Lessons by Sheikh Yasser Burhami
دروس للشيخ ياسر برهامي
Nau'ikan
إبراهيم ﵇ والدعوة إلى الله
إن إبراهيم ﵇ أمة وحده، اجتهد وجاهد في الدعوة إلى الله، دعا أباه وقومه إلى طريق النجاة بتوحيد رب الأرض والسماوات، خالطهم وصبر على أذاهم، ثم اعتزلهم وجفاهم بعد أن قذفوه في النار، فنجاه العزيز القهار، ولما تبين له أن باه عدو لله تبرأ منه، فإبراهيم أسوة حسنة لكل من جاء بعده لاسيما الدعاة إلى الله.
1 / 1
جهود إبراهيم ﵇ في دعوة أبيه إلى الله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﵌.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فيقول الله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾ [مريم:٤١ - ٥٠].
فإذا اتخذت إلى الله ﷾ سبيل الأنبياء والدعوة إلى الله ﷿، فلا بد وأن تكون سائرًا بطريقتهم وعلى منهاجهم، ومستعدًا لعدم قبول دعوتك؛ فإن القلوب لا يملكها إلا الله، فهذا الخليل إبراهيم ﵇ استعمل أرفع الأساليب، واستعمل الحجج العقلية، والمؤثرات الوجدانية التي تربط بين الابن وأبيه، وأحسن الأدب مع أبيه، وترفق به أعظم ترفق، وترقق له وأحسن إليه، وأبوه آزر يصد عن ذلك كله، وقلبه مغلق لم ينفتح لأي حجة عقلية، كما في قوله: ﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ [مريم:٤٢].
ولا لوجدانية عاطفية لما قال له: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ [مريم:٤٥]، يذكره برحمة الله، ويخوفه من عقاب الله، يرجيه ويخوفه ومع ذلك لا يتذكر، يخوفه من عاقبة طاعته للشيطان وعبادته له، وألا يقترب منه فيكون له وليًا، وبذلك يشقى الشقاء الذي لا سعادة معه ولا بعده أبدًا.
إن القلوب بيد الله ﷾ يقلبها كيف يشاء، كما قال النبي ﷺ: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فأيما قلب يريد أن يقيمه أقامه، وأيما قلب يريد أن يزيغه أزاغه).
فليس بالضرورة أن تظهر ثمرة الدعوة في استجابة المدعو مباشرة، ولا حتى بعد حين، ولو كان حتى من الأقربين، فالنور الذي عند إبراهيم ﵇ يكفي لهداية البشرية، وقد امتد نوره عبر الزمان والمكان، وانتشرت دعوة التوحيد التي جعلها الله ﷿ منسوبة إليه، ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل:١٢٣] ومع ذلك لم يصل هذا النور إلى قلب أبيه، ولله ﷾ الحكمة البالغة في ذلك، وكم من حكمة بالغة في عدم إيمان أبي إبراهيم؛ وذلك ليعلم العباد أن الله ﷿ يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
1 / 2
قطع إبراهيم لعلاقات الولاء مع أبيه
القلوب بيد الله ﷾ يصرفها كيف يشاء، وأنه لا ينفع نسب ما لم يكن عمل، (فمن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، كما قال النبي ﷺ، وكما قال: (ألا إن آل فلان ليسوا بأوليائي إن وليي الله والملائكة وصالح المؤمنين).
وكذلك لتتحقق عقيدة الولاء والبراء اعتقادًا وعملًا وسلوكًا في موقف إبراهيم ﵇ من البراءة من أبيه في الدنيا والآخرة، كما قال ﷿: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة:١١٤].
وفي الآخرة يتبرأ منه أيضًا كما ثبت في صحيح مسلم (أن إبراهيم يلقى أباه آزر فيقول: يا أبت ألم أكن أنهك؟ فقال: يا بني إني لا أعصيك اليوم، فيقول إبراهيم: يا رب! إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، وأي خزي أخزى من أب أبعد، فيقول الله ﷿: يا إبراهيم إني حرمتها على الكافرين -أي: حرم الجنة على الكافرين- فينظر إليه فإذا هو ذيخ متلطخ -أي: فإذا هو قد مسخ ضبعًا متلطخًا بعذرته- فيؤخذ بقوائمه الأربع فيلقى في جهنم)، فيتبرأ إبراهيم ﵇ من أبيه في الآخرة كما تبرأ منه في الدنيا، ولقد جعل الله ﷿ صورة أبيه المعذب في صورة ضبع متلطخ بنجاسته حتى لا يتأذى إبراهيم بصورة أبيه الذي يعرفه وهو يعذب في النار، نسأل الله العافية.
فالله ﷿ أعلم بالمهتدين، ولقد قدر الله ﷿ أن يوجد في أسر كثير من الأنبياء من لا يؤمن، حتى تتحقق هذه القضية وغيرها من الحكم، فقضى ﷾ بحكمته ألا يؤمن ابن نوح رغم أنواع الدعوة التي استعملها معه نوح ﵇ من الترفق له والدعوة باللين، والتذكير بالبنوة التي تربطه به، وتذكيره بالآخرة، ورؤيته للآيات الباهرة المعجزة الحسية الظاهرة، بالإضافة إلى الأدلة العقلية القاهرة لعقل أي مشرك معاند، ومع ذلك ما آمن ابن نوح وهو أحد أعمام هذه البشرية التي توجد الآن على ظهر الأرض؛ ومع ذلك فالكل يتبرأ منه، بل نوح ﵇ استغفر ربه من سؤاله عنه.
وقدر الله ﷿ أيضًا وجود امرأة نوح وامرأة لوط في أسرتين من أسر أنبياء الله ﷿، وقدر ﷾ ألا يؤمن أبو لهب وأبو طالب عما النبي ﷺ.
وقدر الله ﷿ أن يكون كثير من أقارب أهل الإيمان من الكافرين؛ لتنفصل الروابط الدنيوية وتبقى رابطة الدين، فإن الله سبحانه ما أذن لهم حتى في الاستغفار لذويهم، قال ﷿: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة:١١٣ - ١١٤]، وانفصلت وانقطعت وزالت روابط الأسرة الواحدة وبقي الإحسان.
هذه الروابط التي تنفصل هي روابط المودة والموالاة، وهذه إنما تكون على الدين وطاعة الله واتباع أمره، وأما إذا لم يكن هناك هذا الدين الواحد الذي افترض الله على الخلق جميعًا أن يتبعوه؛ فلا بد من العداوة والبغضاء.
قال ﷿: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة:٤].
1 / 3
تهديدات الكافرين للدعاة إلى الله
قال ﷾: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ﴾ [مريم:٤٦]، بعد أن أعرض عن كل الحجج، بل صار منكرًا على إبراهيم ﵇، اندفع يستنكر عليه: كيف يرغب عن آلهته التي يصنعها، وكان فيما يذكرون ينحت هذه الأصنام لقومه والعياذ بالله.
