Lessons from Sheikh Abdul Rahman Al-Mahmoud
دروس للشيخ عبد الرحمن المحمود
Nau'ikan
يقظة الصحابة ﵃
إن الإيمان الذي به عزة المؤمنين هو الإيمان الذي يوقظ صاحبه إذا وقع في الذنوب والخطايا، وليس المؤمن هو الذي لا يخطئ أبدًا، وإنما المؤمن هو الذي إذا وقع في الذنب تذكر أن له ربًا يغفر الذنوب فتوجه إلى الغفور الرحيم، المؤمن هو الذي إذا وقع في المعصية لم ييأس ولم يستهوه الشيطان، ولكنه يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويتوجه إلى ربه ﵎.
ولقد كانت يقظة الصحابة عظيمة، فهذا أحدهم -وهو ثابت بن قيس بن شماس ﵁ وأرضاه- كان رجلًا جهوري الصوت، فإذا تكلم بين يدي النبي ﷺ صار صوته مرتفعًا، فلما نزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ﴾ [الحجرات:٢] وسمع بهذه الآية جلس في بيته حزينًا، فسأل عنه النبي ﷺ فقيل: يا رسول الله! إنه في بيته جالس، وإنه يقول: أنا من أهل النار، وقد حبط عملي لأنني أرفع صوتي على صوت النبي ﷺ.
فقال النبي ﷺ: (مروه فليأت إليَّ، إنه من أهل الجنة).
إذًا رفع الصوت على النبي ﷺ هو بالاعتراض على حكمه وسنته ومنهجه، كما يفعل اليوم كثير من الناس، بل وكثير من المسلمين يرفعون أصواتهم فوق النبي ﷺ، فيريدون حكم الجاهلية وأنظمة الجاهلية وقوانين الجاهلية وفتات وحقارات الجاهلية، ويضربون بحديث وشرع رسول الله ﷺ عرض الحائط، وهذا هو رفع الصوت على الرسول ﷺ.
فلما سمع هذا الصحابي الجليل فرح واستبشر، فلما كانت وقعة اليمامة في قتال المرتدين لبس كفنه، وقاتل ﵁ وأرضاه حتى قتل.
أما تيقظ هذا الإيمان فهاك قصة أخرى لأحد الصحابة أيضًا، فإن رسول الله ﷺ لما تحزبت عليه الأحزاب في المدينة من وثنية قريش ووثنية غطفان، فساروا إلى النبي ﷺ يريدون أن يسحقوا المسلمين في المدينة المنورة، وكانوا عشرة آلاف: أربعة آلاف من قريش وستة آلاف من غطفان ومن حولها، وحاصروا المدينة، وحفر النبي ﷺ وأصحابه الخندق كما هو معروف.
ولكن هل هذا هو العدو وحده؟
الجواب
لا.
فقد كان في داخل المدينة عدوان جسيمان للمسلمين: أما أحدهما.
فيهود بني قريظة الذي كانوا داخل حصون المدينة، فنقضوا العهد، وتمالئوا مع المشركين على القضاء على المسلمين.
أما العدو الثاني فالمنافقون داخل صف المسلمين، وقد كانوا يريدون أن يؤخروا حفر الرسول ﷺ للخندق، وكانوا يريدون أن تأتي الجيوش الجرارة قبل أن يكتمل حفر الخندق، يريدون بذلك أن يهجم الأحزاب على المسلمين قبل أن يكتمل خط دفاعهم الأول، ولكن قال تعالى: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ [الأحزاب:٢٥]، فكانت العاقبة للمؤمنين، حيث أنزل الله ريحًا وجنودًا على الكفار أكفأت قدورهم، وقلعت خيامهم، وولوا مدبرين، وبعد ذلك ذهب الرسول ﷺ إلى الخونة من اليهود في بني قريظة يريد أن يقتص منهم، فتحصنوا بحصونهم، وقالوا: أرسل لنا رجلًا.
فأرسل لهم أحد الصحابة، فلما دخل عليهم هذا الصحابي الجليل -وهو أبو لبابة - استقبله اليهود داخل الحصن بالنساء والأطفال وهم يبكون بكاءً شديدًا، يريدون أن يسترحموه، وصاروا يفاوضونه ويقولون له: ماذا ترى: هل ننزل على حكم محمد ﷺ؟ فهذا الصحابي الجليل ﵁ وأرضاه لما سألوه: هل ننزل على حكم محمد؟ قال لهم: نعم.
