليها الكون في توفير الجمال.
جوته (1) توقعات الفيزيائي الكلاسيكي، بعيدا عن كونها تافهة، هي خاطئة
هكذا وصلنا إلى استنتاج أن الكائن الحي وجميع العمليات ذات الأهمية البيولوجية التي يشهدها يجب أن يتمتعا بتركيب يتكون من «عدد هائل من الذرات»، وأن يكونا بمأمن من إكساب الأحداث العشوائية «الأحادية الذرة» أهمية أكبر مما ينبغي. يخبرنا «الفيزيائي العادي» أن ذلك ضروري لكي يحظى الكائن الحي بقوانين فيزيائية دقيقة بما يكفي للاستعانة بها في تأسيس نشاطه البديع التنسيق والتنظيم. كيف تتسق هذه الاستنتاجات البديهية من منظور بيولوجي (أي من وجهة النظر الفيزيائية البحتة)، مع الحقائق البيولوجية الفعلية؟
يميل المرء للوهلة الأولى إلى الاعتقاد بأن الاستنتاجات لا تعدو كونها تافهة. ربما كان سيقول أي من علماء الأحياء، منذ ثلاثين عاما مثلا، إن تلك الاستنتاجات في الواقع من البديهيات المألوفة، على الرغم من أنه كان مناسبا تماما بالنسبة إلى محاضر ذي شعبية مثلي أن يشدد على أهمية الفيزياء الإحصائية فيما يتعلق بالكائن الحي كما هي فيما يتعلق بسواه . فمن الطبيعي أن يحتوي، ليس فقط جسم الكائن الحي البالغ في أي من الأنواع العليا لكن كل خلية منفردة مكونة له، على عدد «هائل» من الذرات الفردية من كل نوع. كما أن كل عملية فسيولوجية معينة نلاحظ حدوثها، سواء داخل الخلية أو في تفاعلها مع البيئة المحيطة، تبدو - أو بدت منذ ثلاثين سنة - أنها تشمل مثل هذه الأعداد الهائلة من الذرات الفردية والعمليات الذرية الفردية، بحيث تكون كل قوانين الفيزياء أو الكيمياء الفيزيائية ذات الصلة محمية حتى في ظل المطالب الشديدة الصرامة للفيزياء الإحصائية الخاصة بالأعداد الكبيرة، هذه المطالب التي أوضحتها آنفا من خلال قاعدة .
أصبحنا نعرف حاليا أن هذا الرأي كان خاطئا؛ فكما سنرى فيما يلي، تلعب مجموعات متناهية الصغر على نحو لا يصدق من الذرات - أصغر بكثير من أن يكون لها قوانين إحصائية دقيقة - دورا مسيطرا في الأحداث الشديدة التنظيم والانضباط التي تحدث داخل الكائن الحي. فهي تتحكم في الملامح الواسعة النطاق القابلة للرصد والتي يكتسبها الكائن الحي في أثناء تطوره، وتحدد خصائص مهمة لعمله، وفي خضم كل هذا تظهر قوانين بيولوجية شديدة الحدة والصرامة.
يجب أن أبدأ بتقديم مخلص مختصر للوضع في علم الأحياء، وعلى وجه الخصوص في علم الوراثة. بعبارة أخرى: علي أن ألخص الوضع المعرفي الحالي في مجال لست بارعا فيه. لا يمكن تجنب هذا، وأوجه اعتذاري لأي عالم أحياء على وجه الخصوص على ملخصي غير الاحترافي. ومن ناحية أخرى، أطلب الإذن بالسماح لي بعرض الأفكار الأساسية عليكم من دون الخوض في الأدلة الخاصة بها. فمن غير المتوقع أن يقدم فيزيائي نظري تقليدي عرضا وافيا للأدلة التجريبية، التي تتكون من عدد ضخم من السلاسل الطويلة والمتداخلة على نحو رائع لتجارب تكاثر، والتي أجريت ببراعة غير مسبوقة بالفعل من ناحية، ومن ملاحظات مباشرة للخلية الحية التي تمت بكل دقة باستخدام المجاهر الحديثة، من ناحية أخرى. (2) نص الشفرة الوراثية (الكروموسومات)
دعوني أستخدم كلمة «نمط» فيما يتعلق بالكائن الحي؛ لتحمل معنى ما يدعوه علماء الأحياء «النمط الرباعي الأبعاد » الذي لا يعني فقط تركيب هذا الكائن وأداءه وظيفته في مرحلة البلوغ، أو في أي مرحلة معينة أخرى، بل أيضا كل تاريخه التطوري، بداية من خلية البويضة الملقحة وحتى مرحلة البلوغ، عندما يبدأ الكائن الحي في التكاثر. حسنا، من المعروف أن هذا النمط الرباعي الأبعاد بأكمله يحدده تركيب خلية واحدة فقط، وهي البويضة المخصبة. إضافة إلى ذلك، نحن نعلم أنه يتحدد في الأساس بتركيب مجرد جزء صغير من هذه الخلية، وهو نواتها الكبيرة. تبدو هذه النواة في «حالة الراحة» العادية للخلية عادة شبكة من الكروماتين،
1
موزعة في جميع أنحاء الخلية. إلا أنها في أثناء عمليتي انقسام الخلية ذواتي الأهمية البالغة (الميتوزي والميوزي، انظر الأقسام التالية)، تظهر مكونة من مجموعة من الجسيمات، تشبه عادة شكل الليفة أو القضيب، تدعى الكروموسومات، يكون عددها 8 أو 12 أو 48، كما في الإنسان. ولكن في الواقع كان يجب علي أن أكتب هذه الأرقام التوضيحية على صورة 2 × 4، و2 × 6، ... و2 × 24، ... وكان يفترض بي أن أتحدث عن مجموعتين، حتى أستخدم هذا التعبير بمعناه المعتاد الدقيق لدى عالم الأحياء. فعلى الرغم من أن الكروموسومات الفردية أحيانا ما تكون متميزة ومتفردة بوضوح من حيث الشكل والحجم، فإن المجموعتين تكونان شبه متشابهتين بالكامل. فكما سنرى بعد قليل، تأتي مجموعة من الأم (خلية البويضة)، وتأتي مجموعة أخرى من الأب (الحيوان المنوي الملقح). وتحتوي هذه الكروموسومات، أو ربما مجرد ليفة هيكلية محورية لما نراه فعليا تحت المجهر كروموسوما، فيما يشبه نص الشفرة؛ على مجمل نمط التطور المستقبلي للفرد ووظائفه عند تمام نضجه. وتحتوي كل مجموعة مكتملة من الكروموسومات على الشفرة الكاملة؛ لذا كقاعدة توجد نسختان من الشفرة الكاملة في خلية البويضة المخصبة، التي تشكل أول مرحلة من مراحل تكون الفرد المستقبلي.
وعندما نطلق على تركيب الألياف الكروموسومية نص الشفرة، فإننا نعني أن العقل المدبر الذي تحدث عنه لابلاس في وقت ما، والذي ترتبط به كل علاقة سببية ارتباطا مباشرا، يمكنه أن يحدد من تركيب هذه الألياف ما إذا كانت البويضة ستنمو، في ظل ظروف مواتية ، لتصبح ديكا أسود اللون أم دجاجة مرقطة، أم ذبابة أم نبات ذرة، أم نبات ردندرة، أم خنفساء أم فأرا أم امرأة. ويمكننا أن نضيف إلى هذا أن أشكال خلايا البويضة تكون متشابهة دوما على نحو ملحوظ، وحتى عندما لا يحدث هذا، كما في حالة بيض الطيور والزواحف الضخم نسبيا، فإن هذا الاختلاف لا يكون في تركيبها إلى حد كبير بقدر ما يكون في المواد الغذائية التي تضاف في هذه الحالة لأسباب واضحة.
ومع هذا، فإن مصطلح نص الشفرة، بكل تأكيد، محدود للغاية؛ فتركيبات الكروموسومات تكون في الوقت نفسه أداة فعالة في تحقيق النمو الذي تؤذن بحدوثه. فهي شفرة قانونية وقوة تنفيذية - أو إذا استخدمنا تشبيها آخر فهي تشبه تصميم المهندس المعماري وحرفة البناء - في آن واحد. (3) نمو الجسم عن طريق انقسام الخلية (الانقسام الميتوزي)
كيف تتصرف الكروموسومات عند نمو الكائن الحي وتطوره؟
2
إن نمو الكائن الحي يتأثر بالانقسام التتابعي للخلايا، ويدعى هذا النوع من الانقسام الانقسام الميتوزي. وهو في حياة الخلية ليس من نوعية الأحداث المتكررة بالقدر الذي يتوقعه المرء، مع الأخذ في الاعتبار العدد الهائل من الخلايا التي تتكون منها أجسامنا. في البداية يكون النمو سريعا؛ فتنقسم البويضة إلى «خليتين وليدتين»، تنقسمان في الخطوة التالية إلى 4، ثم 8، ثم 16 و32 و64 خلية ... إلخ. لن يبقى معدل الانقسام نفسه بالضبط في كل أجزاء الجسم الآخذ في النمو، وهذا يقطع اتساق هذه الأرقام. لكننا نستنتج من تزايدها المتسارع بعملية حسابية سهلة أنه في المتوسط يكفي عدد قليل من الانقسامات يبلغ 50 أو 60 انقساما متتاليا لإنتاج عدد الخلايا الموجود في جسم رجل بالغ، أو لنقل عشرة أضعاف الرقم،
3
آخذين في الاعتبار تبادل الخلايا طوال الحياة. هكذا فإن أي خلية من خلايا جسمي، في المتوسط، هي «السليل» الخمسون أو الستون للبويضة التي نشأت منها. (4) في الانقسام الميتوزي، يتضاعف كل كروموسوم
كيف تتصرف الكروموسومات في الانقسام الميتوزي؟ إنها تتضاعف؛ تتضاعف كلتا المجموعتين، وكلتا نسختي الشفرة. خضعت هذه العملية لدراسة مكثفة تحت المجهر، وتحظى باهتمام هائل، لكنها تحتوي على كثير من الجوانب بحيث يصعب شرحها هنا بالتفصيل. النقطة البارزة هنا هي أن كلا من «الخليتين الوليدتين» تحصل على هبة تتمثل في مجموعتين كاملتين أخريين من الكروموسومات مشابهتين تماما لمجموعتي الخلية الأم؛ ولذلك تصبح كل خلايا الجسم متماثلة تماما من حيث مخزون كروموسوماتها.
4
ومهما كانت معرفتنا قليلة بالوسيلة التي يتم بها هذا، فلا يسعنا إلا الاعتقاد أنها حتما مرتبطة بطريقة ما ارتباطا وثيقا بوظيفة الكائن الحي، وأن كل خلية فردية، حتى الخلايا الأقل أهمية، يجب أن تملك نسخة كاملة (مزدوجة) من نص الشفرة. علمنا في وقت سابق من الصحف أن الجنرال مونتجومري في حملته على أفريقيا أصر على ضرورة إبلاغ كل جندي في جيشه بدقة بكامل خططه. إن كان هذا صحيحا (إذ من الممكن تصور هذا؛ نظرا لمستوى الذكاء العالي لجنوده وموثوقيتهم الكبيرة)، فإنه يمدنا بتشبيه رائع مناظر لحالتنا، تكون فيه الحقيقة المقابلة بالتأكيد صحيحة، وتكون الحقيقة الأكثر إثارة للدهشة تضاعف مجموعة الكروموسومات الذي يحدث طوال الانقسامات الميتوزية. هذا، وينكشف الملمح البارز للآلية الوراثية على أوضح ما يمكن بالاستثناء الوحيد عن القاعدة الذي علينا أن نتحدث عنه الآن. (5) الانقسام الاختزالي (الميوزي) والتخصيب (التكاثر الجنسي)
بعد بدء عملية نمو الفرد بوقت قصير جدا، تحفظ مجموعة من الخلايا كي تنتج في مرحلة لاحقة ما يسمى بالأمشاج؛ الخلايا المنوية، أو خلايا البويضات، بحسب الحالة، الضرورية لتكاثر الفرد عند البلوغ. ويعني «الاحتفاظ بها» أنها لا تستخدم في أغراض أخرى في هذا الوقت، وتتعرض لانقسامات ميتوزية أقل بكثير. والانقسام الاستثنائي أو الاختزالي (المعروف بالانقسام الميوزي) هو الذي من خلاله أخيرا عند البلوغ، تظهر الأمشاج، ويمكن تكوينها من هذه الخلايا المحفوظة، كقاعدة قبل حدوث التكاثر الجنسي بوقت قصير. وفي الانقسام الميوزي تنقسم مجموعة الكروموسومات الثنائية للخلية الأم ببساطة إلى مجموعتين منفردتين، تذهب كل واحدة منهما إلى كل خلية من الخليتين الوليدتين، الأمشاج. بعبارة أخرى، لا يحدث التضاعف الميتوزي في عدد الكروموسومات في الانقسام الميوزي، فيبقى الرقم ثابتا؛ ومن ثم يحصل كل مشج على نصف العدد فقط، بمعنى نسخة واحدة كاملة من الشفرة، وليس اثنتين؛ على سبيل المثال يوجد لدى الإنسان 24 كروموسوما فقط وليس 48 (أي 2 × 24).
توصف الخلايا التي تحتوي على مجموعة واحدة فقط من الكروموسومات بأنها أحادية الصيغة الكروموسومية؛ ومن ثم، فإن الأمشاج تكون أحادية الصيغة الكروموسومية، أما خلايا الجسم العادية فتكون ثنائية الصيغة الكروموسومية. يوجد أحيانا أفراد يمتلكون ثلاثا، أو أربعا أو أكثر من مجموعات الكروموسومات في جميع خلايا أجسامهم، ويطلق على هؤلاء ثلاثيي أو رباعيي ... أو متعددي الصيغة الصبغية.
وفي حالة التكاثر الجنسي يتحد مشج الذكر (الحيوان المنوي) ومشج الأنثى (البويضة)، وكل منهما خلية أحادية الصيغة الكروموسومية، ليكونا خلية البويضة المخصبة، التي تكون نتيجة لهذا ثنائية الصيغة الكروموسومية؛ فتأتي إحدى مجموعتي كروموسوماتها من الأم والأخرى من الأب. (6) الأفراد الأحاديو الصيغة الكروموسومية
ثمة نقطة أخرى بحاجة إلى تصحيح. ورغم كونها غير أساسية في غرضنا هنا، فإن لها أهمية حقيقية؛ لأنها توضح في واقع الأمر احتواء كل مجموعة فردية من الكروموسومات على نص شفرة كامل إلى حد ما من «النمط».
هناك حالات للانقسام الميوزي لا يتبعها التخصيب مباشرة، فتخضع الخلية الأحادية الصيغة الكروموسومية (المشج) للعديد من الانقسامات الخلوية الميتوزية، التي تؤدي إلى بناء فرد كامل أحادي الصيغة الكروموسومية. وهذا هو الأمر في حالة ذكر النحل الذي يتكون بالتكاثر العذري؛ أي من البيض غير المخصب؛ ومن ثم أحادي الصيغة الكروموسومية للملكة. لا يوجد أب لذكر النحل! وتكون جميع خلايا جسمه أحادية الصيغة الكروموسومية. ويمكنك إن أردت أن تطلق عليه حيوانا منويا مبالغا فيه إلى حد كبير، وفعليا، كما يعرف الجميع، تكون وظيفته الوحيدة في الحياة التصرف على هذا النحو. مع ذلك، ربما تبدو وجهة النظر هذه سخيفة. إلا أن هذه الحالة ليست فريدة من نوعها؛ فتوجد عائلات من النباتات، تسقط أمشاجها أحادية الصيغة الكروموسومية التي تتكون من الانقسام الميوزي، وتسمى أبواغا في هذه الحالة على الأرض، وتنمو كالبذرة لتصبح نباتا أحادي الصيغة الكروموسومية فعليا، يشبه في حجمه حجم النبات الثنائي الصيغة الكروموسومية. يظهر في الشكل
2-1
رسم تقريبي لأحد النباتات الحزازية، المعروف في غاباتنا. الجزء السفلي المورق منه هو نبات أحادي الصيغة الكروموسومية، يسمى النبات المشيجي؛ لأنه عند نهايته العليا تنمو أعضاء جنسية له وأمشاج، التي تنتج عن طريق التخصيب المتبادل بالطريقة المعتادة النبات الثنائي الصيغة الكروموسومية، الجذع العاري الذي توجد الكبسولة في أعلاه. يدعى هذا النبات البوغي؛ لأنه ينتج عن طريق الانقسام الميوزي الأبواغ في الكبسولة الموجودة في الجزء العلوي. وعندما تنفتح الكبسولة، تسقط الأبواغ على الأرض وتنمو لتصبح جذعا مورقا، وهكذا. يطلق على سير الأحداث هذا على نحو مناسب تعاقب الأجيال. ويمكنك، إن أردت، النظر إلى الحالة العادية - الإنسان والحيوان - على النحو نفسه. إلا أن «النبات المشيجي» بوجه عام هو جيل أحادي الخلية قصير العمر، حيوان منوي أو خلية بويضة بحسب ما تقضي الحالة. تشبه أجسامنا النبات البوغي؛ فتتمثل «أبواغنا» في الخلايا المحفوظة التي ينشأ منها، عن طريق الانقسام الميوزي، جيل أحادي الخلية.
شكل 2-1: تعاقب الأجيال. (7) الأهمية الكبيرة للانقسام الاختزالي
يتمثل الحدث المهم والحاسم حقا في عملية تكاثر الفرد، ليس في التخصيب بل في الانقسام الميوزي. فتأتي مجموعة من الكروموسومات من الأب، ومجموعة أخرى من الأم. لا يمكن للصدفة ولا القدر التدخل في هذا. فكل إنسان
5
يدين بنصف موروثاته فقط لأمه، وبالنصف الآخر لوالده. إن سيادة صفة أو أخرى باستمرار دون غيرها هو أمر يرجع إلى أسباب أخرى سنأتي إليها لاحقا. (والجنس نفسه، بالطبع، أحد أبسط الأمثلة على تلك السيادة.)
لكن حين تتتبع أصل موروثاتك حتى تصل إلى أجدادك، فإن الأمر يكون مختلفا. دعوني أركز اهتمامي على مجموعة كروموسوماتي الأبوية، وعلى وجه الخصوص على واحد منها، فلنقل الكروموسوم رقم 5. إنه صورة طبق الأصل إما من الكروموسوم رقم 5 الذي حصل عليه أبي من والده، أو ذلك الذي حصل عليه من والدته. تقرر هذا الأمر باحتمال 50:50 في الانقسام الميوزي الذي حدث في جسم أبي في نوفمبر عام 1886 وكون الحيوان المنوي الذي سيكون له دور فعال بعد بضعة أيام في إنجابي. ويمكن تكرار القصة نفسها مع الكروموسومات أرقام 1 و2 و3 ... و24 من مجموعة أبي، وبعد إجراء التعديلات اللازمة، مع كل من كروموسومات والدتي. بالإضافة إلى ذلك، يكون كل كروموسوم من الكروموسومات الثمانية والأربعين مستقلا بالكامل. فحتى إن كان معروفا أن كروموسومي الأبوي رقم 5 كان مأخوذا من جدي جوزيف شرودنجر، فإن ذلك الذي رقمه 7 ما زال ثمة احتمال متساو بأنني حصلت عليه من جدي أيضا، أو من زوجته ميري، التي كان لقبها قبل الزواج بوجنير. (8) العبور الكروموسومي: موضع الخصائص الوراثية
إلا أن الصدفة المحضة تحظى بنطاق أوسع عند خلط موروثات الأجداد في الذرية عما بدا في الوصف السابق؛ حيث ذكر افتراض ضمني، أو حتى ذكر صراحة أن كروموسوما معينا يأتي بالكامل من الجد أو الجدة، أو بعبارة أخرى، أن الكروموسومات الفردية تنتقل دون تقسيم. في الواقع لا يحدث هذا، أو ربما لا يحدث دائما. فقبل الانفصال في الانقسام الاختزالي، يقترب من بعضهما أي كروموسومين «متماثلين» حيث يتبادلان أحيانا أجزاء كاملة منهما على النحو الموضح في الشكل
2-2 . وعن طريق هذه العملية، التي يطلق عليها اسم «العبور الكروموسومي»، تنفصل بعد أيام خاصيتان وراثيتان تقعان في الأماكن المخصصة لهما في هذا الكروموسوم في جسم الحفيد الذي سيشبه الجد في إحداهما، ويشبه الجدة في الأخرى. أمدتنا عملية العبور هذه التي لا تعتبر شديدة الندرة أو بالغة الشيوع، بمعلومات لا تقدر بثمن حول موضع الخصائص الوراثية في الكروموسومات. ولأجل الحصول على إطلالة شاملة، علينا أن نعمد إلى مفاهيم لن نقدم لها قبل الفصل التالي (مثل تغاير اللواقح والسيادة ... إلخ). لكن بما أن هذا سيخرجنا عن نطاق هذا الكتاب الصغير، دعوني أشر إلى النقطة الأساسية التي أود التركيز عليها هنا على الفور.
فلو لم يكن هناك عبور للكروموسومات، لانتقلت أي خاصيتين يكون الكروموسوم نفسه مسئولا عنهما دوما معا عند عملية الخلط، ولم يكن أي سليل ليحصل على إحداهما دون الأخرى، لكن أي خاصيتين، نظرا لوجود اختلاف في كروموسوماتهما، يكون ثمة احتمال 50:50 لانفصالهما أو تنفصلان في جميع الأحوال، بحيث تحدث الحالة الثانية هذه عند وجودهما على كروموسومات متماثلة للسلف نفسه؛ ومن ثم لا تتحد إحداهما مع الأخرى أبدا.
