Lessons by Sheikh Muhammad Al-Mukhtar Al-Shanqiti
دروس للشيخ محمد المختار الشنقيطي
Nau'ikan
استشعار عبادة الحج في كل موطن ونسك
من علامة الحج المبرور: أن يكون الحاج في كل حركة وفي كل سكون يستشعر هذه العبادة، يقول: (لبيك) بقلب حاضر وبلسان صادق، يستشعر معناها وما فيها من دلائل.
قال العلماء: (لبيك) من لبى إذا أجاب وكأنه يأخذ العهد على نفسه أنه يستجيب لطاعة الله ربه إجابة بعد إجابة.
وقيل: (لبيك): من لب الشيء وهو خالصه وناصحه وأفضله الذي لا شائبة فيه، فكأنك تقول: أنا على الإخلاص لك يا رب، وكأنك تعاهد الله على أن تكون أفعالك وأقوالك لوجهه ﷾، ليس فيها لأحد سواه حظ ولا نصيب.
وقيل: (لبيك): من قولهم: داري تلب بدارك إذا جاورتها، فكأنك تقول: أنا مجاور لطاعتك، ومقيم عليها إقامة بعد إقامة، فكأنه يأخذ العهد على نفسه أن يقيم على طاعة الله، وأن يستقيم على محبة الله ﷾.
وإذا كتب الله ﷻ للعبد فدخل البيت الحرام فإنه يحمد الله ﷾ أن بلغه هذا المكان، انظر إلى هذا المكان الطيب المبارك الذي شرفه الله وكرمه، واستشعر عظمة الله ﷾، هذا المكان الذي وطئته قدماك كان يومًا من الأيام واديًا لا أنيس فيه ولا جليس.
أمر الله الخليل أن يأتي بأهله وذريته، فجاء بامرأة ضعيفة وصبي صغير، فأمره الله وابتلاه واختبره أن يضعهما في هذا المكان، فلما أراد أن ينصرف عنهما تعلقت المرأة الضعيفة وقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ قال: لله.
فقالت: إذن لا يضيعنا الله، فلما انتصبت قدماه في الوادي وولى، وقد جعل أهله وذريته وراء ظهره صدع، بالدعوات المباركات، استجاب لأمر الله ثم دعا ربه فقال: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [إبراهيم:٣٧].
كانت أشجانهم وأحزانهم للدين ولطاعة رب العالمين، ما كانت للدنيا ولا للهوى: ﴿أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [إبراهيم:٣٧] لتوحيدك وطاعتك والإنابة إليك.
﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ [إبراهيم:٣٧] سبحان الله! إذا دخلت في حجك أو في عمرتك فرأيت الألوف وهي تطوف ببيت الله ﷻ فاذكر دعوة الخليل ﵊، استجاب الله دعوته فحنت القلوب إلى بيت الله الحرام، وأصبح الرجل تراه قد شاب شعر رأسه ولحيته يتمنى من الله سبحانه أن يبلغه البيت العتيق، كل ذلك استجابة من الله لدعاء الخليل.
قال العلماء: استجاب لأمر الله وأقام أمر الله ﷿ بإحضار أهله وذويه، ثم دعا فاستجاب الله دعوته.
فمن أطاع الله وامتثل أوامره استجاب الله دعوته، وها هي الجموع تكتظ في هذا المكان، فانظر إلى عظيم رحمة الله ﷿! ومن استجاب للخليل لما أخلص لوجهه وأناب إليه سبحانه سيجيب دعوتك، ويفرج كربتك، ويستر عورتك إن صدقت معه كما صدق.
وإذا سعيت بين الصفا والمروة فاذكر أن بين هذين الجبلين كربة من الكربات فرجها الله من فوق سبع سماوات، امرأة ضعيفة ليس معها أحد، وقد عطش صبيها، فأصبحت تقبل وتدبر في هذا المكان مفجوعة خائفة وجلة، ولكن كان قلبها متعلقًا بالله، منصرفًا إلى الله لا إلى شيء سواه؛ فجعل الله تفريج كربها من تحت قدم صبيها وابنها، وجعل الله الماء الذي جرى من تحت هذه القدم يبقى إلى الأبد طعام طعم وشفاء سقم؛ لما أخلصت لله في دعائها.
