Lessons by Sheikh Abi Ishaq Al-Huwaini
دروس للشيخ أبي إسحاق الحويني
Nau'ikan
فرح الله بتوبة عبده
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد ﵌، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال العلماء: لكل شيء آفة تجتثه، ومن أعظم الآفات التي تصيب الإنسان آفة الذنب، كما صح في الحديث: (إن الشيطان ذئب الإنسان) ذئب الإنسان ينتظر منه أي غفلة ليفترسه.
نظرت في الكتاب والسنة فوجدت أن مكفرات الذنوب عشرًا، لا تكاد الأدلة تخرج عنها، أربع من الله، وثلاث من العبد، وثلاث من الناس.
أما الأربع التي يبتدئها الله ﷿: فالمصائب في الدنيا والبرزخ والقيامة، ثم عفو الله ﷿ برحمته بغير كسب من العبد، يعفو عنه هكذا بلا مقابل.
وثلاث من العبد -المكلف-: التوبة، الاستغفار، الحسنات الماحية.
وثلاث من الناس: شفاعة النبي ﷺ، وإهداء العمل الصالح من الناس له -على قول للعلماء-، ثم دعاء المؤمنين له.
وكل الأدلة تقريبًا أو غالبًا جزمًا لا تخرج عن هذه العشر المكفرات.
هذا إنما ابتدأت به لأقول: إن باب الذنب بمقابله عشرات من أبواب التوبة، لاسيما إذا رجعت إلى ربك ﵎ فإنه يعاملك بمعاملة الأكرمين، لا يعنفك، إنما يعفو، كما في الحديث الصحيح: (قال الله ﷿: أذنب عبدي ذنبًا فقال: رب! إني أذنبت ذنبًا، فاغفر لي.
فقال الله ﷿: علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به.
ثم أذنب ذنبًا فقال: رب! إني أذنبت ذنبًا، فاغفر لي.
فقال الله ﷿: علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به.
ثم أذنب ذنبًا فقال: رب! إني أذنبت ذنبًا، فاغفر لي.
فقال الله ﷿: علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به، فليعمل عبدي ما شاء) ليعمل ما شاء ليس إذنًا أن يفعل ما يشاء، كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف:٢٩] مع أنه لم يرخص في الكفر لأحد، كما قال ﵎: ﴿وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ [الزمر:٧] لكن هذه صيغة زجر.
كما لو قلت لولدك: ذاكر أو لا تذاكر، أنت حر.
هل قوله: (أنت حر) يعد إذنًا منه ألا يذاكر؟ هذا تهديد، لكنه خرج مخرج التخيير، وهذا يكون أبلغ في الزجر كما قال الله ﵎: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الانشقاق:٢٤] وهل العذاب يبشر به! لا تكون البشرى إلا لشيء حسن، فلما توضع كلمة البشرى في العذاب؛ فيكون هذا تقريعًا أقوى مما لو قرعه بألفاظ التقريع نفسها.
مداخل الذنوب لا حصر لها، لذلك قال الله ﵎: ﴿وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان:٥٨] (بذنوب) ما قال: (بحسنات)، إنما قال: (بذنوب)، إنما خص الذنب هنا بالذكر للدلالة على الإحاطة؛ لأن أغلب الذنوب تكون سرًا، هل المؤمن بلا ذنب؟ التقي بلا ذنب؟ لكن لا يستطيع أن يجهر به هكذا أمام الناس، فأغلب الذنوب تكون سرًا، كما قال ﷺ: (والإثم: ما حاك في صدرك، وخشيت أن يطلع عليه الناس) كم من الأشياء التي يفعلها الإنسان وهو يخشى أن يعلمها الناس، هي كثيرة لا حصر لها عند الفرد الواحد، انظر كم فردًا من لدن آدم ﵇ إلى أن تقوم الساعة، كل واحد لديه صندوق أسرار، يستحي أن يبرز جزئية منه للناس.
فربنا ﷾ يقول: ﴿وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ﴾ [الفرقان:٥٨] كفى بهذا دلالة على الإحاطة، وهذه الآية تشعرك بأن أغلب الذنوب تكون في الخفاء؛ لأن الله ﷿ ذكر الآية للدلالة على إحاطته بفعل العبد، فهذه الآية آية مدح لإحاطته ﷿، فلا يمكن أن تكون الذنوب صغيرة أو حقيرة؛ لأن الإحاطة حينئذ تكون ضعيفة.
ثم هناك عدوك الذي لا يغفل عنك، والذي أعلن عداوته لك منذ نزلت من رحم أمك، كما قال ﵊ في حديث أبي هريرة عند الإمام مسلم: (كل بني آدم يمسه الشيطان يوم يولد؛ لذلك يستهل صارخًا) يبكي الولد الذي نزل من رحم الأم؛ لأن الشيطان نخسه (إلا مريم وابنها)، ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ [آل عمران:٣٦ - ٣٧] لذلك مريم وابنها ﵉ ما مسهما الشيطان، وهذا الحديث من الأحاديث القوية؛ لأن فيها لفظة (كل) التي تفيد العموم، ثم ذكر اسم الجنس، الذي يقوي أكثر هذا العموم، ينخسه؛ هو يقول له: من أجلك أنت خلقت أنا ألا ينبهك مثل هذا؟! ما قصر النبي صلى الله عليه سلم في البلاغ أبدًا، لقد أوتينا من جهلنا وإهمالنا، قال ﵊: (أنا آخذ بحججكم، وأنتم تتهافتون على النار تتفلتون مني) كأن إنسانًا يريد بكل قوته أن يدخل جهنم، وأنت ممسك به بكل قوتك، ومع ذلك غلبك ودخل جهنم.
