ابتسمت، فكأن السماء أرسلت إلى قلب وجدان لحنا لم يسمعه أحد من قبل. وتماسك. وقالت ميرفت: أكذب عليك لو قلت لم أسمع مديحا من قبلك، ولكن الحقيقة لم أشعر أنه صادر عن صدق وشرف مثلما أشعر الآن. وأكذب أيضا إذا لم أقل لك إنني سعيدة بما أرى وما أسمع. - الحمد لله، والآن هل أنت مجرد رسول أم موكل؟ - لا أفهم. - أعني هل ستسلمينني أوراق القضية وأقرؤها أنا، أم ستشرحين القضية؟ ربما تكون الوالدة هي التي تعنى بهذه الشئون وأنت لا شأن لك. - ماذا تظنني يا أستاذ؟ إني محامية مثلك. - صحيح؟ غير معقول. - أنا تخرجت في آخر دفعة وبتقدير أيضا. - ولماذا لا تعملين؟ - سأعمل طبعا، فقط أعطي نفسي بعض الوقت. - ألف مبروك. وما القضية؟ لا شك أنك تعرفين أسرارها جميعا. - إنها شغل البيت الشاغل منذ ست سنوات، وربما دخلت أنا كلية الحقوق من أجل هذه القضية. - هل هي معقدة؟ - هي بسيطة بساطة تجعلها في غاية التعقيد. - لقد بدأت شغل المحامين فعلا. - حين صدر القانون 50 لسنة 1969 كان أبي وأمي يملكان أكثر من المائة فدان بحوالي مائة وسبعين فدانا. - يا خبر! - منها عشرون فدانا لأمي والباقي لأبي. أجروا التنسيق وأبقوا لأمي أرضها. وقبل أن تتم الإجراءات توفي أبي. - البقية في حياتك. - شكرا. وهنا تبدأ القضية التي ستضطلع بها. - وأين كانت القضية طوال هذه السنوات؟ - في مكتب محام يعلم أننا أصبحنا فقراء، أهمل القضية غاية الإهمال. كان دائم التأجيل لها بينما أعتقد أنا أنها تنتهي في جلستين. - ولماذا قلت جلستين ولم تقولي جلسة واحدة ولو على سبيل المبالغة المعروفة في هذا السياق؟ - لأن القضية لا بد أن تنظر في لجان الطعن في مصلحة الضرائب وفي محاكم الإصلاح الزراعي. - كيف؟ - استولى الإصلاح الزراعي على الأرض الزائدة. - معقول. - وقعت مصلحة الضرائب الحجز على بقية الأرض المحتفظ بها وفاء لضريبة التركات معتبرة أن أبي حين مات كان يملك الأرض كلها التي احتفظ بها والتي استولى عليها الإصلاح الزراعي. - ما هذا؟ أهذا معقول؟! - لم تعترف مصلحة الضرائب بالاستيلاء وقدرت ضريبة التركات على هذا الأساس. - هناك سؤال يفرض نفسه. - طبيعي، ولك أن تسأله. نعيش من العشرين فدانا التي تملكها أمي. وخالي أعزب، فجعلنا نعيش معه وأجرت أمي شقتنا مفروشة. - سبحانه لا يقفل بابا إلا فتح آخر. - الحمد لله. •••
لم تعمل ميرفت، وإنما تزوجت من وجدان بعد أن عرف عنها كل شيء. •••
استمر وجدان في العمل بالمكتب، ولكن الأمور راحت تنكشف له، ومرت السنتان اللتان لا بد منهما للتمرين، إلا أن وجدان في السنة الأخيرة كان في صراع قاتل مع نفسه.
لقد أصبحت قضايا المكتب جميعا أو أغلبها على الأقل بين يديه. لا، ما هكذا ينبغي أن تكون المحاماة.