شكل 2-2: «العبور الكروموسومي». الشكل الأيمن: كروموسومان متماثلان يقتربان جدا من بعضهما. الشكل الأيسر: الكروموسومان بعد عمليتي التبادل والانفصال.
يتداخل مع هذه القواعد والاحتمالات عملية عبور الكروموسومات؛ ومن ثم يمكن التأكد من احتمالية هذا الحدث عن طريق التسجيل الدقيق لنسب تركيب النسل في تجارب تكاثر موسعة، وضعت خصوصا على نحو مناسب من أجل هذا الغرض. وعند تحليل الإحصاءات، يتقبل المرء الفرضية العاملة الموحية التي تشير إلى أن «الارتباط» بين خاصيتين موجودتين على الكروموسوم نفسه يقل احتمال فكه بفعل العبور الكروموسومي كلما زاد اقترابهما من بعضهما؛ حيث سيقل احتمال وجود نقطة تبادل بينهما، في حين تنفصل الخصائص الواقعة بالقرب من الطرفين المتقابلين للكروموسوم مع كل عملية عبور. (الشيء نفسه تقريبا ينطبق على إعادة تجميع الخصائص الوراثية التي تقع على كروموسومات متماثلة للسلف نفسه.) بهذه الطريقة يمكن توقع الحصول من خلال «إحصاءات الارتباط» على نوع ما من «خريطة الخصائص الوراثية» في داخل كل كروموسوم.
هذه التوقعات أكدت جميعا. في الحالات التي خضعت للاختبار على نحو تام (بالأساس، ذبابة الفاكهة، لكنها ليست الوحيدة)، تنقسم الخصائص الوراثية المختبرة إلى العديد من المجموعات المنفصلة، دون وجود ارتباط بين مجموعة وأخرى؛ نظرا لوجود كروموسومات مختلفة (أربعة في ذبابة الفاكهة). وضمن كل مجموعة يمكن رسم خريطة خطية للخصائص الوراثية التي تحدد كميا درجة الارتباط بين أي اثنتين في هذه المجموعة، بحيث تكون درجة الشك صغيرة فيما يخص مواضعها الفعلية، وأنها تتموضع بطول خط؛ وذلك كما يشير الشكل القضيبي للكروموسوم.
بالطبع، إن مخطط الآلية الوراثية، كما هو مرسوم هنا، لا يزال إلى حد ما فارغا وغير ملون، وربما بدائيا أيضا بعض الشيء. فنحن لم نصرح بعد بما نعنيه بالضبط بكلمة خاصية؛ إذ يبدو أنه ليس مناسبا أو محتملا أن نقسم نمط أي كائن حي الذي هو بالضرورة وحدة أو «كل» واحد إلى «خصائص وراثية» منفصلة ومتمايزة. ما وضحناه وذكرناه بالفعل أنه في أي حالة معينة كل زوج من الأجداد يكونان مختلفين في جانب معين ومحدد (فلنقل إن أحدهما عيناه زرقاوان والآخر بنيتان)، والنسل سيتبع في هذا الشأن أحدهما فقط. ما حددنا موضعه على الكروموسوم هو مكان هذا الاختلاف. (ندعوه بلغة التخصص «الموقع» أو لو فكرنا في تركيب المادة النظري الذي يقوم عليه، فسندعوه «جينا».) الاختلاف في الخصائص الوراثية - من منظوري - هو حقيقة المفهوم الأساسي الجوهري أكثر من الخصائص نفسها، على الرغم من التناقض اللغوي والمنطقي الواضح في هذه العبارة. فالاختلافات في الخصائص الوراثية في واقع الأمر منفصلة ومتمايزة، كما سيظهر في الفصل التالي عندما يتوجب علينا الحديث عن الطفرات، ويكتسب المخطط الممل المطروح حتى الآن - كما أتمنى - حياة أكثر. (9) الحجم الأقصى للجين
قدمنا توا مصطلح الجين للتعبير عن المادة النظرية نفسها الحاملة لملمح وراثي محدد. يجب الآن أن نؤكد نقطتين ستكونان ذواتي دلالة عالية لعرضنا. النقطة الأولى هي الحجم، أو بالأحرى الحجم الأقصى لهذا الحامل؛ بمعنى آخر، إلى أي حجم صغير نستطيع تتبع الموضع؟ النقطة الثانية هي ديمومة الجين التي تستنتج من استمرار النمط الوراثي.
بالنسبة للحجم، يوجد تقديران مستقلان تماما، أحدهما يستند على الدليل الجيني (تجارب التكاثر)، والثاني على الدليل الخلوي (الفحص المجهري المباشر). الأول من حيث المبدأ البسيط بالقدر الكافي. فبعد تحديد مواقع عدد كبير من الملامح المختلفة (الواسعة النطاق) - لنقل ذبابة الفاكهة - ضمن كروموسوم معين من كروموسوماتها، بالطريقة الموصوفة بالأعلى، يمكن الحصول على التقدير المطلوب بقسمة الطول الذي قسناه لذلك الكروموسوم على عدد الملامح، ونضرب الناتج في طول المقطع العرضي؛ إذ نرى بالطبع أن الملامح تكون مختلفة فقط عند انفصالها من آن لآخر بسبب عملية العبور؛ ومن ثم لا يمكن أن تكون جزءا من التركيب نفسه (المجهري أو الجزيئي). من ناحية أخرى، من الواضح أن تقديرنا يمكنه فقط أن يحدد الحجم الأقصى؛ لأن عدد الملامح التي تفصل بواسطة هذا التحليل الجيني يتزايد باستمرار مع استمرار عملية البحث.
التقدير الآخر، على الرغم من أنه مبني على الفحص المجهري، فإنه فعليا أقل مباشرة بكثير. فخلايا معينة لذبابة الفاكهة (تحديدا، تلك الخاصة بغددها اللعابية) لسبب ما تكون كبيرة بشدة، وكذلك كروموسوماتها. وفيها يمكن تمييز نمط مزدحم لشرائط عرضية داكنة عبر الليفة. لاحظ سي دي دارلنجتون أن عدد هذه الشرائط (الذي كان ألفين في الحالة التي عمل عليها) كبير على نحو هائل، لكن تقريبا له القيمة الأسية نفسها لعدد الجينات الموجودة على ذلك الكروموسوم والمحدد من خلال تجارب التكاثر. لقد مال إلى اعتبار أن هذه الشرائط تشير إلى الجينات الفعلية (أو إلى انفصال الجينات). وبقسمة طول الكروموسوم المقاس في خلية طبيعية الحجم على عدد تلك الشرائط (ألفين)، وجد أن حجم الجين مساو لمكعب طول حافته 300 أنجستروم. ومع الأخذ في الاعتبار تقريب المقادير، يمكن أن نعتبر هذا هو الحجم نفسه الذي حصلنا عليه بالطريقة الأولى. (10) الأعداد الضئيلة
سوف أورد لاحقا مناقشة كاملة لتأثير الفيزياء الإحصائية على كل الحقائق التي أذكرها، أو التي ربما علي أن أذكرها، وتأثير هذه الحقائق على استخدام الفيزياء الإحصائية في الخلية الحية. لكن دعوني ألفت الانتباه في هذه النقطة إلى حقيقة أن 300 أنجستروم هو فقط 100 أو 150 مسافة ذرية في سائل أو جامد، بحيث إن الجين يحتوي بالتأكيد على ما لا يزيد عن نحو المليون أو بعض الملايين القليلة من الذرات. هذا الرقم صغير للغاية (بحسب قاعدة ) بحيث لا يستتبعه سلوك منضبط ومرتب وفقا للفيزياء الإحصائية؛ ومن ثم وفقا للفيزياء. إنه ضئيل للغاية حتى لو لعبت كل هذه الذرات الدور نفسه كما تفعل في الغاز أو قطرة السائل. والجين ليس بكل تأكيد مجرد قطرة متجانسة من سائل. فالجين على الأرجح جزيء بروتين ضخم، تلعب فيه كل ذرة - وكل مجموعة مرتبطة من الذرات، وكل حلقة غير متجانسة - دورا فرديا مختلفا على نحو أو آخر عن ذلك الذي تلعبه أي ذرة، أو مجموعة مرتبطة من الذرات، أو حلقة غير متجانسة أخرى مماثلة لها. هذا على أي حال رأي علماء الجينات الأقطاب، من أمثال هولدين ودارلنجتون، وسيتوجب علينا قريبا أن نشير إلى التجارب الوراثية التي سعت لإثبات ذلك. (11) الديمومة
دعنا الآن نتحول إلى ثاني الأسئلة المهمة بقدر كبير ؛ وهو: ما درجة الديمومة التي نصادفها فيما يتعلق بالخصائص الوراثية، وما الذي يجب أن نعزوه من ثم لتركيبات المادة التي تحملها؟
يمكن الإجابة على ذلك دون أي استقصاء خاص. فمجرد حديثنا عن الخصائص الوراثية يشير إلى أننا ندرك أن الديمومة شبه مطلقة. إذ يجب ألا ننسى أن ما ينقله الوالد للابن ليس فقط هذه الخاصية أو تلك؛ أنف معقوف أو أصابع قصيرة أو ميل للإصابة بالروماتيزم أو الهيموفيليا أو عمى الألوان ... إلخ. فتلك الخصائص هي التي قد نختارها على نحو تقليدي لدراسة قوانين الوراثة. ولكن ما ينقله فعليا هو كل النمط (الرباعي الأبعاد) ل «الطراز الظاهري»، كل الطبيعة المرئية والمتجلية للفرد التي يعاد إنتاجها دون تغيير ملحوظ لأجيال؛ ومن ثم هي دائمة عبر قرون - وإن لم يكن خلال عشرات الآلاف من السنين - ومحمولة في كل انتقال بواسطة المادة الموجودة في تركيب نواتي الخليتين اللتين تتحديان لإنتاج خلية البويضة المخصبة. تلك معجزة، لا يوجد أعظم منها غير واحدة أخرى، واحدة رغم أنها متصلة بها على نحو وثيق، فهي تقع على مستوى مختلف. أنا أعني الحقيقة القائلة بأننا نحن، الذين ينبني وجودنا الكلي على نحو كامل على تفاعل متبادل مدهش وإعجازي من هذا النوع، نمتلك القدرة على اكتساب قدر كبير من المعرفة عن هذا التفاعل. أعتقد أنه من الممكن أن تتحسن تلك المعرفة لتصل إلى ما هو أقل قليلا من فهم كامل للمعجزة الأولى. أما المعجزة الثانية فقد تتجاوز مستوى الفهم البشري.
هوامش
الفصل الثالث
الطفرات
يمكن توضيح أي شيء له شكل متذبذب من خلال أفكار خالدة.
جوته (1) الطفرات التي تشبه «القفزات»: مجال عمل الانتخاب الطبيعي
الحقائق العامة التي طرحناها للبرهنة على الديمومة المزعومة لتركيب الجينات، ربما تكون معتادة جدا بالنسبة لنا بحيث لا تبدو لنا مدهشة أو مقنعة. هنا، ولمرة واحدة، المقولة الرائجة التي تقول إن الاستثناءات تثبت القاعدة فعلا حقيقية. فإذا لم يكن هناك استثناءات للتشابه بين الأبناء والآباء، لكنا حرمنا ليس فقط من كل تلك التجارب الجميلة التي كشفت لنا عن الآلية التفصيلية للوراثة، لكن أيضا التجربة الطبيعية الأعظم بمليون ضعف، التي تشكل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح.
دعوني آخذ هذا الموضوع الأخير المهم نقطة بداية لتقديم الحقائق المتعلقة بعرضنا، مرة أخرى مع اعتذار وتذكير بأنني لست عالم أحياء:
شكل 3-1: إحصاءات طول الحسكات في محصول من سلالة نقية. المجموعة المظللة باللون الأسود هي التي ستختار لكي تبذر. (إن التفاصيل المعروضة ليست نتاج تجربة فعلية، لكنها معروضة فقط من أجل التوضيح.)
نحن نعرف بكل تأكيد اليوم أن داروين كان مخطئا في النظر إلى التنوعات الضئيلة المستمرة العرضية، المؤكدة الحدوث حتى في أكثر الجماعات تجانسا، باعتبارها المادة التي تعمل عليها عملية الانتخاب الطبيعي؛ إذ برهن على أنها غير موروثة. هذه الحقيقة على قدر كبير من الأهمية بحيث يوجب علينا شرحها هنا ولو على نحو مختصر. فإذا ما أخذت محصولا من سلالة نقية من الشعير، وقست طول حسكاتها سنبلة سنبلة، ثم مثلت ما حصلت عليه من نتائج بيانيا، فسوف تحصل على شكل منحنى يشبه الجرس، كما هو موضح في الشكل
3-1 ؛ حيث يمثل عدد السنابل التي لحسكاتها طول معين في مقابل الطول. بمعنى آخر، يسود طول متوسط محدد، وتحدث انحرافات في كلا الاتجاهين بتكرارات معينة. والآن اختر منها مجموعة من السنابل (المظللة باللون الأسود) بحيث تكون حسكاتها أقل في الطول من المتوسط بقدر ملحوظ، لكن عددها كاف بحيث تنبت في الحقل بمفردها وتعطي محصولا جديدا. وبإجراء الإحصاءات نفسها للمحصول الجديد، فإن داروين كان سيتوقع أن يجد المنحنى الجرسي المقابل وقد تحرك نحو اليمين. بمعنى آخر، كان سيتوقع أن ينتج بواسطة الانتخاب زيادة في متوسط طول الحسكات. لكن ليس هذا ما يحدث لو استخدمت سلالة نقية من الشعير. إن المنحنى الإحصائي الجديد الذي سنحصل عليه من المحصول المنتخب، سيكون مماثلا للمنحنى الأول، ولن تختلف الحال لو انتخبت سنابل قصيرة الحسكات على نحو خاص للإنبات. فالانتخاب ليس له تأثير؛ لأن التنوعات الضئيلة والمستمرة لا تورث. من الواضح أنها لا تعتمد على تركيب المادة الوراثية، وأنها عرضية. لكن منذ نحو أربعين عاما اكتشف العالم الهولندي دي فريس أن الذرية حتى تلك التي من سلالات خالصة النقاء، سيظهر فيها عدد ضئيل جدا من الأفراد - لنقل اثنين أو ثلاثة في العشرة آلاف - وبهم تغيير طفيف لكنه يشبه «القفزة»، وهذا لا يعني أن التغيير ملحوظ للغاية، لكن أن هناك عدم استمرارية، مثلما لا توجد تكوينات بينية بين غير المتغيرين والقلة التي تغيرت. دي فريس أطلق على ذلك اسم الطفرة. الحقيقة المهمة هنا تكمن في عدم الاستمرارية، وهي تذكر الفيزيائي بنظرية الكم؛ إذ لا توجد طاقات وسيطة بين مستويين متجاورين للطاقة. وسوف يميل إلى أن يطلق على نظرية الطفرة الخاصة ب «دي فريس» - مجازيا - نظرية الكم الخاصة بعلم الأحياء. سوف يتضح لنا لاحقا أن هذا أكبر كثيرا من كونه أمرا مجازيا؛ فالطفرات في الحقيقة سببها قفزات كمية في جزيء الجين. لكن نظرية الكم لم يكن عمرها يتعدى العامين عندما نشر دي فريس اكتشافه للمرة الأولى في عام 1902. ما يثير الدهشة قليلا أن الأمر قد استغرق جيلا آخر لكشف العلاقة الوثيقة بين الطرفين! (2) إنها تتكاثر على نحو نقي؛ أي إنها تورث على نحو تام
الطفرات تورث على نحو تام تماما كما هي الحال بالنسبة للصفات الأصلية غير المتغيرة. لنضرب مثالا: في محصول الشعير الأول الذي عرضنا له أعلاه قد يظهر عدد من السنابل وبه حسكات تقع خارج نطاق التنوع الموضح في الشكل
3-1
على نحو كبير؛ لنقل بلا حسكات على الإطلاق. ربما تمثل تلك السنابل طفرة بمفهوم دي فريس، وستتكاثر بعد ذلك على نحو نقي؛ أي إن كل نسلها سيكون بلا حسكات.
وهكذا، فإن الطفرة هي بالتأكيد تغيير في الجوانب الوراثية، والمسئول عنها حدوث تغيير ما في المادة الوراثية. في واقع الأمر، إن أغلب تجارب التكاثر المهمة التي كشفت لنا عن آلية حدوث الوراثة تقوم على التحليل الدقيق للذرية التي تنتج عن التهجين، بحسب خطة مسبقة، بين أفراد طافرين (أو في حالات كثيرة، متعددي الطفرات) من جهة، وغير طافرين أو طافرين على نحو مختلف من جهة أخرى. من ناحية أخرى، إن الطفرات، بسبب تكاثرها النقي، تعد مادة مناسبة يمكن للانتخاب الطبيعي أن يعمل عليها وينتج أنواعا كما وصف داروين، عن طريق القضاء على غير الصالح منها وترك الأصلح لتبقى. في نظرية داروين، يجب عليك فقط أن تستبدل «الطفرات» ب «تنوعاته العرضية الضئيلة» (كما استبدلت نظرية الكم «القفزة الكمية» ب «انتقال الطاقة المستمر»). في كل الجوانب الأخرى، كان مطلوبا إدخال تغيير ضئيل في نظرية داروين، هذا لو كنت أفهم على نحو صحيح رؤية الغالبية العظمى من علماء الأحياء.
1 (3) الموقع: التنحي والسيادة
علينا الآن أن نستعرض بعض الحقائق والمفاهيم الأساسية الأخرى عن الطفرات، مرة أخرى بأسلوب مباشر بعض الشيء، دون أن أبين على نحو صريح كيف تنبثق، الواحدة تلو الأخرى، بالأدلة التجريبية.
يجب أن نتوقع أن يكون سبب أي طفرة ملحوظة محددة هو تغير في مكان معين في أحد الكروموسومات. لكن من المهم أن نصرح بأننا نعرف على نحو أكيد أنها تغير في كروموسوم واحد فقط، لكنه ليس في «الموقع» المقابل على الكروموسوم المتماثل. يشير الشكل
3-2
إلى هذا على نحو بياني؛ إذ توضح العلامة
X
الموقع الطافر. تكشفت حقيقة أن كروموسوما واحدا فقط هو الذي يتأثر عندما هجن فرد طافر بآخر غير طافر؛ إذ أظهر بالضبط نصف الذرية الناتجة الصفة الطافرة والنصف الآخر أظهر الصفة الطبيعية. هذا هو المتوقع نتيجة لانفصال الكروموسومين من خلال الانقسام الميوزي في الفرد الطافر، وذلك كما يتضح على نحو بياني في الشكل
3-3 . إن هذا الشكل «شجرة نسب» تمثل كل فرد (في ثلاثة أجيال متوالية) ببساطة من خلال الكروموسومين محل التناول. عليك أن تدرك أن الفرد الطافر لو أن كروموسوميه قد تأثرا، فكل أطفاله سوف يرثون الصفة الوراثية (الطافرة) نفسها، التي تختلف عن تلك الخاصة بكلا الأبوين.
شكل 3-2: فرد طافر متغاير اللواقح. تشير العلامة
X
إلى الجين الطافر.
لكن إجراء التجارب في هذا الشأن ليس بالبساطة الظاهرة التي قد تتراءى لنا مما عرضناه للتو. فالأمر معقد بسبب العامل المهم الثاني المتمثل في أن الطفرات في الأغلب الأعم تكون كامنة. ما الذي يعنيه هذا؟
شكل 3-3: انتقال طفرة. تشير الخطوط المستقيمة العرضية إلى انتقال كروموسوم، والخطوط المزدوجة إلى انتقال الكروموسوم الطافر. تأتي كروموسومات الجيل الثالث غير المبينة من حالات «تزاوج» من الجيل الثاني، التي ليست متضمنة في الشكل البياني، والتي من المفترض أن تكون لأفراد ليسوا بأقارب وليس لديهم الطفرة.
شكل 3-4: فرد طافر متماثل اللواقح ظهر في ربع الذرية إما من التخصيب الذاتي لفرد طافر متغاير اللواقح (راجع الشكل
3-2 ) أو تهجين اثنين من هؤلاء الأفراد.
في الفرد الطافر، لم تعد «نسختا نص الشفرة» متماثلتين؛ فهما تقدمان «قراءتين» أو «نسختين» مختلفتين في ذلك المكان الواحد على أي حال. ربما من الجيد أن نشير على الفور إلى أنه سيكون من الخطأ أن تعد النسخة الأصلية ك «الشخص المتدين» والنسخة الطافرة ك «الشخص المهرطق»، على الرغم من أن هذا قد يكون مغريا. فيجب علينا أن نعتبر أن لهما حقوقا متساوية، وذلك من الناحية المبدئية؛ فالصفات الطبيعية قد نشأت كذلك من طفرات.
ما يحدث حقيقة هو أن «نمط» الفرد - كقاعدة عامة - يتبع إحدى النسختين، التي من الممكن أن تكون الطبيعية أو الطافرة. إن النسخة التي تتبع توصف بأنها سائدة، والأخرى بأنها متنحية؛ بعبارة أخرى، الطفرة تدعى سائدة أو متنحية بحسب ما إذا كانت مؤثرة في الحال في تغيير النمط أم لا.
