237

Asirin Ishtar

لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة

Nau'ikan

ورغم أن عبادة الخلاص الأوزيرية قد صارت مفتوحة أخيرا أمام الجميع، فإن هناك من الأدلة على أن الأسرار القديمة قد حافظت على استمرارها ضمن تيار الأوزيرية العام؛ ذلك أن الخلاص الذي تقدمه طقوس الأسرار يقود أصحابه نحو درجات أعلى من مجرد الاستمرار في حياة ما بعد القبر. والأسرار الأوزيرية في ذلك، إنما تشبه طرائق التصوف التي تقدم لأتباعها مفتاحا لعوالم لا يصل إليها المتعبد العادي الذي يقصد بعبادته مجرد شراء مكان له في الجنة السماوية. وهكذا يحدثنا شاهد عيان هو المؤرخ الإغريقي «هيرودوتس» عن الطقوس السرية الأوزيرية المحجوبة عن العامة، فيقول باقتضاب: «على تلك البحيرة أمام المعبد في الدلتا، يقيم المصريون طقوسهم المكرسة لإلههم الذي لن أنطق اسمه. ورغم شهودي لكل مأتم في ذلك المكان، فإنني لن أزيد في القول عنه شيئا، وأمسك لساني كما أمسكته عن البوح بما رأيت في طقوس الإلهة ديمتر في إيليوسيس؛ ولكني أستطيع القول فقط، دون أن أقع في التجديف، إن بنات دانيوس هن من أتى بهذه الطقوس من مصر ودربن نساء بيلاسيان عليها.»

20

وعندما انتقلت عبادة إيزيس وأوزيريس إلى العالم اليوناني-الروماني عقب فتوح الإسكندر، لعبت دورا كبيرا في الحياة الروحية هناك، وبقي تأثيرهما قائما إلى ما بعد القرن الثاني الميلادي، وكان لكل من إيزيس وأوزوريس أسراره الخاصة ومعابده وعباده، وقد وصلنا من القرن الثاني للميلاد، وصف حي لطقوس العبور في ديانة إيزيس المخلصة، بقلم الكاتب الروماني «أبوليوس» الذي يعتبر من كبار مثقفي تلك الفترة الحافلة بتمازج الثقافات والديانات، والذي تحول فيما بعد إلى كاهن لإيزيس عقب مروره بأسرارها. نقرأ في كتابه المعروف بعنوان (The Golden Ass)

عن تجربته الشخصية ما يلي: «في الصباح، قادني الكاهن الأعظم من يدي إلى المعبد الكبير، وعندما فتح أبوابه قام بأداء شعائر الصباح المعروفة، ثم مضى إلى الحرم وأحضر معه كتبا مكتوبة بخط غير مألوف، لمحت في بعضها كتابة على شكل رسوم لحيوانات وما إليها، وفي بعضها الآخر كتابة بخط عادي جرى وصل حروفه بعضها ببعض، ودوائر من شأنها إخفاء مدلولها على غير الخبير بها، ثم قرأ علي تعليمات تتعلق بما يلزم التزود به من ثياب وحاجيات أخرى لازمة لطقس العبور المقبل، فمضيت لتوي وحصلت عليها كما أشار. وعندما حل الموعد المحدد جاءني الكاهن الأعلى فقادني إلى الحمام ومعه كهنة آخرون كانوا يحفون بي طيلة الطريق، وهناك أتممت غسلي المعتاد، ثم قام الكاهن نفسه بسكب ماء مقدس خاص على جسدي وهو يتلو صلوات وأدعية خاصة. فلما انتهينا أعادني إلى المعبد وأجلسني عند قدمي تمثال الإلهة، وأعطاني تعليمات مقدسة لا أجرؤ الآن حتى على الهمس بها، ثم ألزمني صياما خاصا فلا أقرب اللحم والخمر عشرة أيام، أقتصر خلالها على الطعام البسيط اللازم لسد الرمق، ففعلت ذلك كله. وعندما حل مساء اليوم الأخير وأنا في موضعي، رأيت الكهان يتقاطرون علي من كل زوايا المعبد، وفي يد كل منهم هدية تهنئة، على ما تقتضيه العادة القديمة. ثم جاء الكاهن الأعظم فأمر بانصراف كل من لم يمر بطقوس العبور، ثم ألبسني عباءة قطنية، وقادوني إلى قدس أقداس المعبد. لا أشك في هذه اللحظة أن قارئ كلماتي هذه قد أخذه الشوق ليعرف ما جرى لي هناك، ولكني لو سمحت للساني بالنطق، وسمحت أنت لأذنك بالسمع، فإن لساني سيلقى جزاء بما نطق، وأذنك جزاء بما سمعت. ومع ذلك فإني أستطيع الإفضاء لك بما هو مسموح لي أن أفضي، شريطة أن تكون مستعدا لتصديق كل كلمة فيه. فاستمع إلي: لقد دنوت من حافة الموت الفعلي ووضعت قدمي على عتبة بيرسفوني، ثم سمح لي أن أعود القهقرى سابحا عبر العناصر كلها. في منتصف الليل شهدت الشمس ساطعة كوقت الهاجرة. مثلت في حضرة آلهة العالم الأسفل، وكان آلهة العالم الأعلى يقدمون لهم فروض الولاء. هكذا كان، وعندما انتهى الطقس الجليل، خرجت من قدس القداس وعلي اثنا عشر ثوبا، فأمرني الكاهن أن أصعد إلى المنبر القائم في وسط المعبد أمام تمثال الآلهة، وأمسكني مشعلا باليد اليمني، ووضع على رأسي إكليلا من أغصان النخيل، ثم رفعت الستارة التي تحجب المنبر من أمامي لتقع علي عيون الجمع المحتشد ...»

