فاتحة عريقة
بدأت اللغة العربية تاريخها المعروف بخصائصها المميزة لها اليوم في عصر سابق للدعوة الإسلامية، يرده علماء المقارنة بين اللغات إلى القرن الرابع قبل الهجرة، ويرجع - فيما نعتقد - إلى عصر قبل ذلك؛ لأن المقابلة بينها وبين أخواتها السامية يدل على تطور لا يتم في بضعة أجيال، ولا بد له من أصل قديم يضارع أصول التطور في أقدم اللغات، ومنها السنكسريتية وغيرها من اللغات الهندية الجرمانية.
فلا بد من أجيال طويلة تمضي قبل أن ينتهي تطور اللغة إلى هذه التفرقة الدقيقة بين أحكام الإعراب، أو بين صيغ المشتقات، أو بين أوزان الجمع والمثنى وجموع الكثرة والقلة في الأوزان السماعية، ولا بد من فترة طويلة يتم بها تكوين حروف الجر والعطف وسائر الحروف التي تدخل في تركيب الجملة بمعانيها المختلفة، وتنفصل بلفظها من ألفاظ الأسماء والأفعال التي تولدت منها، وهي في بعض اللغات لم تنفصل عنها حتى اليوم.
ولكن هذه اللغة - على قدمها - تتجدد لها مزايا متعددة كلما تقدمت الدراسات الحديثة في العلوم اللسانية والصوتية، ويرجع الباحثون إلى خصائصها، فيكشفون جانب المزية فيها وجانب الرجحان منها على غيرها، بعد أن كان فريق منهم يحسبها شذوذا يدل على النقص أو يدل على جمود في التطور على سنة اللغات الشائعة بين لغات الحضارة الكبرى.
وقد فرقت هذه الدراسات الحديثة بين المزايا التي يتغنى بها أصحاب العصبيات القومية، فخرا بألسنتهم وطبائعهم وعقولهم على عادة جميع الأقوام، وبين المزايا العلمية التي تستند إلى خصائص النطق والتعبير المتفق عليها في العلوم اللسانية، ولا محاباة فيها لهذه اللغة أو لتلك على حسب علاقاتها الجنسية أو الدينية.
وهذه هي المزايا التي عنينا بدرسها في الفصول التالية، وقدمنا منها مزايا التعبير الشعري ومزايا التعبير على العموم؛ لأنها في مبدأ الأمر بحوث دعت إليها المناقشة في موضوع الشعر وتطوره، أو تطور قواعده وأوزانه، وناسبتها بحوث أخرى عن المزايا العلمية في لغتنا ترتبط بها، ويصح أن تكون مثالا للمزايا التي تثبت للغة على لسان الغرباء عنها، كما تثبت لها على لسان أبنائها الفخورين بمحاسنها وفضائلها.
قلنا في تقرير من تقارير لجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب: إن اللغة العربية وصفت قديما - وحديثا - بأنها لغة شعرية، ثم قلنا: إن الذين يصفونها بهذه الصفة يقصدون بها أنها لغة يكثر فيها الشعر والشعراء، وأنها لغة مقبولة في السمع يستريح إليها السامع، كما يستريح إلى النظم المرتل والكلم الموزون، كما يقصدون بها أنها لغة يتلاقى فيها تعبير الحقيقة، وتعبير المجاز على نحو لا يعهد له نظير في سائر اللغات.
ثم أشرنا إلى كلام الجاحظ عن انفراد اللغة العربية بالعروض، فعقبنا عليه بأنه كلام علم وحق، لا يبعث إليه مجرد الفخر بالعصبية؛ لأن الفخر كثيرا ما يزيد على تقدير الواقع ذهابا مع العاطفة ... أما الحقيقة هنا فهي أكبر من قول القائلين: إن اللغة العربية لغة شعرية لانفرادها بفن العروض المحكم أو جمال وقعها في الأسماع، فإنها لغة شاعرة ولا يكفي أن يقال عنها: إنها لغة شعر، أو لغة شعرية، وجملة الفرق بين الوصفين أن اللغة الشاعرة تصنع مادة الشعر وتماثله في قوامه وبنيانه؛ إذ كان قوامها الوزن والحركة، وليس لفن العروض ولا للفن الموسيقي كله قوام غيرها.
وفي الصفحات التالية تفصيل واسع لهذا المعنى، ننتقل بعده من مزايا اللغة في التعبير الشعري إلى مزاياها في التعبير على إطلاقه، ونستند في ذلك إلى الحجة التي يقول بها الباحث الغريب عن اللغة حين يبني بحثه على قواعد العلوم اللسانية، ويسرنا بعد ذلك أن نقول: إنها توافق ما ينادي به أبناء اللسان العربي حين يذهبون بالفخر إلى أقصى مداه.
في الصفحات التالية فصول عن اللغة الشاعرة، وعن اللغة المعبرة، وعن المقابلة بين فن العروض العربي وأمثاله من فنون اللغات الأخرى، وعن فلسفة الحياة كما تصورها لنا المأثورات الشعرية من عهد الجاهلية إلى ما بعد الإسلام، وعن الموافقة بين مقاييس النقد، ومقاييس التاريخ في الشعر القديم، ومعها فصول تناسبها وتجري في مجراها، نتحرى بها إبراز المزايا العلمية لهذه اللغة الشاعرة في إبان الحاجة إليها؛ لأن الحاجة إلى إبراز هذه المزايا تمس غاية المساس في زمن تعرضت فيه هذه اللغة - وحدها - بين لغات العالم لكل ما ينصب عليها من معاول الهدم، ويحيط بها من دسائس الراصدين لها؛ لأنها قوام فكرة وثقافة وعلاقة تاريخية؛ لا لأنها لغة كلام وكفى.
Shafi da ba'a sani ba