وإذا كنت مكروبًا فإن الله سيفرج كربتك، وإن جئت شاكيًا ضارعًا إلى الله ﷻ، وصدقت كما صدقت هذه المحرومة الفزعة الوجلة الخائفة الذليلة؛ فإن الله يؤمِّن خوفك كما أمن خوفها، ويقضي حاجتك كما قضى حاجتها، ويزيل عناءك كما أزال عناءها.
تستشعر وأنت بين الصفا والمروة همومك وغمومك وأشجانك وأحزانك وكرباتك فتضعها بين يدي الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، بين يدي الله ﷻ منتهى كل شكوى، وسامع كل نجوى، وكاشف كل ضر وبلوى، ادعه بقلب مخلص موقن لا يعرف أحدًا سواه ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ [النمل:٦٢] فتستشعر في هذه الأماكن والمنازل أن الله يجيب الدعوات.
واستمع المؤمنين والمؤمنات، وانظر إلى عظمة جبار السموات والأرض يوم عجت ببابه الأصوات، واختلفت اللغات، والله لا يضيع منها حرف واحد، ولا تغيب منها كلمة واحدة، ولا تخفى عليه مسألة منها ﷾، في هذا المقام العظيم تستشعر همومك وغمومك أنك تنزلها بأكرم الأكرمين، وملاذ الهاربين، وأمان الخائفين، وجوار المستجيرين، تبارك الله رب العالمين! أستودع الله أموري كلها إن لم يكن ربي لها فمن لها لنا مليك محسن إلينا من نحن لولا فضله علينا تبارك الله وجل الله أعظم ما فاهت به الأفواه سبحان من ذلت له الأشراف أكرم من يرجى ومن يخاف فتدعوه وأنت موقن أنه لا يخيبك، وأنه لا يردك.
وإذا مضيت إلى عرفات، وأشرقت عليك شمس ذلك اليوم المبارك، فاحمد الله ﷻ أنها أشرقت عليك وأنت ضيف على الله، احمد الله ﷻ أنها أشرقت عليك فما كنت من المحرومين، وما كنت من المثبطين، فقل: يا رب! أكرمتني بهذا الموقف ولو شئت لحرمتني، فلا تجعلني أشقى عبادك في هذا اليوم العظيم.
إذا أشرقت عليك شمس يوم عرفات فاذكر رحمة الله فاطر الأرض والسموات، وانظر إلى ذلك الموقف العظيم بقلب يعظمه، بقلب أسلم إليه ﷾، من بيده مقاليد السماوات والأرض ﷻ وتقدست أسماؤه.
وصل، وأخلص لله ﷻ في صلاتك، ثم انصرف إلى الدعاء، وهذه الساعات لا تضيع في أي لحظة منها، ولا تضيع منها دقيقة، وأفضل ما يكون منك أن تذكره ﷾ بتوحيده، قال ﷺ: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له) فالإنسان يقبل على هذا الموقف وهو يذكره ويمجده ويعظمه، لا إله إلا الله خالصة من قلبك، معظمة لربك، وأنت تحس أنه أقرب إليك من حبل الوريد، وأنه يسمعك وأنه يراك سبحانه ﷻ.
وإذا وقفت بين يديه وقفت وأنت تحس أن الذنوب قد كثرت، وأن العيوب قد عظمت، وأن الخطايا قد جلت، ولكنه أرحم الراحمين، وأنه لم يسئ ظنك فيه وهو الحليم الرحيم، فتقبل على الله ﷻ بقلب يناجيه ويناديه بصدق وإخلاص، تدعوه من كل قلبك أن يغفر ذنبك وأن يستر عيبك، وأن يفرج كربتك وأن يرحمك.
فلا إله إلا الله كم أشرقت شمس ذلك اليوم على أشقياء فغابت وهم سعداء! لا إله إلا الله كم أشرقت شمس ذلك اليوم على أقوام مذنبين مسيئين فغابت وهم مطهرون مرحومون مغفور لهم! لا إله إلا الله إذا رحم الله برحمته، وسمح بحلمه وعفوه وكرمه ﷾! لا إله إلا الله إذا نزل جبار السماوات والأرض نزولًا يليق بجلاله وعظمته على الحقيقة، ينزل إلى السماء الدنيا لأنه علم أنه لا يجيب دعاء ما سواه، وعلم أنه ليس للمسألة أحد عداه كائنًا من كان، ولو كان نبيًا مرسلًا أو ملكًا مقربًا.
