70

هذه أصالة في موضع الوزن من المفردات والتراكيب لا يستغرب معها أن يكون للوزن شأنه في شعر هذه اللغة، وأن يكون شأنها في نظم أشعارها على خلاف المعهود في منظومات الأمم الأخرى، ولو صرفنا النظر عن أثر الإنشاد الفردي في تثبيت القافية، واستقلال فن العروض عن فن الغناء، في القصائد العربية.

نعم إن اللغات السامية تجري على قواعد الاشتقاق، وتوليد الأسماء من الأفعال، ولكن المقابلة بين هذه اللغات في أقسام مشتقاتها وتفريع الكلمات من جذورها تدل على تمام التطور في قواعد الأوزان العربية، وعلى نقص هذه القواعد أو التباسها في أخواتها السامية، بل تدل في باب الإعراب خاصة على تفصيل في العربية يقابله الإجمال أو الإهمال في أخواتها، وفي غيرها من اللغات الآرية التي دخلها شيء من الإعراب. •••

وواضح مما تقدم أننا قصرنا القول على النظم من حيث هو أوزان عروضية، أو قوالب تحتوي الكلم المنظوم فيها.

فهذه القوالب هي التي تطورت في اللغة العربية، فأصبحت فنا مستقلا بمقاييسه عن فن الغناء أو فن الحركة الموقعة، أما الكلام المنظوم في تلك القوالب، فهو عمل ممتد مع الزمن يأتي فيه كل عصر بما هو أهله من الإبداع أو الزيادة أو المحاكاة، وإنما نعود إلى القوالب والأوزان في كل عصر لنسأل: هل هي صالحة لأداء المقاصد الشعرية ومجاراة الأمم في تطورها الذي يمتد مع الزمن على حسب حالاتها من الشعور والفهم والقدرة على الأداء؟ وهل تتسع للتعديل إذا وجب التعديل للوفاء بمطلب جديد من مطالب التعبير؟

إن تجارب العصور الماضية تنجلي عن صلاح القوالب العروضية لمجاراة أغراض الشعر في أحوال كثيرة، ويبدو منها أن أساس العروض العربي قابل للبناء عليه بغير حاجة إلى نقضه وإلغائه، فقد كانت بضعة بحور من أوزان الشعر كافية لأغراض الشعراء في الجاهلية؛ أشهرها الطويل والكامل والخفيف، ثم نشأت من أوزانها مجزوءات ومختصرات صالحة للغناء حين استحدثت الحاجة إليه في الحواضر العربية التي عرفت الغناء على إيقاع الآلات، ثم اتخذت من هذه البحور أسماط وموشحات، وأهازيج تتعدد قوافيها مع اختلاف مواقعها، وتطول فيها الأشطر أو تقصر مع التزام قواعد الترديد فيها، واختار بعض الشعراء نظم المثاني أو المزدوجات وبعضهم نظم المقطوعات التي تجتمع في قصيد واحد متعدد القوافي، أو تتفرق وتتعدد بأوزانها مع توحيد الموضوع، ولما نقلت الإلياذة اليونانية إلى النظم العربي لم تضق بها أوزانه، ولم يظهر من سياق الترجمة أن هذه الأوزان قاصرة على التنويع فيها على نمط غير هذا النمط لمن يشاء التنويع، واستجابت الأوزان لمطالب المسرح كما استجابت للملحمة المترجمة، ولما يشبهها من القصائد التاريخية المطولة.

وقد أفرد الموسيقار العصري الأستاذ خليل اللاوردي فصلا وافيا في كتابه فلسفة الموسيقى الشرقية؛ لبحث التوزين والإيقاع وتطبيق العروض العربية على الضوابط الموسيقية، فانتهى من بحثه إلى إمكان التوزيع في الأوزان العروضية، واستطاعة الموسيقي والشاعر أن يفتتح أشكالا غير محدودة من أشكال الموازين، واعتمد في تجاربه على الجهاز الفني المسمى بالمترونوم، وهو «صندوق صغير من الخشب هرمي الشكل يفتح من إحدى جهاته الأربع، فينكشف عن قضيب معدني مقسم بخطوط، وعليه ثقل متنقل يحدث حركة متساوية ... فيقسم الدقيقة الواحدة من الزمن إلى نقرات بين أربعين ومائتين وثمان، فيمثل الحد الأدنى النقرات المتناهية في البطء، ويمثل الحد الأعلى النقرات المتناهية في السرعة ...» ولم يلجأ الموسيقار إلى وحدات للنغمات غير وحدات الفواصل والأوتاد، والأسباب التي يستخدمها العروضيون، ولم يجعل لها أقساما غير أقسامهم المعروفة، كالسبب الخفيف والسبب الثقيل، والوتد المقرون والوتد المفروق، والفاصلة الصغرى والفاصلة الكبرى، وإنما استخدم الضوابط الموسيقية لبحث الموضوع بمصطلحاتهم التي لا تحتاج إلى التخصص، أو التوسع في فنون الألحان.

فخلص من بحوثه الموسيقية والعروضية معا إلى نتيجة محققة خلاصتها - كما قال - أن أشكال الموازين الشعرية غير محدودة أو أن حدودها - على ما نرى - أشبه بحدود الكلمات، التي تتألف من الحروف الأبجدية على حين أن الحروف الأبجدية قلما تزيد على الثلاثين.

فإذا نظرنا إلى ما تم من أشكال العروض، وما يتأتى أن يتم منها مع التنويع والتوزين، ثبت لنا أنها قائمة على أساس صالح للبناء عليه، وتجديد الأنماط والأشكال فيه، على نحو يتسع لأغراض الشعر، ولا يلجئنا إلى نقض ذلك الأساس.

وهذا كله مع التسليم بداهة بالتفرقة بين الكلام المنثور، والكلام المنظوم في السهولة أو الصعوبة، فإن التسهيل المطلوب لفن من الفنون كائنا ما كان ينبغي أن ينتهي عند بقاء الفن فنا مقرر القواعد والمقاييس، وما جهل الناس قط أن الكلام أسهل من الغناء، وأن المشي أسهل من الرقص، وأن الحركة المرسلة أسهل من الحركة الرياضية، ولم يكن ذلك قط مسوغا للاستغناء بالكلام عن فن الغناء أو بالمشي عن فن الرقص، أو بتحريك الأعضاء بغير هدى عن أصول الحركة الرياضة، أو الحركة في ألعاب الفروسية ... فمهما يكن من تيسير الأوزان بالتنويع والتوفيق، فلا مناص في النهاية من التفرقة بينها وبين الكلام المرسل في سهولة الأداء، وإنما المطلوب أن تكون فنا سهلا، وليس المطلوب مجرد السهولة التي تخرجها من عداد الفنون.

ولا بد في هذا السياق من تفرقة أخرى هي التفرقة بين القواعد والقيود في كل فن من الفنون، فلا سبيل إلى الاستغناء عن القواعد في عمل له صفة فنية، ولا ضرر من الاستغناء عن القيود التي تعوق حرية الفن، ولا يتوقف عليها قوامه الذي يسلكه في عداد الفنون.

Shafi da ba'a sani ba