وفوجئ حين وجدها تنخرط فجأة!! لا ليس فجأة .. فقد حدثت في وجهها تغييرات متوالية مضحكة وانقباضات وانبساطات وتجعيدات، ثم انخرطت في بكاء ضاحك. تضحك وتبكي، وتبكي وتضحك، وشعرها منكوش، وروبها مفتوح، والولد لا يغادر مكانه بين ساقيها.
وأخيرا قالت إنها قد أعدت له هدية هي الأخرى. إه يا ستي. وناولته الورقة. وتحت إهدائه وجدها قد كتبت: إلى زوجي العزيز الغالي المحب بمناسبة قراننا .. من المخلصة جدا زوجتك.
وفرت الدموع في الحال من عينيه. لا لأن ما كتبته كان غريبا ولكن لأنه صدر منها وبخطها. ما أروع كلماتها. إلى زوجي العزيز الغالي، حتى أخطاءها الإملائية، حتى إمضاءها، حتى طريقتها الساذجة في التعبير عن نفسها، ولو كانت أجمل امرأة في العالم هي التي كتبت له هذا لما بدا أروع من كلمات روحية، روحية ذات الخرابيش والصوت الحاد اللافح، إنه شيء لا يحتمل، أبدا لا يحتمل.
وأخذها على كتفه وقبلها. واحمر وجهها جدا وهي تقبله، وربما كانت هذه أولى قبلاتها له. وربت على كتفها، وربتت على ظهره، وبكيا، وتعانقا وكما يضيء البرق فجأة، تزاحمت الخواطر في عقله. إن حياته معها كره في كره، وخلاف في خلاف، ومواقع إثر مواقع، هذا صحيح .. ليلة أن صفعها مثلا وخربشته بأظافرها وتدشدش طقم الشاي، ليلة أن اختلفا حول اسم تامر، ليلة أن اصطدمت بالمرحومة أمه، ألف ليلة وليلة من الألم القاسي الممض.
العجيب أنه لا يحس شيئا من هذا الألم الآن، وكأن الألم في حينه يصبح ذكرى بعد حينه فكل، ما يحسه الآن أنه كان شابا، وأنها كانت صغيرة، وأنهما كانا طائشين، وما أعذب الطيش حين تمضي أيامه ويصبح مجرد لحظات تستعاد. إن الخلاف ينفر؛ ولكن العجيب أن خلافاتهما كانت تقربهما أكثر. والخلاف يقولون إنه يخرب البيوت، والخلاف عمر بيته؛ فقد كان لهما حجرة واحدة والآن عندهما ثلاث، ولم يكن هناك أولاد والآن لهما أربعة، وحين تزوجها لم يكن معه إلا التوجيهية والآن معه بكالوريوس، وهي تزوجته وهي مدللة لا تعرف سوى قلي البيض وتخطيط الحواجب، والآن بشهادته أمهر خياطة وطباخة، وكانت بالكاد لا تقرأ إلا «حواء» لتعرف الموضة، وهي الآن تناقشه في السياسة وتبزه تلك التي يعتبر نفسه ضليعا فيها.
ألف خاطر عن له، لو كان قد تزوج مطيعة لا ترفض له رغبة أو طلبا لما تحرك من مكانه وموضعه، ولما تحركت هي الأخرى. إنه مغفل. أيكون ما يعيش فيها هو سعادة الواقع وهو لا يدري؟! إنه كان يفكر دائما كأحد طرفي الخلاف، ولكنه أبدا لم يفكر كزوج لا بد له زوجة ولا تتم سعادتهما إلا معا، ولا يسعد الشخصان معا إلا إذا اقتربا، احتكا واختلفا، ونتج عن احتكاكهما موجات من الرضا والغضب، والسخط والألفة، والحب والكره.
أتكون هذه الموجات هي نفسها السعادة التي طال سمعه عنها.
أتكون كالشرر لا يحدث إلا إذا طرق الحديد بالحديد والحجر بالحجر.
تلك المرأة التي يضمها بين يديه الآن، رفيقة العمر، التي صاحبته لحظة بلحظة وساعة بساعة، لا بد أنها كانت تقاسي مثله، وكانت تكرهه مثلما يكرهها، وتحملته مثلما تحملها. وكل ذلك قد مضى، ويمضي، ويصبح ذكريات أهم ما فيها أنها مرت وطعمها الآن، من طعم العمر المولي، ألذ وأطيب وأمتع طعم. إنها الآن بين يديه ضعيفة، مستسلمة، قد أسعدتها هديته البسيطة إلى درجة البكاء والنشوة.
ألف خاطر وخاطر، وعاطفة قوية مبهمة تتفجر في نفسه، وإعزاز غريب مفاجئ لروحية يكتشف أنه يملأ صدره. أيكون كل ما كان بينهما من خلاف وتعنت وكره هو الحب، الحب الأكبر. أكان من حمقه يحلم بالحياة السعيدة الأخرى والحياة الأخرى هو فيها، ويفكر في الهجرة إلى دنيا جديدة وهو يغمض عينيه عن دنيا الحقيقة الجديدة، ويقول إن إنهاء حياته الخاملة تلك في حاجة إلى شجاعة، والشجاعة هي أن يتقبل حياته هذه، ويؤمن أن روحية زوجته والأولاد والبيت بيته هو دعامته والمسئول عنه.
Shafi da ba'a sani ba