حقيقة الاتباع عند الصحابة
بل هي هيمنة الدين على الحياة كلها؛ عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، خلقًا ونظامًا، رابطة وأخوة.
هيمنة كما أرادها الله تجعل الحياة خاضعة في عقيدة المسلم وتصوره لله، لا يندُّ منها شاردة ولا واردة ولا شاذة ولا فاذة.
هيمنة تسلم النفس كلها لله حتى تكون أفكارًا ومشاعرَ وأحاسيس وسلوكًا محكومة بوحي الله، فلا تخضع لغير سلطانه، ولا تحكم بغير قرآنه، ولا تتبع غير رسوله، لا يحركها إلا دين الله، تأتمر بأمر الله، وتنتهي عن نهيه، متجردة عن ذاتها، متعلقة بربها، وحال صاحبها:
خضعت نفسي للباري فَسُدتُّ الكائنات أنا عبد الله لا عبد الهوى والشهوات
فَهِمَ هذا أصحاب رسول الله ﷺ فصاغوه واقعًا حيًّا نابضًا انفعلت به نفوسهم، فتَرْجموه في واقع سلوكهم.
صرت ترى شرع الله يدبُّ على الأرض في صورة أُناسٍ يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق.
إذا ما دُعوا للهدى هرولوا وإن تدعهم للهوى قرفصوا
روى الإمام البخاري عن أنس رضى الله عنه أنه قال: ﴿كنت ساقي القوم في بيت أبي طلحة -يعني الخمر- وإني لقائم أسقي فلانًا وفلانًا وفلانًا، إذ جاء رجل، فقال: هل بلغكم الخبر؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: لقد حُرِّمت الخمر، وقد أمر رسول الله ﷺ مناديًا ينادي: ألا إن الخمر حرمت! فقالوا: أهرق هذه القلال يا أنس -فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل- وما دخل داخل ولا خرج خارج حتى أهراق الشراب، وكسرت القلال، وتوضأ بعضهم، واغتسل بعضهم، ثم أصابوا من طِيب أم سليم، ثم خرجوا إلى المسجد يخوضون في الخمر، قد جرت بها سكك المدينة﴾، فقد تواطأت المدينة كلها على تحريمها، فلما قُرئِت عليهم الآية: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة:٩١] بعض القوم شَرْبته في يده فلم يرفعها إلى فيه، بل أراق ما في كأسه، وصبَّ ما في باطيته، وقال: انتهينا ربنا انتهينا.
لم يقولوا: تعودنا عليها منذ سنين، وورثناها عن آبائنا؛ كما يفعل بعض مسلمي زماننا.
ما تكونت عصابات لتهريب المخدرات؛ لأن الدين هيْمَن على حياتهم، فاستشعروا رقابة ربهم، فبادروا في يُسْرٍ إلى تنفيذه؛ امتثالًا لأمر الله، وأمر رسول الله ﷺ.
إن النبي ﷺ يأمر أهل المدينة ألا يكلموا كعبًا حين تخلف عن تبوك، فإذا الأفواه ملجمة لا تنبس ببنت شفة، وإذا الثغور لا تفتر حتى عن بسمة، بل إن ابن عمه وحميمه وصديقه؛ أبا قتادة لمَّا أتاه ليسلِّم عليه كعب ما ردَّ ﵇، فاستعبرت عينا كعب ﵁ ورجع كسير البال، كاسف الحال.
فأمْرُ رسول الله ﷺ عند هؤلاء القوم فوق كل خُلة، ثم انظر إليهم لما نزلت توبة الله على هذا الرجل -على كعب ﵁ وأرضاه- تتحرك المدينة وتنتفض عن بكرة أبيها إلى كعب، فإذا الأفواه تلْهَج له بالتهنئة وكانت مُلْجَمَة، وإذا الثغور تفترُّ عن بسمات مضيئة صادقة وكانت عابسة، نفوس لا يحركها إلا دين الله، حالها:
ما بعث نفسي إلا لله ﷿ فمن تولى سواه يوله ما تولىَّ
إنهم لم يقفوا عند امتثال أمره واجتناب نهيه، بل تابعوا أفعال المصطفى ﷺ ولاحظوا تصرفاته بكل دقة وشوق وحرص على الاقتداء، حتى إذا ما فعل شيئًا سارعوا إلى فعله مباشرة؛ لأنهم يعلمون أن سنته سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك.
ثبت عند أبي داود في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: ﴿بينما رسول الله ﷺ يُصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه فألقاهما عن يساره، فلمَّا رأى ذلك أصحابه رضوان الله عليهم ألقوا نعالهم، فلمَّا قضى ﷺ صلاته، قال: ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليْك فألقينا نعالنا﴾.
توحيد في الاتباع.
فمن قلَّد الآراء ضلَّ عن الهدى ومن قلَّد المعصوم في الدين يهتدي
بل كان الناس إذا نزلوا منزلًا مع رسول الله ﷺ في أسفاره تفرقوا في الشِّعاب والأودية، فقال لهم ﷺ: ﴿إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان، فما نزلوا بعد ذلك منزلًا إلا انضموا بعضهم إلى بعض، حتى لو وضع عليهم بساط لعمَّهم﴾ تنفيذ في يُسْر، وطاعة وامتثال، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
هم ذلك السلف الذين لسانهم تنحطُّ عنه جميع ألسنة الورى
تلك العصابة من يَحُدْ عن سُبْلها حقًا يقال لمثله أطْرق كرى
أطْرق كرى إنَّ النَّعام في القُرَى
3 / 5