فإبراهيم كان راغبًا عن الآلهة التي تعبد من دون الله، والرغبة في الله لا تحصل إلا بالرغبة عن آلهة المشركين، وتوحيد الله ﷿ لا يحصل إلا بالكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه، كما قال ﷿: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:٢٥٦]، فلا يبنى الإسلام إلا على أنقاض الجاهلية والشرك، فلا بد أن تهدم هذه الجاهلية وهذه العقائد الفاسدة في النفوس كما تهدم في الواقع؛ ذلك أنه لا تتحقق دعوة التوحيد في قلب إنسان وهو يقر بعبادة غير الله.
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ [الزخرف:٢٦ - ٢٧]، وليس ولوده على ملة أخرى بمقتضٍ لصحة منهجه طالما كان يعتقد صحته كما يقول الزنادقة والمنافقون الذين يصححون مللًا غير ملة الإسلام، ويرونها حقًا كما أن الإسلام حق، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، يقول الله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران:١٩]، ويقول: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران:٨٥].
فهم أبو إبراهيم وأيقن أن إبراهيم راغب عن آلهته، فصار يتوعده ويتهدده: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ﴾ [مريم:٤٦].
قيل: لأشتمنك، وقيل: لأرجمنك بالحجارة، وهو أقرب إلى ظاهر اللفظ؛ ذلك أنه كان يؤذيه بالكلام، فالظاهر أنه كان يريد أن يزيد على تلك الأذية بالفعل، قال: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ﴾ [مريم:٤٦]، كما قالها قوم نوح ﵇ لنوح ﵇ حتى يترك الدعوة إلى الله ﷿، وكما يقولها كثير من الآباء والأقارب وأهل القوم والوطن والجيران والمعاملين لمن يدعو إلى الله ﷿: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ﴾ [مريم:٤٦] ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ [الشعراء:١١٦]، وقالها قوم لوط: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ﴾ [الشعراء:١٦٧]، وقالها قوم شعيب لشعيب ﵇: ﴿لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ [إبراهيم:١٣]، وقالتها الأقوام لرسلهم، فدائمًا كانوا يهددونهم بالإخراج من الأرض، وغير ذلك من أنواع التهديد، وقالها فرعون لموسى حين قال له: ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ [الشعراء:٢٩]، فلابد أن يتوقع الداعي إلى الله ﷾ أنواع التهديد إذا استمر في طريق الدعوة، ولكن هذا لا يثنيه ولو فعلوا ما فعلوا؛ فإنه صاحب رسالة يؤديها، وهو متبع للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ويدعو إلى الله ﷾ بكل ما استطاع، وبكل ما أمكنه، ولا يؤثر فيه هذا التخويف؛ لأنه يركز فكره في يوم القيامة، ويخاف وعيد الله ﷿ أكثر مما يخاف وعيد الناس.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ [إبراهيم:١٣ - ١٤].
فهذا التهديد والوعيد لا يوقف الداعي إلى الله ﷾، وإن كان استعماله لوسائل الدعوة ولانتقائه للشخص والمكان قد يختلف، فقد يعرض عن قوم وينشغل بغيرهم، ويرحل عن بلد فيتجه إلى بلد أخرى، كما هاجر إبراهيم ﵇ وذهب إلى ربه، فأبدله الله ﷾ خيرًا من قومه، قال تعالى: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات:٩٩].
واعتزلهم بعد حين بعد أن بلغ دعوة الحق، وهكذا هاجر رسول الله ﷺ من مكة إلى المدينة، وتولى عنهم فما هو بملوم، كما أمره الله فقال: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ﴾ [الذاريات:٥٤].
فمن أعرض عن ذكر الله ﷾، وأصر على الإعراض، وذكر مرة بعد أخرى، فلينشغل الداعي إلى الله ﷿ بغيره، وليبحث عن مكان آخر ينشر فيه دعوته إلى الله، إن عجز أن يقيمها وأن ينشرها في مكان ما.
قال: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ [مريم:٤٦] أي: اهجرني طويلًا طالما بقيت على ذلك.
1 / 4
التلطف في الدعوة مع المدعوين
أوذي إبراهيم باللسان مع التهديد بالأذى بالفعل، ولم يكن من إبراهيم ﵇ رد عليه، وهكذا يوطن الداعية نفسه أن لا ينتصر لنفسه ﴿قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ﴾ [مريم:٤٧]، ليس هذا من باب التحية ولكن من باب مقابلة الإساءة بالإحسان.
أي: ستسلم مني وأنت مني في سلام، وليس معنى ذلك: التحية ولا أنه قصد التحية التي لا يشرع أن يبدأ بها الكافر، كما قال النبي ﷺ: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام).
وكان النبي ﷺ إذا راسل ملوك الكفار لم يبدأهم بتحية، وإنما يقول: سلام على من اتبع الهدى، وليست هذه بتحية لهم لأنهم ليسوا ممن اتبع الهدى، لأن التحية إكرام والكافر ينبغي أن يهان، بمعنى: ألا يعظم ولا يبجل ولا يوصف بالأوصاف التي فيها الثناء والتعظيم والمدح، وإنما يبين حقارة مذهبه، وبطلان طريقته، ولا يكون له التبجيل والتوقير، وإنما ذلك لأهل الإيمان؛ فلا يبدأ الكافر بالتحية، وإن بدأ هو بالتحية ردت عليه كما شرع الله ﷿: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء:٨٦]، قال النبي ﷺ: (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم).
أما أن يبدأهم بالتحية فلا، ولذا لم يكن هذا من باب التحية من إبراهيم، وإنما معنى الكلام جملة يخبر فيها إبراهيم أن أباه سيسلم منه، فلن يرد الأذى بأذى، ولن يرد الكلمة السيئة بكلمة مثلها، ولن يرد التهديد بالتهديد.
وهكذا لا بد أن تفهم أيها الداعي إلى الله ﷿ طريقك في الدعوة إلى الله، قال تعالى: ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت:٣٤ - ٣٥].
فهذه منزلة لا يلقاها ولا يوفق لها إلا ذو حظ عظيم، وهي أن يقابل الإساءة بالإحسان، وكما قال ربنا ﷾: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون:٩٦]، حتى يشرع الله ﷿ الانتصار لدينه، ويمكن المؤمن من القيام بالحق الذي أمر الله ﷿ به بالقوة التي شرعها الله ﷾، فعند ذلك ينتصر لله لا لنفسه، وأما قبل ذلك فإنه يشرع الصبر والاحتساب، يشرع أن يصبر وأن يقابل الإساءة بالإحسان، وأن يقول لمن أساءوا إليه: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين، كما قال ﷿ عن مؤمني أهل الكتاب: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ [القصص:٥٥]، وقال سبحانه: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾ [الفرقان:٦٣].
فينبغي لك أيها المسلم أن تعامل الناس بذلك، وهذا من أعظم ما يكسبك قبول دعوتك الحق؛ بالسلوك الطيب في الناس، فإنك إذا واجهت كل إساءة لك بإساءة مثلها، وعاقبت دائمًا بمثل ما عوقبت به لم يكن لك فضل على الناس، ولم يكن لك فيهم قبول مثل قبول من صبر واحتسب، ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [الشورى:٤٣].
وقال لقمان لابنه وهو يعظه: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [لقمان:١٧].
