اللغة العربية في أوروبا
اعتناء الأوروبيين باذخار الكتب العربية
تعزيز البابوات للغة العربية
جهود ملوك فرنسا في جمع المخطوطات العربية
نشاط الإنكليز إلى تجهيز مكتباتهم بمخطوطات عربية
إتحاف السريان مكتبات الواتيكان وفلورنسا بمخطوطات شرقية
نقل المخطوطات من بلاد الشام إلى أوروبا
معارض المخطوطات النفيسة في مكتبات أوروبا
الإسكوريال في إسبانيا
المكتبة الأمبروزيانية في ميلانو
اللغة العربية في أوروبا
اعتناء الأوروبيين باذخار الكتب العربية
تعزيز البابوات للغة العربية
جهود ملوك فرنسا في جمع المخطوطات العربية
نشاط الإنكليز إلى تجهيز مكتباتهم بمخطوطات عربية
إتحاف السريان مكتبات الواتيكان وفلورنسا بمخطوطات شرقية
نقل المخطوطات من بلاد الشام إلى أوروبا
معارض المخطوطات النفيسة في مكتبات أوروبا
الإسكوريال في إسبانيا
المكتبة الأمبروزيانية في ميلانو
اللغة العربية في أوروبا
اللغة العربية في أوروبا
تأليف
فيليب دي طرازي
اللغة العربية في أوروبا
ثروتها ومكانتها
1
اعتناء الأوروبيين باذخار الكتب العربية
(1) ظهور اللغة العربية في أوروبا منذ القرون الوسطى
يرتقي عهد اهتمام الأوروبيين باللغة العربية إلى القرن العاشر للميلاد. فمن ذلك الحين أخذوا يحشدون في خزائنهم ما ألفه العرب في الطب والفلسفة والرياضيات والطبيعيات والكيمياء والنجامة والأدب واللغة. وجعلوا يترجمونها إلى لغاتهم، ولا سيما إلى اللغة اللاتينية التي كانت وما برحت لغة العلم عندهم. ثم ازداد هذا الاهتمام على أثر احتكاك الإفرنج بالشعوب الشرقية في أثناء الحروب الصليبية (1096-1291)، فكانوا يبتاعون ما تقع عليه عيونهم من المخطوطات الشرقية؛ لاعتبارهم إياها من الآثار القديمة الغريبة الشكل واللسان والمجهولة في بلادهم.
ومن الأدلة الراهنة على ذلك أن لويس التاسع ملك فرنسا (1226-1270م)، لما عاد من الحرب الصليبية نقل معه من مدينة دمياط مخطوطات عربية وقبطية، زين بها خزائن قصره، واحتذى حذوه كثيرون من أمراء الفرنسيس وأغنياء حجاجهم الذين رافقوا الملك في زيارته الأماكن المقدسة.
1
زد على ذلك أن علماء الاستشراق وقناصل دول الغرب، وتجار الإفرنج، الذين أموا البلاد الشرقية في آونة مختلفة استفادوا من جهل سكانها، وقلة اكتراثهم لذخائر الأجداد. فابتاعوا ما تيسر لهم من تلك الكنوز الكتابية، وأغنوا بها خزائن أوروبا ومتاحفها .
وخلاصة القول أن صرعى الكتب وعشاقها في الغرب أقاموا عملاء تسوقوا لهم المخطوطات بأثمان غالية من جميع أنحاء الشرق. على أن من أتيح له أن يتفقد دور الكتب الشهيرة في لندن وباريس وفينا ورومة والفاتيكان وفلورنسا وميلانو ومجريط (مدريد) وبرلين وليبسك ومونيخ ومنشن وبون وغوتنجن وغوطا وبلجكا وكوبنهاغن وأوبسالا وليننغراد ... إلخ، لا يتمالك من الإعجاب مما أفرغ الإفرنج من الجهود، وما أنفقوه من الأموال لاكتناز تلك الثروة العلمية التي لا يعادلها ثمن. (2) ترجمة كتب الفلسفة والطب العربية، وتدريسها في جامعات أوروبا
شاعت اللغة العربية في القرون الوسطى بين علماء أوروبا؛ لكثرة الأقوام المتكلمين بها؛ ولشهرة فلاسفة الإسلام بينهم كابن رشد وابن سينا وابن زهر والفارابي والرازي. فظلت تدرس فلسفتهم وطبهم في جامعات أوروبا حتى السنة 1650 للميلاد. وعثر داڨيك في مدرسة مونپليه على ترجمة القرآن في اللغة اللاتينية، بقلم الأخ دومينيك جرمان الصقلي، فنشرها في المجلة الآسيوية.
2
وفي السنة 1130م تأسست في طليطلة كلية لترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية برعاية الأسقف ريموند. وقام بعده جيرار دي كريمونا سنة 1170م، فترجم كتب الرازي والزهراوي وابن سينا. وما كان القرن الخامس عشر حتى بلغ عدد الجامعات في إسبانيا ست عشرة جامعة. فكانت قرطبة بمكتبتها العامرة موضوع إعجاب الأوروبيين. وألقت جامعة إشبيلية دروسها باللغة العربية.
ولم تكن صقلية وجنوب إيطاليا بأقل حظا من إسبانيا؛ ففي القرن الحادي عشر للميلاد تأسست جامعة ساليرنو التي سيطر عليها الفكر العربي مدة قرنين. وكان لقسطنطين الإفريقي اليد الطولى في إدارتها. ثم قامت جامعة پالرنو ومونپليه، وتلتها جامعات باريس وبولونيا وأكسفورد وبادوا وغيرها، وعنيت هذه الجامعات كلها بتدريس العلوم العربية، فأثارت في الغرب ثورة فكرية جديدة أنارت سبل أوروبا، وفتحت أمامها أبواب ثروة علمية استفادت منها فائدة عظمى.
3
ومن أعظم المستشرقين الذين تفانوا في نشر اللغة العربية، وتشويق أهل أوروبا إلى درسها كان «راموندلول»، الذي أدرك أوائل القرن الرابع عشر للميلاد. فهو أول من شعر بخطورة اللغة العربية في أوروبا فأحكم أصولها وعشق آدابها، بل هو أول من اجتهد في تدريسها، على رجاء أن تكون وسيلة قوية للتفاهم بين الشرق والغرب.
4 (3) حديث الرحالة ابن جبير عن العروبة في بلاط ملوك صقلية
بعد تقلص ملك العرب عن صقلية في القرن الحادي عشر للميلاد لبثت لغتهم شائعة فيها حتى في قصر الملك نفسه، فإن الملك روجه الثاني (1101-1154م)، وهو مثقف بثقافة العرب أطلق لهم الحرية في إقامة فروضهم الدينية وضمهم إلى بلاطه. واستدعى بعض العلماء من المسلمين كالشريف الإدريسي (1099-1164م)؛ ليستفيد من معارفهم المتنوعة.
5
وأضاف شارة محمد إلى شارة المسيح في ضرب نقوده. فنقش على إحدى صفحتيها «لا إله إلا الله محمد رسول الله». وبعد روجه قام الملك غليوم الأول (1154-1166م)، فتأثره واتخذ العربية لغة لأهل بلاطه.
6
ولما ارتحل ابن جبير إلى صقلية في عهد ملكها غليوم الثاني (1166-1189م) وصفه بقوله: «وشأن ملكهم هذا عجيب في حسن السيرة واستعمال المسلمين ... وهو كثير الثقة بالمسلمين، وساكن إليهم في أحواله والمهم من أشغاله، حتى إن الناظر في مطبخته رجل من المسلمين. وله جملة من العبيد السود المسلمين وعليهم قائد منهم ... وليس في ملوك النصارى أترف في الملك ولا أرفه منه، وهو يتشبه في الانغماس في نعيم الملك، وترتيب قوانينه ووضع أساليبه، وتقسيم مراتب رجاله وتفخيم أبهة الملك وإظهار زينته بالملوك المسلمين ... ومن عجيب شأن المتحدث به أنه يقرأ ويكتب بالعربية، وعلامته على ما أعلمنا به أحد خدمته المختصين به «الحمد لله حق حمده»، وكانت علامة أبيه «الحمد لله شكرا لأنعمه».
7
أما فردريك الثاني إمبراطور النمسا (1194-1250م)، فقد شمل بحمايته جامعة بولونيا الشهيرة في إيطاليا، فوهبها طائفة من المخطوطات باللغة العربية، ولا سيما كتب الطب. هكذا تسربت إلى منابر بولونيا فلسفة ابن رشد، كما تسربت قبل ذلك إلى منابر جامعة بادوا.
واحتذى فردريك الثاني المشار إليه بمثال ألفونس التاسع صاحب قشتالة (1158-1214م)، فجمع إليه المترجمين من العرب وفريقا من الإفرنج المثقفين بالعربية، فبلغ ما ترجموه 300 مجلد إلى اللغة اللاتينية لغة العالم ما عدا ما نقلوه إلى غيرها. وما مر القليل حتى أصبحت جزيرة صقلية في ذلك العصر معقل العربية المنيع، وغدا ملوكها يحسنون صلة العرب فقربوا علماءهم، وجمعوا في بلاطهم حلقة من شعرائهم، وجعلوا من العربية لغة الأدب العالي. وخلاصة القول أن ملوك صقلية وأمراءها كانوا عربا في ثقافتهم وحياتهم وطرق حكمهم ولباسهم وقصورهم ومعيشتهم وحفلاتهم.
8 (4) اندماج ألفاظ عربية في لغات الإفرنج وفي معاجمهم
لم يغمض ملوك الفرنسيس عن الاعتناء باللغة العربية، بل نهجوا في تعزيزها نهج ملوك إسبانيا وصقلية، فأنشأوا في باريس عاصمتهم مدرسا عاما؛ لتعليمها منذ أواسط القرن الثالث عشر للميلاد،
9
هكذا اندمجت في لغة الفرنسيس وفي سائر لغات أوروبا ألفاظ عربية كثيرة، ولا سيما في العلوم البحرية والطبية، وغير خاف أن الطب العربي كان أساس علم الطب عند الفرنسيس أخذوه مع كثير من ألفاظه، وأثبت المستشرق العلامة الأب هنري لامنس أن اللغة الفرنسية استعارت نحو 900 لفظة من اللغة العربية، واستعملتها وأدخلتها رسميا في معاجمها.