وأشار بيده إلى حلقه، يعني: نعم.
إنه الذبح.
ولم تنته هذه الحركة منه ﵁ وأرضاه حتى شعر بندم شديد على أنه فضح سر رسول الله ﷺ، وأنه أعطاهم النصح قائلًا: إن نزلتم على محمد فسيكون حكمكم الذبح.
فكيف يرجع هذا الصحابي الجليل إلى رسول الله ﷺ يخبره عن نتيجة المفاوضات وقد وقع فيما وقع فيه؟ فما استطاع، فماذا فعل؟ نزل حزينًا كئيبًا شاعرًا بذنبه، حتى أتى إلى المسجد وربط نفسه بسارية من سواري المسجد، وقال: والله لأبقين هكذا حتى يفك قيدي رسول الله ﷺ.
سجن نفسه في سارية المسجد، وكان بعض أهله يأتيه إذا حضرت الصلاة فيفك قيده ثم يصلي، ثم يرجع ويربط نفسه بالقيد، حتى بقي على ذلك سبع عشرة ليلة.
هذا هو إيمان العزة، قال ﷾: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف:٢٠١]، وأنزل الله توبته، وأنزل الله على رسوله ﷺ -كما ورد في بعض الآثار- قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:١٠٢]، وبشر ﵁ وأرضاه بالتوبة، وجاء رسول الله ﷺ وفك قيده.
هذا هو الإيمان الذي يجعل العبد يستيقظ.
هذا الإيمان هو الذي دفع بذلك الشاب الذي كان على عهد النبي ﷺ في إحدى أماكن القبائل فسمع بالإسلام، فعزم على أن يذهب إلى الرسول ﷺ ليقابله، فلم يطعم طعامًا ولم يشرب شرابًا، وإنما كان يركض لهفًا حتى إنه كان إذا جاع أخذ من الشجر وأكل منه حتى تجرح شدقاه ﵁، فأقبل بين مكة والمدينة وإذا بالنبي ﷺ مع أصحابه ذاهب إلى مكة للحج، فلما لقيهم هذا الشاب قالوا له: أين تريد؟ قال: ذاهب إلى المدينة أريد محمدًا ﷺ.
فقالوا له: هذا هو رسول الله.
فأقبل هذا الشاب لهفًا على رسول الله ﷺ، وقال: يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، بماذا تأمرني؟ ما الإسلام؟ فقال النبي ﷺ: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)، فأخذ العلم من رسول الله ﷺ وانطلق، وما كاد ينطلق حتى عثرت دابته بجحور اليرابيع، فلما عثرت سقط فدقت رقبته فمات.
فقال النبي ﷺ لما أخبر بذلك: (ائتوني به) فأخذ النبي ﷺ ينظر إليه ويعرض، ثم قال ﷺ: (دونكم أخاكم فغسلوه وكفنوه)، فلما غسلوه وكفنوه وصاروا يحفرون قبره، أمرهم باللحد، وقال: (اللحد لنا والشق لغيرنا).
فقال النبي ﷺ: (أتدرون لما أعرضت عنه؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: لقد رأيت الملائكة تطعمه بثمر من ثمر الجنة لأنه مات جائعًا) ﵁ وأرضاه.
هذا هو الإيمان، وليس إيمان الترف والاستكانة التي يعيشها الناس اليوم، بل إيمان العزة والكرامة، والثقة والنصر بالله ﷾.
ففي أحاديث النبي ﷺ، وفي أحواله، وفي أحوال أصحابه قصص عظيمة للعبرة، ولكن عمر ﵁ وأرضاه أعطانا نموذجًا لذلك لما جاء ليفتح بيت المقدس، فإنه جاء على جمل يعتقبه هو وصاحبه، وخاض المفازة، فقال له أبو عبيدة: (لو أنك جئت إليهم راكبًا؟) فقال عمر ﵁ وأرضاه كلمة مشهورة يجب أن نقف عندها دائمًا، قال: (إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فإذا طلبنا العزة بغيره أذلنا الله).
10 / 8