الأبطال هنا ثلاثة .. لا بل أربعة، إذا حسبنا «المكنة» التي كان لها دور لا يقل خطرا عن دور الإنسان .. وأول الثلاثة هو «ماشنسكي» الروسي الذي يسميه العمال في المعسكر «ماشا»، وهو أحمر الوجه فاقع الحمرة، تلك التي تميز وتقف حدا فاصلا بيننا نحن شعوب آسيا وأفريقيا وبين الأوروبيين .. والثاني كان «بيل» أو إذا أحببت الدقة «وليم» الأمريكي المعضم، ذو القتب والنظارات والجسد الرشيق النحيل الذي ربما طال في الهواء لو نفخته. أما الثالث فلم يئن بعد أوان الحديث عنه .. أما رابعة الأربعة، المكنة. فهي آلة ضخمة جدا في حجم البيت الصغير أو أكبر قليلا وثمنها كذا عشرة آلاف جنيه، وأصلها روسي. أنتجتها مصانع ليننجراد وجاءت إلينا كجزء من القرض. وجاء معها ماشنسكي ليديرها ويشرف عليها ومن أول يوم له في المعسكر ألغى العمال والموظفون كلمة ماشنسكي نهائيا واستبدلوها بوعي أو لا وعي بكلمة «ماشا» .. والمكنة وماشا والمعسكر كله هناك .. على مدد السفر .. بعيدا جدا، قرب حدودنا الشرقية المطلة على ساحل البحر الأحمر.
وذات يوم حدث للمكنة، مثلما يحدث لأي مكنة في الدنيا، أن تعطلت ووقف ماشا أمامها يدور حولها ويفتح مفاتيح ويغلق صمامات، ويختبر ويجس، وأخيرا نطق وقال للمهندس المصري المشرف على المعسكر (وهو رجل في حوالي الأربعين، وشعره أسود تماما وله كرش، وكان زمان يعتبر نفسه دون حوار) قال ماشا بوجه صارم مبتئس: إن الآلة قد كسرت فيها قطعة مهمة جدا، ولا يمكن أن تعمل إلا إذا جيء لها بقطعة الغيار تلك.
وهكذا أرسل إلى مركز المؤسسة رسالة مستعجلة بطلب النجدة .. وبقي هو والخمسمائة عامل والخمسون موظفا وتكنيكيا في انتظار رد القاهرة .. وهدأت الحركة في المعسكر، فلا حفر ولا ضوضاء آلات ولا أصوات مكن، ولا أغاني عمل، لا شيء سوى مواويل الحظ والكسل تنطلق خافتة من عقيرة حمدان أبو طالب صعيدي قنا القح والمغني شبه الرسمي للمعسكر.
هدءوا جميعا ينتظرون، ولكنه انتظار بلا أمل، فلم يكن أحد يتوقع أو يصدق أن الروتين في المركز سيحقق المعجزة، وأن قطعة الغيار ستصل بأسرع وقت، كما طلب السيد عبد الحميد في استغاثته.
ورغم أن رسالته أوقعت مركز المؤسسة بالقاهرة في دوامة حرج شديد، إذ إن قطع غيار هذه الماكينة بالذات لا توجد إلا في روسيا، ودون إحضارها من هناك مصاعب نقدية ومصرفية واقتصادية لا تعد ولا تحصى، بحيث لا أمل في حضورها قبل ستة أشهر أو سنة.
رغم هذا، إلا أن قطعة الغيار أحضرت على وجه السرعة، وجاءت في وقت كان المعسكر كله قد جاءه أمر بالاستعداد للرحيل وإنهاء العملية، وقد رأى المركز أن يستغني عن الحفر في تلك المنطقة كلها.
أما كيف أحضرت تلك القطعة، فلا أحد يدري للآن، ولا أحد يدري كيف تسرب الخبر إلى شركة «إنترناشيونال» الأمريكية، ولا كيف استطاعت بين يوم وليلة أن تتصل بالمركز وتخبره أنها على استعداد لتوريد قطعة الغيار اللازمة، وفي الحال.
وبين تهييص وطبل وأغان وفرحة، وصلت قطعة الغيار إلى المعسكر، ووصل معها المستر «وليم»، أو كما أصبح هو يطالب الذين يعملون معه بأن يطلقوا عليه الاسم الذي تعود الناس أن ينادوا به وليم وهو «بيل». ما كاد يظهر المستر بيل بالعربة وفوقها الصندوق الخشبي الضخم الذي يحوي قطعة الغيار حتى اعتقد الجميع أن خلاص، المشكلة انتهت، وليس هناك سوى بضع ساعات يتم فيها تركيب قطعة الغيار ويستأنف العمل سيره.
وبأنفسهم ذهب العمال وعلى رأسهم السيد عبد الحميد، يزفون الخبر لماشا، الذي لم يكن قد غادر من لحظتها حجرته. وكانوا يتوقعون أي شيء إلا ما حدث، إلا أن يزجرهم ماشا ويهب في وجوههم، ثم ينطلق خارجا ذاهبا إلى حيث قد تجمع حول المكنة عدد كبير من الناس يحيطونها ويحيطون بيل وصندوقه الخشبي معها. وما كاد يصل حتى صرخ ماشا في الجميع قائلا: لا .. لا يمكن. - لماذا يا ماشا؟ - مستحيل أن تصلح قطعة غيار أخرى غير القطع الروسية للمكنة. - ولماذا لا نجرب ونرى؟ - لا .. لا يمكن.
وقلت إننا لا نيئس، وعلى هذا بينما كان ماشا يرفض ويصر على الرفض، كان العمال يفكون الأسلاك من حول الخشبة ويخرجون قطعة الغيار من الصندوق ويضعونها أمام ماشا قائلين: فلنجرب.
Shafi da ba'a sani ba