إن الطفرات المتنحية أكثر حدوثا من تلك السائدة وهي مهمة جدا، على الرغم من أنها في البداية لا تظهر على الإطلاق. ولكي تؤثر في النمط، يجب أن توجد على كلا الكروموسومين (انظر الشكل
3-4 ). هؤلاء الأفراد يمكن أن ينتجوا عند تصادف تهجين فردين طافرين متنحيين متكافئين مع بعضهما، أو عند تهجين فرد طافر مع نفسه؛ يكون هذا ممكنا في النباتات الخنثى، بل وحتى يحدث على نحو تلقائي. إن التأمل البسيط سيبين أنه في هذه الحالات، ربع الذرية تقريبا ستكون من هذا النوع، وبذلك ستظهر على نحو واضح النمط الطافر. (4) استعراض بعض المصطلحات المتخصصة
أعتقد أن شرح القليل من المصطلحات المتخصصة هنا سيسهم في توضيح الأمور. يستخدم مصطلح «أليل» للإشارة إلى «نسخة نص الشفرة»، سواء أكانت الأصلية أم الطافرة. وعندما تكون النسختان مختلفتين، كما هو موضح في الشكل
3-2 ، يوصف الفرد بأنه متغاير اللواقح فيما يتعلق بهذا الموقع، وعندما تكونان متماثلتين كما في حالة الفرد غير الطافر أو كما هي الحال في الشكل
3-4 ، يوصف الفرد بأنه متماثل اللواقح. هكذا الأليل المتنحي لا يؤثر في النمط إلا إذا كان متماثل اللواقح، بينما الأليل السائد ينتج النمط نفسه، سواء كان متماثل اللواقح أو متغاير اللواقح.
إن امتلاك لون في الأغلب الأعم سائد على عدم امتلاك لون (أو امتلاك اللون الأبيض). وهكذا، فإن البازلاء، على سبيل المثال، ستزهر زهورا بيضاء فقط عندما تمتلك «الأليل المتنحي المسئول عن اللون الأبيض» في كلا الكروموسومين المعنيين، عندما تكون «متماثلة اللواقح للون الأبيض»؛ حينها ستتكاثر على نحو نقي، وسيكون كل النسل أبيض. لكن وجود «أليل أحمر» (مع كون الآخر أبيض؛ أي «متغاير اللواقح») سيجعل الزهور حمراء، وهكذا الحال عند وجود أليلين حمراوين (متماثل اللواقح). إن الاختلاف بين الحالتين الأخيرتين لن يتضح إلا في الذرية، عندما ينتج متغاير اللواقح للأحمر بعض النسل الأبيض، ويتكاثر متماثل اللواقح للأحمر على نحو نقي.
إن حقيقة أن فردين من الممكن أن يكونا متماثلين تماما في المظهر الخارجي لكن مختلفين وراثيا مهمة للغاية لدرجة أن التفريق بينهما على نحو دقيق أمر مرغوب. علماء الجينات يقولون إن لديهما الطراز الظاهري نفسه، ولكن طراز جيني مختلف. يمكن إذن اختصار محتوى الفقرات السابقة في العبارة التالية، الموجزة لكن شديدة التخصص:
الأليل المتنحي يؤثر في الطراز الظاهري فقط عندما يكون الطراز الجيني متماثل اللواقح.
سوف نستخدم هذه المصطلحات المتخصصة من آن لآخر، لكن سوف نعرض للقارئ معانيها، عند الضرورة. (5) التأثير الضار للتوالد الداخلي
الطفرات المتنحية، ما دامت متغايرة اللواقح، لا تعد مادة مناسبة بكل تأكيد لعمل الانتخاب الطبيعي. وإذا كانت ضارة، كما هي الحال مع الأغلب الأعم من الطفرات، فلن يقضى عليها لأنها تكون كامنة . وهكذا يمكن لمجموعة من الطفرات غير المحببة أن تتراكم ولا تؤدي إلى ضرر فوري، لكنها بكل تأكيد ستنتقل إلى نصف الذرية، ولهذا استخدام مهم بالنسبة للبشر والماشية والدواجن وأي أنواع أخرى؛ إن السمات البدنية الجيدة لها هي ما تعنينا هنا. في الشكل
3-3 ، من المفترض أن الفرد الذكر (فلنقل، إنه أنا، لجعل الأمور واضحة أكثر) يحمل إحدى تلك الطفرات الضارة المتنحية على نحو متغاير اللواقح؛ لذلك فهي لا تظهر. فلنفترض أن زوجتي خالية منها. من ثم فنصف أطفالنا (الخط الثاني) سوف يحملونها مرة أخرى على نحو متغاير اللواقح. فلو أن جميعهم قد تزوجوا من شركاء غير طافرين (لقد حذفت هذا من الشكل البياني حتى لا أربك القارئ)، فإن ربع أحفادنا سيتأثرون بالطريقة نفسها في المتوسط.
لا يكون هناك أي ضرر إلا إذا تزوج فردان متأثران على نحو متساو؛ عندها، وبتأمل بسيط، سيظهر أن ربع أطفالهما، كونهم متماثلي اللواقح، سيتعرضون للضرر. أعظم خطر بعد التلقيح الذاتي (الذي يمكن حدوثه فقط في النباتات الخنثى) سيكون في زواج ابن وابنة من أطفالي. فكل منهما يحمل فرصة متعادلة أن يكون متأثرا على نحو كامل أو لا، وربع زيجات المحارم هذه ستكون خطيرة؛ إذ إن ربع الأطفال الناتجة عنها سيتضرر؛ من ثم فمعامل الخطر للذرية الناتجة عن زواج اثنين من أبنائي سيكون 1 : 16.
وبالطريقة نفسها، سيزيد المعامل إلى 1 : 64 للذرية الناتجة عن زواج اثنين من أحفادي (ذوي الدماء الصافية) هما بالأساس من أبناء العمومة من الدرجة الأولى. تقل احتمالات حدوث هاتين الحالتين، وإن كانت الحالة الثانية ممكنة أكثر. لكن لا تنس أننا قد حللنا تداعيات إصابة كامنة واحدة ممكنة فقط في شريك واحد من زوج أجداد (أنا وزوجتي). فعليا الاثنان لديهما احتمالية كبيرة أن يضمرا أكثر من خلل كامن من هذا النوع. فإذا كنت تعرف أنك تمتلك خللا محددا، فعليك أن تخلص إلى أن واحدا من كل ثمانية من أبناء عمومتك من الدرجة الأولى يشاركونك ذلك الخلل! تشير التجارب التي أجريت على النباتات والحيوانات إلى أنه بالإضافة إلى حالات الخلل الخطيرة المعروفة والنادرة نسبيا، فعلى ما يبدو أن هناك مجموعة من حالات الخلل الأقل خطورة، التي تتجمع فرص حدوثها لتؤدي إلى تدهور حالة الذرية الناتجة عن التكاثر الداخلي ككل. وبما أننا لم نعد بأي حال ميالين إلى التخلص من حالات الخلل الشديد بطريقة قاسية كالتي اعتاد اللاسيديمونيون على تنفيذها على جبل تايجيتوس، فيجب في حالة الإنسان أن نفكر على نحو جدي بصورة خاصة في هذه الأمور؛ حيث تتوقف عملية الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح على نحو كبير، بل وتتحول إلى العكس. إن التأثير المعاكس لعملية الانتخاب للمذابح الجماعية الحديثة للشباب الأصحاء في كل الأمم بالكاد تفوقه بالكاد الرؤية التي ترى أن الحروب في الظروف الأكثر بدائية ربما كان لها قيمة إيجابية في السماح للأصلح بالبقاء. (6) ملاحظات عامة وتاريخية
إن حقيقة أن الأليل المتنحي، عندما يكون متغاير اللواقح، يهيمن عليه بالكامل الأليل السائد، ولا يكون له أي تأثير مرئي على الإطلاق هي حقيقة مذهلة. ويجب على الأقل أن نذكر أن هناك استثناءات لهذا السلوك. عندما يهجن نبات أنف عجل أبيض متماثل اللواقح مع مثيل له لكن لونه قرمزي، فكل النسل المباشر سيكون لونه وسيطا بين لون الاثنين؛ مما يعني أن لونه سيكون ورديا (وليس قرمزيا كما قد يكون متوقعا). تظهر حالة أكثر أهمية بكثير لاثنين من الأليلات يظهران تأثيرهما على نحو متزامن في فصائل الدم، لكن لا يمكننا الاستفاضة في ذلك هنا. لن أندهش إذا اتضح في النهاية أن هناك درجات للتنحي، وأنه يعتمد على حساسية الاختبارات التي نستخدمها في فحص «الطراز الظاهري».
وهذا على ما يبدو الموضع المناسب لعرض القليل عن التاريخ المبكر لعلم الوراثة. يعود أساس علم الوراثة، قانون وراثة الخصائص التي يختلف فيها الوالدان عبر أجيال متتالية، وعلى وجه الخصوص أكثر التمييز المهم بين المتنحي والسائد، إلى الراهب الأوغسطيني الذي أصبح شهيرا الآن على مستوى العالم أبوت جريجور مندل (1822-1884). لم يكن مندل يعرف شيئا عن الطفرات والكروموسومات. في حدائق الدير خاصته بمدينة برنو، أجرى تجارب على بازلاء الحديقة، التي استنبت منها عدة أنواع، وقام بعمليات تهجين فيما بينها، وتابع نسلها في الجيل الأول، الثاني، الثالث ... إلخ. من الممكن أن تقول إنه قام بتجاربه على الأفراد الطافرة التي وجدها جاهزة في الطبيعة. كان قد نشر تجاربه مبكرا في عام 1866 في مجلة جمعية التاريخ الطبيعي ببرنو. لا أحد فيما يبدو كان مهتما على نحو خاص بهواية السيد أبوت، ولا أحد بالتأكيد كانت لديه أي فكرة عن أن اكتشافه سوف يصبح في القرن العشرين الدليل الهادي لفرع جديد بالكامل من العلم الذي يعد في حقيقة الأمر الفرع الأكثر إثارة للاهتمام في الوقت الحالي. وقد نسيت ورقته البحثية تماما، ولكن أعيد اكتشافها فقط في عام 1900، على نحو متزامن ومستقل من قبل كل من كورنس (برلين)، ودي فريس (أمستردام)، وتشيرماك (فيينا). (7) ضرورة كون الطفرة حدثا نادرا
حتى الآن ملنا إلى التركيز على الطفرات الضارة، التي من الممكن أن تكون الأكثر شيوعا؛ لكن من الواجب بالتأكيد أن نشير إلى أن هناك أيضا طفرات مفيدة. إذا كانت الطفرة العفوية خطوة صغيرة في تطور النوع، فإنه يخالجنا انطباع أن تغييرا ما «يجرب» على نحو عشوائي إلى حد ما مع المخاطرة بكونه مؤذيا، وهي الحالة التي يتم فيها التخلص منه تلقائيا. هذا يبرز نقطة مهمة للغاية. فكي تكون الطفرات مادة مناسبة لعمل الانتخاب الطبيعي، يجب أن تكون نادرة الحدوث، كما هي بالفعل. فلو كانت موجودة بكثرة بحيث توجد فرصة كبيرة لحدوث عدد كبير من الطفرات في الفرد نفسه، فكقاعدة، ستهيمن الطفرات المؤذية على تلك المفيدة، والنوع ذو الصلة، بدلا من أن يتحسن بالانتخاب، سيبقى بلا تحسن أو سيهلك. إن المحافظة المقابلة التي تنتج عن الدرجة العالية لديمومة الجينات ضرورية. يمكن مقارنة ذلك بالعمل في وحدة تصنيعية كبيرة في أحد المصانع. فلأجل استحداث وسائل أفضل، يجب تجربة الابتكارات، حتى وإن لم تكن قد أثبتت فعاليتها بعد. لكن من أجل التأكد مما إذا كانت الابتكارات تحسن الناتج أم تقللها ، فإنه من الضروري إدخالها واحدا واحدا، بينما يحافظ على كل الأجزاء الأخرى دون تغيير. (8) الطفرات المستحثة بواسطة الأشعة السينية
الآن علينا أن نستعرض سلسلة شديدة البراعة من النتائج البحثية في مجال الوراثة، التي سيتضح أنها أكثر الجوانب صلة بتحليلنا.
إن النسبة المئوية للطفرات في الذرية - ما يطلق عليها معدل الطفرات - يمكن زيادتها إلى مضاعفات عالية من معدل الطفرات الطبيعي الضئيل بواسطة تعريض الوالدين للأشعة السينية أو أشعة جاما. الطفرات الناجمة عن ذلك لا تختلف في شيء (عدا كونها أكثر وفرة) عن تلك الحادثة عفويا، وهذا يجعلنا نصل لانطباع بأن كل طفرة «طبيعية» من الممكن أن تستحث كذلك بالأشعة السينية. في ذبابة الفاكهة، يتكرر الكثير من الطفرات الخاصة عفويا مرة بعد الأخرى في المزارع الحيوية الكبيرة؛ لقد حدد مواضعها على الكروموسومات، كما أوضحنا في الأقسام الأخيرة من الفصل الثاني، ومنحت أسماء معينة. وقد وجد حتى ما يطلق عليه «الأليلات المتعددة»، وهي «نسختان» أو «قراءتان» مختلفتان أو أكثر، بالإضافة إلى الأليل الطبيعي غير الطافر على الموقع نفسه على شفرة الكروموسوم، مما يعني وجود ليس فقط اثنين بل ثلاثة أو أكثر من البدائل في هذا «الموقع» المحدد، وأن أي اثنين منها يكونان في علاقة «السائد والمتنحي» عندما يحدثان على نحو متزامن في موقعيهما المتقابلين في الكروموسومين المتماثلين.
إن التجارب التي أجريت على الطفرات المستحثة بواسطة الأشعة السينية تعطي انطباعا أن كل «انتقال» معين - لنقل من الفرد الطبيعي إلى فرد طافر معين أو العكس - له «معامل أشعة سينية» فردي خاص به، والذي يشير إلى النسبة المئوية للذرية التي ستصبح طافرة عبر هذه السبيل، وذلك عند تعريض الوالدين لجرعة من الأشعة السينية قبل إنتاج الذرية. (8-1) القانون الأول: الطفرات حدث مفرد
بالإضافة إلى ذلك، فالقوانين التي تحكم معدل الطفرات المستحثة في غاية البساطة والوضوح. أنا أتبع هنا تقرير إن دبليو تيموفيف المنشور في دورية «بيولوجيكال ريفيوز»، المجلد التاسع، لعام 1934. يعتمد هذا التقرير على نحو كبير على عمل رائع آخر للمؤلف نفسه. القانون الأول ينص على الآتي : (1) «الزيادة تتناسب على نحو دقيق مع جرعة الأشعة السينية ، بحيث يمكننا الحديث (كما فعلت) عن معامل للزيادة.»
نحن معتادون جدا على التناسب البسيط؛ لذا فنحن عرضة للانتقاص من التداعيات والنتائج البعيدة المدى لهذا القانون البسيط. ولكي نلم بها، ربما علينا أن نتذكر أن ثمن السلعة، على سبيل المثال، لا يتناسب دائما مع كميتها. في الأوقات العادية فإن صاحب المتجر قد يكون ممتنا جدا لشرائك ست برتقالات منه، لدرجة أنك عندما تقرر أن تأخذ في نهاية الأمر دستة كاملة، فمن الممكن أن يعطيها لك بسعر أقل من ضعف ثمن الست. وفي أوقات الندرة، من الممكن أن يحدث العكس. في الحالة الراهنة، يمكن أن نستخلص أن النصف الأول من جرعة الإشعاع، رغم أنها تسبب في إحداث طفرات، لنقل، في واحد في الألف من الذرية، لم تؤثر في البقية على الإطلاق، سواء بجعلهم يمتلكون استعدادا لتطويرها أو بمنحهم مناعة ضدها. من ناحية أخرى، النصف الثاني من الجرعة لن يتسبب مرة ثانية في إحداث طفرات في واحد من الألف من الذرية. على ذلك، فالطفرات ليست تأثيرا متراكما، تتأتى من حصص صغيرة متتابعة من الإشعاع يقوي بعضها بعضا. فهي يجب أن تسفر عن حدث ما مفرد في كروموسوم واحد خلال التعرض للإشعاع. السؤال الآن: أي نوع من الأحداث هذا؟ (8-2) القانون الثاني: تحديد موقع الحدث
سيجيب على هذا القانون الثاني الذي ينص على ما يلي: (2) «إذا غيرت نوعية الأشعة (الطول الموجي) ضمن حدود واسعة، من أشعة سينية خفيفة إلى أشعة جاما قوية نوعا ما، فالمعامل سيبقى ثابتا شريطة أن تستخدم الجرعة نفسها فيما يدعى وحدات رونتجن»؛ أي شريطة أن تقيس الجرعة بواسطة الكمية الإجمالية للمادة المعيارية خلال الزمان والمكان حيث يتعرض الوالدان للأشعة.
سنختار الهواء مادة معيارية، ليس فقط لأنه مناسب لكن أيضا بسبب أن الأنسجة العضوية مكونة من عناصر لها الوزن الذري نفسه للهواء. إن الحد الأدنى لكمية عمليات التأين أو العمليات الشبيهة
2 (الاستثارات) في الأنسجة يمكن الحصول عليه ببساطة عن طريق ضرب عدد عمليات التأين في الهواء في نسبة الكثافات. وهكذا، من الواضح إلى حد ما، وهو أمر يمكن تأكيده عن طريق إجراء فحص دقيق أكثر، أن الحدث المفرد المتسبب في الطفرة، هو مجرد تأين (أو عملية شبيهة) يحدث ضمن حجم ما «حرج» من الخلية الجرثومية. السؤال الآن: ما هذا الحجم الحرج؟ نستطيع حسابه من خلال معدل الطفرات المرصود عن طريق اعتبار المثال التالي: لو أن جرعة من 50 ألف أيون في السنتيمتر المكعب الواحد تنتج فرصة 1: 1000 فقط لأحد الأمشاج (كان في منطقة الإشعاع) ليطفر بهذه الطريقة، فنستنتج من ذلك أن الحجم الحرج، وهو «الهدف» الذي يجب أن «يضرب» بالتأين لتحدث تلك الطفرة، هو فقط 1 / 1000 من 1 / 50000 من السنتيمتر المكعب؛ ما يعني، واحدا على 50 مليون من السنتيمتر المكعب. هذه الأرقام ليست صحيحة، لكنها مستخدمة هنا فقط للتبسيط والتوضيح. نحن نتبع في عملية الحساب الفعلية إم ديلبروك في الورقة البحثية التي قدمها هو وإن دبليو تيموفيف وكيه جي زيمر، ⋆
والتي ستكون كذلك المصدر الرئيسي للنظرية التي سنعرض لها في الفصلين التاليين. لقد وصل هناك إلى حجم يعادل فقط نحو تكعيب عشر مسافات ذرية متوسطة، هكذا يحتوي فقط على نحو 10
3 ؛ أي ألف ذرة. أبسط تفسير لهذه النتيجة هو أن هناك فرصة جيدة لإنتاج تلك الطفرة عندما يحدث التأين (أو الاستثارة) ليس «أبعد من 10 ذرات» تقريبا من نقطة ما معينة من الكروموسوم. سوف نناقش هذا على نحو أكثر تفصيلا بعد قليل.
يحوي تقرير تيموفيف تلميحا عمليا لا أقدر على الامتناع عن ذكره هنا، بالرغم من أنه بالطبع لا يمثل أي أهمية بالنسبة لعرضنا الحالي. يوجد الكثير من المناسبات في الحياة الحديثة يكون على الإنسان فيها أن يتعرض للأشعة السينية. والأخطار المباشرة لذلك مثل الحروق وسرطان التعرض للأشعة السينية والعقم، هي أخطار معروفة جيدا، والحماية بالحواجز الواقية أو المآزر المصنوعة من الرصاص ... إلخ متاحة، خاصة للممرضات والأطباء الذين يكون عليهم أن يتعاملوا مع تلك الأشعة على نحو منتظم. النقطة المهمة هنا هي أنه حتى عندما يمكن تفادي هذه الأخطار الوشيكة بنجاح، فإنه يبدو أن هناك أخطارا غير مباشرة بحدوث طفرات صغيرة ضارة في الخلايا الجنسية، طفرات من النوع المتصور الذي أشرنا إليه عندما تحدثنا عن النتائج غير المحببة للتوالد الداخلي. لكي نوضح مقصدنا على نحو أكبر، على الرغم من أنه من المحتمل أن يكون ساذجا قليلا. نقول إن الزواج الضار والمؤذي بين أبناء العمومة من الدرجة الأولى من الممكن أن تزيد احتماليته للغاية إذا كانت جدتهم قد عملت وقتا طويلا ممرضة تستخدم الأشعة السينية. هذه نقطة لا تحتاج إلى أن تقلق أي فرد على نحو شخصي. لكن أي احتمالية لإصابة الجنس البشري على نحو تدريجي بطفرات غير مرغوبة كامنة يجب أن تكون أمرا يهم كل الناس.
مرجع ⋆
Nachr. a. d. Biologie d. Ges. d. Wiss. Göttingen, I (1935), 189.
هوامش
الفصل الرابع
دليل ميكانيكا الكم
وخيال روحك الشارد المتوقد يتمثل في صورة بلاغية، في قصة رمزية.
