والسعد يدرك أقواما فيرفعهم
وقد ينال إلى أن تعبد الحجرا
ويمر ذلك الكبير من الإنجليز على الجنود وهم على مصافهم قيام، فيروقه منظر أحدهم، ويعجبه حسن سمته، وما هي إلا لفتة منه إلى كاتم سره حتى يمسي ذلك الجندي تلميذا، فلا يهل بالمدرسة شهرا حتى يوافي إخوانه من الجنود وهو يجر سيفا لولا الغمد يمسكه لسال خجلا.
شكا ضابط مصري إلى كبيره وهو يحاوره من سوء العيش، وجفوة الرؤساء، وكثرة الأتعاب، وقلة الأعطية، فأجابه الإنجليزي وقد أمال سالفته تيها، وثنى عطفه كبرا: إذا أصبح السردار وقد أراد أن يملأ غرف المدرسة الحربية وفناءها من التلامذة، ألا تتم له تلك الإرادة؟ قال المصري: بلى، فلا يكلفه ذلك غير النشر في إحدى الصحف حتى تتواقع التلامذة على بابها تواقع القطا على المنهل العذب ، قال الإنجليزي: لهذا أنتم فيما أنتم فيه من البلاء، فهو إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، ولو عاف المصريون ورود هذا المورد، وانصرفت وجوههم عن ذلك الباب، وعزفت نفوسهم عن الولوج فيه؛ لأصبحتم من الإعزاز بحيث نحن الآن، ولكن أنى يكون لكم ذلك وما فيكم إلا من هو معني بقول ذلك الشاعر الجاهلي:
لحا الله صعلوكا مناه وهمه
من العيش أن يلقى لبوسا ومطعما
لذلك تكسرت في المصري الأظفار، وبات مهضوم الجانب، غير مرعي الجناب، يعتوره الذل والخور، وتأخذه سوء القالة، وهو كأنه العمر كلما مر به يوم لحق به النقص.
ينظر المصري إلى الإنجليزي وهو كأنه ينظر إليه بالنظارة المعظمة، فيكبره رهبة وإجلالا، ويتضعضع لرؤيته، وينظر إليه الإنجليزي بتلك النظارة وقد عكسها، فيصغره استخفافا بشأنه، ويطيل عتاب الخالق الذي فطره على شكله وصورته، ومنحه نعمة التنفس في جو يتنفس الإنجليزي فيه، وهو إن خاطبه خاطبه بلسان لا تجري عليه كلمة تستروح منها روائح الرفق، أو بإشارة يخالطها الجبروت، ويزدهيها البطر.
هذا شأن القوم مع الصغار من الضباط. أما الكبار منهم - كبار الرتب والأجسام، لا كبار النفوس والأحلام - فحالهم إلى الرحمة أدعى منها إلى اللوم؛ فلقد سقاهم ساقي السياسة الإنجليزية كئوسا من منقوع الرعب، فإذا نظر أحدهم بعض كبار القوم أو صغارهم، وقف أمامهم وقفة الجواد وقد رأى الليث، حتى إذا صدر له أمره بشيء كاد يخرج من ظله سرعة لإمضاء ذلك الأمر، فهو إلى إجابة داعيهم أسرع من الصدى، وهو على حفظ أمره أحرص من الفونوغراف على حفظ الصوت.
اللهم إن العيش مع الأبيضين وإن أبرد العظام، أروح للنفس من عيش ضباطنا العظام، تراهم وكأن أكتافهم سماء الدنيا وقد تزينت بالنجوم، فيروقك ما ترى ولو كشفتهم لرأيت تحت تلك السماء أفئدة هواء:
Shafi da ba'a sani ba