10
ونشر المستشرق فرنكل (1853-1909م) الألماني أستاذ أصل اللغات في كلية برسلو تآليف وبحوثا خطيرة، حدد فيها الكلمات العربية الدخيلة على اللغات الأوروبية،
11
وألف كذلك كتابا في الألفاظ التي اتخذها العرب من السريان، فدقق وعمق وحقق.
12 (5) انصراف علماء الاستشراق إلى نشر أهم الكتب العربية
ما اكتفى علماء الاستشراق في أوروبا بدرس اللغة العربية، واذخار كتبها، لكنهم انصرفوا منذ عهد اختراع الطباعة إلى طبع الشيء الكثير من تواريخ بلاد العرب وجغرافيتها وتراجم رجالها وأصول شعوبها. هكذا تيسر للأوروبيين أن ينشروا أهم تلك الكتب في مختلف العلوم العقلية والنقلية. ومن جملتها أول طبعة من القرآن باللغة العربية، نشرها بابا غانيني في مدينة البندقية. ثم نشر أندريا أريڨابن من مانتو أول طبعة للقرآن باللغة الإيطالية،
13
وما عتم أن طبع هذا المصحف في سائر لغات أوروبا كالإنكليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية والهولندية والروسية واليونانية واللاتينية والبوهيمية والمجرية والدنماركية والبولونية والقشتلانية والبرتغالية والروتانية والبلغارية والصربية والألبانية والأسوجية.
وفي السنة 1617 نشرت مطبعة ليدن بهولندا قصة يوسف البار من القرآن. وهو أول كتاب أبرزته المطابع مضبوطا بالشكل الكامل،
14
ونشرت مطبعة أكسفورد سنة 1743 السيرة النبوية من تاريخ أبي الفداء،
15
وقد ذهب بعض المؤرخين إلى أن ما طبع من مؤلفات أسلافنا في أوروبا وأميركا على يد المستشرقين من أهل تينك القارتين بلغ أضعاف أضعاف ما طبعوه بسائر لغات الشرق. ذلك كله يؤيد مبلغ عناية الإفرنج بلغتنا وحضارتنا وتاريخنا وعلومنا.
16
وأثبت الأب لويس شيخو في كتابه «أطرب الشعر وأطيب النثر» ما يلي:
17 «أن المطبوعات العربية وحدها التي تصدر في أنحاء أوروبا فضلا عن بقية اللغات السامية، تنيف كل عام على الألف والثلاثمائة بين التآليف الصغيرة والكبيرة الحجم ذات المواضيع المتوسطة والخطيرة، وذلك بلا مراء أقوى دليل يثبت ما في علماء الغرب من الكلف بنشر آثار لغتنا.»
تعزيز البابوات للغة العربية
(1) تضلع البابا سلوستر الثاني من لغة العرب وفلسفتهم
كان بابوات رومة في طليعة ملوك أوروبا بانصرافهم منذ القرون الوسطى إلى تعزيز اللغة العربية وتدريسها ونشرها، وقد سبق أحدهم البابا سلوستر الثاني (999-1003م) أنه قصد الأندلس طلبا للعلم، عندما كان راهبا باسم جربرت (Gerbert) ، وقد تخرج في مدارس إشبيلية وقرطبة، حيث أكب على تحصيل علوم العرب وأحكم فلسفتهم، وتعمق فيها ثم شخص إلى رومة ففاق أقرانه بعلمه، ولمع بينهم بمزاياه السامية. وما كاد يجلس على كرسي بطرس برومة حتى أمر بإنشاء مدرستين عربيتين: الأولى في إيطاليا مقر خلافته، والثانية في ريمس من أعمال فرنسا وطنه،
1
ومما يؤثر عنه أنه أبدل الأرقام الرومانية المستعملة حتى ذلك العهد بالأرقام العربية،
2
وأدخلها إلى أوروبا.
وقد أتى البابا سلوستر الثاني على ذكر «الصفر» العربي في رسالة وجهها إلى أوثون الثالث إمبراطور جرمانيا (983-1002م) قال: «إني أشبهك بالرقم الأخير من الأعداد البسيطة العشرة، وهو الذي يزداد قيمة بوضع أعداد أخرى عن يساره.» (2) تنشيط البابوات إلى اقتباس العربية
راح البابوات في القرون الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر يحببون إلى قصادهم وسفرائهم ورسلهم ورهبانهم تعلم اللغة العربية وتدريسها في المعاهد؛ ترويجا لخطتهم الكاثوليكية، فتيسر لهم بتلك الوسيلة أن يبعثوا وفودا من أهل الذكاء والحصافة ممن خلفوا لنا مذكرات يومية عن رحلاتهم في الاشتغال بين أمم الشرق.
ومن ذلك أن مجمع مدينة ڤينا المنعقد سنة 1311 برئاسة البابا إقليميس الخامس (1305-1314م)، قرر أن تؤسس دروس عربية وعبرية وسريانية في رومة على نفقة الحبر الأعظم، وفي باريس على نفقة ملك فرنسا. أما في أكسفورد وبولون وسلمنكة فعلى نفقة الرهبان، وكان يقصد بذاك تخريج وعاظ يطوفون الأمصار الشرقية؛ لتثقيف شعوبها ونشر الحضارة العربية بين ظهرانيهم. ومما يبرهن على أن اللغة العربية كانت تدرس في كلية باريس براءة للبابا يوحنا الثاني والعشرين (1316-1334م)، تاريخها سنة 1325 حتم فيها البابا على سفيره هنالك أن يراقب دروس اللغة المذكورة.
3
وأول من لبى نداء الحبر الأعظم رهبان مار فرنسيس، ثم رهبان مار عبد الأحد (الدومينيكيون)، فأنشأوا دروسا من هذا القبيل في أديارهم، وقد نبغ بينهم رهط من الأساتذة الذين درسوا دروسا استندوا في شروحها إلى مؤلفات مترجمة عن العربية، واستعانوا في ذلك بكتب ابن سينا والفارابي والغزالي. وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر فتحت الرهبنة اليسوعية مدرسة للغتين العربية والعبرية، تولى التعلم فيها يوحنا اليانو الشهير،
4
ومنذ ذلك العهد امتدت حركة علم المشرقيات إلى أغلب أنحاء أوروبا، وأخذت تنمو وتزداد بتعاقب الأيام، واعتبر كثير من العلماء والأدباء تعلم اللغة العربية من دواعي الافتخار.
5 (3) عصر البابا لاون العاشر وافتتاحه أول مطبعة عربية في العالم
دالت دولة الروم الشرقية بسقوط القسطنطينية عام 1453 بيد الأتراك، فهجرها الأدباء والعلماء والفنانون، ونزح معهم كثير من النصارى ميممين بلاد إيطاليا، حيث تمتعوا بالحرية والطمأنينة، وهبت حينذاك في أرجائها نهضة أدبية تجلت مظاهرها بترويج الدروس الشرقية. وكان للبابا لاون العاشر (1513-1521م) يد طولى في تلك النهضة الشريفة، حتى استحق أن يلقب عصره بعصر لاون العاشر. ومن مآثره الخالدة أنه احتفل في السنة 1514 بافتتاح أول مطبعة عربية، كان سلفه يوليوس الثاني (1503-1513) قد أسسها في مدينة فانو على ساحل بحر الأدرياتيك. (4) لاون العاشر والرحالة لاون الإفريقي
في السنة 1517 قبض القرصان في البحر الأبيض المتوسط قريبا من جزيرة جربا على ساحل تونس، على رحالة أندلسي يقال له: الحسن بن محمد أبو وزان الغرناطي، فاستأسروه وباعوه بيع الرقيق في بلاط البابا لاون العاشر. وما عتم أن أدرك البابا ذكاء الأسير، ووافر علمه فقربه إليه وأكرمه وعين له راتبا. ثم عرض عليه النصرانية فانضم إليها، ووقف البابا عرابا له في العماد وسماه باسمه «لاون» فعرف من ذلك الحين باسم «لاون الإفريقي».
وانتهز الرحالة الإفريقي فرصة إقامته في رومة، فتعلم اللغتين اللاتينية والإيطالية وألف فيهما. ودرس عليه اللغة العربية فريق من رجال الفاتيكان نذكر منهم الشاعر الشهير الكردينال أجيديو أنطونيني (1480-1532) أسقف فيتربو.
وقد كتب لاون الإفريقي أخبار رحلته باللغة العربية، حفظت نسختها الخطية في مكتبة فينشنسوبينلي، ولا يعرف الآن مكانها. غير أن مؤلفها ترجمها إلى اللغة الإيطالية باسم
Navigationi e Viaggi ، ثم ترجمت إلى اللاتينية ونشرت مرارا ونقلت عنها إلى الإنكليزية والفرنسية والهولندية وغيرها. ويقال إن لاون الإفريقي رجع بعد هذا إلى مراكش، وعاد قبل وفاته إلى دينه القديم.
6 (5) إنشاء البابوات مطبعة عربية في رومة
بعدما أسس البابوات جمعية انتشار الإيمان في رومة، فكروا أن ينشئوا مطبعة يضمونها إلى تلك الجمعية وينشرون فيها الكتب المفيدة. وقد أحرزت تلك المطبعة بهمتهم شهرة واسعة بين مطابع الغرب. وكان للغة العربية بينها الشأن الأول والنصيب الأوفر، وما عدا ما نشرته تلك المطبعة من الكتب بلغات أوروبا، فإنها أصدرت كتبا جمة باللغات العربية والسريانية والعبرية واليونانية والأرمنية والقبطية والحبشية والكرجية والهندية والفارسية والتركية والكردية، أضف إليها الروسية والسلاڨية. (6) بعثات بابوية إلى مشترى مخطوطات شرقية
سعى البابوات سعيا حثيثا في القرون الغابرة؛ ليحرزوا ما استطاعوا من المخطوطات ويغنوا مكتبة الفاتيكان. وأخذوا منذ القرن الخامس عشر خصوصا يواصلون تلك المساعي الطيبة، كالبابا سكستس الرابع (1471-1484)، وبيوس الرابع (1559-1565)، وبولس الخامس (1605-1621)، وأوربانس الثامن (1623-1644)، فجمعوا من الكنوز الأبية الشرقية كمية وافرة، وأنفقوا في اقتنائها أموالا طائلة وكابدوا في نقلها وتنظيمها وتنسيقها أسهارا متواصلة. هكذا اغتنت تلك المكتبة العظيمة، وارتاشت أحوالها بتآليف علماء الشرق على اختلاف أجناسهم وأديانهم ولغاتهم وبلدانهم.