فالله عزم على عباده المؤمنين في ذلك، وأكد عليهم، وأمرهم ﷾ بالصبر والعفو والصفح، وجعل لهم في الأنبياء الأسوة الحسنة حتى يقتدوا بهم؛ في ألا يقابلوا الإساءة بالإساءة، ولكن يعفو ويصفح.
ووصف النبي ﷺ في الكتب المتقدمة: (ولا يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح).
ولقد كان النبي ﷺ هكذا حتى مع الكفرة قبل أن يسلموا، يعفو ويصفح ﷺ عنهم، فكيف بالمسلم، وكان ذلك من أسباب إسلام كثير منهم؛ فقد قال ﷺ لمشركي مكة وقد تمكن منهم، وهم الذي قاتلوه وجرحوه، وقتلوا أصحابه، وقتلوا أولياء الله ﷿ وخيرة أهل الأرض، ومع ذلك فلما تمكن منهم قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وقال ﵌: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين).
وكان من أسباب إسلام ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة: أن النبي ﷺ أحسن إليه، ومن عليه حين أسرته خيل المسلمين، وربطه النبي ﷺ في المسجد ثلاثة أيام متتابعة، (فقال: ما عندك يا ثمامة؟!) فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن تسأل المال تعط منه ما شئت، فيتركه النبي ﷺ ثلاثة أيام متتالية، ثم بعد ذلك يقول: (أطلقوا ثمامة)، فيطلق ثمامة وقد تحول وتغير وصار إنسانًا آخر، فينطلق وهو سيد قومه، ومن حقه أن ينصرف إلى ما كان يريد، وإلى وجهته، فينطلق إلى أقرب بئر في حديقة، فيغتسل ويرجع، فيشهد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ﷺ في مسجد رسول الله ﷺ، ويقول: والله يا رسول الله ما كان من وجه أبغض إلي من وجهك، وقد أصبح أحب الوجوه إلي، وما كان من دين أبغض إلي من دينك، وقد أصبح أحب الدين إلي، وما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، وقد أصبح أحب البلاد إلي.
فانظر كيف يثمر الإحسان، وكيف يثمر العفو والصفح عن الناس، وكيف تثمر هذه المعاملة الحسنة الطيبة في أن تقد القلوب إلى الإيمان بفضل الله ﷿، ويتأكد ذلك تأكيدًا شديدًا مع الوالدين، وذلك أنه لا يشرع في الإنكار على الوالدين التغليظ والتعنيف؛ فإن الله ﷿ قال: ﴿فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء:٢٣]، وهذا عام، ولذلك خصص العلماء به أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقالوا: لا يتجاوز مع الوالدين إلى درجة التعنيف والتغليظ، بل لا يزال في الدرجة الأولى من التعريف والنصح، والتخويف بالله ﷾.
وقال ﷾: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان:١٥]، فلم يجعل ﷾ الكفر سببًا لنسخ الأمر بالإحسان بل الأمر بالإحسان للوالدين باق ومستمر حتى مع كفر الوالدين فضلًا عن فسقهما؛ فليعلم كل ابن وبنت وجوب بر الوالدين على الدوام، ووجوب الإحسان إليهما حتى ولو كانا كافرين أو فاسقين، أو أمرا بمنكر؛ فإنك لا تستجيب لهما طاعة لله ﷿ وتعظيمًا لأمره، ولكن في نفس الوقت لا تسيء المعاملة بل تحسن إليهما ﴿فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء:٢٣ - ٢٤].
1 / 5
حكم الاستغفار للمشركين
قال الله تعالى: ﴿قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ [مريم:٤٧]، فلم يجابه السيئة بالسيئة بل بالحسنة، وزاد أنه استغفر له، ويجوز الاستغفار للكافر طالما كان حيًا، وذلك أن الله إنما يغفر له بأن يهديه، ولذا قال إبراهيم: سأستغفر لك، وظل يستغفر له إلى أن مات على الكفر، كما قال ربنا سبحانه: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ﴾ [التوبة:١١٤] أي: بأن مات كافرًا؛ ﴿تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة:١١٤].
فهذا ليس فيه الأسوة في الاستغفار للمشركين؛ لأن قول إبراهيم لأبيه كان عن موعدة وعدها إياه، وكان في فترة حياته، فكان وفاءً للوعد، وكان في فترة الحياة، ويجوز الاستغفار لغير الأب من المشركين والكافرين كما حكى النبي ﷺ: (أن نبيًا من الأنبياء ضربه قومه حتى أدموه، وجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون).
فيجوز الدعاء للكفار وإن آذوا الأنبياء، وإن جرحوهم، وذلك من سعة الرحمة التي جعلها الله ﷿ في قلوب الأنبياء، وهذا الاستغفار لا يحصل نفعه للكافر إلا إذا تاب وهداه الله ﷿؛ فإنما يغفر للكافر بأن يتوب من الشرك، وأن يرزقه الله ﷿ الدخول في الإسلام، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:٤٨].
فأما إذا مات مشركًا لم يجز الاستغفار، ولم يجز الاسترحام له، ولا يشرع طلب الرحمة له وهو على كفره، وإنما ورد الاستغفار كما ثبت في الحديث الصحيح: (أن اليهود كانوا يتعاطسون عند رسول الله ﷺ رجاء أن يشمتهم بقوله: يرحمكم الله، فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم).
والاستغفار بمعنى طلب الهداية؛ ولذلك لا يشرع طلب الرحمة للكافر حال كفره ولو كان حيًا، وإنما تطلب له المغفرة، لأن ذلك فيه إقرار بأنه على ذنب عظيم، وفيه تبيين أنه على خلاف الهدى، ولذا يدعى له بالهداية وبالمغفرة بأن يتوب الله ﷿ عليه.
ومن هذا قول إبراهيم ﵇: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [إبراهيم:٣٦].
قال الله تعالى: ﴿قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ [مريم:٤٧]، نجد في هذه الآية الكريمة استشعار إبراهيم ﵇ لمعاني صفة الله ﷿، واستحضاره لنعمه عليه خاصة.
وقال: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ [مريم:٤٧]، ولم يقل: ربك، أو ربنا، أو رب العالمين، وإنما قال: ربي، لشعوره بهذه الخصوصية بينه وبين الله ﷾.
هذه الخصوصية بهذه العبودية الخاصة، وأنه كان به حفيًا، أي: عوده الإجابة، والمؤمن إذا تذكر إجابة الله ﷿ لدعواته التي دعا بها كان ذلك من أسباب مزيد الرجاء، وطلب مزيد الفضل من الله ﷾، فإنه ﷿ حفي بعباده المؤمنين، وهو سبحانه حفي بأنبيائه أعظم من غيرهم، فقد عودهم أن يجيبهم، وأن يصلح شأنهم وأمرهم، وأن يتولى أمرهم بنفسه ﷾، فهو ﷾ الذي امتن على عباده المؤمنين بذلك قال: ﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ [مريم:٤٧].
