Asirin Ishtar
لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة
Nau'ikan
ومن ناحية أخرى فلن يكون منهجنا تاريخيا يعتمد تسلسل المراحل وتتابعها، ولا إثنولوجيا يعتمد دراسة معتقدات كل شعب على حدة ومقارنتها، من ثم، بمعتقدات الشعوب الأخرى؛ بل سنضع أنفسنا في قلب اللغز متتبعين طريقنا في كل الاتجاهات زمنيا وجغرافيا وإثنيا لنصل إلى أطرافه. وستقدم لنا في كثير من الأحيان أعمال الإنسان الفنية التشكيلية معونة أكبر مما تقدمه لنا نصوصه المكتوبة. فالكلمة مخادعة مخاتلة، تزوغ من معنى لتلبسها معان، أما العمل التشكيلي فشاهد صامت، أسهل قراءة في رأينا وأكثر قدرة على الإيصال. غير أن الأداتين ستتعاونان تعاونا فعالا في مسار البحث، فيلقي العمل الفني ضوءا على النص، ويفك لنا النص رموز العمل الفني. إن عملا فنيا من العصر النيوليتي سيلقي ضوءا على آخر من مطلع عصر الكتابة، أو على نص من فترة الحضارات الكبرى. وبالمقابل فإن نصا مكتوبا سيعيننا على فهم عمل فني تركه صاحبه دون رسالة مكتوبة. سوف تتبادل عشتار المعابد الكبرى والتماثيل الرخامية الرائعة أسرارها مع عشتار المزارع الأول الذي صنع لها الدمى بطين حقله معجونا بعرق بدنه، وستتعاون الاثنتان على كشف كثير من جوانب الديانات الكبرى اللاحقة، التي يربطها بأول طقس قام به إنسان المستوطنات الزراعية في سوريا، وهو يزرع سنبلته الأولى، خيط مكين.
عشتار سيدة الأسرار، من يجرؤ على هتك سرها حلت عليه لعنتها المقيمة. تقول عن نفسها بلسان الأم المصرية الكبرى: «أنا ما كان، وما هو كائن، وما سيكون ... وما من إنسان بقادر على رفع برقعي»،
30
ومن حاول رفع الستر عنها لقي مصير الشاب الذي أزاح البرقع عن تمثال لإيزيس في أحد هياكلها؛ فأصابه الخبال لما رأى، وانعقد لسانه بقية حياته. وكذلك مصير الشاب الصياد الوسيم «أكيتون» الذي اقتحم على أرتميس وهي تستحم عارية في مياه البحيرة العالية عند منبع النهر، فمسخته الإلهة أيلا طاردته كلابه فمزقته إربا إربا. هذه القصص لا تشير إلى احتجاب عشتار بجسدها؛ فهي العارية أبدا، التي صور الإنسان جسدها منذ أن تعلم تشكيل المادة بيديه، ولكنها تشير إلى لغزها الكبير وحيرة الألباب في أمرها. ومع ذلك فإننا سوف نبدأ برفع براقعها واحدا تلو آخر، لنكشف عن وجهها الأخاذ؛ وجه الأنثى الخالدة الكامن في ضمير كل منا. سوف أنطلق من المشهد البانورامي لأسطورة الشرق القديم وأساطير الحضارات الكبرى، ثم أرتقي الأحراش الجبلية في طرق ضيقة وعرة نحو البحيرة الصافية حيث تستحم عشتار، وعندما أصل لن يثنيني عن الاقتحام لعناتها المقيمة؛ لأنني لا أكشف عن وجهها كشف هتك بل كشف عشق.
الفصل الثاني
عشتار الأم الكبرى
المجتمع الأمومي - فردوس الأرض
كان الاعتقاد سائدا حتى أواسط القرن التاسع عشر، أن العائلة بشكلها الأبوي القائم اليوم، قديمة قدم المجتمع الإنساني، وأن المجتمعات الأولى قد تشكلت في بداياتها نتيجة لتجمع عدد من هذه العائلات وتزايدها تدريجيا. إلا أن هذه الفرضية قد تهاوت أمام النقد الذي وجهه إليها عدد من رواد الأنثروبولوجيا والعلوم الإنسانية الأخرى، ممن قدموا في دراستهم الأدلة الكافية على وجود شكل أقدم من أشكال العائلة سبق شكلها الأبوي الحديث نسبيا. وهذا الشكل لا يقوم على قيم الذكورة وسلطة الأب، بل على قيم الأنوثة ومكانة الأم.
1
إن التجمع الإنساني الأول لم يؤسس بقيادة الرجل المحارب الصياد، بل تبلور تلقائيا حول الأم التي شدت عواطفها وحدبها ورعايتها الأبناء حولها في أول وحدة إنسانية متكاتفة هي العائلة الأمومية، خلية المجتمع الأمومي الأكبر. ذلك أن عاطفة الأم نحو أولادها وعاطفة الأولاد نحو أمهم، هي العاطفة الأصلية الوحيدة، وكل ما عداها يأتي بالاكتساب والتعلم، لا يستثنى من ذلك عاطفة الأب نحو أبنائه وعاطفة الأبناء نحو أبيهم، التي تأتي بالصقل الاجتماعي ومعرفة الواجب الأخلاقي. لقد عرفت المرأة، قبل أن يتعلم الرجل، كيف توسع دائرة ذاتها بالحب لتشمل ذاتا أخرى ومخلوقا آخر، وكيف توجه كل ما لديها من هبات الطبيعة نحو حفظ تلك الذات الأخرى وتنميتها كنفسها، وكيف تفتح هذه الدائرة بعد ذلك لتشمل أولاد أولادها وأولاد النساء الأخريات؛ لأن كل رحم ينجب إخوة وأخوات للمولودين من رحم آخر. بالولادة تزدوج المرأة جسديا ونفسيا، وتوسع آفاق كيانها الطبيعي والروحي؛ أما الرجل فبالمولود الجديد يشد أزره ويدعم وضعه الاجتماعي، ويحافظ على ممتلكه في مقابل ممتلك الآخرين، ويتمرأى أمام ذاته. فالمبدأ الأمومي يجمع ويوحد، والمبدأ الأبوي يفرق ويضع الحواجز والحدود. المبدأ الأمومي مشاعة وعدالة ومساواة، والمبدأ الأبوي تملك وتسلط وتمييز. الأمومية توحد مع الطبيعة وخضوع لقوانينها، والأبوية خروج عن مسارها وخضوع لقوانين مصنوعة.
Shafi da ba'a sani ba