21

أما الإله أوزوريس فقد رحل إلى العام اليوناني-الروماني تحت اسمه الجديد «سيرابيس» المأخوذ عن الاسم المصري أوزوريس-آبيس. (والاسم آبيس، كما مر معنا سابقا، هو اسم الثور المقدس الذي يمثل أوزوريس). وقد أسس عبادته أول ملوك البطالمة في الإسكندرية، ومنها انتقل إلى روما منذ عام 300ق.م. واستمرت عبادته قائمة حتى عام 300م. وفي روما حاول أتباع سيرابيس رفعه إلها كونيا شموليا، نقرأ في أحد النصوص عن لسان سيرابيس: «السماء رأسي والبحر بطني، والأرض قدمي، والشمس عيني.» كما طمحت عبادته لأن تكون ديانة أممية عالمية، فاستعارت لإلهها ملامح وخصائص آلهة متعددة من مصر وسوريا وإيطاليا، الأمر الذي نشر عبادته على أوسع نطاق ممكن، فكانت صوره تعلق في أعناق الرومانيين وتماثيله تنصب في المرافئ، وكان عدد من الأباطرة الرومان ميالين لعبادته، مشجعين على انتشارها، مثل كاليجولا وتيتوس وفسبازيان. ويروى أن الأخير كان يشفي العميان والمرضى بقوة إلهه سيرابيس.

22

لم تكن ديانة سيرابيس المخلص الوحيدة التي تسعى نحو الشمولية والأممية، فإلى مثل هذه الشمولية والأممية كان طموح الديانة الأورفية أيضا. فكانت هذه بمظاهرها البسيطة وتجنبها بناء المعابد، وإقامة صلواتها وطقوسها في البيوت العادية، نموذجا لحركة المسيحيين الأوائل. فإذا أضفنا إلى ذلك حشد الآلهة المخلصين الذين امتلأت بهم ثقافات الشرق القديم والبحر المتوسط، اكتملت أمام أعيننا صورة المشهد الذي شكل أرضية لملحمة انتصار ديانة الخلاص الجديدة المتركزة حول آخر المخلصين، يسوع المسيح، الذي ما زال وعده قائما على الأرض.

يسوع المخلص

لكي نفهم معتقد الخلاص الذي قدمه يسوع للبشرية، لا بد لنا من الرجوع إلى نظرية التكوين المسيحية كما بناها آباء الكنيسة الأوائل انطلاقا من العهد القديم، وسيرة يسوع وأقواله، وأعمال الرسل وخاصة بولص، وفكر أولئك الآباء المتأثر بحصيلة الثقافة المتوسطية في تلك الفترة الخصبة.

Shafi da ba'a sani ba