جوته (1) الفيزياء الكلاسيكية لا تقدم تفسيرا للديمومة
هكذا وبمساعدة معدات الأشعة السينية بديعة الإتقان (التي، كما يتذكر الفيزيائي، أظهرت منذ ثلاثين عاما التركيبات الشبكية الذرية التفصيلية للبلورات)، نجحت مؤخرا جهود علماء الأحياء والفيزيائيين الموحدة في تقليل الحد الأعلى لحجم التركيب المجهري المسئول عن الصفات المحددة الواسعة النطاق للفرد - حجم الجين - وتقليصه كثيرا لأرقام دون التقديرات التي عرضنا لها مسبقا. وأصبح علينا الآن أن نجيب على نحو جدي على السؤال التالي: كيف يمكن لنا، من وجهة نظر الفيزياء الإحصائية، التوفيق بين الحقيقتين القائلتين إن تركيب الجين يبدو أنه يتضمن فقط عددا قليلا نسبيا من الذرات (في حدود 1000 وربما أقل من ذلك بكثير)، وأنه رغم ذلك يظهر نشاطا شديد الانتظام والانضباط، مع استمرارية وديمومة تصلان إلى حدود إعجازية؟
دعوني ألق الضوء ثانية على ذلك الوضع العجيب حقا. كان العديد من أفراد أسرة هابسبورج الحاكمة مصابين بتشوه غريب في الشفة السفلى (الشفة الهابسبورجية). فدرست بعناية الجوانب الوراثية للأمر ونشرت كاملة مع صور تاريخية للأشخاص بواسطة الأكاديمية الملكية لفيينا وتحت رعاية الأسرة الحاكمة السالفة الذكر. ثبت أن تلك الصفة «أليل» مندلي حقيقي للنوع الطبيعي من الشفة. وبتأمل صورة أحد أفراد تلك الأسرة الذي كان يعيش في القرن السادس عشر ، وصورة أحد ذريته الذي عاش في القرن التاسع عشر، يمكن أن نفترض دون شك أن مادة تركيب الجين، المسئولة عن الصفة غير الطبيعية، قد انتقلت من جيل إلى جيل عبر القرون، وتناسخت بدقة في كل انقسامات الخلايا البينية، تلك الانقسامات التي لم تكن كثيرة جدا. بالإضافة إلى ذلك، فإن عدد الذرات المشاركة في تركيب الجين المسئول على الأغلب هو بالقيمة الأسية نفسها كما هو الوضع في الحالات التي اختبرت بواسطة الأشعة السينية. لقد بقي الجين في درجة حرارة 98 فهرنهايت تقريبا طوال ذلك الوقت. كيف يمكن لنا أن نفهم أنه ظل كما هو رغم الميل الفوضوي للحركة الحرارية لقرون؟
إن أي فيزيائي في نهاية القرن الفائت كان سيحتار ولا يستطيع الإجابة عن هذا السؤال، إذا كان مستعدا للاعتماد فقط على قوانين الطبيعة تلك التي يستطيع تفسيرها والتي يفهمها بالفعل. ربما، في واقع الأمر، بعد تفكير قصير في الموقف الإحصائي، كان سيجيب (على نحو صحيح، كما سنرى): لا يمكن أن تكون تركيبات المادة هذه سوى جزيئات. إن الكيمياء تحصلت بالفعل على كم واسع من المعرفة في ذلك الوقت عن طريق وجود تلك الروابط بين الذرات، وأحيانا الثبات أو الاستقرار الهائل جدا لها. لكن تلك المعرفة تجريبية خالصة. لم تفهم طبيعة الجزيء؛ فقد كانت الروابط المشتركة القوية للذرات التي تحفظ شكل الجزيء تمثل لغزا كاملا للجميع. لكن في واقع الأمر تبين أن تلك الإجابة صحيحة، لكن قيمتها محدودة ما دام الاستقرار البيولوجي المبهم أرجع فقط إلى استقرار كيميائي مبهم بالقدر نفسه. إن الدليل على اعتماد صفتين متماثلتين في الشكل على المبدأ نفسه، دائما ما يكون غير راسخ ما دام المبدأ نفسه غير معروف. (2) قابلة للتفسير من خلال نظرية الكم
في هذه الحالة، تقدم نظرية الكم الإجابة. وفي ضوء المعرفة الحالية، فإن آلية الوراثة ترتبط على نحو وثيق بأسس نظرية الكم، بل وتعتمد عليها. هذه النظرية اكتشفها ماكس بلانك عام 1900. ويمكن أن يؤرخ لعلم الوراثة الحديث منذ إعادة اكتشاف ورقة مندل البحثية من قبل دي فريس وكورنس وتشيرماك (1900)، ومنذ ورقة دي فريس البحثية عن الطفرات (1901-1903)؛ من ثم فميلاد النظريتين العظيمتين متزامن تقريبا، وليس من العجيب أن كلتيهما كان عليها أن تصل لدرجة من النضج قبل أن ينبثق الرابط بينهما. وفيما يتعلق بنظرية الكم فقد استغرقت أكثر من ربع قرن حتى توصل لنظرية الكم الخاصة بالرابطة الكيميائية في مبدئها العام، فيما بين عامي 1926 و1927 على يد دبليو هايتلر وإف لندن. تتضمن نظرية هايتلر ولندن أكثر المفاهيم براعة وتعقيدا لآخر تطورات نظرية الكم (الذي يطلق عليه «ميكانيكا الكم» أو «الميكانيكا الموجية»). إن عرض هذه النظرية دون استخدام لغة التفاضل والتكامل يكاد يكون من المستحيل، أو سيتطلب على الأقل كتابا آخر صغيرا مثل هذا. لكن لحسن الحظ، بعد إنجاز كل الأبحاث ذات الصلة في هذا المجال ومساهمتها في توضيح أفكارنا، يبدو من الممكن أن نبرز بطريقة مباشرة أكثر الرابط بين «القفزات الكمية» والطفرات؛ كي نبرز أهم النقاط في هذا الشأن. هذا ما نحاول القيام به هنا. (3) نظرية الكم والحالات المنفصلة والقفزات الكمية
كان الكشف الأعظم لنظرية الكم هو اكتشاف سمات الانفصال في الطبيعة، في سياق بدا فيه أي شيء بخلاف الاستمرارية غير معقول بحسب الرؤى الراسخة في ذلك الوقت.
أولى الحالات من ذلك النوع كانت خاصة بالطاقة؛ فالجسم على المستوى الكبير بوجه عام يغير طاقته على نحو مستمر. فالبندول، على سبيل المثال، الذي يضبط ليتأرجح يتباطأ تدريجيا بسبب مقاومة الهواء. الغريب أنه ثبت أن علينا أن نعترف بأن النظام على المستوى الذري يتصرف على نحو مختلف. وبناء على أسس لا يمكن أن نتناولها هنا، بات علينا أن نفترض أن النظام الصغير بطبيعته يمكن أن يمتلك فقط كميات معينة منفصلة من الطاقة، تسمى مستويات الطاقة المحددة خاصته. والانتقال من حالة لأخرى هو إلى حد كبير حدث غامض، يدعى غالبا «القفزة الكمية».
لكن الطاقة ليست الخاصية المميزة الوحيدة للنظام. فلنلجأ مرة أخرى إلى مثال البندول خاصتنا لكن فكر في واحد يستطيع أداء أنواع مختلفة من الحركات؛ كرة ثقيلة معلقة بخيط من السقف يمكن أن نجعلها تتأرجح من الشمال للجنوب أو من الشرق إلى الغرب أو أي اتجاه آخر، أو في دائرة أو في قطع ناقص. وعن طريق نفخ الكرة برفق بمنفاخ، يمكن جعلها تنتقل على نحو مستمر من حالة حركة إلى أخرى.
وبالنسبة للأنظمة ذات المستويات الصغيرة، فأغلب هذه الخصائص أو مثيلاتها - لا يمكن أن ندخل في التفاصيل - يتغير على نحو غير مستمر؛ فهي «تتجزأ كميا» بالضبط كما هي الحال مع الطاقة.
تكون النتيجة أن عددا من الأنوية الذرية، متضمنة حراسها من الإلكترونات، عندما تجد نفسها قريبة بعضها من بعض مكونة «نظاما»، تكون غير قادرة بطبيعتها على أن تتخذ أي تكوينات تعسفية يمكن أن نفكر فيها. إن طبيعتها تترك لها فقط سلسلة كبيرة، ولكن منفصلة من «الحالات» لتختار منها،
1
والتي عادة ما ندعوها المستويات أو مستويات الطاقة؛ لأن الطاقة جزء مهم جدا من الخاصية. لكن يجب أن يكون مفهوما أن الوصف الكامل يتضمن ما هو أكثر من مجرد الطاقة؛ فمن الصحيح أن ترى أن الحالة تعني تكوينا محددا من كل الجسيمات.
إن التحول من أحد هذه التكوينات لآخر يعد قفزة كمية. لو أن للحالة الثانية طاقة أكبر (مستوى أعلى)؛ فالنظام يجب أن يمد من الخارج بالفارق بين الطاقتين على الأقل لجعل الانتقال ممكنا. وعند الانتقال لمستوى أقل يمكن أن يتغير النظام تلقائيا، ببذل فائض الطاقة في صورة إشعاع. (4) الجزيئات
ضمن مجموعة الحالات المنفصلة لأي مجموعة مختارة من الذرات، يجب بالضرورة ألا يكون هناك مستوى أدنى، ولكن من الممكن أن يحدث هذا، مما يعني اقتراب الأنوية بشدة بعضها من بعض. تشكل الذرات في تلك الحالة جزيئا. النقطة التي سنركز عليها هنا هي أن الجزيء سوف يمتلك بالضرورة استقرارا معينا؛ فلا يمكن للتكوين أن يتغير ما لم يتم على الأقل توفير فارق الطاقة، الضروري ل «رفعه» إلى المستوى الأعلى التالي، من الخارج. وهكذا، فإن هذا الفارق في المستوى الذي هو كمية جيدة التحديد، يحدد كميا درجة استقرار الجزيء. سوف يلاحظ كيف أن هذه الحقيقة مرتبطة على نحو وثيق بأسس نظرية الكم؛ أي بانفصالية مخطط المستويات.
أرجو من القارئ أن يعتقد أن هذا النسق من الأفكار قد جرى التحقق منه تماما من خلال الحقائق الكيميائية، وقد ثبت نجاحه في تفسير الحقيقة الأساسية للتكافؤ الكيميائي، والكثير من التفاصيل عن تركيب الجزيئات، وطاقات الارتباط خاصتها، واستقرارها في درجات الحرارة المختلفة، وهكذا. أنا أتحدث عن نظرية هايتلر ولندن التي، كما قلت، لا يمكن أن نعرض لها بالتفصيل هنا. (5) استقرارها معتمد على درجة الحرارة
يجب أن نكتفي بفحص النقطة ذات الأهمية الأساسية لمسألتنا البيولوجية؛ أعني استقرار الجزيء في درجات الحرارة المختلفة. فلننظر في نظام الذرات خاصتنا على أنه فعليا في أقل مستوى من الطاقة. إن الفيزيائي سيقول عنه إنه جزيء في درجة حرارة الصفر المطلق. ولرفعه إلى الحالة أو المستوى التالي الأعلى، هناك احتياج إلى المد بطاقة محددة. وأبسط طريقة لمحاولة القيام بعملية المد هذه هي «تسخين» الجزيء؛ إذ إنك بذلك تنقله إلى بيئة درجة حرارتها أعلى (حمام حراري)، مما يسمح للأنظمة الأخرى (الذرات والجزيئات) أن تؤثر فيه. ومع الوضع في الاعتبار عدم الانتظام الكامل للحركة الحرارية، فإنه لا يوجد حد حراري قاطع عنده سيحدث «الرفع» فورا ويقينا. بدلا من ذلك، فعند أي درجة حرارة (غير الصفر المطلق) توجد فرصة معينة، أصغر أو أكبر، لحدوث عملية الرفع، مع ازدياد الفرصة بالطبع مع ازدياد درجة حرارة الحمام الحراري. وأفضل طريقة للتعبير عن هذه الفرصة هي بالإشارة إلى متوسط الوقت الذي سيكون عليك انتظاره حتى تحدث عملية الرفع، أو ما يطلق عليه «الوقت المتوقع».
من خلال تقص قام به إم بولاني وإي فيجنر، ⋆
فإن «الوقت المتوقع» يعتمد على نحو كبير على النسبة بين الطاقتين، إحداهما هي مجرد الفرق نفسه في الطاقة اللازم لحدوث عملية الرفع (دعنا نرمز لها بالحرف )، والأخرى هي التي تميز شدة الحركة الحرارية عند درجة الحرارة المعنية (دعنا نرمز بالحرف
لدرجة الحرارة المطلقة و
للطاقة المميزة ).
2
من البديهي أن فرصة حدوث عملية الرفع ستكون أقل؛ ومن ثم سيكون الوقت المتوقع أطول، كلما كانت عملية الرفع نفسها تتطلب طاقة عالية مقارنة بمتوسط الطاقة الحرارية؛ أي كلما زادت النسبة بين
صغيرة نسبيا في النسبة بين . لنضرب مثالا (نقلا عن ديلبروك)، فإنه عندما تكون
30 ضعف ، فإن الوقت المتوقع من المحتمل أن يكون قصيرا إلى حد 1/ 10 ثانية، لكنه يرتفع إلى 16 شهرا عندما تكون
50 ضعف
وإلى 30 ألف سنة عندما تكون
60 ضعف ! (6) فاصل رياضي
ربما يكون من الملائم أيضا أن أشير بلغة رياضية - للقراء الذين تستهويهم الرياضيات - إلى أسباب هذه الحساسية الهائلة للتغيرات في المستوى أو الحرارة، وأن أضيف بضع ملاحظات فيزيائية من نوع مشابه. والسبب هو أن الوقت المتوقع - الذي نرمز له بالحرف - يعتمد على نسبة
في دالة أسية، وذلك كما يلي:
إن
هو ثابت معين صغير قيمته تقريبا 10 −13
أو 10 −14
ثانية. إن تلك الدالة الأسية المحددة هذه ليست سمة عرضية؛ فهي تعاود الظهور مرة تلو الأخرى في النظرية الإحصائية للحرارة، مكونة الأساس الذي تقوم عليه. إنها مقياس لا احتمالية كمية من الطاقة في مثل ضخامة ، التي تجمعت على نحو عرضي في جزء ما محدد من النظام، وهذه اللااحتمالية هي التي تزيد على نحو هائل جدا عندما يكون مضاعف كبير ل «متوسط الطاقة»
لازما.
في حقيقة الأمر، إن (ارجع إلى المثال المذكور أعلاه) هو أمر نادر جدا بالفعل. إن كونه لم يؤد بعد إلى وقت متوقع طويل على نحو هائل (فقط 1 / 10 ثانية في مثالنا) أمر يرجع بالتأكيد إلى صغر العامل . ولهذا العامل معنى فيزيائي؛ فهو مساو تقريبا لفترة الاهتزازات التي تحدث في النظام طوال الوقت. ويمكن لك على نحو عام جدا أن تصف هذا العامل بأنه يعني أن فرصة تراكم الكمية المطلوبة ، رغم أنها قليلة للغاية، تكرر المرة تلو الأخرى «مع كل اهتزاز»؛ أي نحو 10
13
أو 10
14
مرة خلال كل ثانية. (6-1) التعديل الأول
بطرح هذه الاعتبارات بوصفها نظرية لاستقرار الجزيء، افترض على نحو ضمني أن القفزة الكمية التي أطلقنا عليها عملية «الرفع» تؤدي ، إن لم يكن لتفكك كامل، فعلى الأقل إلى تكوين مختلف بالضرورة للذرات نفسها - جزيء أيسومري، كما يطلق عليه الكيميائي، وهو جزيء له الذرات نفسها لكن بترتيب مختلف (عند تطبيق هذا في علم الأحياء، فإنه سيمثل «أليلا» مختلفا على «الموقع» نفسه، والقفزة الكمية ستمثل الطفرة).
حتى يكون هذا التأويل ممكنا، هناك نقطتان يجب تعديلهما في قصتنا، التي بسطتها عن قصد كي أجعلها جلية ومفهومة. بالطريقة التي سردتها بها، من الممكن أن يتخيل أحدهم أن مجموعة الذرات خاصتنا في مستوى طاقتها الأدنى فقط ستكون ما ندعوه بالجزيء، وأن المستوى التالي الأعلى هو «شيء آخر». إلا أنه ليس كذلك. في الواقع، إن المستوى الأدنى يتبعه سلسلة مزدحمة من المستويات التي لا تتضمن أي تغيير ملحوظ في التكوين ككل، لكن فقط تتناظر مع تلك الاهتزازات الصغيرة التي تحدث بين الذرات والتي ذكرناها في القسم السابق. إنها أيضا «تتجزأ كميا» لكن بخطوات صغيرة نسبيا من مستوى للآخر؛ من ثم فتأثير جسيمات «الحمام الحراري» يمكن أن يكون كافيا لإعدادها في درجة حرارة منخفضة إلى حد ما. ولو أن الجزيء تركيب ممتد، فيمكن أن تتصور هذه الاهتزازات موجات صوتية عالية التردد، تعبر الجزيء دون أن تسبب أي ضرر له.
لذلك، فأول تعديل ليس مهما للغاية، علينا أن نتجاهل «التركيب الذري الدقيق الاهتزازي» لمخطط المستويات. ويجب أن يفهم مصطلح «المستوى الأعلى التالي» بمعنى المستوى التالي الذي يتناظر مع تغيير مهم في التكوين. (6-2) التعديل الثاني
التعديل الثاني شرحه أكثر صعوبة بكثير؛ لأنه معني بسمات معينة حيوية لكنها معقدة جدا لمخطط المستويات المختلفة. إن الانتقال الحر بين مستويين منهما يمكن أن يعاق بصرف النظر عن مقدار الطاقة المطلوب؛ في الحقيقة، من الممكن أن يعاق حتى عندما يكون من حالة أعلى إلى أخرى أدنى.
شكل 4-1: الأيسومران الخاصان بالكحول البروبيلي.
دعونا نبدأ من الحقائق التجريبية. من المعلوم لدى الكيميائي أن المجموعة نفسها من الذرات يمكن أن تتحد بأكثر من طريقة لتكون جزيئا. هذه الجزيئات توصف بأنها أيسومرية (أي مكونة من الأجزاء نفسها ). والأيسومرية ليست باستثناء، بل هي القاعدة. وكلما ازداد حجم الجزيء ، ازدادت البدائل الأيسومرية المتاحة. يعرض الشكل
4-1
واحدا من أبسط الأمثلة على ذلك، وهو نوعا الكحول البروبيلي؛ فكلاهما يتكون من 3 ذرات كربون، و8 ذرات هيدروجين، وذرة أكسجين واحدة.
3
إن الذرة الأخيرة يمكن أن تتوسط بين أي ذرة هيدروجين وذرة الكربون خاصتها، لكن الحالتين فقط المعروضتين في شكلنا هما اللتان تمثلان مادتين مختلفتين. إن كل خواصهما الفيزيائية والكيميائية متمايزة الاختلاف. وكذلك طاقاتهما مختلفة؛ فهما تمثلان «مستويين مختلفين».
شكل 4-2: عتبة الطاقة (3) بين المستويين الأيسومرين (1) و(2). السهمان يشيران إلى الطاقتين الدنييين المطلوبتين لعملية الانتقال.
الحقيقة الجديرة بالملاحظة أن الجزيئين مستقران تماما؛ إذ كلاهما يتصرفان كما لو أنهما «الحالتان الدنييان». ولا يوجد انتقال تلقائي من أي حالة منهما للأخرى.
السبب يكمن في أن التكوينين ليسا تكوينين متجاورين. والانتقالات من أحدهما إلى الآخر يمكن لها أن تحدث فقط عبر تكوينات وسيطة والتي لها طاقة أعلى من كليهما. لكي نوضح الأمر أكثر، فإن الأكسجين يجب أن ينتزع من أحد الموضعين ويدرج في الآخر. يبدو أنه لا يوجد سبيل لفعل ذلك دون المرور بتكوينات ذات طاقة أعلى بكثير. إن هذا الوضع يمكن تمثيله أحيانا بيانيا كما في الشكل
4-2 ، بحيث يمثل (1) و(2) الأيسومرين، و(3) «العتبة» بينهما، في حين يشير السهمان إلى عمليتي «الرفع»؛ أي مقداري الطاقة اللازمين للانتقال من الحالة (1) إلى الحالة (2)، أو من الحالة (2) إلى الحالة (1)، على التوالي.
والآن يمكن لنا أن نعطي «تعديلنا الثاني»، وهو أن الانتقالات التي من هذا النوع «الأيسومري» هي الوحيدة التي ستهمنا في تطبيقنا البيولوجي. إنها هي التي كانت في أذهاننا عندما شرحنا «الاستقرار» في قسم سابق من هذا الفصل. إن «القفزة الكمية» التي نعنيها هي الانتقال من تكوين جزيئي مستقر نسبيا إلى آخر. إن الطاقة المطلوبة لإحداث عملية الانتقال (الكمية التي رمزها ) ليست فارق المستوى الحقيقي، لكنها خطوة من المستوى المبدئي إلى العتبة (انظر السهمين المعروضين في الشكل
4-2 ).
إن الانتقالات من دون عتبة بين الحالة المبدئية والنهائية ليست مثيرة للاهتمام نهائيا، وهذا ليس فقط في تطبيقنا البيولوجي. فهي في واقع الأمر لا دور لها في الاستقرار الكيميائي للجزيء. لماذا؟ لأنها ليس لها أي تأثير باق؛ إذ تبقى غير ملاحظة. ذلك بأنها حال حدوثها، يتبعها في الغالب على الفور انتكاس إلى الحالة المبدئية؛ لأن لا شيء يمنع رجوعها هذا.
مرجع ⋆
Zeitschrift für Physik, Chemie (A), Haber-Band (1928), p. 439.
