قلت: لقد أمنت، بحمد الله، نفوسنا من دخول ذلك الوهم، فأرسلنا من مصر في هذا العام إلى كلية واحدة من كليات المسيحيين ببيروت مائة وخمسين تلميذا.
قال: لقد سلمت نفوسكم من الأوهام، وأصيبت عزائمكم بأنواع السقام. أليس من العار أن تكونوا أكثر مالا وأعز نفرا ولا تجدوا في مصر لتعليم أولادكم مستقرا، وليست بيروت بأخصب من عروس النيل أرضا، ولا بأوسع من ملك مصر طولا وعرضا؟! أيعجز في مصر عشرة ملايين من النفوس عن بناء كلية، ويظفر عشر معشارهم في بيروت بنيل تلك الأمنية؟!
ثم أمسك عن الكلام وأخذ في تسبيحه، فأخذت بيد صاحبي وانطلقنا في سبيلنا راجعين. ولما بلغنا قصر النيل، تياسر صاحبي وتيامنت حتى إذا بلغت الدار، وعاودتني تلك الأفكار، قضيت الليلة على نحو ما قضيت به أختها السابقة، ولبثت بالمنزل إلى وقت التطفيل، ثم دعاني الموعد إلى المسير، فركبت نعلي، وأعملت قدمي، ولكن كان النهار أسرع مني مطية، وأحث سيرا، فأدركني الظلام قبل أن أدرك المقصد، فنبهت العزيمة، واحتثثت الأقدام حتى بلغت المكان المعهود، وقد أجهدني السير، وكدني النصب، فإذا فيه إنسان ينوح من فؤاد مقروح، فقلت: ما خطبك أيها النائح؟ فقال وهو يشرق بعبراته، وأنفاسه تتوقد بزفراته: ومن - يا ترى - أولى مني بالبكاء وقد أقصدني بسهامه القضاء؛ كان لي أخ أسكن إليه، وأعتمد بعد الله عليه. إذا أملقت واساني، وإذا تربت أعطاني. أنام للمرض ويسهر علي، وأمشي للغرض ويجري بين يدي، فما زلت مكفي المئونة بكدحه، غنيا عن المعونة بنصحه، حتى انتويت به منذ عام؛ غاله رومي بمديته، وحرمني من حسن طلعته. بقر بطنه، وحضر دفنه، وحالت بيني وبينه حماية قومه.
قال الراوي: ثم أمسك الحزن لسانه، وأسالت الذكرى نفسه، فما زال بين الزفرة والشهيق، حتى أشفقت عليه أن يذوب كمدا، فأقبلت أنفس عنه بسرد العظات، وأدعوه إلى الأخذ بالتأسي حتى رقأ دمعه، وهمدت نار أحشائه. ولما تماسك بعض الشيء أنشأت أقص عليه خبر سطيح، فارتاح إلى لقائه. وقد حان الوقت فقمنا إليه، وإذا به يقول: «واجد موتور، وساهد مقهور. قد واصل النواح في الغدو والرواح، على دم هدر، وأخ قبر (أي فلان)، ما دام امتياز الجانب الرومي يطعن بمديته، ويستظل بعلم دولته، والمصري يحمل القتيل، ويخضع خضوع الذليل؛ كأنما دية القتيل المصري كرامة للقاتل الرومي، كما قال شاعركم:
وهل في مصر مفخرة
سوى الألقاب والرتب
وذي إرث يكاثرنا
بمال غير مكتسب
وفي الرومي موعظة
لشعب جد في اللعب
Shafi da ba'a sani ba