7
ومن أشهر البابوات الذين بذلوا الجهود لتعزيز اللغة العربية إقليميس الحادي عشر (1700-1721)، فإنه وجه عام 1707 إلى الشرق عالما لبنانيا اسمه إلياس السمعاني ؛ لابتياع ما يعثر عليه من المخطوطات في لبنان وسوريا وفلسطين وأديار مصر. وفي السنة 1715 كلف الحبر الأعظم المشار إليه عالما آخر لبنانيا هو يوسف شمعون السمعاني أن يرتحل إلى المشرق، ويجمع ما تيسر من المخطوطات العربية والسريانية والقبطية والحبشية. فنهض السمعانيان كلاهما بمهمتيهما خير نهوض، وأغنيا المكتبة الواتيكانية بما توفقا إلى جمعه من التحف الكتابية.
وفي السنة 1719 وجه البابا إقليميس عينه كاهنا مارونيا قبرصي الأصل اسمه أندراوس إسكندر إلى مدينة الموصل؛ ليشتري مخطوطات عربية وسريانية تتعلق بالنساطرة. فظل هذا الكاهن النشيط شهرين كاملين ضيفا في بيت القس خدر الكلداني (1679-1755)، الذي بالغ في تكريم ضيفه، وسهل له جميع الوسائل للفوز بأمنيته وفقا لرغائب الحبر الروماني. وقد استخدمه البابوات أيضا في اقتناء مخطوطات شرقية من أطراف مصر والشام وما بين النهرين، فجمع منها أندراوس إسكندر جانبا كبيرا نقله إلى المكتبة الواتيكانية، ثم اشتغل مع السماعنة في طبع بعض تلك الكتب، وحلت وفاته نحو السنة 1740.
8
وانتهج خلفاء البابا إقليميس الحادي عشر آثار سلفهم في جمع المخطوطات الشرقية، على يد بعثات أوفدوها إلى سورية ولبنان وفلسطين ومصر والعراق، وما بين النهرين، حتى أقصى بلاد فارس والهند. وكان رسل البابا يطوفون مدن الشرق والغرب، ويشترون أندر المخطوطات فيدفعون ثمن بعضها ما يؤازي ثقله ذهبا.
9
وتبارى فريق كبير من الإكليرس الشرقي في إتحاف المكتبة الواتيكانية بمخطوطات قديمة نفيسة، نذكر منهم إبراهيم الحاقلاني الماروني († 1664)، الذي أهدى إلى تلك المكتبة 64مخطوطا نقلت إليها بعد وفاته.
10 (7) قدم المكتبة الواتيكانية وثروتها
صرف البابوات كل الهمم منذ العصور الخوالي في تجميع الكتب الشرقية والغربية من أنحاء المعمور، وتوفقوا إلى إحراز عدد وافر من الطرف القيمة والتحف الغالية والصكوك والوثائق العتيقة، وضموها بأجمعها إلى المكتبة الواتيكانية التي بلغ عمرها زهاء 1600 سنة،
11
وأصبحت تعد بكل حق شيخة المكتبات في أنحاء العالم كله، بل أغناها على الإطلاق بالمخطوطات القديمة.
12
ومع تمادي الزمان أصبح طول دهليز المكتبة الواتيكانية 327 مترا، تشتمل على مصاحف ثمينة مخطوطة باليد في اللغات اللاتينية واليونانية والسريانية والعربية والعبرية والفارسية والتركية وغيرها وغيرها. وفي جملتها رقوق مذهبة ومصورة وتآليف «ورجيل»، وتصانيف «كيكرون»، يرتقي عهد بعضها إلى القرن الخامس للميلاد. وبينها ما سطرته أيدي الأمراء والملوك والأحبار العظام وكبار العلماء.
13
ومن كنوز تلك المكتبة مجلدات نسخت بشتى الخطوط، وألوان الحبر، ووشحت صفحاتها بأشكال التصاوير والزخارف، ورصعت جلودها بالحجارة الكريمة. وبين أهمها «سفر الخليقة» مكتوب على رق غزال، وهو أقدم ما عرف من نوعه مزدانا بالتصاوير.
14
وبين طرائف المكتبة الواتيكانية سفر ثمين اكتشفه البحاثة باديوني، يوم كان ينقب في زواياها، وهذا السفر هو مجموعة كاملة لإنجيل مار يوحنا كتبت باللغة العربية في أوائل عهد المسيحية،
15
وكنا نود لو أن مكتشف هذا الأثر الفريد حدد عهد نسخته بالتقريب؛ لأننا لسنا نعرف كتابا عربيا نسخ بخط عربي في صدر التاريخ المسيحي. إنما ذلك لا يقلل من قيمة هذا الإنجيل الأثرية؛ لأنه يعتبر بلا ريب من أقدم المخطوطات العربية وأغلاها.
وغير خاف أن العرب المسلمين خلفوا كتابات كثيرة عن مصحف الإنجيل، وعن الآثار النصرانية في رومة. ومما رواه ياقوت الحموي نقلا عن كتاب أحمد بن محمد الهمذاني، المعروف بابن الفقيه ما يلي: «وفي رومة من الصلبان التي تخرج يوم الشعانين ثلاثون ألف صليب ذهب. ومن المصاحف الذهبية والفضية عشرة آلاف مصحف.»
16 (8) شغف رجالات البلاط البابوي بالكتب العربية
نسج على منوال البابوات رهط من الكرادلة، ورجال الواتيكان، وعززوا علم المشرقيات في محيطهم. نذكر منهم خصوصا الكردينال فردريك دي مديسيس في فلورنسا والكردينال برباريغو في پادوا. وكلاهما من رجالات القرن السادس عشر. واشتهر في الحقبة ذاتها أحد أساقفة إيطاليا أغوسطينو جوستنياني مطران نابيو في جزيرة كرسيكا، فإنه أولع ولعا مفرطا بالدروس الشرقية ولا سيما العربية والعبرية. ومما يؤثر عن هذا الأسقف أنه أنفق ثروته في اقتناء ما لا يحصى من المخطوطات الخطيرة في اللغات العربية والسريانية والعبرية واليونانية،
17
وفاق من تقدم ذكرهم الكردينال فردريك بورميو رئيس أساقفة ميلانو، فأسس المكتبة الأمبروسية سنة 1609 في كرسي أبرشيته، وجهزها بألوف المخطوطات العربية، كما سنثبت ذلك في فصل لاحق. وسنثبت في الفصل عينه فضل الأب أخيل راتي، الذي تولى إدارة المكتبة المذكورة 22 سنة، وأضاف إلى ثروتها العربية زهاء 6000 مخطوط، ولما ارتقى إلى السدة البابوية باسم بيوس الحادي عشر (1922-1939)، وجه عناية خصوصية نحو المكتبة الواتيكانية، فعززها بمصاحف عربية حمعها له من أنحاء الشرق الكردينال أغناطيوس جبرائيل تبوني بطريرك السريان الأنطاكي. ولشد ما كان ابتهاج الحبر الأعظم بتلك المخطوطات وإعجابه بمضامينها، فإنه قضى بضعة أيام يقلبها ويطالعها في غرفته قبل أن يضمها إلى سائر مخطوطات الواتيكان. (9) فضل آل مدسيس على اللغة العربية
لأسرة مدسيس النبيلة فضل جزيل على اللغة العربية، وعلى نشرها في ديار الغرب، وممن اشتهر بين أفرادها البابا لاون العاشر (1513-1521)، الذي نوهنا بذكره، ثم البابا إقليميس السابع (1523-1534)، فقد استنفذا جهودا مشكورة في إنشاء خزائن للمخطوطات الشرقية تعزيزا للمكتبة الواتيكانية.
18
وقام من أسرة مدسيس عينها الدوق فردينند الأول، فابتاع طائفة من المخطوطات الشرقية باسم الحبر الأعظم، ثم أنشأ على نفقته مطبعة معتبرة سماها «مطبعة آل مدسيس»، أدت خدما جلى للغة العربية بما نشرته من المؤلفات المفيدة، ومن أهم التصانيف التي نشرتها مطبعة آل مدسيس: كتاب «الأناجيل» الذي طبعته عام 1591 مزينا بتصاوير منقوشة على خشب. ونشرت في السنة 1592 «كتاب مبادئ اللغة العربية» وكتاب «الكافية» وكتاب «نزهة المشتاق في ذكر الأمصار والآفاق» للشريف الإدريسي، ونشرت في السنة 1593 «قانون ابن سينا»، وفي آخره «كتاب النجاة» وهو مختصر «الشفاء»، وطبعت في السنة 1595 كتاب «تحرير أصول أوقليذس» لنصير الدين الطوسي
19
وهلم جرا.
جهود ملوك فرنسا في جمع المخطوطات العربية
(1) الثروة العربية في مكتبة الأمة بباريس
لم يكن سعي ملوك فرنسا بأقل من مساعي بابوات رومة؛ لإحراز كنوز المخطوطات الشرقية، فإنهم أنشأوا لها فرعا في خزائن قصورهم ومكتبات عاصمتهم. ولتجهيز ذلك الفرع أوفدوا بعثات علمية إلى الأمصار العربية وغيرها في الحصول على تحف المخطوطات المكنوزة في المساجد والديورة والمدارس والكنائس. هكذا أصبحت «مكتبة الأمة» في باريس من أعظم مكتبات الدنيا وأهمها بندرة كتبها ووفرة مخطوطاتها؛ ففيها ألوف من فرائد المخطوطات والمطبوعات العربية الثمينة.
1
وقد تألفت عام 1787 جمعية من علماء المشرقيات في فرنسا لنشر المخطوطات الشرقية المحفوظة في مكتبة الأمة بباريس، وكانت باكورة أعمال رئيسها المستعرب دي غين
De Guines
ترجمة كتاب «مروج الذهب» للمسعودي إلى اللغة الفرنسية.