وهذا الاستحضار لمعاني الأسماء والصفات من أعظم أسباب إجابة الدعاء، وختم الدعاء بأسماء الله وصفاته في أدعية الكتاب والسنة من أعظم ما يبين لك أهمية هذه المسألة، وهو أن يكون العبد متعلقًا بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، متذكرًا نعمته، مثنيًا عليه سبحانه، مستحضرًا خصوصية عبوديته لله ﷿، وأن بينه وبين الله ما لا يعلمه الناس، كما قالها يعقوب ﵇: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:٦٢].
وهكذا يتكرر هذا المعنى كثيرًا في أدعية الأنبياء؛ لأنهم يعلمون من الله ﷿ ما لا يعلمه الناس، ويستحضرون من معاني أسمائه وصفاته ما يحضر قلوبهم بين يديه ﷾، مستشعرين عظمته وقوته، وتدبيره لهذا الكون، ولكل ما فيه علويه وسفليه، ظاهره وباطنه، غيبه وشهادته، ويستحضرون أن الأمر من عنده لا من عند الناس، ﴿قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ [مريم:٤٧].
سبحانك اللهم وبحمدك.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا، وللمؤمنين والمؤمنات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.
1 / 6
العزلة وضوابطها
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﵌.
أما بعد: قال ﷾ عن إبراهيم ﵇: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾ [مريم:٤٨]، عندما تصل الدعوة إلى الله ﷿ إلى مداها بأن تبلغ البعيد والقريب والقاصي والداني، وتقام الحجج ويستمر الكفرة على إعراضهم -وإبراهيم ﵇ دعا إلى الله ﷿ حتى وصل إلى هذه الغاية- فعند ذلك يشرع الاعتزال.
قال: «وَأَعْتَزِلُكُمْ» أي: يفارقهم، وكان ذلك بعد أن ألقوه في النار ونجاه الله ﷿ منها، فإبراهيم دعا أباه وقومه، وبين لهم، وأقام عليهم الحجج، وما وجد منهم إلا التكذيب والأذى، والاضطهاد الفظيع، وألقوه في النار فعلًا، فكانت نجاته بأمر الله ﷾.
فلما اكتمل هذا الأمر هاجر إبراهيم ﵇، واعتزال أهل الباطل واعتزال باطلهم سنة ماضية طالما وصلت الدعوة إلى الله ﷾ إلى غايتها، وظلوا على إعراضهم، وهذه العزلة يجب منها قدر معين في كل وقت على كل مسلم، وهو ما يلزمه من اعتزال فعل الباطل وعقائده وسلوكه.
فهذا قدر واجب على مر الزمن، فلا تبيح له قرابته، ولا مواطنته، ولا قوميته لقومه أن يشاركهم في باطلهم، وإنما أباح الله ﷿ موافقة ظاهرة لأهل الباطل عند الإكراه فقط، وما أباح ذلك لمصلحة ولا لمداهنة ولا لأمور متوهمة، ولا لمجرد علاقات عائلية، أو روابط وطنية أو قومية أو غير ذلك، فما أجاز الله أن يوافق الإنسان على الكفر والباطل والمعاصي إلا لمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.
قال ﷾: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل:١٠٦].
فلا يجوز لمسلم أن يوافق أهل الباطل بزعم أنه يعيش وسطهم، وأن من عاش وسط قوم فلا بد أن يحترم قوانينهم، أو أوضاعهم، أو عاداتهم أو تقاليدهم، لا يجوز ذلك إلا عند الإكراه المعتبر شرعًا، وليس مجرد وجود الإنسان في مكان يجعله مضطرًا لذلك إذا قرروا ذلك، بل لا بد أن يكون هناك إكراه مادي معتبر؛ بأن يوجد تهديد بقتل، أو قطع عضو من الأعضاء، أو تعذيب أو حبس وقيد أو إتلاف مال، أو نحو ذلك، مع تفاوت ما يكره عليه، فليس الإكراه المعتبر في نطق كلمة الكفر، كالإكراه المعتبر في قبول هدية أو نحوها.
وإنما يعتبر ذلك بالنظر في أدلة الكتاب والسنة، فلا يعتبر السجن مثلًا إكراهًا على الزنا في حق الرجل ولا في حق المرأة، فلو حبس سنين على أن يزني مثلًا ما كان ذلك معتبرًا شرعًا، وأما القتل والتهديد به، وغلبة الظن بحصوله، أو التعذيب الشديد، كما وقع لـ عمار فمبيح لذلك، فهذا قدر واجب من العزلة.
فإذا لم يستطع أن يقيم دينه إلا بأن يفارق أهل الباطل ودارهم، وجب عليه ذلك، وكذا مفارقتهم حتى لا يتأثر بهم في سلوكه وعمله، فصحبة أهل الشر والسوء تجلب على الإنسان موافقتهم ومشابهتهم فيما هم فيه، وهذا واقع مشهود في كثير من الناس، فإن مصاحبته للكفرة والظلمة والعصاة والفسقة والمجرمين تهيئه وتقوده إلى فعل أفعالهم، وإلى موافقتهم من باطنه قبل أن يكون من ظاهره، والعياذ بالله من ذلك.
فكثير من الناس يحب أهل الباطل لكثرة معاشرتهم، فمن وجد نفسه تقوده في خلطته لقرناء السوء إلى موافقتهم؛ وجب عليه فورًا مفارقتهم، بل لا يجوز له أن يقيم وسطهم إلا مع الإنكار عليهم، ودعوتهم إلى الله ﷾.
ولهذا أقام الأنبياء في بلاد الكفر يدعون إلى الله ﷿، وينكرون الشرك والكفر والفسوق والعصيان، ولا يجوز لمسلم أن يقيم في أرض يفعل فيها الكفر والفسوق والعصيان إلا لغرض شرعي صحيح، كالإنكار عليهم، أو إنقاذ مسلم من هلكة، أو لمصلحة شرعية أخرى، وأما أن يكون مقيمًا لأجل دنيا يصيبها، أو أهل أو مال أو ولد، فهذا ممن يقال له: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ [النساء:٩٧].
طالما كان عاجزًا عن إقامة دينه متأثرًا بحالهم، وهو لا شك يتأثر، فإن الإنسان إنما يتأثر بأصحابه وأصدقائه أعظم التأثير، كما قال النبي ﷺ: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل).
وقال ﵌: (لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي)، والصداقة من معاني الموالاة فلا تصح لكافر، بل لا يجوز أن يصادق الفسقة والفجرة والظلمة، ولا يسكت عليهم حين يجلس معهم في مجالسهم، قال ﷾: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ [النساء:١٤٠]، وقال ﷾: ﴿فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [هود:١١٦]، فأنجى الله الذين ينهون عن السوء، ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأعراف:١٦٥]، ومن لم يتمعر وجهه في الله وهو يرى المنكرات أمامه، ولا يقيم لغرض شرعي صحيح، فهذا الذي يبدأ به، فإنه لم يتمعر ولم يتغير وجهه في الله ﷾، ولا يكون صالحًا، وإن كان يظهر الصلاح، أو يفعل في نفسه الصلاح؛ فليوطن كل مسلم نفسه على أن يعتزل الباطل وأهله، يعتزل الباطل، فلا يفعله ولا يعتقده ولا يرضى به ولا يقره، وكذلك لا يصاحب أهله، ويعتزل أهله فيفارقهم إلا لغرض شرعي صحيح.