ينزل إلى السماء الدنيا لكي يرحم المذنبين ويغفر للمسيئين، ويقيل عثرة النادمين ﷾، ينزل إلى السماء الدنيا في تلك الساعة المباركة لكي يباهي بالجموع المؤمنة ملائكته (انظروا إلى عبادي! أتوني شعثًا غبرًا من كل فج عميق؛ يرجون رحمتي ويخافون عذابي، أشهدكم أني قد غفرت لهم).
فلله نفحات ولله رحمات، ولربما غفر الله جل وعلا لأهل الموقف جميعهم، لربما غفر الله ﷻ لأهل الموقف نساءً ورجالًا، ورحمهم جميعًا شبابًا وشيبًا وأطفالًا، فرحمته واسعة، وخزائنه ملأى، بيده ﷾ الخير كله، فتناديه وأنت موقن برحمته، وتحس أنك أفقر العباد إليه، وأغناهم به ﷾، وتعج ببابه ﷻ مسترحمًا مستحلمًا مستعطفًا لله ﷾.
فإذا غابت شمس ذلك اليوم خرجت وأنت تحسن الظن بالله ﷾؛ أن يجعل سعيك مشكورًا، وذنبك مغفورًا، وأجرك موفورًا، فتنطلق إلى تلك المشاهد الباقية بقلب مستحضر لعظمة الله ﷾.
فتقف بمزدلفة وأنت تحس بجلال ذلك الموقف، الذي أثنى الله ﷿ عليه في كتابه، هذا الموقف الذي قل أن يدعو الإنسان فيه بإخلاص وترد دعوته، وكان بعض السلف يقول: (ما سألت الله حاجة وحال الحول إلا قضاها الله لي).
هذا الموقف -الذي هو موقف المشعر الحرام- أثر عن بعض السلف أنه قال: (لقد وقفت في هذا الموقف في كل عام وأنا أسأل الله ألا يجعله آخر العهد فيستجيب الله دعوتي، وإني لأستحي أن أسأله هذا العام فرجع ومات ﵀.
هذا الموقف -وهو موقف المشعر الذي غاب عن كثير من الناس- أدب الله المؤمنين فيه فذكرهم أن تكون دعوتهم للآخرة، وأن تكون جامعة بين خيري الدنيا والآخرة، فالناس فيه بين سائل للدنيا وبين سائل خيري الدنيا والآخرة، من الناس: ﴿مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾ [البقرة:٢٠٠] هذه الكلمة يقول العلماء: معناها أنه يقول: اللهم أصلح لي تجارتي، اللهم أصلح لي أموالي، اللهم اشف لي ولدي، اللهم عافني من كذا وكذا.
وينسى الآخرة، هذا هو الذي عناه الله بقوله: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾ [البقرة:٢٠٠].
فاجمع بين ثلاث مسائل: المسألة الأولى: أن تسأل الله أن يصلح دينك الذي هو عصمة أمرك.
والثانية: أن يصلح دنياك التي فيها معاشك.
والثالثة: أن يصلح لك آخرتك التي إليها معادك.
أما إذا سألته صلاح دينك الذي هو عصمة أمرك؛ فأنت بين أمرين: تسأله العفو عما كان من الذنوب والعصيان، والإحسان فيما بقي من عمرك، فقل: اللهم إني أسألك حياة ترضيك، اللهم اغفر لي ما سلف وما كان، وارحمني ووفقني فيما بقي لي من زمان، واجعل ما بقي لي من الحياة عونًا لي على طاعتك، فكم من إنسان حيي إلى فتنة!، وفي الحديث الصحيح: (أنه لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل على قبر أخيه ويقول: يا ليتني مكانك) يتمنى أن يكون مكانه من كثرة الفتن والمحن!، نسأل الله العظيم رب ا
5 / 5