2 (2) مخطوطات الطبابة العربية في كلية الطب بباريس
أثبتنا في فصل سابق أن سجلات كلية الطب بباريس حوت عام 1395 للميلاد اثني عشر مجلدا، اشتملت على فهارس مؤلفات خطية لأطباء العرب. ولما كان لويس الحادي عشر ملك فرنسا (1461-1483) كثير القلق على صحته، أحب أن تكون كتب «الرازي» الطبية في خزانة قصره؛ لأنه كان شديد الثقة بطب العرب وذا اعتقاد راسخ بتفوقهم على غيرهم في تلك الصناعة. ولم يكن من كتب الرازي حينئذ إلا نسخة وحيدة في مكتبة كلية الطب المشار إليها، فاستعارها الملك بشرط أن يردها وفعل.
3 (3) تفويض ملك فرنسا إلى سفيره في المغرب الأقصى ابتياع مخطوطات عربية
اشتهر لويس الرابع عشر ملك فرنسا (1643-1715) بتعزيز اللغة العربية، إذ أنشأ منبرا خاصا لتعليمها في المدرسة الملكية. وأنفذ رسلا إلى مختلف البلدان يفتشون عن مخطوطات في تلك اللغة، وفي غيرها من اللغات الشرقية.
وأقدم ما سطره التاريخ عن البعثات الفرنسية العلمية إلى الأمصار العربية لهذا الهدف، أن الملك لويس الرابع عشر نفسه كلف سفيره دي مونسو
De Monceaux
أن يرتحل في مهمة خطيرة إلى المغرب الأقصى، فأوعز إليه بتاريخ 30 ك1 1667 أن ينقب تنقيبا دقيقا عن مخطوطات عربية وفارسية ويونانية وغيرها، ويبتاعها له. وصرح أن أحد كبار السياح شاهد في الشرق مؤلفات تيتليف وأبولونيوس وبرغاوس وديوفانت الإسكندري وغيرها مترجمة إلى اللسان العربي. وأردف الملك تصريحه بقوله: إن من تلك المخطوطات شيئا كثيرا في خزائن جامع القرويين بمدينة فاس. وفوض الملك إلى رسوله مسيو دي مونسو أن يشتري له 1700 قطعة من الجلود المراكشية
Maroquin
الكبيرة الحجم؛ لأنه يستطاع تجليد كتابين ضخمين بكل واحدة منها، وشرط عليه أن يكون لون ال 500 منها أخضر، ولون الباقي أرجوانيا.
4 (4) وثيقة بمشترى مخطوطات لحساب لويس الرابع عشر محفوظة في دير الشير بلبنان
اطلعنا في مكتبة دير الشير بلبنان على حاشية أثبتها أبو النصر بن أبي نوفل الخازن قنصل فرنسا في بيروت، في مخطوطة عنونها «وفيات الأعيان» لابن خلكان قال: «باسم الله الحي الأزلي وهو ثقتي ورجائي وإليه أنيب. لما كان في تاريخ سنة 1082ه / 1671م أرسل حضرة عالي الجناب الملك لويس عطا الله، سلطان فرنسا المعظم بين ملوك المسيحية إلى جميع بلدان الإسلام؛ لأجل عالم إفرنجي نمساوي من الحسكية اسمه (...)؛ لأجل مشترى كتب دواوين الشعراء وتواريخ، وفي علم النحو والهندسة والفلك والطب. ومن جميع الكتب التي تنوجد قاطبة بجميع الألسن العربي واليوناني والسرياني والتركي والعبراني. وكتب له بذلك دفتر عدة أسامي الكتب، ووصاه وأكد عليه من غير المكتوبين معه في الدفتر مهما وجد كتب يشتري بأي ثمن كان. وكتب له أوامر شريفة إلى جميع القناصل الفرنساوية الذين في جميع المملكات أن مهما احتاج وطلب منهم دراهم يعطوه ويعطيهم بها المرشال المذكور تمسكات. وتوجه من مدينة باريس وصل إلى قبرص اشتره (اشترى) مقدار ماية وثمانين كتاب. ومنها اتجه إلى الشام واشتره جانب كتب. ومنها توجه إلى بلاد مصر حتى يدور مدنها كلهم ويشتري منهم. وبعده بيعاود إلى دير طورسين وبيشتري. ومنها بيفوت إلى أسلان بول (اسطنبول)، وجميع المدن الذي في يد العثمنلية. ومنها بيفوت لبغداد وبلاد العجم. وهذه أسامي الكتب الذي مكتوبين معه في الدفتر المذكور. وأنا الفقير إلى الله - سبحانه وتعالى - أبا النصر بن نادر بن خازن بن إبرهيم بن سركيس الخازن لما قريت (قرأت) هذه الدفتر نصخت (نسخت) في هذا المجموع ...» (5) بعثة ثالثة وجهها لويس الرابع عشر إلى فاس للتنقيب عن مخطوطات عربية
في 3 حزيران 1682 كتب الملك لويس الرابع عشر إلى موسيو «سنت أمان» سفيره لدى سلطان المغرب الأقصى، أنه سمع بوجود كميات عظيمة من الكتب الخطية في فاس. ولأجل ذلك وفد إليه بعض أهل المعرفة والخبرة للاطلاع عليها والتثبت في مضامينها، وأوعز إليه أن يسهل مهمتهم طبقا للأوامر الملكية،
5
واقتفى فريق من الفرنسيس آثار ملكهم لويس الموما إليه في اقتناء الكتب العربية مطبوعة ومخطوطة.
نشاط الإنكليز إلى تجهيز مكتباتهم بمخطوطات عربية
(1) ابتياع المستر تاتام مخطوطات بما يعادل ثقلها ذهبا
نافست دولة بريطانيا العظمى بابوات رومة وملوك فرنسا في إرسال الوفود إلى الشرق لإحراز عتائق المخطوطات ونوادرها. واشتهرت خصوصا بعثة المستر تاتام الإنكليزية التي ابتاعت عام 1842 أثمن ما حوته أديار مصر من تلك العتائق النفيسة، وكان بينها 300 مخطوطة بنيف على رق غزال. ومنها ما ابتاعته البعثة المذكورة بما يعادل ثقله ذهبا كما ألمعنا إلى ذلك في بحثنا عن «مكتبات أديار مصر». (2) الثروة العربية في مكتبات إنكلترا وبدائع مجاميعها في المتحف البريطاني
احتذى المبشرون البروتستان الإنكليز حذو المبشرين الكاثوليك، فحصلوا عددا عظيما من المخطوطات المحفوظة لعهدنا هذا في أشهر مكتبات بلادهم، ومن تعهد مكتبات لندن وأكسفرد وكمبردج ومنشستر وبرمنغام وغيرها تجلى له صدق هذا القول. ولا غرابة في ذلك؛ لأن دار الكتب البريطانية (المتحف البريطاني) التي تأسست عام 1753 تعد آية الآيات بين رصيفاتها، بل موضوع إعجاب العلماء قاطبة، فإن مجموعة المخطوطات العربية فيها تحصى بالألوف، وهي تعتبر بعد مكتبات القاهرة والآستانة في الدرجة الأولى؛ لما احتوته خزائنها من بدائع المجاميع الخطية، وأغلاها ثمنا وأقدمها عهدا.
وغير خاف أن ارتفاع قبة هذه المكتبة يعادل ارتفاع قبة الپنثيون
في باريس. ويجلس تحت تلك القبة 600 مطالع بالراحة دون أن يزعج أحدهم الآخر.
1
إتحاف السريان مكتبات الواتيكان وفلورنسا بمخطوطات شرقية
(1) هدية الجاثليق يهب آلاها الثالث
مثلما اشتغل علماء الموارنة في نقل مخطوطات شرقية إلى مكتبات أوروبا، ولا سيما إلى رومة وباريس هكذا أتحف أيمة السريان تلك المكتبات بطائفة من المخطوطات جليلة وثمينة. وأقدم من رواه التاريخ من هذا القبيل هو الجاثليق يهب آلاها الثالث (1281-1317)، الذي سير إلى الحبر الروماني كتبا ثمينة، وهدايا نفيسة وتحفا لائقة.
1
وكان ذلك على يد العلامة السرياني صوما الشهير، الذي وجهه أرغون ملك التتر (1284-1290م) في وفد من أرباب الدين والدنيا إلى بابا رومة وملوك أوروبا لإبرام عهود الاتفاق معهم.
2 (2) هدية البطريرك أغناطيوس نعمة الله الأول
لما ارتحل البطريرك أغناطيوس نعمة الله الأول (1557-1590) إلى رومة على أثر تنزله عن السدة البطريركية عام 1576، حمل معه طائفة من المخطوطات القديمة، ثم سعى لاستحضار غيرها من بلاد المشرق، فنقل إليه المطران موسى والشماس عبد النور ما توفقا إلى جمعه من الذخائر الكتابية. فما كان من البطريرك نعمة الله إلا أن أهدى كل ما اجتمع لديه من المخطوطات إلى المكتبة الواتيكانية وإلى مكتبة فلورنسا.
ومما يؤثر عن البطريرك نعمة الله أنه ساعد البابا غويغوريوس الثالث عشر في تصحيح الحساب اليولي،
3
وقد تم استبدال هذا الحساب نهائيا في 15 تشرين الأول سنة 1582 بالحساب الغويغوري، الذي اعتمدته أغلب شعوب الأرض شرقا وغربا. (3) هدية أحبار السريان على يد ليونرد هابيل القاصد البابوي
في السنة 1583 أنفذ الباب غريغوريوس الثالث عشر إلى بلاد المشرق قاصدا رسوليا خبيرا باللغة العربية يسمى ليونرد هابيل. ولدى وصوله إلى حلب أخذ يفاوض أحبار الملة السريانية، وأعيانها في المهمة التي جاء لأجلها. وقد عرض عليهم حين ذاك أن يرسلوا شبانا إلى رومة ليتكملوا بالعلوم. وحثهم على انتقاء أفضل ما عندهم من الكتب العلمية والطقسية لأجل طبعها وتعميم فوائدها، فجمع على يدهم كمية من المخطوطات وعاد بها إلى رومة.
4 (4) هدية المطران طيمثاوس كرنوك والمطران أثناسيوس سفر والمفريان إسحق جبير
يؤثر عن المطران طيمثاوس كرنوك السرياني († 1724) أنه جمع عددا وافرا من المخطوطات المهمة، سريانية وعربية، واعتنى بنسخ كتب أخرى، ثم أهداها بأجمعها إلى المكتبة الواتيكانية.