1 / 7
جلب الدعاء لأسباب السعادة
﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [مريم:٤٨] أي: ما يدعون من دون الله من آلهة باطلة، ﴿وَأَدْعُو رَبِّي﴾ [مريم:٤٨]، أفرده بالدعاء الذي هو العبادة، كما قال النبي ﷺ: (الدعاء هو العبادة).
قال تعالى: ﴿عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾ [مريم:٤٨]، والدعاء من أعظم أسباب السعادة، فمن دعا الله ﷿، بأن دعاه إلهًا واحدًا لا شريك له، ودعاه لقضاء حوائجه، وأثنى عليه بما هو أهله، فهذا يسعد في الدنيا والآخرة، وعسى: محققةٌ من الله تعالى، وهي على ألسنة أنبيائه منه ﷾.
فلذا قال: ﴿عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾ [مريم:٤٨]، وكما قالها زكريا ﵇: ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ [مريم:٤]، فلا يشقى إنسان مع الدعاء، فالدعاء من أعظم أسباب الراحة والنجاة والسعادة والفوز والفلاح، فلا يتركه إلا جاهل، وهو السلاح الأعظم الذي ننتصر به، كما قال النبي ﷺ: (وهل تنصرون إلا بضعفائكم؟!).
أي: بدعائهم، وتضرعهم، وانكسارهم، ومن حكم تقدير الله ﷿ بالبلاء على المؤمنين: أن تنكسر قلوبهم له، ويستشعرون فقرهم وعجزهم وحاجتهم إلى الله ﷾، فيكثرون من الدعاء، وهم مستشعرون أن ليس لهم إلا الله، ولا سبيل لهم إلا بالتوجه إليه ﷾، وأن ليس لهم من دونه من ولي ولا نصير، وأنه ﷾ مولاهم، ولا يوجد لهم مولى سواه، وأهل الأرض جميعًا قد تركوهم، بل قد اجتمعوا عليهم، ورموهم عن قوس واحدة، فقدر الله ذلك لتلتجئ القلوب إلى الله، وتصعد الأدعية إلى الله، ولا يشقى مع الدعاء أحد إلا من حرمه الله، ونسأل الله ألا يحرمنا دعاءه وإجابته بفضله ﷾.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم نج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين والدعاة إليك في كل مكان، اللهم مكن لكتابك ودينك وسنة نبيك ﷺ وعبادك المؤمنين.
ربنا أفرغ علينا صبرًا وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم إنا نسألك بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيينا ما علمت الحياة خيرًا لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيرًا لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيمًا لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.
اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.
1 / 8
اجتماع الأحزاب
يقف الكفار من دين الله تعالى موقف العداء والبغض والحقد على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ومللهم، ويسعون جاهدين للمجادلة بالباطل ليدحضوا به الحق، وهم على مر الزمن لا يجدون فرصة للقضاء على دين الله إلا انتهزوها، بل لقد همت كل أمة منهم برسولهم ليأخذوه، والله تعالى لهم بالمرصاد، وهو ناصر دينه ومعز أوليائه، ولذا كان على المسلم أن لا يغتر بفتنهم وسلطانهم وتحركهم في الأرض، فإن ذلك كله بلاء، والمعتصم بربه مهدي إلى صراط مستقيم.
2 / 1
تعريف الله تعالى عباده ببعض صفاته العلى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﵌، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فيقول الله تعالى: ﴿حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ * مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ﴾ [غافر:١ - ٤].
إنه لا بد أن ينتبه أهل الإيمان إلى أن الله ﷿ أثنى على نفسه، بأنه غافر الذنب وقابل التوب، وأنه ﷾ شديد العقاب، لكي يرغب العباد إليه ويرهبوه.
وأخبر ﷾ أنه أنزل الكتاب من عنده، وأنه هو العزيز العليم ﷾.
ورغب العباد في رحمته ومغفرته وتوبته عليهم إذا تابوا إليه، ورهبهم من عقابه، وامتن عليهم بفضله ومنه، لا إله إلا هو، أي لا معبود بحق سواه، فلا يعبد في الأرض ولا في السماء بحق سواه، ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ [الزخرف:٨٤] وهو العزيز العليم ﷾، إليه مصير هذه الدنيا بأسرها، ومصير العباد كائن إليه ﷿ ليحاسبهم، فمن أيقن بلقاء الله ﷿ عمل لهذا اليوم.
2 / 2
مجادلة الكفار في آيات الله ونهي الله عباده عن الاغترار بهم
ثم بين الله ﷾ أن الكفار يجادلون في آيات الله، فهم يريدون رفضها وعدم العمل بها وعدم انتشارها.
فالذين يحاربون الإسلام هم الكفرة المعرضون الذين يمنعون ظهور القرآن ولا يحبون انتصار آياته البينات، ويكرهون أن يعلو أمر الله ﷿ في بقعة من الأرض، وأن يظهر أهل الإيمان الذين إذا مكنهم الله ﷿ أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.
ما أكثر من يكره التمكين لدين الله ﷿! فيكره أن تقام الصلاة وأن تؤتى الزكاة، وأن يؤمر بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر! فبين ﷿ أن هؤلاء يتقلبون في البلاد، فلا يجوز أن يغتر الإنسان بهم، قال تعالى: ﴿فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ﴾ [غافر:٤].
فلا يغررك تمكنهم وسلطانهم أيها العبد المكلف، والخطاب كان لرسول الله ﵌ وهو في مكة حين لم يظهر الإسلام في أرض من البلاد، ولم يتكون بعد ذلك المجتمع المسلم الذي تعلوه شريعة الله ﷾ ويعظم فيه أمره وكلامه، ويقدم فيه هدي رسوله ﵌.
فما أكثر من يغتر بتقلب الكفار في أنواع النعم في مشارق الأرض ومغاربها! وما أكثر من يرى الدولة لهم فيتابعهم على باطلهم فيكون -والعياذ بالله- واحدًا منهم بموالاته لهم، ورضاه عنهم، ورغبته في ظهور كلمتهم، أو بمجرد متابعته لهم في المجادلة في آيات الله ﷾، نعوذ بالله من ذلك.
والذين يغترون بسلطان الكفار وتقلبهم في البلاد هم الذين خبثت قلوبهم، فأراد الله ﷿ أن يميز الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعًا فيجعله في جهنم، كما قال ﷿: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأنفال:٣٦ - ٣٧].
هكذا قدر الله ﷾ بعلمه وحكمته أن يميز أهل الإيمان وإن كانوا في فترة من الفترات فيما يبدو للناس لا يملكون الدفع عن أنفسهم، ولا يملكون أرضًا من البلاد يعلون فيها منهجهم ويظهرون فيها دينهم ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وهو ابتلاء من الله ﷾ يقدره لكي يغتر من يغتر ولكي ينتبه من ينتبه ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ﴾ [غافر:٤].
