Lessons from the Prophet's Mosque by Al-Uthaymeen
دروس الحرم المدني للعثيمين
Nau'ikan
إثبات الرؤية لله ﷾ يوم القيامة
وعلى هذا فيستفاد من هذه الآية الكريمة: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس:٢٦] أن أهل الجنة يرون الله ﷿ رؤية عينية، يرونه بأبصارهم كما قال النبي ﵊: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)، وقال في حديث آخر: (كما ترون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب)، وفي الحديث: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة) ولا ألذ ولا أنعم ولا أطيب من رؤية المؤمنين لله ﷿ في الجنة، أسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم لذلك.
وحينئذٍ نؤمن إيمانًا عقديًا جازمًا بأن المؤمنين يرون الله ﷿ يوم القيامة في الجنة بأبصارهم، كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته.
فإن قال قائل: أليس الله تعالى قال لموسى حين قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ [الأعراف:١٤٣]؟ بلى قال ذلك، ولكن موسى سأل الله الرؤية في الدنيا، والرؤية في الدنيا لا يمكن لأحد أن يرى الله ﷿ أبدًا؛ لأن الأبصار لا تتحمل ذلك، ولهذا ضرب الله له مثلًا فقال: ﴿انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ﴾ [الأعراف:١٤٣] الجبل كما نعلم جميعًا أصم ذو أحجار غليظة متينة: ﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ﴾ [الأعراف:١٤٣] وبقى على حاله فسوف تراني، ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾ [الأعراف:١٤٣] ماذا كان الجبل؟ ﴿جَعَلَهُ دَكًّا﴾ [الأعراف:١٤٣] انهد، وحينئذٍ: ﴿وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ [الأعراف:١٤٣] أغمي عليه؛ لأنه رأى أمرًا هائلًا لم تتحمله نفسه: ﴿فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ﴾ [الأعراف:١٤٣] أي: تنزيهًا أن يحيط بك أحدٌ وأنت أعظم من كل شيء، ﴿تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف:١٤٣] تبت إليك من أي شيء؟ وهل أذنب موسى حتى يقول: تبت إليك؟ لا.
هو سأل ما ليس له به علم، ولهذا لما قال نوح: ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾ [هود:٤٥] قال الله له: ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [هود:٤٦] ولهذا تاب موسى من هذا السؤال، والله المستعان! ومنا الآن طلاب علم إذا مروا بصفة من صفات الله جعلوا يمزقونها، ليس ينكروها، لكن يتنطعون ويتعمقون فيها، حتى أصبحوا ممثلين للرب ﷿ بالخلق، يبحث معك، يقول: إن لله أصابع، حقًا أن لله أصابع؟ وما هي الأصابع؟ يقول لك: كم الأصابع؟ له أظفار؟ له فواصل؟ وما أشبه ذلك، هذا حرام، مسائل الصفات آمِن بها على ما جاءت ولا تسأل، إن سألت هلكت.
وانظروا إلى الأئمة ﵏! قال رجل للإمام مالك: يا أبا عبد الله! ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥] كيف استوى؟ سائل يسأل: كيف الاستواء؟ وما سأل عن المعنى، لو قال: ما معنى استوى؟ أجيب، لكن: كيف استوى؟ وهل أنت مطالب بأن تسأل عن الكيفية؟ أبدًا، أطرق مالك ﵀ وهو في مسجد الرسول ﵊ برأسه حتى قام يتصبب عرقًا من ثقل السؤال على نفسه، ثم رفع رأسه وقال: يا هذا! الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
كلمات من نور -ما شاء الله- يوفق الله من يشاء، ويتفضل عليه بالكلمات التي تكون نبراسًا للمسلمين.
يروي بعض العلماء هذا الكلام فيقول: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
لكن اللفظ ما سقناه أولًا.
(الاستواء غير مجهول) وغير المجهول معناه معلوم.
(والكيف غير معقول) يعني: أننا لا ندركه بعقولنا، وكيف ندرك كيفية صفة من صفات الله بالعقل والله ﷿ يقول في الحس: ﴿لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام:١٠٣]؟ ولذلك فكل ما بالحس سهل، حتى أبلد من في العالم يدرك بالحس، فالذي لا يدرك بالحس، بمعنى: لا تدركه الأبصار لا تحيط به، لا يدرك بالعقل، بمعنى: أننا لا نعلم كيفيات صفاته أبدًا.