5
وفي السنة 1753 بيع دير السريان الذي شيدوه قديما في أكمة أسكولينو برومة،
6
وكان يحتوي على خزانة مخطوطات عامرة، جمعها مؤسسه السيد أثناسيوس سفر العطار († 1728) في أثناء رحلاته إلى الأصقاع الأرمنية، والتركية، والفارسية، والهندية والأوروبية والأميركية.
7
ونسخ واستنسخ كتبا عربية وسريانية أهدى منها قسما إلى المكتبة الواتيكانية،
8
وأضاف إلى خزانة ديره المشار إليه ما وقفه العلامة المفريان باسيليوس إسحق جبير († 1721) من المخطوطات والمطبوعات. وقد ضمت تلك الكتب برمتها بعد بيع الدير إلى المكتبة الواتيكانية. (5) اشتغال أنطون طرازي في المكتبة الواتيكانية وهدية حفيده فيليب
ارتحل المقدسي أنطون طرازي (1789-1855) إلى رومة عام 1829، فكلفه البابا بيوس الثامن ببعض أشغال في المكتبة الواتيكانية. فقام أنطون بتلك المهمة خير قام لأنه كان ذاك اطلاع واسع في العلوم الشرقية، ومتضلعا من اللغات العربية والسريانية والإيطالية، واشتغل خصوصا بقسم المخطوطات، فصرح بمزايا كل منها ورتبها في أمكنتها ترتيبا علميا. ولأجل ذلك يقرأ في أحد سجلات المكتبة اسم أنطون طرازي بين رجال الفضل الذين حفظ هذا المعهد الكتابي ذكرا طيبا لخدمهم المشكورة.
9
وقد أتحف تلك المكتبة العامرة حفيده فيليب، واضع هذا التأليف بطائفة صالحة من المخطوطات والمطبوعات في أوقات مختلفة. (6) هدية الخورفسقفس يوسف داود الموصلي
بتاريخ 30 أيلول 1867 أنفذ الكردينال إسكندر برنابو رئيس مجمع نشر الإيمان في رومة رسالة إلى العلامة الخوري يوسف داود،
10
موعزا إليه أن يجمع كل ما يتيسر له جمعه، ويستنسخ ما يستحسن استنساخه من الكتب المخطوطة في شتى اللغات، فبذل الخوري يوسف وسعه في ذلك حتى حصل عددا وافرا من تلك الذخائر العلمية النادرة الوجود. وفي 13 حزيران 1869 ارتحل الخوري يوسف داود إلى رومة، ونقل معه صناديق عديدة مشحونة بالمخطوطات، وجعلها في مكتبة نشر الإيمان.
11
ولما حرر المطران إقليميس يوسف داود صك وصيته الأخيرة بتاريخ 12 ك1 سنة 1889، أوصى بطائفة معتبرة من مخطوطات مكتبته لخزانة كتب مدرسة نشر الإيمان المشار إليها؛ ذلك اعترافا بجميل هذه المدرسة التي أرضعته أفاويق المعارف. ويقال: إن جميع تلك المخطوطات أصبحت في حوزة المكتبة الواتيكانية في الوقت الحاضر. (7) هدير دير الشرفة
في السنة 1880 وافى إلى لبنان الأب أوغسطين شياسكا،
12
وتعهد مدرسة الشرفة البطريركية بلبنان ومكتبتها. ونقل منها إلى رومة كتبا نفيسة قديمة يرتقي عهد بعضها إلى القرنين الحادي عشر والرابع عشر.
13 (8) هدية الكردينال تبوني بطريرك السريان الأنطاكي
بعد ارتقاء البطريرك أغناطيوس جبرائيل الأول تبوني إلى السدة الأنطاكية عام 1929، ارتحل إلى عاصمة الكثلكة قياما بالفروض التقليدية، خليفة مار بطرس. فانتقى حينذاك أغلى ما كان في خزانته الخاصة من المخطوطات القديمة، وأهداها إلى البابا بيوس الحادي عشر (1922-1939)؛ لتضم إلى المكتبة الواتيكانيكة التي كان يديرها هذا البابا قبل انتخابه حبرا أعظم.
وعلى أثر توجيه الكرامة الكردينالية إلى البطريرك المشار إليه، جمع أيضا طائفة معتبرة من المخطوطات السريانية والعربية والفارسية والتركية، يناهز عددها ماية وخمسة عشر مخطوطا، بينها كتب منسوخة على رق الغزال يرتقي عهدها إلى القرن العاشر للميلاد. ولما سافر الكردينال البطريرك في السنة 1937 إلى عاصمة الكثلكة نقلها معه فأضيفت إلى هديته السابقة في المكتبة الواتيكانية. هكذا اغتنت تلك المكتبة الشهيرة بكنز جديد قدمته الكنيسة السريانية على يد بطريركها الكردينال لرأس الكنيسة الكاثوليكية.
14
وفي السنة التابعة ارتحل الكردينال البطريرك نفسه إلى رومة، وأتحف المكتبة الواتيكانية أيضا بطائفة من المخطوطات العتيقة، لا تقل اعتبارا وقيمة وعددا عن المخطوطات التي أهداها إليها سابقا.
15 (9) هدية قورلس جرجس دلال مطران الموصل
اقتفى آثار من نوهنا بذكرهم من مشاهير السريان متروبوليت الموصل السيد قورلس جرجس دلال؛ فإنه أتحف المكتبة الواتيكانية عام 1938 بعدد صالح من نفائس المخطوطات ونوادرها، نذكر منها: كتاب «الديدسقاليا»؛ أي تعليم الرسل مكتوبة على رق الغزال، ويرتقي عهدها إلى القرن الثامن للميلاد، ومما أهداه أيضا مطران الموصل إلى الخزانة الفاتيكانية إنجيل ضخم كتب في القرن الثالث عشر للميلاد يبلغ طوله 60 سنتيمترا، وهو مزدان بصور مستبدعة ملونة يزيد عددها على الخمسين صورة. ومما يلفت الأبصار أن جميع فصول الأناجيل، التي تقرأ في الأعياد الممتازة مدونة في هذا الكتاب الفريد بحروف ذهبية وملونة، وقد صرح العارفون بالمخطوطات القديمة أن لهذه التحف الكتابية قيمة أثرية كبرى فضلا عن قيمتها المادية. (10) هدية مار يوسف عمانوئيل الثاني بطريرك بابل
في السنة 1939 يمم رومة السيد يوسف عمانوئيل الثاني بطريرك بابل الكلداني؛ ليهنئ البابا بيوس الحادي عشر (1922-1939) بيوبيله الكهنوتي الذهبي، فاغتنم تلك الفرصة وأهدى إلى قداسة الحبر الروماني إنجيلا ثمينا مكتوبا على رق الغزال، سر به الحبر الأعظم سرورا جزيلا.
16
نقل المخطوطات من بلاد الشام إلى أوروبا
(1) تأسف العلامة محمد كرد علي على مخطوطات دمشق
للسيد محمد كرد علي بحث قيم في المخطوطات التي نقلت من الشام إلى أوروبا نورده بنصه قال:
1
من المصائب التي أصيبت بها الكتب أن بعض دول أوروبا - ومنها فرنسا وحكومات جرمانيا وبريطانيا العظمى وهولاندة وروسيا - أخذت تجمع منذ القرن السابع عشر كتبا تبتاعها من الشام بواسطة وكلائها وقناصلها والأساقفة والمبشرين من رجال الدين. وكان القوم ولا سيما بعض من اتسموا بشعار الدين ومن كان يرجع إليهم أمر المدارس والجوامع، بلغ بهم الجهل والزهد في الفضائل أن يفضلوا درهما على أنفس كتاب، فخانوا الأمانة واستحلوا بيع ما تحت أيديهم أو سرقة ما عند غيرهم، والتصرف فيه كأنه ملكهم.
حدثني الثقة أن أحد سماسرة الكتب في القرن الماضي كان يغشى منازل بعض أرباب العمائم في دمشق، ويختلف إلى متولي خزائن الكتب في المدارس والجوامع، فيبتاع منها ما طاب له من الكتب المخطوطة بأثمان زهيدة، وكان يبيعها على الأغلب، وأكثرها في غير علوم الفقه والحديث من قنصل بروسيا إذ ذاك بما يساوي ثمن ورقها أبيض. وبقي هذا سنين يبتاع الأسفار المخطوطة من أطراف الشام، فاجتمع له منها خزانة مهمة رحل بها إلى بلاده، فأخذتها حكومته منه وكافأته عليها، والغالب أن معظم الكتب العربية المحفوظة في خزانة الأمة في برلين هي من بلاد الشام. وفهرس هذه الخزانة من الكتب العربية فقط في عشرة مجلدات ضخمة ما عدا الملحق. وتكون فهارس الكتب العربية في خزائن الغرب اليوم خزانة برأسها. وإن بعيدا يحسن القيام على هذا التراث الوافر لأحرى به من قريب يبدده جزافا. وإن أمما عرفتنا أكثر مما عرفنا أنفسنا، حتى قال أحد علمائهم: إن العرب وضعوا من المصنفات ما لا يستطيع أحدنا أن يقرأه طول عمره، لجديرون بإرث الشرق في مادياته ومعنوياته، كما قلنا من فصل في مجلة المقتطف منذ أربع وعشرين سنة. نعم إن كتبا تترك للأرضة تعبث فيها، والعفن يعبث بجمال جسمها ورسمها، وتحرم النور ويعفي أثرها الغبار والأوساخ، ويحرم النظر فيها على من يحسن الاستفادة منها، أو تفضل عليها دريهمات معدودة، حرية بأن تكون في ملك من يستفيد منها ويفيد. (2) سماسرة الإفرنج والمخطوطات العربية
عرفنا فريقا من سماسرة الإفرنج الذين ابتاعوا كميات وافرة من مخطوطات بلاد الشام، وبعثوا بها إلى غلاة الكتب في أوروبا. نذكر منهم أدمون دوريفلو في صيدا وهنري داريكارير مدير فندق السياح ببيروت في عهد مضى. وكان هذا الأخير خبيرا بالخط الكوفي على اختلاف أشكاله يقرأه بسهولة وسرعة، كأمهر علماء الاستشراق.