2 / 3
تكذيب الأمم السابقة لرسلهم
يقول الله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ [غافر:٥].
هؤلاء الأحزاب اجتمعوا وتألبوا وكانوا طوائف مختلفة، فاتفقت كلمتهم على محاربة دين الله ﷾، فقوم لوط وقوم عاد وثمود والمؤتفكات هؤلاء الأحزاب اجتمعوا على رسلهم، وهكذا في كل زمان يقدر الله ﷿ اجتماع أحزاب من أحزاب الكفر والضلال لكي يحاربوا دين الله سبحانه، وجعل رءوسهم من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين رغم اختلافاتهم الكثيرة، ورغم كونهم من ملل شتى ومن قوميات شتى وأجناس شتى، يجتمعون ويتحزبون.
2 / 4
تجمع الأحزاب لحصار الرسول ﷺ ومن معه
ما أشبه الليلة بالبارحة! فانظر إلى الحصار الذي فرضه المشركون من قريش وغطفان ومن تابعهم من القبائل العربية المختلفة ومن ظاهرهم من يهود بني قريظة، ومن بقي من يهود بني النضير في خيبر ومن دعا منهم في جمعه هؤلاء الأحزاب، حتى اجتمعوا جميعًا لحصار المسلمين في المدينة وجاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، جاءوا حول المدينة من جهاتها، وعند ذلك اشتد الكرب ونجم النفاق وظن الناس الظنون المختلفة، فظن المنافقون أن الإسلام مستأصل، وأن الإسلام يزول، وظن المؤمنون بالله ﷿ أن ينجز لهم وعده ﷾، وأن يفي بوعده لهم ولنبيه ﵊، كما قال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:٢٢].
اجتمع هؤلاء الأحزاب بمؤامرة اليهود كما اجتمعت الأحزاب من قبلهم على رسلهم، اجتمع هؤلاء الأحزاب رغم كونهم قبل ذلك كانوا لا يتفقون على رأي، بل كان بعضهم يقاتل بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا، حتى اليهود كانوا قبل الإسلام يتقاتلون ويتحاربون، كما قال ﷿ عنهم فيما بين من فضائحهم بعد ذكر أخذ ميثاقهم: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة:٨٤ - ٨٥].
فبين ﷾ أنهم كانوا يتقاتلون فيما بينهم، ولكن عندما جاء الإسلام اجتمعوا على حربه، وهكذا المشركون ما كان لبعضهم على بعض سيادة ولا إمارة، بل كانت العرب متفرقة على الدوام متقاتلة متحاربة؛ لكن عندما ظهر الإسلام اجتمعوا على حربه! وهكذا إذا نظرت فإنك تجد اليهود والنصارى أعداء على مر العصور، ولكنهم في زماننا يجتمعون وينفق بعضهم على بعض، ومعهم من لا دين لهم كذلك من بقايا الشيوعيين والمشركين عباد الأوثان، وعباد الشياطين والعياذ بالله من ذلك، فاجتمعوا كلهم على حرب الإسلام، ومعهم المنافقون، فكلهم أعداء، ومع ذلك يجتمعون إذا ظهر الإسلام.
ألم تكن طوائف من المنافقين تتفاخر عبر عشرات السنين بأنها حرب على اليهود وعلى الاستعمار وعلى الغرب، ثم بعد ذلك تنحني الجباه وتركع الرءوس، وربما سجدوا لأعداء الله ﷾ أو كادوا يفعلون، والعياذ بالله من ذلك.
هكذا تجتمع الأحزاب ضد الإسلام وأهله، وتنفق الأموال ببذخ وسخاء، وتخرج الخزائن من هذه الأموال ممن لا يجدون طعامًا يأكلونه ولا ملابس يلبسونها، فإذا وجه أعداء الله رصاصهم وقنابلهم لأهل الإسلام أغدقت الأموال بما لا يحصيه أحد منا، ولا يراه، وإنما يحصيه رب العباد ﷾.
فهكذا تتحزب الأحزاب وهكذا يكذبون الرسل.
وقد قدر الله ﷾ أن يكون هذا الاجتماع لحرب الدين يكاد يصل إلى غايته، ففي يوم الأحزاب أوشك الكفار أن تتم خططهم بنقض يهود بني قريظة العهد وباتفاقهم معهم على أن يقتحموا المدينة، ورسول الله ﷺ والمسلمون كانوا ثلاثة آلاف في أول حفر الخندق، ولكنهم نقصوا حتى وصلوا إلى سبعمائة بعد ذلك، وانسحب من في قلبه النفاق الأكبر، أو في قلبه شعبة منه، حتى وصف حذيفة ﵁ ليلة الأحزاب بأنها أشد ليلة عندما كانوا ثلاث مائة مقاتل مع النبي ﵊، فانخفض عدد المسلمين الثابتين مع رسول الله ﷺ إلى العشر.
2 / 5
قصة ليلة الأحزاب
يقول حذيفة ﵁: نظر النبي ﷺ إلينا واحدًا واحدًا في ليلة ما رأيت أظلم منها ولا أبرد منها قط، والريح شديدة حتى كان أحدنا لا يكاد يرى أصبعه.
قال حذيفة: فتقاصرت في الأرض كراهية أن أقوم.
فلا يريد أن يظهر لكي يكلفه النبي ﷺ بعمل لشدة الجوع وشدة البرد، يقول: ليس علي ما أتقي به البرد إلا برد لامرأتي لا يبلغ ركبتي.
وأرسل عثمان بن مظعون ابن أخته عبد الله بن عمر بن الخطاب ﵃ إلى الحصون ليأتي لهم من هناك بطعام وثياب، فيأمره النبي ﷺ أن من لقيت من أصحابي فأمرهم فليرجعوا، يقول عبد الله بن عمر: فما رأيت أحدًا إلا أمرته بالرجوع، فلا يلوي أحد منهم عنقه.
أي: كانوا لا يلتفتون إلى كلام عبد الله ولا يسمعونه، بل كل متجه إلى بيته لا يريد أن يكون مع الرسول ﵊.
فعشر المسلمين فقط هم الذين ثبتوا وهم الذين بقوا مع رسول الله ﷺ، هذه هي الخلاصة التي أعز بها الله ﷿ الدين في المشارق والمغارب.
وبعد ذلك صلى النبي ﵊ صلاة طويلة ثم قال: (قد حدث في القوم حدث، فمن يأتيني بخبر القوم وله الجنة) فضمن له ﷺ الرجوع ووعده بالجنة.
ونحن نعلم حب الصحابة الشديد لرسول الله ﷺ وامتثالهم لما يرغب فيه قبل أن يأمر، ولكن كانت القلوب قد بلغت الحناجر، وكان الخوف والبرد الشديد والحصار والكرب في غايته، وكاد المشركون أن يصلوا إلى غايتهم، ﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ﴾ [غافر:٥].