وقال أبوه: ولكن من يدافع عن المجرم إذا لم يدافع المحامي؟! - يدافع بالحق. - أيمكن هذا؟ - هذا ما يجب. - أتظن أنك تستطيع أن تستمر؟ - في مكتب غير مكتبي، مستحيل. - ماذا تريد من المحامي؟ أن يرفض القضية الخاسرة. - هذا ممكن. - أليس من واجبه أن يحاول إقالة عثرة المخطئ لعله يستقيم؟ - يطلب التخفيف ولا يغير الحقائق. هذا في القضايا الجنائية، أما في القضايا المدنية فعليه أن يقف في جانب الحق. وإذا رأى موقف موكله ضعيفا فعليه أن ينصحه بالصلح، أو يتخلى عن القضية. - ما هو عمل المحامي في رأيك؟ - أن يقدم للقضاء وجهة النظر الأخرى، سواء كان ذلك في القضايا الجنائية أم القضايا المدنية. - هذا تعريف دقيق. - على أن يكون شريفا. فالقاضي إنسان، وعمل النيابة والمحاماة في الجنايات أن يقدما وجهتي النظر. أما في القضايا المدنية فعلى كل محام أن يفتح أمام القاضي جوانب القضية من وجهة نظر موكله. بالحق، على هذا أقسمنا، وبهذا ينبغي أن نلتزم. - أتريد أن تكون نبيا؟! - أنا جزء منك. وأنا لا أحاول أن أصلح الآخرين، ولكن أحاول أنا أن أكون شريفا. النبي يصلح الآخرين، أنا لا أفكر في هذا، كل ما أحاوله ألا أقوم أنا بعمل وأنا غير مقتنع به. - قبل أن تؤدي الخدمة العسكرية كنا اتفقنا أن تعيد التفكير. - أذكر هذا الحوار، ولكنني كنت مصمما. ومن أين لي أن أعرف سراديب المحاماة! - أنا كنت أعرفها. - وأنت خير من يعرف أن الإنسان يجب أن يخوض تجربته بنفسه. - لو أن الأبناء انتفعوا بتجارب الآباء لأصبحت الدنيا نعيما مطلقا. - وبما أنها دنيا وليست عليا، فلا بد فيها من الخطأ، ولو انتفع الناس بتجارب من قبلهم لانتفى الخطأ وأصبحت جنة لا أرضا. - هذا حق. والآن ماذا ترى؟ - لو فتحت مكتبا فلن يدخله أحد. فمن يعرفني حتى يأتي إلى مكتبي. - وهذا ذكاء منك. - إذن فليس أمامي إلا النيابة، فأنا الآن محام ابتدائي، فلأعمل في النيابة بأقدميتي مؤقتا ثم أعود للمحاماة. - لا أظن أن هناك صعوبة في ذلك، فالنيابة والقضاء في حاجة دائمة إلى عناصر جديدة مستوفية لشروطها. - أعلم ذلك. - أتحب أن أكلم أحدا؟ - أطال الله عمرك. لا أظن الأمر محتاجا إلى كلام من سعادتك؛ سأتولى أنا الأمر، وأعتقد أن تقديري في التخرج ومشاركتي في المعركة وعملي في المحاماة ستكون جميعا شفيعا لي. وطبعا اسم سعادتك سيفتح لي جميع الطرق. وأنا لن أستعمله ولكنه هو سيعمل وحده. فالانتساب إلى قاض شريف شرف في ذاته. - على بركة الله.
الفصل الخامس
النيابة خصم شريف. هكذا تعلم المتخرجون في كلية الحقوق. وقد وجد فيها وجدان مكانا يتفق وأخلاقه، وهكذا لم يكن عجيبا أن يقبل على عمله الجديد في حماس ورضا. وبدأ يعمل في التحقيقات وتبين له أن عمل يوم واحد في النيابة يكسبه من الخبرة قدر ما يكسبه في مكتب المحامي مهما يكن شهيرا في شهور عدة.
تواءمت نفس وجدان مع عمله، وازدادت سعادة أن ميرفت بشرته بأنها حامل. فالدنيا أمامه كلها جميلة. لا ينغصها إلا مناقشاته المستمرة مع ياسر حول نظرة كل منهما إلى الحياة، إلا أنه سرعان ما يزيح عن نفسه ما يستشعره من ضيق في نقاشه مع ياسر. فهو يعلم أن الآراء المطلقة شيء يختلف كل الاختلاف عن تصرفات الإنسان.
فإذا تحدث وجدان مع أبيه عن ياسر رآه يصمت ويسبح بعينيه في فراغ، ويخيل إلى وجدان أن أباه انتقل إلى زمن آخر. ويقول وجدان: ولكنك تعرف أن الآراء المطلقة لا تعبر عن الخلق الحقيقي للإنسان، فقد يكون الإنسان شريفا كل الشرف ومع ذلك يدافع عن التصرفات غير السليمة، وياسر الآن في عصر نجح فيه كثيرون بوسائل غير كريمة.
ويصمت الأب طويلا ويعجب بوجدان، ومن أين له أن يدرك ما يدور بنفس والده؟ ويقول الأب: لا أرجو من الله شيئا إلا أن يكون رأيك هذا صحيحا مع ياسر يا وجدان.
Shafi da ba'a sani ba