وممن لم يزل في قيد الحياة من عشاق المخطوطات الشرقية وسماسرتها بين الإفرنج مسيو لپين
Lépine
الفرنسي النحلة، فقد اعتاد هذا الرحالة أن يختلف إلى الأمصار العربية عاما بعد عام؛ للتنقيب عن مخطوطات نفيسة ونادرة فيشتريها بأغلى الأسعار، ثم يعود بعد كل رحلة إلى بلاده حاملا ما لا يحصى من التحف الكتابية. (3) غليوم الثاني عاهل ألمانيا ومخطوطات الجامع الأموي
ثم أردف السيد محمد كرد علي قوله بقوله:
2 «ومن الخزائن المشهورة التي بعثرت في عهدنا، ولم نعرف متى جمعت هي خزانة صحن الجامع الأموي بدمشق. وكانت مملوءة برقوق نفيسة، ففتحت سنة 1317ه الموافقة للسنة 1899 ميلادية بأمر السلطان عبد الحميد الثاني؛ إجابة لمقترح الإمبراطور غليوم الثاني (1888-1941) الألماني،
3
فعثروا فيها على قطع من الرقوق كتبت فيها سور من القرآن الكريم بالخط الكوفي، ومنها قطع مهمة من مصاحف وربعات، وقطع من الأشعار المقدسة بالآرامية الفلسطينية، وكتابات دينية وأدبيات دينية، وقصص رهبانية ومزامير عربية مكتوبة بالحرف اليوناني، ومقاطيع شعرية لأوميرس، وكراريس وأوراق بالقبطية والكرجية والأرمنية في موضوعات دينية إلا قليلا. وجذاذات عبرانية وسامرية فيها نسخ من التوراة، وتقاويم أعياد السامريين، وصلوات وصكوك للبيع والأوقاف وعهود زواج. وبينها مقاطيع لاتينية وإفرنسية قديمة، وقصائد شعرية يرتقي عهدها إلى أيام الصليبين، ونسخ إنجيل برقوق، فأهدى السلطان معظمها لعاهل ألمانيا، ووزع قسم منها على بعض رجال الآستانة ورجال دمشق، واستخلصت بعض قطع منها حفظت الآن في دار الآثار في هذه المدينة. وأهمها تلك القطعة الكوفية المكتوبة على رق من ربعة شريفة، وقفها عبد المنعم بن أحمد سنة 298ه، وعلى الوجه الثاني نقش مذهب باسم واقفها. ورأى شيخنا الإمام طاهر الجزائري في تلك القبة جزءا مكتوبا عليه: أنه حبس على مشهد زين العابدين - صلوات الله عليه وعلى أبنائه الأيمة - سنة نيف وسبعين وأربعمائة.»
معارض المخطوطات النفيسة في مكتبات أوروبا
(1) معارض مكتبات باريس ولندن وبرلين وفينا
اعتاد الغربيون أن يقيموا حينا بعد آخر معارض عامة أو خاصة، يدبجونها بكل ما استنبطوه من الاختراعات، وما تفردوا به من الصناعات. فتفننوا في ذلك تفننا عجيبا حمل القريب والبعيد على ارتياد تلك المعارض، والتمتع بمشاهدة غرائبها، فأصبحت أقوى ذريعة لإنعاش بلدانهم وترويج أسواقهم ودر الخيرات الوافرة عليهم، وما عدا المعارض الصناعية والفنية، فإن الغربيين برزوا أيضا في إنشاء معارض رائعة، زينوها بما أحرزوه من الآثار النفيسة والكنوز الثمينة.
وإذا حصرنا البحث في معارض دور الكتب دون سواها، وجدنا بعضها يقام في مواسم خاصة أو في أيام محدودة حولا بعد حول. ورأينا البعض الآخر تفتح أبوابه لزيارة الخاص والعام في ساعات معدودة من كل يوم على مدار السنة. وقد يؤم تلك المعارض نظرا إلى خطورتها فريق من الملوك ورؤساء الحكومات وعلماء المشرقيات، فضلا عن رواد الآداب الرفيعة.
وليست المعارض المذكورة إلا وسيلة للتنافس بين الدول، فتعرض كل منها أبدع ما لديها من التحف الكتابية؛ لتباهي بها سائر زميلاتها، لأن الدولة الواحدة تملك مثلا من تلك الذخائر الغابرة ما لا يملكه غيرها.
أما أشهر دور الكتب التي تفرغت في أوروبا لإقامة مثل هذه المعارض، فهي: دار الكتب الأهلية في باريس، والمتحف البريطاني في لندن، ومكتبتا برلين وڨينا، والمكتبة الواتيكانية، وقد أتيح لنا أن شاهدنا معرضا طريفا أنشأته دار الكتب الأهلية في نيسان سنة 1925 بباريس، استعرضت فيه أفخر ما لديها من المخطوطات المدبجة بالزخارف والتصاوير في اللغات الشرقية، كالعربية والسريانية والعبرانية والفارسية والتركية والحبشية والقبطية. وجرى افتتاح ذلك المعرض رسميا برئاسة السيد غستون دومرغ رئيس الجمهورية الفرنسية. فانتدبتنا إدارة المكتبة لنشرح للرئيس المشار إليه ولأقطاب دولته محتويات المعرض، ومزايا مخطوطاته العربية، ونلخص لهم لمحة من تراجم مؤلفيها، فنهضنا بتلك الخدمة الأدبية محبورين مغتبطين.
وفي سادس آيار 1932 افتتح في باريس عينها معرض للكتب التي صنفها المحاربون القدماء، حضره السيد پول دومير رئيس الجمهورية الفرنسية، لكن رونق ذلك الاحتفال تشوه بمصرع الرئيس المشار إليه، إذ أطلق عليه الطبيب الروسي پول جورجولوف رصاص مسدسه، فأرداه قتيلا في باحة المعرض.
1
وأعظم معرض للمخطوطات الإسلامية أنشئ في المتحف البريطاني بلندن سنة 1934 بإدارة المستر تشستربيتي، فكان موضوع إعجاب الجميع لاحتوائه على رقوق نادرة، وخطوط غريبة الأشكال، ومصاحف كتبت في عصور مختلفة، ومصنفات ذات قيمة تاريخية، وشوهد بين تلك الكنوز مخطوطات اقتناها المتحف البريطاني بما يؤازي ثقلها ذهبا، ومما برهن على خطورة ذلك المعرض أن الملك جورج الخامس، والملكة ماري زوجته شرفاه بزيارتهما الملكية. (2) معرض المكتبة الواتيكانية
لا يخفى أن في المكتبة الواتيكانية برومة معرضا مدهشا، يشتمل على خرائد وفرائد لا قرين لها في سائر المكتبات الكبرى. ثم ضمت إليه أهم التحف التي أهديت عام 1887 إلى البابا لاون الثالث عشر في يوبيله الكهنوتي الذهبي. وقد زرناه مرتين عام 1900 وعام 1922، فلفت نظرنا كثير من ذخائره نذكر منها: كتاب «رتبة القداس» مرصع بالجواهر الغوالي، أهداه إلى البابا المشار إليه إمبراطور النمسا فرنسيس يوسف الأول (1848-1916)، ونسخة من التوراة مجلدة تجليدا فاخرا، وموشاة باللآلئ النادرة قدمها للبابا حاخام اليهود الأكبر في برلين. ومركع للصلاة مطعم بالحجارة الكريمة قدمته للحبر الأعظم أميرات مملكة إسبانيا وسيداتها النبيلات. (3) معرض يوبيل المجمع العلمي الروسي
في السنة 1925 احتفل المجمع العلمي الروسي باليوبيل القرني الثاني لتأسيسه، فكتب إلى صاحب هذا المقال رسائل بريدية وبرقية، يستدعيه رسميا إلى حضور المهرجانات العظيمة التي جرت لذلك في مدينتي ليننغراد وموسكو. وكان افتتاح تلك الحفلات الرائعة صباح سادس أيلول من السنة المذكورة. وقد بالغت حكومة روسيا في تكريم ضيوفها الوافدين إليها من أربعة أقطار المعمور، وكلهم من جلة العلماء وكبار حملة الأقلام. وانتهزت تلك الفرصة، فأنشأت معرضا للكتب القديمة ضم ما لا يحصى من المخطوطات العربية، وغير خاف أن مكتبات ليننغراد حافلة بنفائس الآثار، وفيها الشيء الكثير من تلك الذخائر القديمة، وأهم المخطوطات المذكورة محفوظ بكل حرص في ثلاث مكتبات، وهي: المكتبة العمومية، ومكتبة الكلية، ومكتبة المتحف الآسيوي،
2
وفي المكتبة العمومية المذكورة نسخة قديمة من رسائل بولس الرسول تحت رقم 327، كتبت عام 892 للميلاد على رق غزال. وهي من أقدم المخطوطات التي كتب عليها تاريخ نساختها.
3 (4) معارض مكتبات القسطنطينية والقاهرة وبيروت
كان للخليفة عبد الحميد الثاني السلطان العثماني (1876-1909) شغف عظيم بالمخطوطات القديمة الجميلة. حشد منها طائفة صالحة في خزائن «يلدز» قصره في الآستانة، وكان يتباهى بها أمام الملوك والعظماء، الذين يزورونه أكثر من تباهيه بما خلضفه السلاطين أسلافه من التحف والجواهر. وبعد خلعه يمم بيروت بعض أولاده وحفدائه وباعوا بها طرفا شتى التقطوها من بلاط السلطان الخليع، فاقتنى مؤلف هذا المقال أفخر ما استحضروه معهم من المخطوطات وأندرها.
على أن الشرقيين أخذوا بتوالي الأزمان يقلدون الغربيين في معارضهم الكتابية، وكان المجلي في هذا المضمار أولياء دار الكتب المصرية، فإنهم أفسحوا فيها بعض الخزائن لعرض أثمن ما لديهم من المصاحف والمخطوطات القديمة النادرة. وانتهج المتحف القبطي في القاهرة نهج دار الكتب المصرية، فخصص بالكتب القبطية النفيسة دائرة تلفت أنظار الزائرين بزخارف محتوياتها، وقدامة عهدها.
ولما جرى افتتاح دار الكتب اللبنانية رسميا في بيروت بتاريخ 7 حزيران 1937، رأى أمينها مؤلف هذا المقال أن يكون لها شأنها ومقامها بين زميلاتها المشار إليها. فأنشأ فيها معرضا ممتازا اشتمل على ما حوته خزائن تلك الدار، وما حوته خزائنه الخاصة من عتائق الرقوق، وبدائع المخطوطات، وروائع الخرائط والمصورات. وأصبح ذلك المعرض الكتابي أول معرض من نوعه في هذه الديار الشرقية.
