Asirin Ishtar
لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة
Nau'ikan
وهكذا يبدو الطقس بكامله تمثيلا لموت وبعث إلهة الذرة التي تموت من خلال الفتاة، وتبعث من خلال الكاهن الذي يلبس جلد الفتاة ويضع على نفسه زينتها من باقة الريش وعقد الأكواز وما إليها. ورغم أن طابع الدراما يغلب على الطقس، غير أن المشاركين فيه كانوا إذا بلغ الاحتفال أوجه واجتث رأس الفتاة، يرون في موتها فعلا موتا لربة الخصب، وفي تمثيل بعثها أملا في عودة حبيبات الذرة إلى الحياة كرة أخرى. إن الفرق بين هذا الطقس وأشباهه لدى الثقافات الأخرى وبين الطقس النيوليتي الأصيل، يكمن في أن الطقس النيوليتي كان خلوا من عنصر الدراما، وأن القائمين عليه كانوا يرون في إزهاق روح القربان البشري إزهاقا لروح الإله الذي تهاوى جسده تحت المناجل.
وتقدم لنا القارة الهندية كثيرا من الأمثلة على القربان البشري المقدس؛ ففي مناطق البنغال، وحتى وقت متأخر من القرن التاسع عشر، كان القربان البشري يقدم كل عام في عيد إلهة الأرض، فكانت الضحايا تشترى، من كلا الجنسين، من العائلات الفقيرة في سن صغيرة وتهيأ لهذا المصير. وعندما كان الشاري يستلم الضحية من أهلها كان يقول لهم: لقد قدمتم ابنكم للموت لكي يعيش العالم. ثم يؤخذ الطفل فيعتنى به عدة سنوات عناية كبيرة ويعتبر كائنا مقدسا. فإذا دنت الساعة، اقتيد القربان إلى غابة عذراء، لم تنل من أشجارها فأس من قبل، وهناك يربط إلى عمود خشبي ويضمخ بالعطور ويكسى بأفخر الحلل، وذلك على مرأى من الحشود المجتمعة التي تتدافع للتبرك بجسده المقدس. ثم يأتي الكاهن الأكبر فيجرح الضحية بفأس دون أن يقتلها، ويتقدم وراءه ممثلو المناطق، فينهالون عليها بسكاكينهم يقتطعون من جسدها قطعا، يحملونها معهم إلى قراهم حيث يقسمونها بالتساوي بين العائلات، لتدفن في الحقل أو تعلق في الهواء فوق مجرى الماء الذي يسقي الحقل، أما ما تبقى فيحرق ويذر رماده في الحقول.
33
لقد تحول جسد القربان، من جسد بشري عادي إلى جسد مقدس تنطلق منه قوى إخصابية إلهية، وهذا التحول لم يتم لأن الجسد البشري قد قدم لمرضاة الإلهة؛ بل لأن الإلهة نفسها في الطقس الأصلي هي التي حلت فيه وماتت من خلاله.
وفي أمريكا الشمالية، كانت بعض قبائل الهنود الحمر تقوم بتقديم قربان بشري من أحد الأسرى في العيد المخصص لكوكب الزهرة، فكان الأسير المنتخب يغذى بأفضل طعام مدة لا بأس بها، فإذا حل الوقت جاءوا به فألبسوه خير لباس وشدوا وثاقه إلى صليب خشبي، ثم قتلوه رميا بالسهام. بعد ذلك يتقدم الكاهن فيشق صدر الضحية وينتزع منها القلب ويلتهمه، ثم يقطع جسدها وهو ما زال دافئا إلى قطع صغيرة، توزع في سلال صغيرة على الأسر التي تأخذها لإخصاب حقولها، وهناك يقوم رب الأسرة بعصر قطع اللحم الطرية فوق حفنة من القمح لإخصابها قبل دفنها في التراب. ولدى هنود المكسيك، يتم قتل الضحية بين حجري الطاحونة في عيد الحصاد، وتدفن أشلاؤها في الحقل. ولدى بعض قبائل أفريقيا يجري استعمال أدوات زراعية أخرى كالمعازق والمجارف.
34
إن قيام الكاهن بالتهام قلب الضحية بعد قتلها، ليس بأية حال بقية من طقس سابق يتعلق بأكل لحوم البشر؛ لأن مثل هذه الطقوس لم تعرف قط عند الهنود الحمر، ولكنه طقس يهدف إلى التوحد بالإله عن طريق أكل الجزء النابض من جسده، الذي يمثله الآن جسد القربان. ولسوف نرى مثل هذا الطقس شائعا بأشكاله المتنوعة لدى كثير من الثقافات. أما قتل الضحية بين حجري الطاحونة، أو باستخدام الأدوات الزراعية؛ ففيه إشارة واضحة إلى أن القتيل ليس إلا ممثلا لروح القمح القتيل، التي حلت في الجسد البشري وماتت من خلاله.
إن بربرية هذه الطقوس، بمفهومنا العصري، يجب ألا تحجب عن أعيننا ما وراءها من رمز عميق. فالقربان البشري يمثل نقطة اللقاء بين الإنساني والإلهي، حيث يموت الإله في جسد بشري، ويموت الإنسان ميتة الإله. هذا الرمز قد يبدو أقل تعقيدا وبعدا عن المألوف ، إذا تلمسناه في تعبيره الأبهى، من خلال سيرة السيد المسيح؛ الإله الابن الذي استعار جسد الإنسان، ومات في شكل الإنسان من أجل خلاص العالم، مجسدا سعي الإنسان للالتقاء بالإلهي عبر تاريخ الحياة الروحية للبشر.
والآن كيف تطور معتقد هذا الابن، القمح القتيل، وكيف تحولت وتناسخت أسطورته الأولى خلال الأزمنة وعبر الأمكنة. هذا ما سنتعرض له بالتفصيل فيما يأتي من هذا الفصل.
عشتار وتموز
Shafi da ba'a sani ba