فلما طلب النبي ﷺ أن يأتيه رجل بخبر القوم على أن يكون رفيقه في الجنة ما قام رجل، فصلى النبي ﷺ هويًا من الليل ثم قال: (من يأتيني بخبر القوم ويكون رفيقي في الجنة) فلم يقم أحد ثم كرر الثالثة، ثم قال: (قم يا حذيفة) وذلك لثقته به، لأنه يعلم أنه لن يعصي له الأمر المباشر، وإن كان الأمر المستحب يحتمل أن يكون متروكًا عندهم.
قال حذيفة: فما كان من طاعة رسول الله ﷺ بد، قال: (اذهب فأتني بخبر القوم ولا تحدث شيئًا حتى تأتيني)، وفي رواية مسلم: (فلا تذعرهم علي).
فذهب حذيفة ﵁، وكان الرسول ﷺ قد دعا له بقوله: (اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته).
قال: (فكأنما أمشي في حمام، وما خلق الله في قلبي من الخوف والقر قد خرج فلا أجد منه شيئًا).
فدخل المعسكر ونظر إلى أبي سفيان يدفئ يده ويضعها على خاصرته ويقول للناس: لينظر كل أحد منكم من جليسه.
وكأنه توقع أن يوجد في القوم من ليس منهم، فأخذ حذيفة ﵁ بيد جليسه وقال: (من أنت؟ فقال: فلان بن فلان فترك يده)، وذلك لكي لا يسبقه الرجل بقوله: من أنت.
فقال لهم أبو سفيان: ما أنتم بدار مقام، إني مرتحل فارتحلوا.
وذلك حين رآهم والريح تفعل بهم ما تفعل لا تترك لهم نارًا، ولا يستقر لهم قدر، ولا تقوم لهم خيمة، وجنود الله ﷿ تفعل بهم ما ذكر الله سبحانه في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ [الأحزاب:٩ - ١١].
2 / 6
والعاقبة للمتقين
وصلت المحنة إلى أن المشركين كادوا أن يفتكوا بالإسلام كله، كما قال تعالى: ﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ﴾ [غافر:٥]، وهكذا يقدر الله ﷾ أن تجتمع أحزاب الكفر من المشارق والمغارب حتى ظن الكثيرون أن الإسلام مستأصل، وأن الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله ومن يهفوا إلى نصرة الدين مستأصل ذاهب لا يمكن أن تقوم له قائمة بعد ذلك اليوم ولكنها اللحظات التي تسبق نقطة التحول.
2 / 7
منازلة اليهود من حصونهم
إن هذا الابتلاء وتلك الزلزلة كانت هي اللحظات التي تسبق نقطة التغير التام، ففي تلك الليلة انصرف المشركون وانصرفت قريش وانصرفت غطفان وبقي يهود بني قريظة في الخوف والرعب، فأتاهم النبي ﷺ وحاصرهم، ثم أنزلهم الله من حصونهم على أمره فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم ونساءهم وأخذ أموالهم وأرضهم.
وقال النبي ﵊ بعد انهزام الأحزاب (الآن نغزوهم ولا يغزوننا) وقد كان الأمر كما قال ﷿: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ [الأحزاب:٢٥ - ٢٦] فريقًا تقتلون من الرجال المقاتلين وتأسرون فريقًا من النساء والصبيان ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا﴾ [الأحزاب:٢٧].
فمن كان يظن أن أهل المدينة في يوم من الأيام سيدخلون حصون بني قريظة المنيعة وسيطئون هذه الأرض مالكين لها؟! فذلك بفضل الله ﷿ بسبب الغدر وبالتألب والتحزب الذي كان.
إن الله سبحانه يجعل الكفرة ينقضون العهود والمواثيق التي عاهدوا المؤمنين عليها، كل ذلك يقدره الله بالحق، ويتركهم سبحانه يؤذون المؤمنين وينتهكون حرماتهم ويسفكون دماءهم وهي عند الله ﷿ غالية وذات حرمة عظيمة، لكنه يتركهم يفعلون ذلك بعلمه وحكمته وتحت سلطانه وقدرته، وهو ﷿ الملك، وهو الشهيد على ما يفعلون؛ وذلك لكي يزدادوا إثمًا ويستحقوا أنواع العقاب بقدرته ﷿.
وما أكثر ما كان يثني النبي ﷺ على الله ﷿ بهزيمته الأحزاب وحده، فكان يقول: (وهزم الأحزاب وحده)، حيث إنه لم يتحرك المؤمنون لقتال يومئذ، وعندما رجع حذيفة ﵁ إلى رسول الله ﷺ رجع إليه القر والبرد والخوف كما كان، فوضعه بين رجليه وغطاه ببرد بعض نسائه ﵊ الذي كان يصلي فيه، فأخبره بخبرهم ورحيلهم.
2 / 8
مقاصد أهل الباطل ونتائج أعمالهم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وأشهد أن لا إله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﵌.
أما بعد: فيقول الله ﷿: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [غافر:٥ - ٦].
يظن أكثر الناس أن الحق هو القوة، فيرون الباطل حقًا لأنه قوي ويرون الحق باطلًا لأنه ضعيف في نظرهم، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق من مكانه الذي يستحقه ويناسبه في الظهور.
فيريدون إزهاق الحق وإبطاله، فاستعملوا كل الوسائل المادية، وكذا الإعلام، والجدال بالباطل ليصدوا الناس، وهموا بأن يأخذوا رسلهم ويزيلوا الحق بأخذ الرسول الداعي إلى الله ﷿، وكذلك بالجدال بالباطل والكذب والزور وأنواع الشبهات الباطلة، فعندهم السلطان وعندهم من الشبهات ما يخدعون به من هو صال الجحيم، كما قال ﷿: ﴿فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات:١٦١ - ١٦٣].
لا يفتنون إلا من كتب الله عليه أن يصلى الجحيم، ولا يهلك على الله إلا هالك، ولا يزيغ عن المحجة البيضاء في ظلمات الليل إلا هالك، لأن الرسول ﷺ تركنا على الصراط المستقيم وعلى المحجة البيضاء ليلها كنهارها.
ويظهر الحق في فترات النور والانتصار والتمكين، فالحق واضح لمن طلبه والمجاهدون بالباطل يجاهدون ليدحضوا به الحق فيأخذهم الله، كما قال تعالى: ﴿فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ [غافر:٥].
ولقد كان عقابه تعالى شديدًا لمن خالفه وحاربه وحارب رسله وأولياءه وحارب دينه والحق الذي أنزله، وهكذا في كل زمان تتكرر هذه السنة، ﴿وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ [غافر:٦]، فبالحق نزل بهم عذاب الله، وبالحق نفذ فيهم قدر الله، وبالحق نفذت كلمته ﷾.
وكلماته الشرعية هي الحق، وكلماته القدرية هي التي تكون بها الأشياء ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس:٨٢]، وهي -أيضًا- الحق الذي لا باطل فيه ولا مرية فيه، ﴿وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [غافر:٦].
وجبت هذه الكلمة بالحق، فبأعمالهم دخلوا النار، وبحصاد ألسنتهم وأيديهم كبوا على وجوههم، وصاروا من أصحاب النار بما جنت أيديهم وبما كانوا يكسبون، ﴿مَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١١٧].