الإسكوريال في إسبانيا
(1) دير الإسكوريال ومكتبته
الإسكوريال اسم لدير عظيم شيد سنة 1567 على بعد خمسين كيلومترا من مجريط،
1
بأمر الملك فيليب الثاني (1562-1584) وفيه دفن. وقد طالعنا وصفا لهذا الدير ومكتبته جديرا بالاعتبار بقلم السيد محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي العربي في دمشق قال:
2
وأهم ما يلفت النظر في هذا الدير دار كتبه، وفيها 45 ألفا من المجلدات حوت كثيرا من المخطوطات والنقوش والرسوم. ومنها الكتاب المقدس الذي كان يقرأ فيه بعض ملوك إسبانيا في القرون الوسطى وبعضها كتب باللاتينية، ومنها ما كتب بالإسبانيولية أو اليونانية، ومنها المزين بأجمل الرسوم، ومنها المذهب المكتوب على رق. ويهمنا من هذه المكتبة مجموعة الكتب العربية، وهي ألفا مجلد كانت السفن الإسبانية غنمتها من مركب لأحد ملوك مراكش المتأخرين. وكان في هذا الدير قبل القرن السابع عشر نحو ثلاثة آلاف مخطوط عربي، فالتهمتها النار في الحريق الذي نشب في الدير
3
مع ما التهمت من الكتب الأخرى. (2) مصدر مخطوطات الإسكوريال
روى السيد محمد كرد علي عن مصدر مخطوطات الإسكوريال قال :
4 «فليست الكتب العربية في خزانة الإسكوريال إسبانية المصدر كلها،
5
كما أكد لنا أحد علماء الإسبان - وصاحب البيت أدرى بالذي فيه - أخبرني أن الإسبان غنموا هذه الكتب من سفينة كانت لأحد سلاطين المغرب الأقصى،
6
فوقعت في أيدي الإسبان، وقال آخر: إن أصل هذه المجموعة كان لأحد سفراء إسبانيا لدى الباب العالي، ولما غادر الآستانة أهداها لمليكه، فوضعها هذا في الدير الذي كان ملكا له ولآله من بعده، والرواية الأولى أصح.» (3) وصف مكتبة الإسكوريال واحتراق قسم منها
طالعنا وصفا لهذه المكتبة في مجلة المجمع العلمي العربي في دمشق نورده بنصه:
7 «في دار كتب الإسكوريال في إسبانيا جملة قيمة من المخطوطات العربية، يبلغ عددها ألفي مجلد، جمع نواتها الملك فيليب الثاني من أنقاض المكتبة الأندلسية الإسلامية القديمة. ثم أضاف إليها الملك فيليب الثالث في القرن السابع عشر عددا عظيما من المخطوطات العربية، كانت تتألف منه خزانة كتب مولاي زيدان أحد السلاطين المراكشيين من السلالة السعدية. أما كيفية انتقال هذه الكتب من مراكش إلى إسبانيا، فجديرة بالذكر لما فيها من ذكرى وعبرة. «قال ليڨي بروڨنسال في مقدمة المجلد الثالث من هذه القائمة ما خلاصته: خرج على مولاي زيدان في عام 1612 أبو محلي، واستفحل أمره وقامت بينهما وقائع دامية دارت دائرتها على مولاي زيدان (1012-1037ه / 1603-1628م)، فاضطر في شهر مايس من السنة المذكورة مغادرة قصره مع حاشيته، والالتجاء إلى سافي
Safi ، وهو ثغر على الساحل المراكشي، على أن يذهب منه إلى السوس
Süs . فاستأجر من سافي مركبا بثلاثة آلاف دوق (36 ألف فرنك) إلى أغادير، وحمله جميع كنوزه وكتبه التي ورثها عن والده السلطان السعدي مولاي أبي العباس أحمد المنصور الذهبي، وعند وصوله إلى أغادير أبى الربان، واسمه جان فيليب كستلان أن يفرغ محمول المركب قبل أن يتقاضى الأجرة بتمامها. وإذ لم يتمكن مولاي زيدان من دفعها فورا غادر الربان ليلا ساحل أغادير إلى مرسيليا فارا بمركبه، وبما فيه من التحف والكنوز الثمينة. ولما بلغ ساله
Salé
التقى بثلاثة مراكب بقرصان إسبانيين، فاستولوا عليه وذهبوا به إلى إسبانيا غنيمة باردة. فأمر الملك فيليب الثالث أن توضع الكتب في الإسكوريال، وعددها نحو من 4000 مخطوط على ظهر الصفحة الأولى من كل منها عبارة تنص على ملكية السلاطين السعديين إياها، وفي 7 حزيران عام 1671 حدث حريق عظيم في الإسكوريال التهم قسما كبيرا من هذه الكتب، ولم ينج منها سوى ألفي مجلد، وهي الموجودة اليوم في تلك الخزانة التاريخية.» (4) تعاقب عالمين شرقيين في إدارة مكتبة الإسكوريال
ظلت مكتبة الإسكوريال مجهولة حتى منتصف القرن الثامن عشر، فدفعت الحمية عالما لبنانيا يدعى ميخائيل الغزيري إلى السعي لدى فردينند السادس (1746-1759) ملك إسبانيا لتنظيم تلك المكتبة، فأجابه العاهل بالرضى والاستحسان، واستدعاه إليه سنة 1748 للنهوض بالمهمة المشار إليها. وما مر على الغزيري ثمانية أعوام حتى خوله الملك لقب «أمين مكتبة الإسكوريال»، وكلفه أن يضع فهرسا شاملا لمخطوطاتها. ولما كان هذا المشروع يتطلب عناء جزيلا، وزمنا طويلا كتب ميخائيل الغزيري إلى صديقه بولس خضر اللبناني أن يوافيه من رومة ويساعده في تنظيم فهرس المكتبة فتعاونا كلاهما، ودونا أسماء المخطوطات العربية، ووصفاها وصفا دقيقا في مجلدين بقطع نصف. وقد صدر المجلدان ما بين سنتي 1760 و1770
8
بعنوان:
Bibliotheca Arabico-Hispana Escurialensis .
فكان لنشرهما فائدة عظمى لأبناء الضاد، ولبث ميخايئل الغزيري أمينا لمكتبة الإسكوريال من السنة 1756 إلى السنة 1791، وهي سنة وفاته. فخلفه في منصبه عالم شرقي آخر يدعى إلياس شدياق تلقى العلوم في مدرسة بروبغندا برومة، وكان من المقربين في البلاط الملكي. وتولى إلياس إدارة هذه المكتبة بأمر الملك كرلس الرابع (1788-1808) إلى أن حضرته المنية عام 1818. (5) فهارس المخطوطات العربية في الإسكوريال
لفهارس المخطوطات العربية في الإسكوريال وصف قام به المستشرق الفرنسي هرتفيك دي رنبورغ
Hartvig Dérenbourg (1844-1908) ابن المستشرق جوزيف دي رنبورغ (1811-1859). وقد نصب هرتفيك أستاذا للعربية الفصحى في مدرسة اللغات الشرقية بباريس، ثم سمي عضوا في المجمع العلمي الفرنسي، وكان مغرما كأبيه باللغة العربية تواقا إلى الوقوف على مخطوطاتها القديمة، فسأل وزارة المعارف العامة والفنون الجميلة بباريس أن ترخص له السفر تحت رعايتها لدرس المخطوطات المحفوظة في إسبانيا. فقصد أولا إلى مجريط (مدريد)، حيث اطلع فيها على مخطوطات خزائن المجمع العلمي التاريخي، ثم وجه اهتمامه إلى درس المخطوطات العربية في مكتبة الإسكوريال، وأنشأ لها فهرسا مدققا يقع في مجلدين نشر أولهما سنة 1884 في 525 صفحة ما عدا المقدمة التي استغرقت صفحاتها ثلاثا وأربعين. ونشر ثانيهما سنة 1903 في 108 صفحات، حيث انتهى بالمخطوط ذي الرقم 785 فقط. ثم فاجأ الموت هرتفيك دي رنبورغ فلم يتم عمله.
وفي عام 1924 عهد إلى ليڨي بروڨنسال مدير جامعة الدروس المراكشية العليا في متابعة عمل هرتفيك، وإتمام قائمة المخطوطات العربية في الإسكوريال على أن يستعين بمذكرات العالم المتوفى هرتفيك، وذلك بموافقة زوجته. فذهب ليڨي بروڨنسال إلى الإسكوريال وأقام فيه مدة طويلة. وفي عام 1928 أخرج المجلد الثالث وهو الأخير من هذه القائمة، وأوله مخطوط رقمه 1256، وآخره المخطوط 1633، وهي تتعلق بالعلوم الدينية والجغرافية والتاريخية. أما القسم الباقي من المجلد الثاني، وأوله المخطوط 785 إلى المخطوط 1255، ويختص بالطب والتاريخ والطبيعي والرياضيات والقضاء، فإنه لم ينشر بعد.
9 (6) تحف مكتبة الإسكوريال
اشتملت خزانة الإسكوريال على تحف كتابية لا أثر لها في سائر الخزائن شرقا وغربا. ففيها أشكال خطوط كوفية وقيروانية وأندلسية ومزركشة وغيرها، وفيها مصاحف مذهبة ومخطوطات مصورة أو مزخرفة بشتى الألوان. وفيها جلود نفيسة وقماطر مطرزة أو مطعمة بالميناء، وفيها أيضا مخطوطات جلدت بأديم الأفاعي، وذلك من أندر أنواع التجليد وأغربها. (7) إخفاء نفائس الإسكوريال في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية
لما نشبت الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1938) نقلت الحكومة من دير الإسكوريال إلى مجريط العاصمة جميع التحف الفنية، والكتب الخطية والآثار القديمة النفيسة؛ خوفا عليها من التلف الذي قد تتعرض له من جراء الحرائق والقنابل، ومن المعلوم أن عدة معارك طاحنة وقعت حول الإسكوريال، وهو على مسافة قريبة من العاصمة المشار إليها. ولما اشتد الهجوم على مجريط وتساقطت عليها القنابل من كل صوب نقلت تلك الذخائر الثمينة إلى بلنسية، ريثما تنتهي المعامع المشئومة ويعود الأمن إلى نصابه، فكان تصرف حكومة مجريط في صيانة تلك الآثار القيمة مدعاة إلى الثناء والطمأنينة.
