Asirin Ishtar
لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة
Nau'ikan
والتفسير الوحيد لقيام مؤلفي التوراة بإيراد هذه الرواية، هو تبرير عبادة الأفعى التي كانت قائمة لدى اليهود، والتي استمرت حتى زمن طويل بعد موسى بتأثير الديانات السورية المحيطة بهم. فبعد ما ينوف عن الأربعمائة سنة من وفاة موسى، نجد نصوص التوراة ما زالت تتحدث عن عبادة الأفعى؛ فهذا هو الملك حزقيا: «قد عمل المستقيم في عيني الرب حسب كل ما عمل داود أبوه وهو أزال المرتفعات، وكسر التماثيل، وقطع السواري، وسحق حية النحاس التي عملها موسى؛ لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها ودعوها نحشتان.»
56
ولعل عبادة الأفعى لدى العبرانيين ترجع في أصولها إلى تاريخ أبعد من موسى. يدلنا ذلك اسم القبيلة التي كانت تمسك بزمام الكهنة في الديانة اليهودية وهي قبيلة اللاويين، أو بني لاوي؛ إذ أن لاوي يشترك في جذره في اللغة العبرانية مع اسم لواياتان؛ أي: الحية.
وكما كان لكل فردوس حيته التي تعبر عن روح الشجر والغاب، كذلك كان فردوس يهوه الذي غرسه شرقي عدن. فبعد أن أينعت الجنة التوراتية، وصنعت حواء من ضلع آدم، تسلل رمز الحية لإكمال المشهد: إن شجرة المعرفة التي زرعها الرب في وسط الجنة، والتي تظهرها الأعمال الفنية منذ القرون الوسطى وقد التفت حولها توسوس في أذن المرأة، لتبدو نسخة تامة الشبه بشجرة الأم الكبرى وحيتها الموضحة في الشكل (
4-18 )، وغيره من الأعمال القديمة التي تعالج الموضوع نفسه. ونحن هنا أمام تبديات للأم الكبرى في مركز الفردوس التوراتي. فحواء هي نموذج إنساني مصغر لعشتار سيدة الحياة، واسمها نفسه يعني الحية أو سيدة الحياة؛ لأن كل الحيوات المقبلة إلى نهاية الزمن مودعة في صلبها، والشجرة هي أيضا عشتار مركز الفردوس النباتي. والحية هي روح الطبيعة التي تطلب من المرأة أن تبقى لصيقة بها ولا تنصاع لشرائع الذكر الذي بدأ بالانفصال عن الطبيعة. وليس الأمر الذي أعطاه الرب لآدم بألا يأكل من الشجرة، إلا تعبيرا عن شرائع الذكر نفسه، التي سنها وعمل على الالتزام بها لتنظيم ارتقائه عن القانون الطبيعي، بلجوئه إلى قانون من صنعه . ولكن شرائع الذكر تسقط أمام إصرار المرأة على الوفاء للطبيعة، فتصغي لنداء عشتار الذي تهمس به الحية وتأكل من الثمرة المحرمة متحدية شرائع الذكر، ثم ينسى الذكر شرائعه ويتحد بالأنثى تحت شجرة عشتار، إلى أن يصحو على صوت الرب الغاضب، صوت ضمير الرجل الذي وضع نصب عينيه الخروج من مملكة الطبيعة. يأخذ الرجل بيد أنثاه ويطرد نفسه من جنة عدن، براءة الإنسان الأولى، ويدخل عالما من صنعه هو؛ عالم البناء والتشييد، عالم التصعيد، عالم حضارة لا تحاكي الطبيعة بل تقف ندا لها.
وقد استمرت عبادة الحية التي عبدها العبرانيون تحت اسم نحشتان قائمة في المذاهب الغنوصية، التي تشكلت نتيجة لقاء عدة روافد من ثقافات الشرق القديم والفلسفة اليونانية والمسيحية الجديدة. يخبر القديس هيبوليتوس عن معتقدات إحدى هذه الفرق في عام 230م فيقول: «كانوا يعبدون فقط الحية «نعاس» أو «نحاش»، ويؤمنون بأن كل معابد الأرض يجب أن تكون مكرسة لها، وكل الطقوس يجب أن تقوم من أجلها وبحضورها داخل المعبد.»
57
ومن الملاحظ أن اسم نحاش ما زال يطلق في اللغة السورية المحكية على الأفعى، مع بعض التعديل في ترتيب الحروف؛ إذ يسميها الناس «حنش». وفي خبر آخر عن معتقدات بعض هذه الفرق أنهم: «كانوا يحتفظون بحية في صندوق إلى يوم الطقوس، ثم يخرجونها ويدعونها تزحف فوق أرغفة من الخبز موضوعة أمامها. بعد ذلك يكسرون الخبر ويوزعونه بينهم، ويقوم كل واحد منهم بتقبيل الحية في فمها؛ ذلك أن الحية قد تم تدجينها بتميمة سحرية، ثم يخضعون أمامها ويصلون، ويرسلون من خلالها ترتيلة للإله الأب الذي في السماوات.»
58
شكل 4-19: الصليب والأفعى في الحمامة - نقش من الفترة المسيحية الأولى.
Shafi da ba'a sani ba