2 / 9
الواجب على المسلمين في زمن الأحداث
قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [غافر:٦] فلنتعظ من ذلك، والمسلمون اليوم يواجهون حصارًا معنويًا وعسكريًا، ويواجهون عدوًا كثيفًا متألبًا متحزبًا في كل مكان ليس فقط في الشيشان أو في فلسطين أو في كشمير، بل في مشارق الأرض ومغاربها، وهي عداوة شديدة لأهل الإسلام.
بل إنَّ تحزب الأحزاب في زماننا ربما لم يسبق له مثيل في زمن العولمة الذي صار فيه العالم كقرية صغيرة، ربما لم يسبقه ذلك التحزب في الاجتماع والتخطيط اليهودي الماكر في المشارق والمغارب، والتعاون الوثيق على الإثم والعدوان، ذلك كله قبل نقطة التحول وقبل نقطة التغيير بإذن الله إلى ما فيه مصلحة المسلمين، وإذا كان من كانوا مع النبي ﵊ قد صاروا إلى العشر فما ظنك بمن هم دون ذلك وليس مجتمعهم كذاك المجتمع النقي الذي كان عليه النبي ﷺ وأصحابه ﵃.
فالثبات الثبات عباد الله، فهو ﷿ الذي يثبت القلوب والأقدام، وإنما يلجأ إليه ﷿ في الشدائد، وقد كان خير الخلق ﵊ يقول في دعائه: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ويقول: (يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك).
فهو ﷿ الذي يثبت الأقدام ويثبت القلوب على الصراط المستقيم، كما يثبت على الصراط يوم القيامة أقدام المؤمنين ويجعلهم في زمرة الناجين بفضله ورحمته ﷾.
وأما من غرته الحياة الدنيا بأن اشتغل فيها وغرق في فتنها ومشاغلها التي لا تنتهي وظل يسوف كل يوم فليعلم أن المشاغل لا تنتهي، ولا يخرج العبد منها إلا بأن يصير القلب أبيض مثل الصفا مستنيرًا قويًا ثابتًا، لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض، وأما من يسوف الالتزام ومن يسوف العمل ومن يسوف العلم ويقول: غدًا أفعل حين تنتهي مشاغلي، ويسوف الدارس إلى حين الفراغ من دراسته، والراغب في الزواج إلى حين الفراغ منه، ومن ليس عنده أولاد إلى أن يكون عنده أولاد، ومن عنده أولاد إلى حين تربية الأولاد، ومن كان عنده أولاد إلى رؤية أولاد الأولاد، فإن المشاغل لن تنتهي.
وهذه طبيعة الدنيا، فمشاغلها لا تتوقف، فلا بد من المبادرة والمسابقة في كل لحظة من اللحظات، فبادر قبل أن يفوت الأوان، ففي الحديث: (بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل) هكذا أخبر نبيكم ﷺ، فنعوذ بالله أن نبيع ديننا بعرض من الدنيا! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين وسائر الكفرة والملحدين.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا أفرغ علينا صبرًا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في الشيشان وثبت أقدامهم، اللهم سدد رميهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
2 / 10
استعينوا بالله واصبروا
استحضار عظمة الله ﷿ تجعل المؤمن واثقًا من نفسه؛ لأنه وضع عظمة الباري نصب عينيه فتلاشت واضمحلت كل أنواع عظمة المخلوقين، وهذا هو سبب ثبات الأنبياء والصالحين أمام أئمة الكفر والطغيان والعناد.
وهذا الاستحضار لا يكون إلا بالإيمان بقضاء الله جل وعلا وقدره، فبهذا الإيمان وبهذا اليقين تهون المصائب، وتذل العقبات في سبيل نصرة هذا الدين وإعلاء رايته.
3 / 1
الحكمة من تسليط الله الكافرين على المؤمنين في بعض الأوقات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﵌، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فقد قضى الله ﷿ بعدله وحكمته أن جعل الأيام بين الناس دولًا فقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران:١٤٠ - ١٤١]، وجعل الله ﷿ الأيام يتناوب الناس فيها باليسر والعسر، والعز والذل، والتمكين والاستضعاف، وقدر ﷾ لأنبيائه ورسله وهم صفوته من خلقه، وقدر على أوليائه من أتباعهم أن تمر عليهم فترات من المحن والشدائد، وأن تمر عليهم فترات يستضعفون فيها في الأرض، ويكونون قلة أذلة، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الأنفال:٢٦].
فقدر الله ﷾ ذلك مع كونه ﷿ لا يحب الظالمين، ولا يحب الكافرين، وإنما سلطهم مدة وجيزة من الزمن على عباده المؤمنين ليستخرج من عباده المؤمنين أنواعًا من العبودية التي يحبها، ولا يمكن أن تظهر هذه الأنواع لو هدى الناس جميعًا، ولو شاء ﷿ لهدى الناس جميعًا، وأمره ﷾ لا يحتاج إلى تكرار وتثنية، قال سبحانه: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ﴾ [القمر:٥٠] مرة واحدة ﴿كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [القمر:٥٠] فيقع ما أمر به ﷾، وهو ﷿ لا يعجزه أن يجعل الناس أمة واحدة على الإيمان، حتى أشد الناس كفرًا وعداوة لله ﷿ قادر أن يقلب قلوبهم ويجعلها على الهدى، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [هود:١١٨] لكنه قدر ذلك للحكم البالغة: ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ﴾ [القمر:٥]، فله الحمد ﷾ عليها.
لذلك عندما يجد المؤمن المسلمين يصابون بأنواع المصائب والمحن، ويضطهدون بأنواع الاضطهاد، ويجد الفساد ينتشر في مشارق الأرض ومغاربها، ويرى البلاء والمحن، ويرى أنواع الشدائد؛ فيجب أن يحمد الله ﷾، ولا بد أن تقع في قلبه معان إيمانية ضرورية لكي يستفيد من هذه المرحلة التي قدرها الله ﷿ ليظهر منه الخير، وليخرج ﷾ من قلوب أوليائه ما يحب من الاستعانة به، والصبر على طاعته ﷾، وعلى ما يصيب الإنسان في سبيله، وعلى ما يصيب الإنسان بسبب مخالفته لأهل الفساد والكفر والنفاق، وكذلك ليوقن المؤمنون بوعد الله ﷾، ويستحضروا أن الله هو الذي أعطى، وهو الذي منّ، وهو الذي آوى؛ لأنهم سوف تأتي عليهم فترات يملكون فيها الناس، ويكونون فوق الخلق، ويتحكمون فيهم فيما يبدو لهم، فهل يكونون في ذلك كملوك الدنيا وأهل الدنيا يتحكمون فيهم لأنفسهم ولهواهم ويقولون: صنعنا، وانتصرنا، وغلبنا، وقهرنا، كقول قارون: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [القصص:٧٨] ونحو ذلك مما قص الله علينا من كلام الكفرة والفسقة والفاجرين؟ أو أنهم سيعلمون أن الله سبحانه هو الذي أورثهم الأرض بمشيئته ﷾ لا بقدرتهم، ولا بتخطيطهم، ولا بإعدادهم.
3 / 2