كذلك استبان للوركا في طفولته عالم خيالي يزخر بالأحداث والقصص والشخصيات الخرافية، نشأ من الحكايات والأساطير الشعبية التي كانت تقصها عليه مربيته وأقاربه وبعض صديقات الأسرة من العجائز، وقد استمد من هذا العالم مادة غزيرة انكب عليها عقله الصبياني يفحصها ويمحصها، حتى تركت في نفسه انطباعا لا يمحى ظهر بعد ذلك في جميع إنتاجه الفني والأدبي؛ إذ إن شاعرنا قد احتفظ بكل تفاصيل هذه القصص من حكايات واقعية إلى خرافات وأساطير، لتظهر بعد ذلك في ثنايا قصائده ومسرحياته، بل وأحيانا في رسومه، وكثيرا ما تبدو تلك الموضوعات على شكل صور تمثل نغمات غلابة تتردد في كتاباته المختلفة، إلى جوار الموضوعات التي تشبع بها كيانه منذ الطفولة، مثل حياة الغجر، ومسرح العرائس والأراجوز، والحرس المدني، وحياة النساء في الريف، فضلا عن المشاهد الطبيعية الريفية، وما يزخر به عالم الطبيعة من عوالم متنوعة من أزهار ونباتات وهوام وطيور وحيوانات وجداول وينابيع وأنهار وبحار، وما إلى ذلك.
كان من بين ما استمع إليه الطفل ما قصه عليه عمه يوما ما عن لصين من قطاع الطرق، لجآ إلى منزل عائلة العم في إحدى الليالي يطلبان ملاذا وطعاما، وعطفت العائلة عليهما فآوتهما في ركن من مخزن الغلال بعد أن زودتهما بالطعام والشراب، وفي منتصف الليل ، استيقظ الجميع على دقات متتالية على الأبواب، معلنة وصول قوات الحرس المدني، أي رجال الدرك والشرطة الإسبان، وظهر الحراس بقبعاتهم المثلثة الشهيرة، وقبضوا على لص من اللصين، بعد أن تبين أن الثاني قد مات في نومه من الجراح التي أصيب بها، وقال الحراس للعم: «وأنت أغلق فمك ولا تقل كلمة عما رأيت!»
وتساءل الصبي في ذعر: وماذا حدث للرجل؟ - لم نسمع سوى طلقة رصاص، وصرخة في الليل البهيم، ثم طلقة رصاص أخرى، ولا شيء بعد ذلك. - لقد قتلوه إذن، لقد قتلوه!
وقال الصبي هذه العبارة، فاغر الفم وعيناه تلمعان من فرط الانفعال.
وقد أبدع الشاعر بعد ذلك في تصوير جو الحرس المدني الإسباني في عدة قصائد مشهورة، معظمها في ديوانه «حكايا الغجر» ومنها قصيدة بعنوان حكاية الحرس المدني، يقول فيها:
الجياد سوداء
وسود حدواتها
وعلى العباءات
تلمع بقع من حبر وشمع،
جماجمهم من رصاص؛
Shafi da ba'a sani ba