هوامش
الفصل الخامس
مناقشة واختبار نموذج ديلبروك
بلا شك، وكما أن النور مقياس ذاته والظلام، فإن الصحة مقياس ذاتها والخطأ.
سبينوزا، «علم الأخلاق»، الجزء 2، قضية 43 (1) الصورة العامة للمادة الوراثية
من الحقائق السابقة، تبرز إجابة بسيطة جدا لتساؤلنا الذي يقول: هل هذه التركيبات، المكونة من ذرات قليلة نسبيا، قادرة على الصمود لفترات طويلة أمام التأثير المربك والمزعج للحركة الحرارية التي تتعرض لها المادة الوراثية على نحو مستمر؟ سنفترض أن تركيب الجين يشبه ذلك الذي لجزيء ضخم، والذي يكون قادرا فقط على القيام بتغيير غير متصل، والذي يتمثل في إعادة ترتيب الذرات ويؤدي إلى جزيء أيسومري.
1
إن إعادة الترتيب قد تؤثر فقط في منطقة صغيرة من الجين، وعدد هائل من عمليات إعادة الترتيب المختلفة ربما يكون ممكنا. وعتبات الطاقة، التي تفصل بين التكوين الفعلي وأي تكوينات أيسومرية ممكنة، يجب أن تكون عالية بالقدر الكافي (مقارنة بمتوسط الطاقة الحرارية للذرة) لتجعل التغيير حدثا نادرا. وهذه الأحداث النادرة سوف نشبهها بالطفرات التلقائية.
الأجزاء اللاحقة من هذا الفصل سوف تكرس لاختبار تلك الصورة العامة للجين والطفرة (التي يعود الفضل فيها على نحو رئيسي إلى الفيزيائي الألماني إم ديلبروك) بمقارنتها بالتفصيل بالحقائق المعروفة عن الجينات. وقبل أن نقوم بذلك، قد نطرح على نحو ملائم التعليق على أساس النظرية وطبيعتها العامة. (2) تفرد الصورة
هل كان البحث في الجذور الأعمق وتأسيس الصورة على ميكانيكا الكم ضرورة حتمية لعرض المسألة البيولوجية؟ إن افتراض أن الجين هو جزيء أصبح اليوم - أجرؤ على القول - مألوفا. وقليل من البيولوجيين، سواء أكانوا على علم بنظرية الكم أم لا، هم من سيعترضون عليه. لقد غامرنا في قسم سابق من هذا الكتاب بنسبه لفيزيائي ما قبل نظرية الكم بصفته التفسير الوحيد المعقول للديمومة الملاحظة. وكل الاعتبارات اللاحقة عن الأيسومرية ، وطاقة العتبة، والدور المهم لنسبة
W:kT
في تحديد احتمالية الانتقال الأيسومري، يمكن تقديمه جيدا على أساس تجريبي خالص في أي نسق دون أن نركن إلى نظرية الكم. فلماذا أصر إذن بتصميم شديد على الرؤية القائمة على ميكانيكا الكم بالرغم من أنني قد لا أستطيع أن أجعلها واضحة في هذا الكتاب الصغير، ومن الممكن أن أصيب بها الكثير من القراء بالملل؟
إن ميكانيكا الكم هي الجانب النظري الأول المفسر اعتمادا على القوانين الطبيعية لكل أنواع التجمعات الذرية التي نلاقيها فعليا في الطبيعة. وارتباط هايتلر ولندن ملمح متفرد واستثنائي لتلك النظرية، الذي لم يقدم لأجل تفسير الرابطة الكيميائية، بل بزغ في هدوء بنفسه، بطريقة عالية الإثارة والإلغاز، تفرضه علينا اعتبارات مختلفة تماما. وقد ثبت توافقه التام مع الحقائق الكيميائية المرصودة، وكما قلت، هو ملمح متفرد ومفهوم بالقدر الكافي بحيث يمكن أن نقول بقناعة كبيرة إن «هذا الشيء قد لا يحدث مرة أخرى» في التطور اللاحق لنظرية الكم.
نتيجة لذلك، يمكننا أن نؤكد دون تردد أنه لا بديل آخر للتفسير الجزيئي للمادة الوراثية؛ فالجانب الفيزيائي لا يترك أي احتمالية أخرى لتفسر ديمومة تلك المادة. ولو أن الصورة التي يقترحها ديلبروك كان قد قدر لها أن تفشل، لكان علينا ألا نقوم بأي محاولات أخرى. هذه هي أول نقطة أرجو طرحها. (3) بعض المفاهيم التقليدية المغلوطة
لكن من الممكن أن يطرح السؤال التالي: ألا يوجد بالفعل أي تركيبات أخرى محتملة مكونة من الذرات عدا الجزيئات؟ ألا تحتفظ، على سبيل المثال، العملة الذهبية المدفونة في مقبرة لبضعة آلاف من السنوات بسمات الصورة المطبوعة عليها؟ صحيح أن العملة تتكون من عدد هائل من الذرات، لكننا بكل تأكيد في هذه الحالة لسنا ميالين لعزو الاحتفاظ بالشكل لإحصاءات الأعداد الضخمة. الملاحظة نفسها تنطبق على تجمع البلورات المتكون بأناقة، الذي نجده مدفونا في إحدى الصخور، والذي لا بد أنه قد بقي هناك لفترات جيولوجية عديدة دون تغيير.
هذا يقودنا إلى النقطة الثانية التي أرغب في توضيحها. إن حالات الجزيء والجامد والبلورة ليست مختلفة في حقيقة الأمر؛ ففي ضوء المعرفة الحالية هي تقريبا واحدة. ولكن لسوء الحظ، إن التعليم المدرسي يبقي على آراء معينة تقليدية قد عفا عليها الزمن منذ سنوات طويلة، وهي تحجب فهم حقيقية الأمور.
في واقع الأمر، ما تعلمناه في المدرسة عن الجزيئات لا يشير على الإطلاق إلى أنها أكثر قربا إلى الحالة الجامدة منها إلى الحالة السائلة أو الغازية. على العكس؛ فقد علمونا أن نميز بعناية بين التغيرات الفيزيائية كالانصهار أو التبخر، التي فيها يبقي على الجزيئات (بحيث، على سبيل المثال، يتكون دائما الكحول، سواء كان جامدا أو سائلا أو غازيا، من الجزيئات نفسها، .) والتغيرات الكيميائية مثل احتراق الكحول:
حيث يخضع جزيء الكحول وثلاثة جزيئات من الأكسجين إلى إعادة ترتيب لتكوين جزيئين من ثاني أكسيد الكربون وثلاثة جزيئات من الماء.
بالنسبة للبلورات؛ فقد علمونا أنها تكون شبكات منتظمة ثلاثية الميل، يكون فيها تركيب الجزيء الواحد قابلا للتمييز أحيانا، كما في حالة الكحول ومعظم المركبات العضوية، بينما في بلورات أخرى مثل الملح الصخري (
NaCL )، لا يمكن على الإطلاق تحديد جزيئاتها؛ ففي الملح الصخري، كل ذرة
Na
محاطة بست ذرات
Cl
على نحو متماثل والعكس صحيح، بحيث يكون اعتباطيا جدا تحديد الأزواج التي، إن وجدت، يمكن اعتبارها شركاء جزيئين.
وأخيرا؛ فقد أخبرونا أن الجامد يمكن أن يكون بلوريا أو لا، وأننا في الحالة الأخيرة نصفه بأنه لا بلوري. (4) «الحالات» المختلفة للمادة
الآن، لن أكون مخطئا لو أنني قلت إن كل تلك العبارات والتمييزات غير صحيحة إلى حد ما، إلا أنها أحيانا مفيدة لأغراض عملية. لكن فيما يتعلق بالتركيب الصحيح للمادة، فالحدود يجب أن ترسم بطريقة مختلفة تماما؛ فالتمييز الأساسي هو بين محتوى «المعادلتين» التاليتين:
جزيء = جامد = بلوري.
غاز = سائل = لا بلوري.
يجب أن نشرح هاتين العبارتين باختصار؛ فما يدعى بالجامد اللابلوري هو في حقيقة الأمر إما ليس لا بلوريا وإما ليس بجامد. ففيما يتعلق بألياف الفحم النباتي «اللابلورية»، إن التركيب الأساسي لبلورة الجرافيت قد كشف النقاب عنه من خلال الأشعة السينية. وهكذا يكون الفحم النباتي جامدا لكنه كذلك بلوري. وحيثما لا نجد تركيبا بلوريا لشيء ما، فعلينا أن نعد هذا الشيء مادة سائلة ذات «لزوجة» عالية للغاية (الاحتكاك الداخلي). مثل هذه المادة سيتضح أنها ليست جامدة من خلال عدم امتلاكها لدرجة انصهار محددة وحرارة انصهار كامنة. وعندما تسخن، فهي تلين تدريجيا وتتحول لمادة سائلة في النهاية دون توقف. (أتذكر أننا بنهاية الحرب العالمية الأولى كنا نعطى في فيينا مادة تشبه الأسفلت بديلا للقهوة. كانت صلبة للغاية، وكان على الشخص أن يستخدم إزميلا أو فأسا صغيرة كي يكسر القالب الصغير إلى قطع، عندها كان يظهر به شق ناعم، يشبه الصدفة. لكن مع الوقت كانت تلك المادة تتصرف كسائل؛ إذ كانت تتكدس في الجزء السفلي من الوعاء الذي قد تتركها فيه لبضعة أيام، في تصرف غير حكيم من جانبك.)
إن استمرارية الحالتين، السائلة والغازية، قصة معروفة جيدا. فيمكن تسييل أي غاز دون توقف بأن تعرف كيف تتعامل مع ما يسمى بالنقطة الحرجة. لكننا لن نتعرض لذلك هنا. (5) التمييز المهم حقا
هكذا بات لدينا كل شيء مبررا في المعادلتين السابقتين، عدا النقطة الرئيسية، التي تتمثل في أننا نأمل في أن تنظر للجزيء بعده جامدا؛ ومن ثم بلوريا.
إن السبب في هذا أن الذرات المكونة للجزيء، سواء كان هناك الكثير منها أو القليل، تتحد من خلال قوى، لها بالضبط الطبيعة نفسها التي لتلك التي تخضع لها الذرات العديدة التي يتكون منها أي جامد أو بلورة. فالجزيء يمتلك صلابة التركيب نفسها كتلك التي للبلورة. تذكروا أن هذه الصلابة على وجه الدقة هي التي نعتمد عليها لتفسير سبب ديمومة الجين!
إن التمييز المهم بحق في تركيب المادة هو ما إذا كانت الذرات مترابطة معا بقوى «التجمد» الخاصة بهايتلر ولندن تلك أم لا. في الجامد وفي الجزيء، كلها كذلك. أما في الغاز المكون من ذرات منفردة (مثل بخار الزئبق)، فهي ليست كذلك. أما في الغاز المكون من جزيئات، ففقط الذرات الموجودة ضمن كل جزيء هي التي ترتبط بتلك الطريقة. (6) الجامد غير المنتظم
إن الجزيء الصغير يمكن أن ندعوه ب «جرثومة الجامد». وبدءا من تلك الجرثومة الصغيرة للجامد، يبدو أن هناك طريقتين مختلفتين لبناء تجمعات أكبر وأكبر. الأولى هي الطريقة المملة نسبيا التي تعتمد على تكرار التركيب نفسه في ثلاثة اتجاهات مرة بعد الأخرى. وهذه هي الطريقة المتبعة في البلورة النامية. وبمجرد أن يتأسس الانتظام، فلا يوجد حد معين لحجم التجمع. والطريقة الأخرى تبني تجمعات ممتدة أكثر فأكثر دون أداة التكرار المملة. وهذه هي الحال في الجزيئات العضوية الأكثر تعقيدا بكثير التي فيها كل ذرة، وكل مجموعة ذرات، تلعب دورا منفردا، ليس مكافئا تماما لذلك الذي لكثير غيرها (كما هي الحال في التركيب المنتظم). من الممكن أن يكون مناسبا إلى حد ما أن نطلق على هذا الجامد أو البلورة غير المنتظمة، ونعبر عن فرضيتنا كما يلي: نعتقد أن الجين - أو ربما الليفة الكروموسومية بأكملها
2 - جامد غير منتظم. (7) تنوع المحتويات المضغوطة في الشفرة المصغرة
كثيرا ما كان يسئل كيف أن هذه النقطة الصغيرة جدا من المادة، نواة البيضة المخصبة، يمكن أن تحوي نص شفرة مفصلا يتضمن كل التطور المستقبلي للكائن الحي؟ يبدو أن تجمعا منظما جيدا للذرات لديه مقاومة كافية للاحتفاظ بتنظيمه على نحو دائم هو تركيب المادة الوحيد المتصور الذي يقدم مجموعة متنوعة من التنظيمات (الأيسومرية) الممكنة، الضخمة بما يكفي لتضمن نظاما معقدا من «التحديدات» ضمن حدود حيز صغير. في واقع الأمر، إن عدد الذرات في مثل هذا التركيب يجب ألا يكون ضخما جدا كي ينتج عددا غير محدود تقريبا من التنظيمات المحتملة. للتوضيح، فكر في شفرة مورس. إن رمزي النقطة والشرطة المختلفان والمنظمان في مجموعات جيدة الترتيب لا تزيد عن أربع يسمحان بوجود ثلاثين احتمالا مختلفا. هنا، إذا سمحت لنفسك باستخدام رمز ثالث بالإضافة إلى النقطة والشرطة وعدد مجموعات لا يزيد عن العشرة، فستستطيع أن تكون 88572 حرفا مختلفا؛ ومع خمسة رموز ومجموعات يصل عددها إلى 25، فالرقم سيكون 372529029846191405.
من الممكن أن يقال إن هذا التشبيه قاصر لأن رموز مورس خاصتنا قد يكون لها تركيب مختلف (مثل: --. و-..)؛ ومن ثم فهي تشبيه سيئ للأيسومرية. لعلاج ذلك الخلل، دعنا نلتقط، من المثال الثالث، فقط التجميعات المكونة من 25 رمزا بالضبط وفقط تلك التي تحتوي على 5 من كل من الأنواع الخمسة المفترضة (الخمس نقاط والخمس شرط، وهكذا). إن الحساب التقريبي سيعطيك عدد التجميعات الذي سيكون 62330000000000؛ حيث الأصفار على اليمين تمثل البنى التي لم أتكبد عناء حسابها.
في الحالة الحقيقية، إن «كل» ترتيب لمجموعة الذرات سوف يمثل في كل الأحوال جزيئا محتملا؛ إضافة إلى ذلك، المسألة ليست شفرة تعتمد اعتباطا؛ فنص الشفرة يجب أن يكون هو نفسه العامل الفعال المؤدي إلى التطور والنمو. لكن من ناحية أخرى فالرقم المختار في المثال 25 لا يزال صغيرا جدا، وقد تصورنا فقط التنظيمات البسيطة في خط واحد. ما نرجو توضيحه هو ببساطة أنه مع الصورة الجزيئية للجين لم يعد من غير الوارد أن الشفرة المصغرة يجب أن تتناسب بدقة مع الخطة العالية التعقيد والتحديد للنمو والتطور، وأنها يجب أن تحتوي بطريقة ما على الوسائل التي تجعلها تعمل. (8) المقارنة بالحقائق: درجة الاستقرار؛ عدم استمرارية الطفرات
الآن دعنا ننتقل أخيرا لنقارن الصورة النظرية بالحقائق البيولوجية. السؤال الأول الواضح هو: هل هذه الصورة تستطيع بحق أن تفسر الدرجة العالية من الديمومة التي نلاحظها. وهل قيم العتبة المطلوبة - للمضاعفات العالية لمتوسط الطاقة الحرارية - معقولة؟ وهل هي ضمن النطاق المعروف من الكيمياء العادية؟ ذلك السؤال بسيط جدا؛ إذ يمكن إجابته بالإيجاب دون فحص الجداول. فجزيئات المادة التي يستطيع الكيميائي عزلها عند درجة حرارة معينة يجب أن يكون لها عند درجة الحرارة تلك عمر قدره بضع دقائق على الأقل. (هذا هو الحد الأدنى، لكن المعتاد أن أعمارها أكبر كثيرا.) لذا، فقيم العتبة التي يصادفها الكيميائي يجب بالضرورة أن تكون بالضبط بالقيمة الأسية المطلوبة للتفسير العملي لأي درجة ديمومة يمكن لعالم الأحياء أن يصادفها؛ فنحن نتذكر من الفصل السابق أن قيم العتبة التي تتراوح ضمن مدى 1 : 2 تقريبا سوف تفسر الأعمار التي تتراوح بين أجزاء من الثانية وعشرة آلاف عام.
لكن دعوني أذكر أمثلة لنرجع إليها فيما بعد. إن نسب
المذكورة أمثلة في نهاية الفصل السابق، التي كانت كالتالي:
والتي تنتج أعمارا تساوي:
1 / 10 ثانية، و16 شهرا، و30 ألف سنة.
على التوالي، تتناسب في درجة حرارة الغرفة مع قيم العتبة التالية:
0,9 و1,5 و1,8 إلكترون فولت.
يجب أن نشرح وحدة «الإلكترون فولت» التي تعد ملائمة للغاية للفيزيائي لأنه يمكن تصورها. على سبيل المثال، الرقم الثالث (1,8) يعني أن إلكترونا، سرع بفرق جهد كهربي يساوي فولتين تقريبا، سوف يكتسب طاقة كافية بالكاد لإحداث عملية الانتقال عن طريق الصدم. (للمقارنة، بطارية كشاف الجيب العادي لها فرق جهد كهربي 3 فولتات.)
هذه الاعتبارات تجعل من المتصور أن التغير الأيسومري للتكوين في جزء ما من الجزيء خاصتنا والناتج عن تذبذب عرضي في الطاقة الاهتزازية، يمكن بالفعل أن يكون حدثا نادرا بما يكفي بحيث يفسر طفرة تلقائية. وهكذا، بواسطة مبادئ ميكانيكا الكم الأساسية نستطيع تفسير أكثر حقيقة مدهشة عن الطفرات، الحقيقة التي جذبت في البداية انتباه دي فريس للطفرات؛ أعني أنها تنوعات «قافزة» دون وجود تكوينات وسيطة. (9) استقرار الجينات المنتخبة طبيعيا
مع اكتشاف زيادة معدل حدوث الطفرات الطبيعية من خلال أي نوع من الأشعة المؤينة؛ فقد يفكر أحدهم في عزو المعدل الطبيعي للنشاط الإشعاعي للتربة أو الهواء أو الأشعة الكونية. لكن عند عقد مقارنة كمية بين نتائج هذا النشاط ونتائج الأشعة السينية، سيتبين أن «الإشعاع الطبيعي» أكثر ضعفا بكثير، ويمكن أن يكون مسئولا فقط عن جزء صغير جدا من المعدل الطبيعي.