(والإيمان به واجب) الإيمان بالاستواء واجب؛ لأن الله تعالى أثبته لنفسه، وما أثبته لنفسه وجب علينا أن نسلم به وأن نثبته.
(والسؤال عنه بدعة) السؤال عن ماذا؟ عن الكيفية، لا عن المعنى؛ لأن المعنى يقول: غير مجهول، أي: معروف، لكن السؤال عن الكيفية بدعة، ولماذا كان بدعة؟ نقول: كان بدعة لوجهين: الوجه الأول: أن الصحابة لم يسألوا عنه الرسول ﷺ، ونحن نعلم أن الصحابة أحرص منا على معرفة الله ﷿، ويجيبهم من؟ الرسول ﵊ الذي هو أعلم الخلق بالله، فالسبب والمقتضي موجود، وانتفاء المانع موجود، ومع ذلك ما سألوا الرسول؛ لأنهم يعلمون أن عقولنا أقصر وأحقر من أن تدرك كيفية صفة الله، آمنوا بالاستواء ولم يسألوا عنه، وسبحان الله! الصحابة ﵃ لا يسألون عنه وأنت تأتي في آخر الزمان تسأل عنه؟! أأنت أعلم بالله منهم؟! أأنت أشد تعظيمًا لله منهم؟! أأنت أشد حبًا لله منهم؟! كلا.
الوجه الثاني: أن السؤال عن كيفية صفات الله من سمات أهل البدع وعلاماتهم، فأهل البدع هم الذين يسألون عن الكيفيات ليحرجوا المثبتين، وتعرفون أن في الصدر الأول من هذه الأمة ولا زال خلاف في صفات الله، انقسم الناس فيها إلى ستة أقسام ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ في آخر الفتوى الحموية، من شاء أن يرجع إليها فليرجع، لكن أهل البدع يأتون لأهل الإثبات فيقولون: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥] كيف استوى؟ ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة:٦٤] كيف اليدان؟ كيف البسط؟ لكي يتوقف الإنسان لأنه لا يعرف هذا، فيتوقف فيقال: إذًا ليس عندك علم، لست كفؤًا لأن تسأل عن صفات الله فيوقعونك في إحراج.
ولكن ذكر بعض أهل السنة كلامًا جيدًا جدًا ومفحمًا، قال: إذا قال لك الجهمي: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فكيف ينزل؟ فقل له: إن الله أخبرنا أنه ينزل ولم يخبرنا كيف ينزل.
سبحان الله! كلام مضبوط واضح: أخبرنا أنه ينزل ولم يخبرنا كيف ينزل، أخبرنا أن له يدين ولم يخبرنا كيف اليدان، أخبرنا أنه خلق آدم بيديه كما قال تعالى لإبليس: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص:٧٥] ولكن لو جاء إنسان يسأل: كيف خلقه بيدين؟ يجب علينا أن نقول: إن الله أخبرنا أنه خلقه بيده، ولم يخبرنا كيف خلقه، ولا كيف يده، وهذه أمور غيبية يجب علينا أن نقتصر فيها على ما جاء به النص، ولهذا أسلم طريقة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته هي طريقة السلف الصالح، الذين هم أهل السنة والجماعة، أما غيرهم من الطرق فإنها كلها فاسدة، لما يلزم فيها من اللوازم الباطلة لو لم يكن فيها إلا مخالفة ظاهر الكتاب والسنة ومخالفة الصحابة ﵃؛ لأن الصحابة مجمعون، على إثبات النصوص كما هي، فإذا قال قائل: ما دليلك على أنهم مجمعون على النصوص كما هي؟ قلنا: لأن القرآن نزل بلغة العرب، وأعرب العرب الصحابة، نزل القرآن بلغتهم، ولم يأت حرفٌ واحدٌ منهم يفسر القرآن بخلاف ظاهره فيما يتعلق بصفات الله، إذًا: فهم مجمعون عليها، ولا يحتاج أن نقول هذا النقل، ولعلنا توسعنا قليلًا ولا حرج إن شاء الله.
إذًا: نقول: إن الله ﷾ إذا فسر القرآن بشيء أخذنا به، وإذا فسره الرسول بشيء أخذنا به، وإذا فسره علماء الصحابة بشيء أخذنا به، وإذا فسره أئمة التابعين الذين تلقوا علم التفسير عن الصحابة أخذنا به، وما عدا ذلك فليس بحجة.
1 / 5