فقال الصوت: هيهات أن يعرفك أحد، انظر في أول مرآة تصادفك.
الحمال
1
من أعلى باب الدار تدلى رأس جمصة البلطي .. الرائحون والغادون ينظرون إليه، يتوقفون قليلا ثم يذهبون، وجمصة البلطي ينظر مع الناظرين .. ينظرون بفضول أو رثاء أو شماتة .. أما هو فينظر بذهول ولم يكن أفاق من كربه حينما شهد طرد زوجته وابنته من الدار .. وقد مرا به دون اكتراث وهو متصور في صورة حبشي مفلفل الشعر خفيف اللحية ممشوق القامة .. عجبه من منظر رأسه لا ينقضي، أما حزنه على أسرته فلا نهاية له .. ويحوم حول الدار فتترامى إلى أذنيه التعليقات المتضاربة تحت الرأس المعلق .. السادة - مثل كرم الأصيل والعطار والبزاز - يلعنونه بلا رحمة، والعامة يرثون له .. وقد أشرف على مصادرة داره الحاكم الجديد يوسف الطاهر وكاتم سره بطيشة مرجان وكبير الشرطة الجديد عدنان شومة .. فتساءل عما ذهب إلى بيت المال وعما دس في الجيوب .. وظل قريبا من الرأس المعلق ينظر ويتأمل ويسمع .. ورأى عجر الحلاق وهو يقول لإبراهيم السقاء مشيرا إلى الرأس: قتلوه جزاء الفعل الخير الوحيد في حياته.
فتساءل السقاء: لم لم ينقذه عفريته المؤمن؟
فقال الحلاق محذرا: لا تخض فيما لا تعلم.
فصدق معروف الإسكافي على قوله .. ورأى سحلول تاجر المزادات والتحف وهو ينظر نحو الرأس بلا مبالاة، فتذكر نشاطه العجيب يوم الإعدام .. ولما كان التاجر وحده فقد اقترب منه وسأله: هلا نورت غريبا بحكاية صاحب الرأس؟
فحدجه سحلول بنظرة ارتجف لوقعها جسمه .. خيل إليه أنها نفذت إلى أعماقه، فازداد الرجل في نظره غموضا على غموض .. وقال له سحلول وهو يمضي عنه: لا أعرف عنه أكثر من الآخرين.
أتبعه ناظريه حتى اختفى، ثم قال لنفسه: «لعله ترفع عن محادثة حبشي غريب!» .. وتذكر تاريخه - كشرطي سابق عالم بأحوال الناس - فشهد له بأنه التاجر الكبير الوحيد الذي لم ينشئ علاقة مريبة معه أو مع الحاكم! .. ثم سرعان ما نسيه في زحمة التأملات .. ورأى رجب الحمال ينضم إلى موقف عجر وإبراهيم ومعروف، فقصده مدفوعا بخطة رسمها من قبل .. حياه وقال: إني حبشي مهاجر وأريد أن أعمل حمالا!
فتذكر رجب صديقه الأول السندباد، ولكنه قال: هلم معي والله رزاق كريم.
Shafi da ba'a sani ba