مع التسليم بأننا يجب أن نرجع الطفرات الطبيعية النادرة إلى التذبذبات العرضية للحركة الحرارية، يجب ألا نندهش جدا من أن الطبيعة قد نجحت في اتخاذ هذا الاختيار الدقيق لقيم العتبة كما هو ضروري لجعل الطفرات نادرة؛ إذ إننا توصلنا، سابقا في هذه المحاضرات، إلى استنتاج مفاده أن الطفرات المتوالية مضرة بعملية التطور. إن الأفراد الذين يكتسبون عن طريق الطفرات تكوينات جينية ليست مستقرة بالقدر الكافي سوف تكون لديهم فرصة ضئيلة لرؤية ذريتهم التي ستطفر بسرعة وعلى نحو «فائق الجذرية». إن الأنواع ستكون خالية منهم؛ ومن ثم سوف تجمع الجينات المستقرة عبر الانتخاب الطبيعي. (10) الاستقرار المنخفض أحيانا للأفراد الطافرين
لكن بالتأكيد بالنسبة للأفراد الطافرين الذين ينتجون في تجارب التكاثر خاصتنا والذين نختارهم، بصفتهم أفرادا طافرين، لدراسة ذريتهم، لا يوجد سبب يجعلنا نتوقع أنهم جميعا يجب أن يظهروا ذلك الاستقرار العالي جدا؛ إذ إنهم «يجربون» فقط - أو لو أن ذلك قد حدث؛ فقد «نبذوا» في عمليات التكاثر البرية - ربما بسبب قابليتهم العالية للغاية للتطفر. على أي حال، نحن لسنا مندهشين على الإطلاق حين نعلم أن بعض هؤلاء الأفراد يظهرون فعليا درجة أعلى بكثير من القابلية للتطفر مقارنة بالجينات «البرية» العادية. (11) درجة الحرارة تؤثر في الجينات غير المستقرة على نحو أقل من تلك المستقرة
هذا يمكننا من اختبار معادلة القابلية للتطفر خاصتنا، التي كانت: (فلنتذكر أن
هو الوقت المتوقع لحدوث طفرة بطاقة عتبة .) نحن نسأل هنا: كيف يتغير
مع درجة الحرارة؟ يمكن أن نصل بسهولة من المعادلة السابقة في تقريب جيد إلى أن نسبة قيمة
عند درجة حرارة
إلى تلك عند درجة حرارة
هي:
لكون الأس سالبا الآن، فمن الطبيعي أن تكون النسبة أقل من 1. سيقل الوقت المتوقع لحدوث الطفرة مع رفع درجة الحرارة، وستزداد القابلية للتطفر. يمكن اختبار ذلك الآن، وقد اختبر بالفعل في ذبابة الفاكهة في نطاق درجات الحرارة الذي تستطيع الحشرات تحمله. والنتائج كانت من الوهلة الأولى مفاجئة؛ فقد زادت قابلية التطفر «المنخفضة» للجينات البرية بوضوح، لكن قابلية التطفر «العالية» نسبيا الحادثة مع بعض الجينات الطافرة بالفعل لم تزد، أو على أي حال زادت على نحو أقل بكثير. هذا بالضبط ما نتوقعه عند مقارنة المعادلتين خاصتنا؛ فالقيمة الكبيرة ل ، التي طبقا للمعادلة الأولى تكون مطلوبة لجعل قيمة
كبيرة (الجين المستقر)، سوف، طبقا للمعادلة الثانية، تجعل للنسبة المحسوبة هناك قيمة صغيرة، ما يعني زيادة معتبرة في القابلية للتطفر مع زيادة درجة الحرارة. (يبدو أن القيم الفعلية للنسبة تقع بين 1 / 2 و1 / 5. والقيمة المقابلة لها، 2,5، هي تلك التي في التفاعلات الكيميائية العادية نطلق عليها معامل فانت هوف.) (12) كيف تنتج الأشعة السينية الطفرات؟
نتحول الآن إلى معدل التطفر المستحث بواسطة الأشعة السينية. لقد استنتجنا بالفعل من تجارب التكاثر؛ أولا (من خلال تناسب معدل التطفر والجرعة) أن حدثا ما منفردا ينتج الطفرة؛ وثانيا (من خلال النتائج الكمية، ومن حقيقة أن معدل التطفر يتحدد بواسطة كثافة التأين المتكاملة، وأنه غير معتمد على الطول الموجي) أن هذا الحدث المنفرد يجب أن يكون تأينا أو عملية مشابهة يجب أن تحدث داخل حجم معين، يبلغ فقط نحو 10 مسافات ذرية مكعبة كي تنتج طفرة محددة. وبحسب صورتنا؛ فالطاقة المطلوبة لتخطي العتبة يجب أن تزود بوضوح من خلال تلك العملية التي تشبه الانفجار، التأين أو الاستثارة. أنا أصفها هنا بأنها تشبه الانفجار؛ لأن الطاقة المستهلكة في عملية تأين واحدة (المستهلكة، عرضا، ليس بواسطة الأشعة السينية نفسها، لكن بواسطة إلكترون ثانوي تنتجه) معروفة جيدا، ولها قدر كبير نسبيا يبلغ 30 إلكترون فولت. وهي ملزمة بأن تتحول إلى حركة حرارية متزايدة على نحو هائل حول النقطة حيث انبعثت، وأن تنتشر من هناك في صورة «موجة حرارية»، موجة من تذبذبات قوية للذرات. إن هذه الموجة الحرارية يجب أن تكون ما تزال قادرة على توفير عتبة الطاقة المطلوبة، 1 أو 2 إلكترون فولت، في متوسط «نطاق عمل» قدره 10 مسافات ذرية، وهذا أمر يمكن تصوره، على الرغم من أنه من المحتمل لفيزيائي غير متحيز أن يتوقع نطاق عمل أقل قليلا. في كثير من الحالات، من المتوقع تماما - بل وهو ما يرصد بالفعل - ألا ينتج عن الانفجار انتقال أيسومري منظم، ولكن إصابة للكروموسوم، إصابة تصبح مميتة عندما، في ظل عمليات تهجين بارعة، يزال الشريك غير المصاب (الكروموسوم المقابل من المجموعة الثانية) ويستبدل به شريك جينه المقابل معروف بأنه مصاب. (13) فعاليتها لا تعتمد على القابلية التلقائية للتطفر
هناك عدد لا بأس به من السمات الذي يمكن فهمه بسهولة من صورتنا، حتى وإن لم يكن يمكن توقعه منها . على سبيل المثال، إن الفرد الطافر غير المستقر لا يظهر في المتوسط معدلا أعلى بكثير من التطفر الناتج عن الأشعة السينية من ذلك المستقر. والآن ومع انفجار يزود بطاقة قدرها 30 إلكترون فولت، فأنت بالتأكيد لن تتوقع أنه سوف يكون هناك اختلاف كبير إذا ما كانت طاقة العتبة المطلوبة أكبر قليلا أو أقل قليلا؛ لنقل 1 أو 1,3 فولت. (14) الطفرات العكسية
في بعض الحالات درس الانتقال في كلا الاتجاهين؛ أي من جين «بري» معين إلى فرد طافر محدد، ورجوعا من هذا الفرد إلى الجين البري. في مثل هذه الحالات يكون معدل الطفرات الطبيعي هو تقريبا نفسه أحيانا، ومختلفا تماما في أحيان أخرى. للوهلة الأولى سيكون الأمر محيرا؛ لأن العتبة التي يجب تجاوزها يبدو أنها واحدة في كلتا الحالتين. لكن بكل تأكيد يجب ألا تكون كذلك؛ لأنها يجب أن تقاس من مستوى الطاقة الخاص بالتكوين البادئ، وهذا من الممكن أن يكون مختلفا بالنسبة للجين البري والجين الطافر. (ارجع للشكل
4-2
حيث «1» من الممكن أن يشير للأليل البري و«2» للأليل الطافر، الذي سيشار لاستقراره الأقل بالسهم القصير.)
إجمالا، أعتقد أن «نموذج» ديلبروك نجح في تجاوز الاختبارات على نحو جيد تماما، ويحق لنا استخدامه في تناول جوانب أخرى أبعد وأكثر عمقا.
هوامش
الفصل السادس
النظام والفوضى والإنتروبيا
لا الجسم يستطيع أن يدفع النفس إلى التفكير، ولا النفس تستطيع أن تدفع الجسم إلى الحركة أو السكون أو إلى أي حال آخر (إن وجد حال آخر).
سبينوزا، «علم الأخلاق»، الجزء 3، قضية 2 (1) استنتاج عام جدير بالملاحظة من النموذج
دعوني أعد بكم إلى جملة في القسم الذي يتحدث عن الشفرة المصغرة في الفصل السابق، التي فيها حاولت أن أقول إن الصورة الجزيئية للجين جعلت على الأقل من المتصور أن الشفرة المصغرة يجب أن تتناسب بدقة مع خطة تطور ونمو عالية التعقيد والتحديد، ويجب على نحو ما أن تحتوي على الوسائل التي تجعلها تعمل. هذا عظيم جدا، لكنها كيف تفعل هذا؟ كيف سنحول «القابلية للتصور» إلى فهم حقيقي؟
إن نموذج ديلبروك الجزيئي ، في عموميته الكاملة، يبدو أنه لا يحوي أي إشارة عن كيفية عمل المادة الوراثية. في واقع الأمر، أنا لا أتوقع احتمالية أن تأتي أي معلومات مفصلة بخصوص هذا الموضوع من الفيزياء في المستقبل القريب. إن التقدم صائر، وأنا متأكد من أنه سوف يستمر معتمدا على الكيمياء الحيوية تحت توجيه من الفسيولوجيا وعلم الوراثة.
لا يمكن أن تنبثق معلومات مفصلة عن عمل الآلية الوراثية من وصف لتركيبها عام جدا كالذي قدمنا أعلاه. هذا واضح، لكن الغريب جدا أنه يمكن الحصول منه على استنتاج واحد عام، استنتاج أعترف أنه كان دافعي الوحيد لكتابة هذا الكتاب.
من الصورة العامة لنموذج ديلبروك عن المادة الوراثية، يظهر أن المادة الحية، رغم أنها قد لا تزال تخضع لقوانين الفيزياء الثابتة حاليا، فإنها قد تتضمن «قوانين فيزياء أخرى» غير معروفة حتى الآن، ومع ذلك بمجرد أن يكشف عنها، ستشكل جزءا أساسيا من هذا العلم كالقوانين السابقة. (2) النظام مبني على نظام
هذا إلى حد ما خط دقيق للتفكير، معرض لإساءة الفهم في أكثر من صدد. وقد خصصنا كل الصفحات المتبقية من هذا الكتاب لتوضيحه. وربما تجد رؤية مبدئية له - عامة لكن ليست خاطئة بالكلية - في الاعتبارات التالية:
في الفصل الأول أوضحنا أن قوانين الفيزياء، كما نعرفها، هي قوانين إحصائية.
1
فهي مرتبطة على نحو كبير بميل الأشياء الطبيعي للتحول إلى الفوضى.
لكن للجمع بين الاستمرار الكبير للمادة الوراثية وحجمها الصغير جدا، يجب علينا أن نتجنب الميل للفوضى عن طريق «اختراع الجزيء»؛ في الحقيقة، هو جزيء ضخم على نحو غير معتاد، ويجب أن يكون نتاج إبداع نظام شديد التخصص تحميه العصا السحرية الخاصة بنظرية الكم. إن قوانين الصدفة لا يبطلها هذا «التدخل»، لكن محصلتها تعدل. إن الفيزيائي يألف الحقيقة القائلة إن القوانين الكلاسيكية للفيزياء تعدل بواسطة نظرية الكم، خاصة عند درجات الحرارة المنخفضة. ويوجد الكثير من الأمثلة على ذلك، والحياة تبدو مثالا منها، وهو مثال لافت للنظر على نحو خاص. الحياة تبدو سلوكا للمادة منظما ومنضبطا، وليس مبنيا على نحو حصري على ميلها للتحول من النظام إلى الفوضى، ولكن جزئيا على نظام موجود يبقى عليه.
أتمنى أن أجعل وجهة نظري أوضح للفيزيائي - وله هو فقط - بأن أقول إن الكائن الحي يبدو نظاما عيانيا والذي يقترب في جزء من سلوكه من التصرف الميكانيكي (وليس الديناميكي الحراري) الخالص الذي تميل له كل الأنظمة، كلما اتجهت درجة الحرارة للصفر المطلق وانتهت الفوضى الجزيئية.
سيجد غير الفيزيائي أنه من العسير تصديق أن القوانين العادية للفيزياء، التي يعدها النموذج المبدئي للدقة الشديدة، يجب أن تكون مبنية على الميل الإحصائي للمادة للتحول نحو الفوضى. لقد طرحت أمثلة في هذا الصدد في الفصل الأول. إن المبدأ العام ذا الصلة في هذا الإطار هو قانون الديناميكا الحرارية الثاني الشهير (قانون الإنتروبيا)، وتأسيسه الإحصائي المماثل له في الشهرة. في هذا الفصل، سوف أحاول توضيح تأثير مبدأ الإنتروبيا على السلوك الواسع النطاق للكائن الحي - متناسيا في هذه اللحظة كل ما طرح عن الكروموسومات والوراثة، وهكذا. (3) المادة الحية تهرب من التحلل بالوصول إلى التوازن
ما السمة المميزة للحياة؟ متى نقول على قطعة من المادة إنها حية؟ نقول ذلك عندما تستمر في «فعل شيء ما»، والتحرك، وتبادل مواد مع بيئتها، وهكذا؛ وذلك لمدة أطول بكثير من تلك التي نتوقع لقطعة جامدة من المادة أن «تستمر» فيها في فعل ذلك تحت ظروف مشابهة. فعندما يعزل نظام غير حي أو يوضع في بيئة منتظمة، سرعان ما تتوقف كل الحركة غالبا نتيجة لأنواع مختلفة من الاحتكاك؛ تتعادل اختلافات الجهد الكهربي أو الكيميائي، وهذا ما تفعله المواد التي تميل إلى تكوين مركبات كيميائية، كما أن الحرارة تصبح واحدة بفعل التوصيل الحراري. بعد ذلك يتلاشى النظام كله ليتحول إلى كتلة من المادة خاملة لا حراك فيها، ويوصل لحالة دائمة لا يجري فيها أي أحداث يمكن ملاحظتها. إن الفيزيائي يدعو هذا بحالة التوازن الديناميكي الحراري أو «الإنتروبيا القصوى».
عمليا، إن حالة من هذا النوع يتم الوصول إليها غالبا على نحو سريع جدا. ونظريا، هي في أغلب الأحيان ليست بعد بتوازن مطلق، ولا إنتروبيا قصوى حقيقة. لكن حينها يكون الاقتراب النهائي من حالة التوازن بطيئا جدا. ومن الممكن أن يستغرق ساعات، أو سنوات، أو قرونا، وهكذا. فلنطرح مثالا واحدا لا يزال الاقتراب فيه من حالة التوازن سريعا بعض الشيء: لو وضع معا كوب من الماء مملوء بماء خالص وآخر مملوء بماء محلى بالسكر في صندوق محكم الغلق في ظل درجة حرارة ثابتة، فسيبدو في البداية أن لا شيء يحدث ويولد الانطباع بوجود توازن كامل. ولكن بعد يوم أو نحو ذلك، يلاحظ أن الماء النقي بسبب ضغط بخاره الأعلى، سيتبخر ببطء ويتكثف على المحلول الذي سيفيض في نهاية الأمر. وفقط بعد أن يتبخر كل الماء النقي، يكون السكر قد وصل إلى غايته بأن يصبح موزعا على نحو متساو في كل الماء السائل المتاح.
إن عمليات الاقتراب البطيئة النهائية هذه من التوازن لا يمكن أبدا أن نطلق عليها حياة، ويحق لنا أن نتجاهلها هنا. ولقد أشرت إليها فقط كي لا أتهم بعدم الدقة. (4) الكائن الحي يتغذى على «الإنتروبيا السلبية»
إن الكائن الحي بتجنبه للتحلل السريع والوصول نحو الحالة الخاملة ل «التوازن» يبدو ملغزا للغاية، لدرجة أنه منذ الأزمنة المبكرة للفكر البشري كان يزعم وجود قوة ما خاصة غير طبيعية أو خارقة للطبيعة (القوة الحيوية، أو الإنتلخيا)، تسيطر على الكائن الحي، وفي بعض المناطق ما يزال هذا الزعم سائدا.
كيف يتجنب الكائن الحي التحلل؟ الإجابة الواضحة هي: من خلال الأكل والشرب والتنفس و(في حالة النبات) التمثل الحيوي. المصطلح التقني هنا هو «الأيض». إن المقابل اليوناني له يعني التغيير أو التبادل. تبادل ماذا؟ إن الفكرة الأساسية هنا هي - بلا شك - تبادل المواد. إن كون تبادل المواد هو الشيء الأساسي لهو أمر سخيف. فإن أي ذرة نيتروجين أو أكسجين أو كبريت ... إلخ مثلها مثل أي ذرة أخرى من نوعها نفسه؛ فما الذي سيكتسبه الكائن الحي بتبادلها؟ قد أسكت فضولنا لبعض الوقت في الماضي بقولهم لنا إننا نتغذى على الطاقة. في بعض البلاد المتقدمة جدا (لا أذكر إن كانت ألمانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو الاثنتين)، يمكن أن تجد في المطاعم قوائم طعام تشير، بالإضافة إلى السعر، إلى الطاقة الموجودة في كل طبق. من الواضح أننا إذا نظرنا للأمر على نحو مجرد فإننا سنجده سخيفا. فبالنسبة للكائن الحي البالغ، إن محتوى الطاقة ثابت مثل محتوى المادة. وحيث إن، بالتأكيد، أي كالوري أو سعر حراري يساوي في قيمته أي سعر حراري آخر، فلا يمكن لنا أن نفهم جدوى أي عملية تبادل بسيطة.
إذن، ما ذلك الشيء النفيس الموجود في الطعام، الذي يجنبنا الموت؟ يمكن الإجابة على ذلك بسهولة. كل عملية، أو حدث، أو حادث - سمها كيف تشاء - كل شيء يحدث في الطبيعة يعني زيادة في الإنتروبيا في جانب العالم الذي يحدث فيه. وهكذا فإن الكائن الحي باستمرار يزيد من إنتروبيته - كما يمكنك أن تقول: ينتج إنتروبيا إيجابية - ومن ثم يميل إلى الاقتراب من الحالة الخطرة للإنتروبيا القصوى، التي هي الموت. وهو يستطيع فقط أن يبقى بمعزل عن ذلك - أي على قيد الحياة - عن طريق امتصاص إنتروبيا سلبية من بيئته باستمرار؛ وهو شيء إيجابي جدا، وذلك كما سوف نوضح بعد قليل. ما يتغذى عليه الكائن الحي هو الإنتروبيا السلبية. أو لنضع ذلك على نحو أقل تناقضا، الشيء الجوهري في عملية الأيض هو أن الكائن الحي ينجح في تحرير نفسه من كل الإنتروبيا التي لا يسعه إلا إنتاجها بينما هو على قيد الحياة. (5) ما الإنتروبيا؟
ما الإنتروبيا؟ دعوني أولا أؤكد أنها ليست فكرة أو مفهوما مبهما، ولكن كمية فيزيائية يمكن قياسها، تماما مثل طول قضيب أو درجة الحرارة في أي نقطة في جسم أو حرارة انصهار بلورة ما أو الحرارة النوعية لمادة ما. في درجة حرارة نقطة الصفر المطلق (−273 درجة مئوية تقريبا)، فإن إنتروبيا أي مادة هي الصفر. وعندما تحول مادة إلى أي حالة أخرى في خطوات بطيئة وقابلة للانعكاس (حتى لو بذلك تغير المادة من طبيعتها الفيزيائية أو الكيميائية أو تنشق إلى جزأين أو أكثر لهما طبيعة فيزيائية أو كيميائية مختلفة)، فإن الإنتروبيا تزيد بكمية يمكن حسابها بقسمة كل جزء صغير من الحرارة يجب عليك أن تمد بها العملية على درجة الحرارة المطلقة التي زودت الحرارة عندها، ثم جمع كل هذه المساهمات الصغيرة. على سبيل المثال، عندما تصهر جامدا، فإن إنتروبيته تزيد بقدر حرارة الانصهار مقسومة على درجة الحرارة عند نقطة الانصهار. من ذلك، يتضح لك أن الوحدة التي تقاس بها الإنتروبيا هي الكالوري/الدرجة المئوية (كما أن الكالوري هي وحدة قياس الحرارة والسنتيمتر وحدة قياس الطول). (6) المعنى الإحصائي للإنتروبيا
لقد ذكرت ذلك التعريف التقني ببساطة لأخرج الإنتروبيا من أجواء الغموض المبهم الذي يحيط بها في كثير من الأحيان. الأكثر أهمية لنا هنا هو علاقتها بالمفهوم الإحصائي للنظام والفوضى، وهي علاقة كشفتها أبحاث بولتسمان وجيبز في الفيزياء الإحصائية. تلك العلاقة أيضا كمية، ويمكن التعبير عنها كما يلي:
حيث
هو الإنتروبيا و
هو ما يسمى بثابت بولتسمان (الذي يساوي 3,2983 × 10 −24
كالوري/درجة مئوية) و
هو مقياس كمي للفوضى الذرية للجسم ذي الصلة. إن عرض شرح دقيق لهذه الكمية
بكلمات قليلة وغير متخصصة أمر يقترب جدا من المستحيل. فالفوضى التي تشير إليها جزئيا هي تلك التي للحركة الحرارية، وجزئيا هي تلك التي تتكون من أنواع مختلفة من الذرات أو الجزيئات المختلطة معا في عشوائية، بدلا من أن تكون منفصلة على نحو منظم، كجزيئات الماء والسكر في المثال المستشهد به أعلاه. ستتضح معادلة بولتسمان جيدا من خلال هذا المثال. إن «الانتشار» التدريجي للسكر خلال كل الماء المتاح يزيد من الفوضى ؛ ومن ثم الإنتروبيا (وذلك لأن لوغاريتم
يزيد مع ازدياد .) من الواضح جدا أيضا أن أي إمداد بالحرارة يزيد من اضطراب الحركة الحرارية؛ بمعنى أنه يزيد من ؛ ومن ثم يزيد من الإنتروبيا؛ فمن الواضح على نحو خاص أن ذلك هو ما يجب أن تكون عليه الحال عند صهر بلورة؛ لأنك بذلك تدمر الترتيب المنتظم والدائم للذرات أو الجزيئات، وتحول الشبكة البلورية إلى توزيع عشوائي متغير باستمرار.
إن أي نظام معزول أو أي نظام في بيئة منتظمة (الذي لأغراض تناولنا الحالي حاولنا جاهدين تضمينه عن طريق اعتباره جزءا من النظام الذي نتأمله) تزداد إنتروبيته ويقترب بسرعة أكبر أو أقل من الحالة الخاملة للإنتروبيا القصوى. الآن ندرك أن قانون الفيزياء الأساسي هذا هو مجرد الميل الطبيعي للأشياء للوصول إلى الحالة الفوضوية (وهو الميل نفسه الذي تظهره الكتب في المكتبة أو أكوام الأوراق الموضوعة على طاولة الكتابة) ما لم نتجنبه. (إن المعادل للحركة الحرارية غير المنتظمة، في هذه الحالة، هو تعاملنا مع تلك الأشياء من آن لآخر دون أن نشغل أنفسنا بإعادتها إلى أماكنها الأصلية.) (7) التنظيم يحفظ باستخلاص «النظام» من البيئة
كيف يمكننا أن نعبر باستخدام مصطلحات النظرية الإحصائية عن الملكة البديعة للكائن الحي التي بها يؤجل التحلل والوصول للتوازن الديناميكي الحراري (أي الموت)؟ قلنا من قبل: «إنه يتغذى على الإنتروبيا السلبية»؛ إذ إنه يجذب تيارا من الإنتروبيا السلبية لنفسه؛ ليعوض زيادة الإنتروبيا التي ينتجها بالعيش، وليحافظ على نفسه في مستوى إنتروبيا ثابت ومنخفض بعض الشيء.