فإذا كان الشيطان ذئب الإنسان، ونحن نعلم أنه لا يموت إلى يوم القيامة حتى تستريح من شره، ونحن نعلم أنه لا يغفل عنك طرفة عين، وأنه في كل يوم يرسل سراياه تترا إلى بني آدم، كما في حديث جابر في صحيح مسلم، قال ﷺ: (إن الشيطان يضع عرشه على الماء كل صبح، ثم يرسل سراياه تترا -أي: بعضها يتبع بعضًا- كموج البحر إلى بني آدم) ليسوا ذاهبين لشرب الشاي بل لإضلال الناس، فنحن لو نعمل كعمل الشياطين في منتهى الجد لكنا من الأبرار، الشيطان بنفسه يتابع أعوانه الصغار، يجلس على الكرسي كل واحد يعرض تقريره ماذا فعلت؟ ما تركته حتى فعل كذا وكذا، أي: يمثل له بأي معصية.
ما تركته حتى زنى لم تصنع شيئًا، وهل هذا شغل! وأنت؟ ما تركته حتى سرق لم تصنع شيئًا.
وأنت؟ ما تركته حتى قتل أخاه وهل هذا شغل! وأنت؟ ما تركته حتى ضرب أباه.
وأنت؟ ما تركته كل المعاصي.
حتى يأتي أحدهم، ماذا فعلت؟ يقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله حينئذ يقوم إبليس من على الكرسي، ويأخذ الشيطان هذا بالأحضان، يلتزمه ويعتنقه، ويقول له: نعم أنت، أنت أنت! هذا هو الشغل.
قلنا قبل ذلك: الطلاق مباح، لو أن رجلًا طلق امرأته الصوامة القوامة المخبتة الخاشعة -إلى آخرها من الصفات الحسنة- لا يكون آثمًا، لكنه لو زنى؛ لكان آثمًا، وإذا كان غير محصن؛ يجلد محصن؛ يرجم قتل؛ يقتل، يقاد منه أو يدفع الدية سرق؛ تقطع يده، هذه كلها ذنوب، ومع ذلك هذه الذنوب لا يكترث بها إبليس، وعند الشيء المباح ينبسط لماذا؟ لأن إبليس يعلم أن العبد لو ظل في المعصية مائة عام وتاب، تاب الله عليه، فذهب كل عمل إبليس أدراج الرياح؛ لأن الذي يسقط الذنب يريد لك المغفرة والنجاة، ولا يعجل كعجلة أحدنا، لذلك كتب ربنا في كتابه الذي عنده: (إن رحمتي تغلب غضبي)، أين تجد هذا الرب؟ لا يسخط، ولا يبادر كمبادرة أحدنا، ولا حتى يجزي السيئة بعشر أمثالها، بينما الحسنة بعشر إلى سبعمائة، والسيئة مثلها ويمحو، وهذا الرب الجليل لا يستحق أن يعصى، ولو لم يتفضل عليك بكل شيء ما استحق أن يعصى، هو الذي لا يحب إلا لذاته، هو الله ﷿.
فإبليس -الذي هو ذئب الإنسان- يعلم أن العبد إذا رجع من المعصية رجع إلى رب غفور، فما الذي يجعلك تتوانى؟ ومكفرات الذنب كثيرة، ولو لم يكن من فائدة تعود عليك إلا أن الله يفرح برجوعك لكان الواجب عليك أن ترجع.
أتستقل بفرح الله برجوعك؟! قال بعض العلماء في قوله ﵎: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين:١٥] قال: أشد عليهم من عذاب النار: أن يحرموا رؤية الله.
وإنما أخذ مثل هذا الفهم من بعض الأحاديث التي فيها أن أهل الجنة لم يرزقوا شيئًا في الجنة أجل من رؤية الله ﷿.
كذلك إذا حُجب العبد عن ربه كان أشد من عذاب النار، وفي صحيح مسلم -والحديث أيضًا في صحيح البخاري لكن سياق مسلم أوسع- قال ﷺ: (لله أفرح بتوبة عبده العاصي من أحدكم بأرض فلاة، معه راحلة عليها طعامه وشرابه) وجد شجرة، وأراد أن يستريح، فنام وترك الراحلة، وعليها أكله وشربه، فلما استيقظ لم يجد الراحلة، والصحراء سيموت إذا لم يتجاوزها، وهذا الطعام الذي أعده يبلغه المنزل، بحث عنها، يئس من وجودها، أيقن بالهلاك، فقال لنفسه: أرجع إلى مكاني وأموت -يموت في الظل- فلما رجع إذا به يجد الراحلة، فقال ممتنًا ذاكرًا: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك، قال ﷺ: أخطأ من شدة الفرح).
الله ﷿ إذا رجعت يكون فرحه برجوعك أشد من فرح هذا الرجل بوجود الراحلة، تضن على نفسك أن يفرح الله برجوعك وهو مستغن عنك، فرح المفاجأة جعله يقسم، بعد أن أيقن بالهلاك، فلما وجد الراحلة لم يتماسك، وكذلك المفاجآت دائمًا تفتت عزم القلب أو تشده، ولذلك
4 / 2