استثمار هذه السنن والاستفادة منها
الأمر الرابع: أن نستثمر هذه السنن، وأن نستفيد منها ونحن نتطلع للتغيير في مجتمعاتنا، ونحن نسعى إلى عالم أفضل، فننطلق من خلال إدراكنا لهذه السنن.
إننا نقرأ في كتاب الله ﵎ ونقرأ في التاريخ عوامل نهضة الأمم وعوامل رقيها، فنحن إذًا حين نتطلع للنهضة والرقي علينا أن نسلك هذه العوامل، ونأخذ بهذه الأسباب، ونقرأ عوامل الانحطاط والانهيار وحلول العذاب والبوار.
ونحن إذ نحرص على حماية أنفسنا من عذاب الله ﵎ فيجدر بنا أن نجتنب هذه الأسباب، وأن نحذر بني قومنا منها.
أليس جديرًا بنا إذًا ونحن نتطلع للتغيير، ونحن نطلع للإصلاح، ونحن نسعى إلى التغيير في مجتمعات المسلمين أليس جدير بنا أن نتأمل هذه السنن، وأن نعيها، وأن ننزلها على واقعنا، وأن نسعى من خلال التعامل معها إلى التغيير في واقعنا ومجتمعاتنا؟ وهذا يضيف علينا عبئًا كبيرًا، وهذا يجعلنا ندرك أن المسئولية وأن واجب الإصلاح والتغيير لا يقف عند مجرد الجهود المرتجلة، وعند مجرد أعمال مبعثرة هنا وهناك، بل حركة الإصلاح والتغيير في مجتمعات المسلمين تحتاج إلى دراسة متأنية، وتحتاج إلى بحث عن سنن التغيير والسعي إليها.
ولهذا نقف في نهاية هذا الحديث حول سنة من هذه السنن بعد أن عرفنا من خلال هذا الاستعراض أهمية السنن الكونية: أهميتها في تفسير مجرى الأحداث، وأهميتها في التنبؤ بها، وأهميتها في توظيفها واستثمارها للرقي بالأمم، ولتجنب عوامل الانحطاط، يقول ﵎: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد:١١]، ويقول ﵎: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الأنفال:٥٣].
وقد أشار ﷺ في السنة النبوية إلى هذا المعنى، فيقول ﷺ: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًا لن يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)، ويقول ﷺ أيضًا: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت).
وقد سأل النبي ﷺ ربه ألا يهلك أمته بسنة بعامة، وسأل ربه ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعه الله ﵎ ذلك، قال: حتى يكون بعضهم يقتل بعضًا، ويسبي بعضًا.
ويقول ﷺ: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس إن أدركتموهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا ابتلاهم الله بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا)، فهذه سنة تفسر لنا ما نراه الآن في العالم المعاصر، وتبقى نذير خطر لأولئك الذين يسعون إلى إغراق مجتمعات المسلمين بالفساد والإباحية، (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم، وما نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالمؤنة وجور السلطان، وما منعوا زكاة أموالهم إلا حبسوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا).
إنها سنن كونية نراها الآن حاضرة في المجتمعات المعاصرة التي ابتلاها الله ﵎ بهذه العقوبات بما كسبت أنفسهم، إن هذا أيضًا مصداق لقوله ﵎: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد:١١]، وهو أيضًا مصداق لقوله ﵎: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران:١٦٥]، ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران:١٦٥]، ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى:٣٠]، وهو حديث يكثر في القرآن الكريم، بل إن قراءة قصص الأولين والغابرين في كتاب الله ﵎ تؤيد هذا المعنى وتشهد له، فالله ﵎ لم يكن مغيرًا نعمة أنعمها على قوم إلا وقد غيروا ما بأنفسهم، ولم يكن ﵎ مغيرًا سوءًا حل بقوم إلا وقد غيروا ما بأنفسهم.
9 / 12