لو أن
هو مقياس للفوضى، فمقلوبه، ، يمكن عده مقياسا مباشرا للنظام. وبما أن لوغاريتم
هو مجرد سالب لوغاريتم ، فيمكننا أن نكتب معادلة بولتسمان كالتالي:
على هذا، فالمصطلح غير المناسب «الإنتروبيا السلبية» يمكن أن يستبدل به واحد آخر أفضل، وهو: الإنتروبيا السالبة العلامة، هي في حد ذاتها مقياس للنظام؛ من ثم فإن الأداة التي يحافظ بها الكائن الحي على ثباته في مستوى عال إلى حد ما من التنظيم (أي مستوى قليل إلى حد ما من الإنتروبيا) تتمثل في واقع الأمر في الاستخلاص المستمر للتنظيم من بيئته. هذا الاستنتاج أقل تناقضا مما يبدو للوهلة الأولى. بل وقد ينظر إليه بأنه بسيط للغاية. في واقع الأمر، في حالة الحيوانات الأعلى، نحن نعرف نوع التنظيم الذي تتغذى عليه على نحو كاف جدا؛ أي الحالة الجيدة التنظيم جدا للمادة في المركبات العضوية المعقدة إلى حد ما، التي تعمل بمثابة مواد غذائية لها. وبعد استخدامها لها، فإنها تعيدها في صورة أكثر تحللا، لكنها ليست متحللة تماما؛ فالنباتات لا تزال بإمكانها الاستفادة منها. (إن النباتات، بكل تأكيد، تحصل على القدر الأكبر من «الإنتروبيا السلبية» من ضوء الشمس.)
ملحوظة على الفصل السادس
قوبلت الملاحظات على «الإنتروبيا السلبية» بشك ومعارضة من الزملاء الفيزيائيين. دعوني أقل أولا لو أن تركيزي كان موجها لهم فقط، لكنت تركت المناقشة تتحول نحو «الطاقة الحرة» بدلا من ذلك. فهو المفهوم المألوف أكثر في هذا السياق. لكن هذا المصطلح العالي التقنية بدا لغويا قريبا جدا من «الطاقة» بحيث يجعل من الصعب على القارئ العادي إدراك الفرق بين الشيئين. فهو من المحتمل أن يعد كلمة «حر» على نحو أو آخر كلمة وصفية دون أن تضيف له شيئا، بينما المصطلح في حقيقة الأمر معقد جدا، والذي تقل سهولة تتبع علاقته بمبدأ بولتسمان للنظام والفوضى أقل سهولة مقارنة بالإنتروبيا و«الإنتروبيا السالبة العلامة»، والتي هي بالمناسبة ليست من ابتكاري. وتصادف أنها كانت بالضبط هي الشيء نفسه الذي اعتمدت عليه الحجة الأصلية لمبدأ بولتسمان.
لكن إف سايمون لفت انتباهي على نحو مصيب إلى أن اعتباراتي الديناميكية الحرارية البسيطة لا يمكن أن تكون المسئولة عن اضطرارنا للتغذي على مادة «في الحالة الجيدة التنظيم جدا للمركبات العضوية المعقدة إلى حد ما»، بدلا من التغذي على الفحم النباتي أو لب الماس. هو على صواب، لكن يجب علي أن أوضح للقارئ العادي أن قطعة غير محترقة من الفحم أو الماس، إلى جانب الكمية اللازمة من الأكسجين لاحتراقها، هما أيضا في حالة جيدة التنظيم جدا، كما يفهم الفيزيائي الأمر. تأمل معي ذلك: إذا سمحت للتفاعل أن يحدث، احتراق الفحم، فستنتج كمية كبيرة من الحرارة. وبإطلاق النظام لها في البيئة المحيطة، فإنه يتخلص من الزيادة الكبيرة جدا في الإنتروبيا الناتجة عن التفاعل، ويصل إلى حالة يكون لديه فيها - في الحقيقة - الإنتروبيا نفسها تقريبا كما كانت من قبل.
إلا أننا لا نستطيع أن نتغذى على ثاني أكسيد الكربون الناتج من التفاعل. ولذلك فسايمون مصيب إلى حد ما بلفته نظري إلى أن محتوى الطاقة لطعامنا «يمثل» بالفعل فارقا؛ لذا، فسخريتي من قوائم الطعام التي تشير إلى محتوى الطاقة كانت خاطئة. فهناك احتياج إلى الطاقة ليس فقط لتعويض الطاقة الميكانيكية التي تفقدها أجسادنا أثناء بذل الجهد، ولكن أيضا الحرارة التي نطلقها باستمرار إلى البيئة. وإطلاقنا للحرارة ليس عرضيا، بل ضرورة؛ إذ هذا هو بالضبط الأسلوب الذي نطلق من خلاله فائض الإنتروبيا الذي ننتجه باستمرار في عملياتنا الحياتية المادية.
هذا يبدو وكأنه يشير إلى أن درجة الحرارة الأعلى للحيوان ذي الدم الحار تتضمن مزية تمكينه من التخلص من إنتروبيته بمعدل أسرع، بحيث يستطيع أن يوفر لنفسه عملية حياتية أكثر قوة. لا أعرف مقدار الحقيقة الموجودة في هذه الحجة (التي أنا المسئول عنها وليس سايمون)؛ فقد يعارضها أحدهم ويقول إن الكثير من ذوي الدم الحار «محميون» من الفقدان السريع للحرارة بأغطية من الفرو أو الريش. لذلك فالتوازي بين درجة حرارة الجسم و«قوة الحياة» الذي أومن بوجوده ربما يمكن تفسيره على نحو مباشر بواسطة قانون فانت هوف، الذي ذكرناه سابقا، والذي يقول إن درجة الحرارة الأعلى ذاتها تسرع من وتيرة التفاعلات الكيميائية التي تتم داخل الأحياء. (لقد تأكد تجريبيا أنها تفعل هذا في الأنواع التي تأخذ درجة حرارة البيئة المحيطة.)
هوامش
الفصل السابع
هل الحياة مبنية على قوانين الفيزياء؟
إذا لم يناقض رجل نفسه قط، فمن المؤكد أن السبب هو أنه يكاد لا يقول شيئا على الإطلاق.
ميجيل دي أونامونو (نقلا عن حوار معه) (1) توقع قوانين جديدة للكائن الحي
ما أرجو أن أجعله واضحا في هذا الفصل الأخير هو باختصار أننا من خلال كل ما قد تعلمناه عن تركيب المادة الحية، يجب أن نكون مستعدين لأن نجده يعمل بأسلوب لا يمكن اختزاله في قوانين الفيزياء المعتادة. وليس هذا راجعا إلى أن هناك أي «قوة جديدة» - أو أي شيء آخر - توجه سلوك الذرات المنفردة داخل الكائن الحي، ولكن إلى أن البناء مختلف عن أي شيء اختبرناه في معامل الفيزياء حتى الآن. لنوضح الأمر، إليك المثال التالي: إن المهندس الذي يألف العمل مع المحركات الحرارية فقط بعد أن يطلع على تركيب المحرك الكهربي سوف يكون مستعدا لأن يجده يعمل وفق مبادئ لا يفهمها بعد. هنا سوف يجد النحاس الذي يألفه في الغلايات في صورة أسلاك طويلة وقد لفت في ملفات؛ هنا الحديد الذي يألفه في الروافع والقضبان وأسطوانات البخار يملأ دواخل تلك الملفات النحاسية. سوف يكون مقتنعا بأنهما النحاس والحديد نفسهما، وأنهما يتعرضان لقوانين الطبيعة نفسها، وهو محق في ذلك. الفارق في التركيب كاف كي يجعله يعتقد أنه يعمل بطريقة مختلفة تماما. وهو لن يشك في أن شبحا يقف وراء عمل المحرك الكهربي لأنه يدور بمجرد تحريك زر، بلا غلاية أو بخار. (2) استعراض الوضع البيولوجي
إن الأحداث المتكشفة في دورة حياة الكائن الحي تظهر تمتعها بنظام وانتظام مثيرين للإعجاب، ليس لهما نظير فيما يتعلق بالمادة الجامدة. إننا نجده محكوما بمجموعة من الذرات الفائقة التنظيم، التي تمثل جزءا صغيرا جدا فقط من إجمالي ما في كل خلية. إضافة إلى ذلك، ومن المنظور الذي كوناه عن آلية التطفر، نستنتج أن أي خلل يحدث في عدد ضئيل من الذرات الموجودة ضمن مجموعة «الذرات الحاكمة» في الخلية الجرثومية يكفي لإحداث تغيير واضح المعالم في الخواص الوراثية الواسعة النطاق للكائن الحي.
هذه الحقائق هي الأكثر إثارة فيما كشفه العلم في أيامنا هذه. ومن الممكن أن نكون ميالين لأن نجدها - رغم كل شيء - غير مقبولة بالكلية. فيبدو أن العطية المذهلة الممنوحة للكائن الحي والمتمثلة في قدرته على تركيز «تيار من النظام» على نفسه مما يمكنه من تجنب التحلل والدخول في فوضى ذرية - أو بتعبير آخر، قدرته على «شرب النظام» من البيئة المناسبة - مرتبطة بوجود «الجوامد غير المنتظمة»؛ أي الجزيئات الكروموسومية، التي بلا شك تمثل أعلى درجات التجمع الذري جودة التي نعرفها في التنظيم - فهي أعلى بكثير من تلك التي للبلورة المنتظمة العادية - بفضل الدور الفردي الذي تلعبه كل ذرة وكل مجموعة مرتبطة من الذرات هنا.
باختصار، نحن شاهدون على حدث النظام القائم فيه لديه القدرة على الحفاظ على نفسه وإنتاج أحداث منظمة. وهذا يبدو معقولا على نحو كاف، على الرغم من أننا في إدراكنا لمعقوليته نستند بلا شك إلى خبرة خاصة بالتنظيم الاجتماعي، وأحداث أخرى تتضمن نشاط الكائنات الحية. وهكذا، قد يبدو أن هناك شيئا يشبه الدائرة المفرغة متضمنا في الأمر. (3) تلخيص الوضع الفيزيائي
أيا كان هذا الوضع، فالنقطة التي أود أن أؤكد عليها أكثر من مرة هي أن الحالة الراهنة بالنسبة للفيزيائي ليست فقط غير مفهومة لكن أيضا مثيرة للغاية؛ لأنها غير مسبوقة. فعلى عكس الاعتقاد السائد، فالمسار المنتظم للأحداث المحكوم بقوانين الفيزياء ليس أبدا نتاج تكوين واحد جيد التنظيم من الذرات؛ إذ لا يمكن أن يحدث هذا إلا إذا كان ذلك التكوين من الذرات يعيد نفسه عددا هائلا من المرات، كما هي الحال في البلورة المنتظمة أو كما هي الحال في السائل أو الغاز المكون من عدد هائل من الجزيئات المتماثلة.
حتى عندما يتعامل الكيميائي مع جزيء شديد التعقيد في المختبر، فإنه دائما يواجه بعدد هائل من الجزيئات المتشابهة التي تنطبق قوانينه عليها. من الممكن أن يخبرك، على سبيل المثال، أن نصف هذه الجزيئات قد تفاعلت بعد دقيقة من بدء تفاعل ما معين، وأن ثلاثة أرباعها قد تفاعلت بعد مضي دقيقة أخرى. لكنه لن يستطيع أن يتنبأ ما إذا كان أي جزيء محدد - بفرض استطاعتك تتبع مساره - سيكون ضمن الجزيئات التي ستتفاعل أم تلك التي لن تتفاعل أبدا. فهذا الأمر تحكمه الصدفة الخالصة.
هذا ليس بتخمين نظري خالص. وهو لا يعني أننا لا نستطيع أبدا أن نرصد مصير مجموعة صغيرة منفردة من الذرات أو حتى ذرة واحدة، فنحن نستطيع ذلك أحيانا. لكن كلما فعلنا وجدنا عدم انتظام كامل، يتعاون كي ينتج انتظاما، فقط في المتوسط. تعاملنا مع مثال على ذلك في الفصل الأول. إن الحركة البراونية لجسيم صغير عالق في سائل تكون غير منتظمة تماما. لكن لو أن هناك عددا كبيرا من الجسيمات المتماثلة، فإنها من خلال حركتهما غير المنتظمة ينبثق عنها ظاهرة الانتشار المعتادة.
يمكن ملاحظة انحلال ذرة مشعة منفردة (إذ تبعث مقذوفا يسبب وميضا مرئيا على شاشة فلورية ). لكن إذا ما أعطيت ذرة مشعة، فإن عمرها المحتمل سيكون أقل تأكيدا بكثير من ذلك الذي لعصفور دوري صغير بصحة جيدة. في حقيقة الأمر، لا شيء يمكن أن يقال عن ذلك أكثر من هذا: ما دام عمرها ممتدا (وذلك من الممكن أن يكون لآلاف الأعوام)، ففرصة انفجارها خلال الثانية القادمة، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، تبقى هي نفسها. لكن هذا الغياب الواضح للتحديد الفردي ينتج عنه القانون الأسي المنضبط لتحلل عدد ضخم من الذرات المشعة التي من النوع نفسه. (4) التباين الشاسع
في علم الأحياء، يواجهنا وضع مغاير تماما؛ إذ تنتج مجموعة مفردة من الذرات موجودة في نسخة واحدة فقط أحداثا منظمة، تنضبط على نحو رائع مع بعضها ومع البيئة طبقا لقوانين غاية في الإتقان. لقد قلت الموجودة في نسخة واحدة فقط؛ إذ إننا في النهاية لدينا مثال البيضة والكائن الوحيد الخلية. في المراحل التالية للكائن الأعلى، تتضاعف النسخ. هذا صحيح، ولكن لأي مدى؟ ما يقارب 10
14
في أي من الثدييات البالغة. أنا أدرك ذلك. لكن كم يساوي هذا؟ فقط واحد على مليون من عدد الجزيئات في البوصة المكعبة الواحدة من الهواء. وبالرغم من أن عدد تلك النسخ ضخم نسبيا، فإنها بالتحامهما معا لن تكون إلا مجرد قطرة صغيرة جدا من سائل. انظر إلى الطريقة التي ستتوزع بها فعليا. إن كل خلية تأوي واحدة منها فقط (أو اثنتان، إن أخذت في اعتبارك الخلايا الثنائية الصيغة الكروموسومية). وحيث إننا نعرف السلطة التي لهذا المكتب المركزي الصغير جدا على الخلية، أفلا تشبه تلك النسخ مراكز الحكم المحلي المتناثرة في كل أنحاء الجسم، والتي تكون على اتصال مع بعضها في سهولة عظيمة، بفضل الشفرة المشتركة بينها جميعا؟
رائع، هذا توصيف بديع، يناسب شاعرا أكثر منه عالما. على أي حال، الأمر لا يحتاج إلى خيال شعري، لكن فقط إلى تأمل علمي واضح ورزين؛ لندرك أننا هنا في مواجهة واضحة مع أحداث تتجلى على نحو منظم ومنضبط، وتوجهها في ذلك «آلية» مختلفة تماما عن «آلية الاحتمالات» الخاصة بالفيزياء. الأمر كله يكمن ببساطة في ملاحظة أن المبدأ الموجه في كل خلية يتمثل في تجمع ذري مفرد يوجد فقط في نسخة واحدة (أو اثنتين أحيانا)، وأنه من الممكن أن ينتج أحداثا تعد نموذجا مثاليا للتنظيم. وسواء كنا نرى قدرة مجموعة صغيرة لكن عالية التنظيم من الذرات على التصرف وفق ذلك الأسلوب أمرا مدهشا أو معقولا إلى حد كبير، فإن هذا الوضع غير مسبوق، وهو غير معروف في أي مكان آخر بخلاف المادة الحية. فالفيزيائي والكيميائي الباحثان في شأن المواد غير الحية لم يشهدا أبدا ظواهر عليهما تفسيرها بهذه الطريقة. إن تلك الحالة لم تظهر؛ ومن ثم فنظريتنا لم تغطها؛ نظريتنا الإحصائية الجميلة، التي كنا معتزين جدا بها لأنها سمحت لنا بالكشف عن الخبايا، لنرى النظام الرائع للقوانين الفيزيائية المنضبطة، المنبعث من الفوضى الذرية والجزيئية، ولأنها كشفت عن أن قانون الإنتروبيا الأهم والأعم والأشمل يمكن أن يفهم دون افتراض خاص؛ فهو ليس سوى الفوضى الجزيئية نفسها. (5) طريقتان لإنتاج النظام
النظام الذي نصادفه في الحياة ينشأ من مصدر مختلف. يبدو أن هناك «آليتين» مختلفتين، بواسطتهما يمكن إنتاج الأحداث المنظمة، وهما: «الآلية الإحصائية» التي تنتج «النظام من الفوضى»، وتلك الجديدة التي تنتج «النظام من النظام». المبدأ الثاني سيبدو للعقل غير المتحيز أكثر بساطة وأكثر معقولية بكثير. وهو بلا شك كذلك. لعل ذلك هو السبب في اعتزاز الفيزيائيين الشديد بمصادفتهم للمبدأ الآخر، مبدأ «النظام من الفوضى»، المتبع فعليا في الطبيعة، الذي بمفرده يقدم فهما للخط الكبير للأحداث الطبيعية؛ لاستحالة انعكاسها في المقام الأول. لكننا لا نستطيع توقع أن تكون «قوانين الفيزياء» المشتقة منه كافية على نحو مباشر لتفسير سلوك المادة الحية، التي ملامحها الأبرز تنبني على نحو واضح إلى حد كبير على مبدأ «النظام من النظام». لن تتوقع أن آليتين مختلفتين تماما ستؤديان إلى نوع القوانين نفسه؛ فلن تتوقع أن مفتاح قفل بابك سيفتح قفل باب جارك كذلك.
لذلك علينا ألا نيأس أمام صعوبة تفسير الحياة من خلال قوانين الفيزياء العادية؛ إذ ذلك هو بالضبط ما يمكن توقعه من المعرفة التي اكتسبناها عن تركيب المادة الحية. ويجب أن نكون على استعداد لإيجاد نوع جديد من القوانين الفيزيائية التي تسود فيها. أو هل علينا أن نصطلح على تسميتها بقوانين غير فيزيائية، أو لنقل فوق فيزيائية؟ (6) المبدأ الجديد ليس غريبا على الفيزياء
لا، أنا لا أظن ذلك. فالمبدأ الجديد هو مبدأ فيزيائي أصيل؛ ومجددا أقول إنه، في رأيي، ليس إلا مبدأ نظرية الكم. ولكي نوضح ذلك، علينا أن نفعل أي شيء، بما في ذلك تنقيح، أو ربما حتى تعديل، التأكيد الذي أشرنا إليه سابقا، الذي يقول إن كل القوانين الفيزيائية مبنية على الإحصاء.
هذا التأكيد، الذي يتكرر كثيرا الجزم به، من المؤكد أن يثير التناقض؛ إذ إن هناك في واقع الأمر ظواهر ملامحها الأساسية مبنية على نحو واضح ومباشر على مبدأ «النظام من النظام» ويبدو أنها لا علاقة تربطها بالإحصاء أو الفوضى الجزيئية.
إن نظام المجموعة الشمسية وحركة الكواكب ظل كما هو ولم يختل منذ زمن بعيد غير محدد. وكوكبة اليوم ترتبط على نحو مباشر بالكوكبة التي كانت موجودة في أي لحظة معينة في زمن بناء الأهرامات؛ فيمكن تتبعها حتى هذا الزمن والعكس صحيح. وقد تم حساب حالات الكسوف التاريخية، وقد وجد توافق وثيق بين تلك الحسابات والسجلات التاريخية أو استخدمت في بعض الأحيان لتصحيح التسلسل الزمني المقبول. وهذه الحسابات لا تتضمن أي إحصاء؛ فهي مبنية فقط على قانون نيوتن للتجاذب العام.
كما يبدو أن الحركة المنتظمة للساعة الجيدة أو أي آلية مماثلة ليست لها أي علاقة بالإحصاء. باختصار، يبدو أن كل الأحداث الميكانيكية الخالصة تتبع على نحو جلي ومباشر مبدأ «النظام من النظام». وعندما نقول «ميكانيكية»، فالمصطلح يجب أن يؤخذ بمعناه الواسع. فأي نوع مفيد جدا من الساعات، كما تعرف، يقوم على نقل النبضات الكهربية على نحو منتظم من مصدر الطاقة.
أتذكر ورقة بحثية صغيرة ومثيرة لماكس بلانك عن موضوع «القانون الديناميكي والقانون الإحصائي». إن التفريق بينهما هو تحديدا ذلك الذي نجده هنا والمتمثل في «النظام من النظام» و«النظام من الفوضى». والغرض من هذه الورقة البحثية بيان كيف أن النوع الإحصائي المثير من القوانين، المتحكم في الأحداث الواسعة النطاق، مؤلف من القوانين «الديناميكية» التي من المفترض أنها تحكم الأحداث الصغيرة النطاق؛ أي التفاعل بين الذرات والجزيئات المنفردة. ويتضح النوع الأخير من القوانين من خلال الظواهر الميكانيكية الواسعة النطاق؛ كحركة الكواكب أو الساعة ... إلخ.