10
المكتبة الأمبروزيانية في ميلانو
(1) وصف رتاج المكتبة
في مدينة ميلانو مكتبة عظيمة تأسست عام 1609 بهمة مطرانها الكردينال فردريك بوروميو. ومن جملة كنوزها مخطوطات عربية ثمينة نادرة يحسدها عليها أكبر متاحف الشرق، وأوسع مكتبات الغرب. وقد زارها أحد أدباء حلب فكتب عنها وصفا يجدر إثباته هنا؛ لبيان اعتناء أهل أوروبا بالحرص على تراث الأقدمين قال:
1 «تعد مكتبة الأمبروزيانا من أزهى المكتبات لدراسة الثقافة العربية في أوروبا، يدخل إلى هذه المكتبة من باب استكمل فيه فن الهندسة من روعة وهيبة وأناقة. وقد وضع بجانبي هذا الباب رمزان يحييان الزائر لدى دخوله، وينبئانه عن البيئة ومشتملاتها. فالرمز الأول عبارة عن نخلة من النحاس تذكر مناظر الشرق الفتانة الساحرة، وتدل على أن العادات العربية ما عتمت أن دخلت في هذه الربوع، وقد كتب باللغة العربية على هذه النخلة بحروف بارزة تسترعي اهتمام الزائر عبارة الترحيب المعروفة، وهي: «أهلا وسهلا»، وأما الرمز الثاني فهو عبارة عن أبيات شعرية للملك آخر يدوم الفارسي وهي:
الأيام صحائف الأعمال
فخلدوها بأحسن الأعمال (2) اهتمام الكردينال بوروميو بالمخطوطات العربية القديمة
يرجع عهد اهتمام مكتبة الأمبروزيانا بالمباحث الشرقية إلى القرن السادس عشر، وذلك عندما أخذ فردريك بوروميو يعنى بجمع خزائن الكتب العربية القديمة من الربوع الإسلامية الشاسعة الممتدة من بلاد فارس إلى آسيا الصغرى، ومن جزيرة العرب إلى مصر وطرابلس الغرب والجزائر والمغرب الأقصى. فبلغ عدد ما جمع من الكتب الإسلامية القيمة 1400 مجلد، يضم مصاحف قرآنية في غاية الأناقة كتبت في عصور الإسلام المختلفة وفي الأزمنة القريبة من عهد النبي، ومن جملة هذه الكتب القيمة تفسير البيضاوي، وهو من أهم المؤلفات الإسلامية. وقد كان السفير العثماني رفعت بك يقصد مكتبة الأمبروزيانا، حين زيارته إيطاليا ليرى ذلك الكتاب، وكان يقول إنه من أجمل وأندر الكتب، ومن بينها أيضا عدد لا يستهان به من الموضوعات القضائية على المذهب الزيدي وغيرها من أصول القضاء والفقه على المذهب الشافعي والمالكي والحنفي والحنبلي.
ومعظم هذه المؤلفات يكون مجموعة أدبية تشريعية للمذهب الزيدي، وهي التي تشتمل على قسم عظيم من مصنفات جنوبي الجزيرة العربية، أو بعبارة أخرى من المؤلفات اليمانية لأصحابها المشاهير، كالإمام القاسم والإمام أبي طالب والإمام علي بن حسين والغاني والكافي وابن حبيس الدواري والغزالي. فبين هذا المزيج من المؤلفات سجل طريف للمعاملات الجمركية اليومية في الحديدة في شهر الحج؛ كما توجد بين هذه المجموعة كتب عديدة في علم اللغة، وفي العقائد والأحكام التعبدية، ومن بينها مجموعة نفيسة من حكم أرسطوطاليس وأفلاطون ومائتان من أقوال منظومة لناظمها علي.
وإن ندرت هذه المجموعة من المؤلفات في علم الهيئة والفلك، غير أنها غنية في المؤلفات الطبية لأشهر أطباء العرب، كابن سينا والمارغني الميموني وغيرها لجالينوس وأبوقراط وأفلاطون الحكيم. على أن هذه المجموعة تحتوي على كتب قيمة وأصلية في الأدب، وفي جغرافية جزيرة العرب، وفي مباحث عن مناخ القسم الجنوبي منها، وعن أصل اشتقاق أسماء البلدان في البلاد اليمانية، وفي وصف العالم المعروف وقتئذ، ومن بينها كتاب نفيس جدا في تاريخ صنعاء عاصمة اليمن.
وأغنى ما في مجموعة مكتبة الأمبروزيانا من الكتب المطبوعة في عهد حداثة فن الطباعة، أو من المخطوطات هي الكتب التاريخية ودواوين الشعر، ومن بينها مؤلفات في تاريخ قبائل جزيرة العرب قبل الإسلام، وبعض أساطير يمانية عن الوثنية وكتب تبحث عن سيرة محمد. وعن مباحثات ومناظرات في الهيئات.
ومما يستحق الإشارة إليه من هذه المجموعة المؤلفات الفقهية والدينية. غير أن الكتب الأساسية التي تحويها هذه المجموعة هي الكتب النحوية والمباحث اللغوية، ومن بينها عدد كبير من المعاجم العربية التي استعان بها المستعرب الإيطالي الشهير أنطونيو جيجي. وهي من جهابذة مكتبة الأمبروزيانا وأول من ألف قاموسا عربيا في أوروبا، وذلك في مبادئ القرن السادس عشر، ويعد قاموسه هذا من أثمن المعاجم حتى اليوم. وقد أضيفت فيما بعد إلى مجموعة الكتب، التي جمعت على عهد بوروميو الآنف الذكر مؤلفات أخرى في الحساب، وفي علم التنجيم والأخلاق، ومن ضمنها مؤلفات نفيسة لابن سينا والبخاري. كما أنها كانت مشتملة على مجموعات قانونية مكتوبة على الورق بمداد لامع مختلف الألوان، وهي تعد من أندر وأنفس المصنفات، فكانت مجموعات القوانين هذه والمخطوطات العربية للقرن السادس عشر نواة صالحة لما وصلت إليه فيما بعد مكتبة الأمبروزيانا من توسيع نطاقها في المصنفات الإسلامية في مبادئ هذا العصر.
وهناك قسم ثان من مجموعات القوانين العربية جمعته مكتبة الأمبروزيانا في سنة 1909، وهو يؤلف مجموعة عظيمة من المخطوطات يبلغ عددها 1846 مخطوطا، كما يشتمل على سبعة آلاف مؤلف من أصل يمني وإسلامي محض. وبين هذه الكتب مؤلفات كثيرة في القرآن والسنة لأشهر المؤلفين كالبخاري والعسقلاني. كما أن بين تلك الكتب مؤلفات لا تقل قيمة عن الأولى في الإلهيات على ما يراه الإسماعيليون والزيديون من أهل الشيعة. ومؤلفات أخرى في المذهب الملكي، والمذهب البرهمي، وفي المذاهب اليهودية والإسلامية والمسيحية، ومناظرات أدبية في الدفاع عن الزيدية.
أما في دواوين الشعر فإننا نجد مؤلفات للشعراء القدماء، كامرئ القيس والبستي والبحتري والعريسي والمتنبي واليشكري. ومن شعراء اليمن المشهورين نجد العيزي، وجمال الدين والقاسم، وقدام بن قديم ناظم تلك القصيدة المشهورة، التي تعد مثالا صحيحا للشعر الوطني في جنوب الجزيرة من حيث القومية والديانة.
ومن بين المؤلفات المتنوعة التي لها صبغة من الثقافة العربية الساحرة، نجد قاموسا كبيرا للقهواري، وبعض مؤلفات ثانوية في البلاغة والعروض والنثر. وأما وجوه مجموعات القوانين فهي على قدر عظيم من النفاسة والقيمة الفنية، من حيث خطوطها القديمة المختلفة الأنواع من النسخي إلى العماني إلى المغربي الطرابلسي. فما عدا هاتين المجموعتين اللتين نوهنا بهما آنفا، واللتين يكونان القسم الأساسي لمكتبة الأمبروزيانا توجد مجموعات ثانوية أخرى من أصل كوفي أو شمالي إفريقي، ومجموع هذه الكتب كلها يكون ثروة عظيمة من الكتب العربية التي نفاخر بها الغرب». (3) مخطوطة أول كتاب فلكي نقل عن اليونانية إلى العربية
ألمع المستعرب الإيطالي «كرلو نلينو»، أستاذ التاريخ العربي والعلوم الفلكية في الجامعة المصرية إلى مخطوط فريد من نوعه محفوظ في المكتبة الأمبروزيانية. وينطوي هذا المخطوط على ترجمة كتاب «عرض مفتاح النجوم» المنسوب إلى هرمس الحكيم المصري، وموضوعه تحاويل سني العالم، وما فيها من الأحكام النجومية، وهو أول كتاب نقل من اليونانية إلى العربية بقطع النظر عن كتب الكيميا.
2 (4) ثروة المكتبة الأمبروزيانية ومشاهير مديريها
تعد مكتبة الأمبروزيانا في عهدنا من أغنى مكتبات أوروبا بوفرة مطبوعاتها النادرة، ومخطوطاتها القديمة البالغة خمسمائة ألف كتاب بنيف، ويعود الفضل في تعزيزها إلى مديرها الأب أنطون تشرياني († 1907)، وإلى خلفه الأب أخيل راتي الذي اشتغل فيها مدة اثنتين وعشرين سنة (1888-1910)، فسعى لتحصيل مخطوطات قديمة زادت في ثروتها العلمية وتحفها الفاخرة، واعتنى اعتناء خاصا بالمخطوطات الشرقية ولا سيما العربية، فاقتنى منها نحو ستة آلاف كتاب أتى بها بعض السياح من أنحاء اليمن، وهي التي وصفها المستعرب الشهير السنيور غريفيني.
3
وبعد هذا انتقل الأب راتي إلى المكتبة الواتيكانية، وتقلب في الرتب البيعية حتى استوى على عرش البابوية باسم بيوس الحادي عشر (1922-1939).
Shafi da ba'a sani ba