هكذا يبدو أن المبدأ «الجديد» - مبدأ النظام من النظام - الذي أشرنا إليه في إجلال باعتباره المفتاح الحقيقي لفهم الحياة ليس جديدا على الفيزياء إطلاقا. وحتى رؤية بلانك أعطت له الأولوية. ويبدو أننا قد وصلنا إلى الاستنتاج السخيف القائل إن مفتاح فهم لغز الحياة هو ذلك المبني على آلية خالصة، ما يشبه «آلية الساعة» بحسب ورقة بلانك البحثية. إن هذا الاستنتاج ليس سخيفا، وفي رأيي ليس بخاطئ تماما، لكن يجب أن يقبل مع كثير من التشكك. (7) حركة الساعة
دعونا نحلل حركة الساعة الحقيقية على نحو دقيق. إنها ليست ظاهرة ميكانيكية خالصة على الإطلاق؛ فالساعة الميكانيكية على نحو خالص لن تكون في حاجة إلى زنبرك أو ملء؛ فما إن تضعها في وضع الحركة، ستعمل إلى الأبد. لكن الساعة الحقيقية التي دون زنبرك ستتوقف بعد دقات قليلة من البندول؛ لأن طاقتها الميكانيكية تتحول إلى حرارة. وهذه عملية ذرية معقدة على نحو لا نهائي. والصورة العامة التي يكونها الفيزيائي عنها تدفعه إلى الاعتراف بأن العملية العكسية ليست مستحيلة تماما: قد تبدأ الساعة التي بلا زنبرك في العمل على نحو مفاجئ على حساب الطاقة الحرارية لتروسها المسننة والبيئة المحيطة. وسيكون عليه أن يقول إن الساعة تخضع لنوع من الحركة البراونية القوية على نحو استثنائي. لقد رأينا في الفصل الثاني كيف أن هذا النوع من الأمور يحدث طوال الوقت مع أداة ذات اتزان التوائي حساس للغاية (إلكترومتر أو جلفانومتر). في حالة الساعة، هذا أمر بالتأكيد غير محتمل تماما.
إن تحديد ما إذا كانت حركة الساعة يمكن نسبها إلى الأحداث المنضبطة التي من النوع الإحصائي أم تلك التي من النوع الميكانيكي (إذا أردنا استخدام تعبيرات بلانك) يعتمد على رؤيتنا. فنحن حين نصفها بأنها ظاهرة ديناميكية نركز انتباهنا على السير المنتظم الذي يمكن ضمانه من خلال زنبرك ضعيف نسبيا، والذي يتغلب على الاضطرابات الضئيلة بالحركة الحرارية بحيث يمكننا أن نتجاهلها. لكن إذا ما تذكرنا أن الساعة دون الزنبرك ستبطئ تدريجيا بالاحتكاك، فسوف نجد أن هذه العملية يمكن أن تفهم فقط باعتبارها ظاهرة إحصائية.
مهما بدت التأثيرات الحرارية والاحتكاكية في الساعة غير ذات قيمة من وجهة النظر العملية، فإنه لا يمكن أن يداخلنا أي شك في أن الرؤية الثانية التي لا تتجاهل تلك التأثيرات هي أكثر جوهرية، حتى وإن كنا بصدد الحركة المنتظمة لساعة تعتمد في عملها على زنبرك؛ إذ يجب ألا يعتقد أن الآلية الدافعة تنهي فعليا الطبيعة الإحصائية للعملية. فالصورة الفيزيائية الحقيقية تتضمن احتمالية أن حتى الساعة السائرة بانتظام يجب أن تعكس حركتها على نحو مفاجئ وبعملها بالعكس، تعيد ملء الزنبرك خاصتها، على حساب حرارة البيئة المحيطة. إن هذا الحدث «لا يزال احتمالا أقل قليلا» من «الخضوع لحركة براونية» لساعة بلا آلية دافعة. (8) إن آلية الساعة في نهاية الأمر إحصائية
دعونا الآن نستعرض الموقف. إن الحالة «البسيطة» التي حللناها تعد ممثلة لحالات أخرى كثيرة في الحقيقة لكل تلك التي يبدو أنها تتجنب المبدأ الشامل للإحصاء الجزيئي. لا تعد آليات الساعات المصنوعة من مادة فيزيائية فعلية (على نقيض الخيال) «آليات ساعات» حقيقية. صحيح أن عنصر الصدفة قد يقل على نحو أو آخر، وأن احتمالية سير الساعة فجأة على نحو خاطئ تماما قد تكون متناهية الصغر، لكنه يبقى دائما في الخلفية. وحتى في حركة الأجسام السماوية؛ فالتأثيرات الاحتكاكية والحرارية التي لا يمكن عكسها غير غائبة. وهكذا، فدوران الأرض يقل ببطء بالاحتكاك المدي، واتساقا مع ذلك، يبتعد تدريجيا القمر عن الأرض، وهو الأمر الذي ما كان ليحدث لو كانت الأرض كرة دوارة جامدة على نحو كامل.
ومع ذلك، تبقى الحقيقة التي ترى أن «آلية الساعة المادية» تظهر فيه على نحو واضح ملامح بارزة جدا لمبدأ «النظام من النظام»؛ وهي من النوع الذي أثار اندهاش الفيزيائي عندما صادفه في الكائن الحي. ويبدو من المحتمل أن هناك شيئا مشتركا في النهاية بين الحالتين. ويبقى أن يحدد ما هو ذلك الشيء، وما الاختلاف البارز الذي يجعل حالة الكائن الحي في نهاية الأمر غير مألوفة وغير مسبوقة. (9) نظرية نرنست
متى يبدي نظام فيزيائي - أي نوع من تجمع الذرات - «قانونا ديناميكيا» (بمفهوم بلانك) أو «ملامح آلية الساعة»؟ تملك نظرية الكم إجابة مختصرة جدا لهذا السؤال، وهي عند درجة حرارة الصفر المطلق؛ إذ إنه بالاقتراب من درجة الصفر المطلق، تتوقف الفوضى الجزيئية عن أن يكون لها أي أثر على الأحداث الفيزيائية. إن هذه الحقيقة، بالمناسبة، لم تكتشف من خلال نظرية، وإنما بفحص التفاعلات الكيميائية بعناية عبر نطاق عريض لدرجات الحرارة واستنباط النتائج التي ستكون عند درجة الصفر والتي لا يمكن الوصول إليها فعليا. هذه هي «نظرية الحرارة» الشهيرة لفالتر نرنست التي تمنح أحيانا وعلى نحو لا تزيد فيه الاسم الفخري «القانون الثالث للديناميكا الحرارية» (القانون الأول هو مبدأ الطاقة والثاني هو مبدأ الإنتروبيا).
توفر نظرية الكم الأساس المنطقي لقانون نرنست التجريبي، وتمكنا من حساب إلى أي حد على النظام أن يقترب من الصفر المطلق كي يظهر سلوكا «ديناميكيا» على نحو أو آخر. أي درجة حرارة في أي حالة محددة تعادل بالفعل عمليا الصفر؟
الآن عليك ألا تعتقد أنها يجب أن تكون دائما درجة حرارة منخفضة جدا. في حقيقة الأمر، إن اكتشاف نرنست جاء من حقيقة أن الإنتروبيا تلعب دورا غير ذي أهمية على نحو مذهل في كثير من التفاعلات الكيميائية حتى عند درجة حرارة الغرفة. (دعوني أذكركم أن الإنتروبيا هي مقياس مباشر للفوضى الجزيئية؛ أي اللوغاريتم خاصتها.) (10) الساعة البندولية هي تقريبا في درجة الصفر المطلق
ماذا عن الساعة البندولية؟ بالنسبة لتلك الساعة، تكون درجة حرارة الغرفة مساوية عمليا للصفر. وهذا هو سبب أنها تعمل على نحو «ديناميكي». فهي سوف تستمر في العمل إذا ما بردتها (بشرط أن تكون قد أزلت كل آثار الزيت!) لكنها لن تستمر في العمل إذا ما سخنتها فوق درجة حرارة الغرفة؛ إذ إنها في النهاية سوف تنصهر. (11) العلاقة بين آلية الساعة والكائن الحي
سيبدو ذلك تافها، لكنه في اعتقادي سيوضح النقطة الأساسية التي نريد إيضاحها. إن آلية الساعة تقدر على العمل على نحو «ديناميكي» لأنها مصنوعة من جوامد تحفظ شكلها بواسطة قوى لندن وهايتلر، القوية بالقدر الكافي بحيث تتجنب الميل الفوضوي للحركة الحرارية عند درجة الحرارة العادية.
أعتقد أن هناك الآن حاجة لمزيد من الكلمات القليلة لكشف نقطة التشابه بين آلية الساعة والكائن الحي. إنها تتمثل ببساطة وعلى نحو منفرد في أن الأخير يعتمد على جامد أيضا؛ البلورة غير المنتظمة التي تشكل المادة الوراثية، والبعيدة على نحو كبير عن فوضى الحركة الحرارية. لكن أرجوكم لا تتهمونني بأنني أصف الألياف الكروموسومية بأنها مجرد «تروس الماكينة العضوية»، على الأقل قبل الرجوع إلى نظريات الفيزياء العميقة التي ينبني عليها التشبيه.
إذ، فعليا، ما زال الأمر في حاجة إلى فصاحة أقل لعرض الفارق الجوهري بين الاثنين، ولتبرير نعت الحالة البيولوجية بغير المألوفة وغير المسبوقة.
إن أكثر الملامح بروزا في الحالة البيولوجية هي أولا: التوزيع العجيب للتروس في الكائن الحي المتعدد الخلايا، الذي قد أشرت له سابقا في هذا الفصل في وصف بلاغي بعض الشيء. وثانيا: حقيقة أن الترس المنفرد ليس من صنع البشر؛ أي غير مصقول ورديء؛ فهو أروع تحفة فنية أنجزت في ضوء ميكانيكا الكم الخاصة بالرب.
خاتمة: عن الحتمية والإرادة الحرة
مكافأة على المشقة التي تكبدتها كي أعرض الجانب العلمي الخالص لمسألتنا بطريقة موضوعية، أرجو السماح لي بتقديم رؤيتي الخاصة، الذاتية بالضرورة، للتبعات الفلسفية لما عرضناه.
استنادا إلى الأدلة التي طرحت في الصفحات السابقة، فإن أحداث الزمكان في جسد الكائن الحي التي تقابل نشاط عقله أو وعيه بذاته أو أي فعل آخر (مع الأخذ في الاعتبار أيضا تركيبها المعقد والتفسير الإحصائي المقبول للكيمياء الفيزيائية) إن لم تكن حتمية على نحو صارم، فهي على أي حال حتمية إحصائيا. أود أن أؤكد للفيزيائي أن «اللاحتمية الكمية»، بحسب رأيي وخلافا للرأي السائد في بعض الأوساط، لا تلعب أي دور بيولوجي ذي صلة في تلك الأحداث، ربما عدا تحفيز الطبيعة العرضية الخالصة لأحداث مثل الانقسام الميوزي، والطفرات الطبيعية، وتلك المستحثة بالأشعة السينية وهكذا، وهذا على أي حال واضح ومعروف جيدا.
لنفترض جدلا أن هذا حقيقة؛ وذلك كما سيرى كل عالم أحياء غير منحاز بحسب اعتقادي، لو لم يكن هناك ذلك الشعور المعروف جيدا وغير السار المرتبط ب «إعلان أن النفس آلة خالصة»؛ إذ إن ذلك يتعارض مع الإرادة الحرة كما يتضح من خلال الاستبطان المباشر.
لكن الخبرات المباشرة في حد ذاتها، مهما كانت متنوعة ومتباينة، لا يمكن لها منطقيا أن تناقض بعضها. لذا، دعونا نر هل سنتمكن من الوصول إلى الاستنتاج الصحيح وغير المتناقض من الفرضيتين التاليتين: (أ)
جسدي يعمل في آلية تامة وفقا لقوانين الطبيعة. (ب)
لكنني أعرف من خلال الخبرة المباشرة التي لا جدال فيها أنني أوجه حركاته التي أستطيع التنبؤ بنتائجها والتي ربما تكون حتمية وشديدة الأهمية، وفي هذه الحالة، فأنا أشعر بأني مسئول مسئولية كاملة عنها وأتحمل بالفعل تلك المسئولية.
الاستنتاج الوحيد الممكن من هاتين الحقيقتين هو، في اعتقادي، أنني «أنا» - «أنا» بالمعنى الواسع للكلمة؛ أي كل عقل واع قال يوما «أنا» أو شعر بها - الشخص (إن وجد) المتحكم في «حركة الذرات» وفقا لقوانين الطبيعة.
ضمن وسط ثقافي ما؛ حيث حدث تحديد وتخصيص لمفاهيم معينة (كان لها فيما مضى معنى أوسع بين شعوب أخرى أو لا يزال لها هذا المعنى)، يعد من الجرأة منح هذا الاستنتاج الصياغة البسيطة التي يحتاجها. فمثلا، عندما تقول مستخدما لغة مسيحية «هكذا أنا الله القدير»، فسيبدو ذلك تجديفا وخبلا. لكن رجاء تجاهل هذه المدلولات في اللحظة الراهنة، وتأمل ما إذا كان الاستنتاج السابق ليس هو الاستنتاج الأقرب الذي يمكن أن يصل إليه عالم الأحياء ليبرهن على فكرتي الرب والخلود بضربة واحدة.
هذا التبصر - في حد ذاته - ليس بجديد؛ فيرجع أقدم تسجيل له، طبقا لما أعرف، إلى ما قبل 2500 سنة أو يزيد؛ ففي نصوص «الأوبنايشاد» العظيمة القديمة، كان الاعتقاد الذي يقول إن الأتمان هو البراهمان (أي إن الذات الشخصية تعادل الذات الخالدة كلية الوجود، والمحيطة بكل شيء)، بعيدا عن كونه تجديفا، يمثل في الفكر الهندي لب التبصر الأعمق في أحداث العالم. وكان يسعى كل معلمي الفيدانتا بعد أن يتعلموا التعبير بالكلمات عن هذه الفكرة العظيمة إلى استيعاب تلك الفكرة وتمثلها في عقولهم.
بالإضافة إلى ذلك، فالمتصوفون عبر قرون عديدة، على نحو مستقل ولكن متناغم بالكامل (كجسيمات الغاز المثالي إلى حد ما)، وصف كل منهم الخبرة المتفردة لحياته بمصطلحات يمكن تكثيفها في عبارة «لقد أصبحت ربا».
بالنسبة للأيديولوجيا الغربية، ظلت هذه الفكرة غريبة، بالرغم من دعم شوبنهاور وآخرين لها وبرغم مناصريها الحقيقيين الذين ما إن ينظر بعضهم في عيون بعض حتى يدركوا أن فكرهم ونشوتهم «عددية»؛ أي ليست فقط متشابهة أو متطابقة، لكنهم بوجه عام منهمكون جدا عاطفيا بحيث لا يمكنهم الاستغراق في تفكير واضح، كالذي يستغرق فيه الصوفي.
اسمحوا لي ببعض التعليقات الإضافية الأخرى في هذا الإطار. لا يمكن أبدا اختبار الوعي على نحو متعدد، بل فردي فقط. وحتى في الحالات المرضية لانشطار الوعي أو ازدواج الشخصية؛ فالشخصيتان تتبادلان الظهور، ولا يمكن أبدا أن تظهرا معا على نحو متزامن. في الحلم فنحن ننفذ ونمثل العديد من الشخصيات في الوقت نفسه لكن لا يحدث ذلك دون تمييز لها: فنحن «نكون» إحداها؛ فمن خلاله، نتحدث ونتصرف على نحو مباشر بينما غالبا ننتظر في ترقب وشغف الإجابة أو رد الفعل من شخص آخر، غير منتبهين إلى حقيقة أننا نحن من نتحكم في حركاته وحديثه تماما كما نسيطر على حركاتنا وحديثنا.
كيف ظهرت إذن فكرة التعدد (التي عارضها على نحو قاطع جدا كتاب «الأوبنايشاد»)؟ يجد الوعي نفسه مرتبطا على نحو وثيق بالحالة الفعلية لمنطقة محدودة من المادة، ألا وهي الجسد، وكذلك معتمدا عليها. (تأمل تغيرات العقل مع نمو الجسد: البلوغ والشيخوخة والخرف ... إلخ، أو تأثيرات هذيان الحمى وتناول الكحوليات والتخدير وإصابات المخ ... إلخ.) وهكذا، نجد أن هناك مجموعة كبيرة من الأجساد المتماثلة؛ لذا يبدو تعدد الوعي أو العقل فرضية شديدة الإيحاء، وهي فرضية قبلها على الأغلب كل الناس البسطاء العاديين، بالإضافة إلى الأغلبية العظمى من الفلاسفة الغربيين.
هذا يقود تقريبا مباشرة إلى فكرة وجود الأرواح التي هي في مثل كثرة الأجساد، كما يقود إلى التساؤل عما إذا كانت فانية مثل الأجساد أم خالدة وقادرة على الوجود بنفسها. الخيار الأول مكروه، بينما الثاني على نحو صريح ينسى أو يتجاهل أو ينكر الحقائق التي تقوم عليها فرضية التعدد. وفي هذا الشأن، طرحت أسئلة أخرى أكثر سخافة مثل: هل للحيوانات أرواح؟ بل لقد سئل حتى ما إذا كان للنساء أرواح أم إن الرجال فقط هم الذين يحظون بها.
مثل هذه التبعات، حتى وإن كانت بسيطة، يجب أن تجعلنا مرتابين في فرضية التعدد الشائعة في كل المذاهب الدينية الغربية الرسمية. ألسنا ننحدر إلى هوة أكبر من الهراء لو تجاهلنا خرافات تلك المذاهب الظاهرة، وأبقينا على فكرتها الساذجة القائلة بتعدد الأرواح، مع «تصحيحها» بإعلان أن الأرواح فانية، وأنها ستزول مع زوال أجسادها؟
البديل الوحيد الممكن هو الاعتقاد بصحة الخبرة المباشرة التي ترى أن الوعي مفرد، وأن تعدده أمر غير مؤكد؛ وأن هناك شيئا واحدا فقط، وأن ما يبدو تعددا هو مجرد سلسلة جوانب مختلفة لهذا الشيء الواحد، والتي تنتج عن الوهم (المايا الهندي)؛ الوهم نفسه الذي ينتج في صالة عرض للمرايا، وعندما يظهر أن جبلي جاوريشانكار وإيفرست هما الجبل نفسه عند رؤيتهما من أودية مختلفة.
هناك بالطبع قصص خيالية مفصلة ترسخ في عقولنا لتعيق تقبلنا لمثل هذا الإدراك البسيط. على سبيل المثال، لقد قيل إنه إن كانت هناك شجرة خارج نافذتي، فإنني لن أراها حقيقة. لكن من خلال طريقة بارعة لم يستكشف سوى خطواتها المبدئية البسيطة نسبيا، فإن الشجرة الحقيقية تلقي صورة لها على وعيي، وهذا هو ما يجعلني أدرك وجودها. وإذا ما وقفت أنت إلى جواري ونظرت إلى الشجرة نفسها، فبإمكانها إلقاء صورة لها في روحك أنت أيضا. أنا أرى شجرتي وأنت ترى خاصتك (التي تشبه على نحو ملحوظ خاصتي)، لكننا لا نعرف ماهية الشجرة في حد ذاتها. إن كانط هو المسئول عن هذا الغلو. وبحسب خط الأفكار الذي يعد الوعي «مفردا»، فمن المناسب أن نقول بدلا من ذلك إن من الواضح أن هناك شجرة «واحدة» فقط، وأن كل قصة الصور هذه ما هي إلا قصة خيالية.
لكن لدى كل منا انطباع غير قابل للجدل بأن محصلة كل خبراته وذكرياته الخاصة تشكل وحدة واحدة، والتي تختلف إلى حد كبير عن تلك التي لأي شخص آخر. إننا نشير لها ب «أنا». «لكن ما هذه «الأنا»؟»
إنك إذا حللتها عن كثب، فسوف تجد - كما أعتقد - أنها أكثر قليلا من مجرد مجموعة من البيانات المفردة (الخبرات والذكريات)؛ أي اللوحة التي تتجمع عليها هذه العناصر. وسوف تجد مع محاولات الاستبطان الدقيقة أن ما تعنيه فعليا ب «أنا»، هو الخلفية التي تجمع عليها. إنك من الممكن أن تذهب لبلد بعيد ولا يمكنك رؤية كل أصدقائك، وربما حتى تنساهم؛ فأنت ستكتسب أصدقاء جددا، وتشاركهم الحياة بنفس قوة مشاركتك إياها مع أصدقائك القدامى. وسوف تقل أهمية حقيقة أنك بينما تعيش حياتك الجديدة ما تزال تسترجع تلك القديمة. وربما يكون «الشاب الذي كنته أنا»، الذي ربما تتحدث عنه بصيغة الغائب، والذي هو بالفعل بطل الرواية التي تقرؤها، أقرب لقلبك، وبالتأكيد مفعم أكثر بالحياة، ومعروف لك على نحو أفضل. ومع ذلك لا يوجد فاصل وسيط أو موت. وحتى لو نجح منوم مغناطيسي ماهر في أن يحجب تماما كل ذكرياتك القديمة، فلن تجد أنه قد «قتلك». فلا يوجد على أي حال فقدان للوجود الشخصي بحيث يمكن أن تتأسف عليه.
ولن يوجد أبدا.
ملحوظة على الخاتمة
تتناغم وجهة النظر المعروضة هنا مع ما أطلق عليه ألدوس هكسلي مؤخرا - وعلى نحو ملائم جدا - «الفلسفة الخالدة». إن كتابه الرائع الذي يحمل العنوان نفسه (لندن، تشاتو آند ويندوس، 1946) يصلح على نحو فريد لتوضيح ليس فقط واقع الأمر، وإنما أيضا سبب صعوبة فهمه الشديدة وقابليته الكبيرة للاعتراض عليه.
Shafi da ba'a sani ba