بعد العشاء فكر في التخفيف عن نفسه بزيارة مقهى الأمراء تحت الطاقية .. ثمة فرص للمداعبة البريئة مع أخذ الحيطة في ألا يتورط في فعل شائن كما تورط في دكان القصاب .. رأى الوجوه المألوفة لأول مرة من دون أن تستطيع رؤيته .. جرى بصره بسخرية على حسن العطار، وجليل البزاز، وعجر الحلاق، وشملول الأحدب، والمعلم سحلول، وإبراهيم السقاء، وسليمان الزيني، وعبد القادر المهيني، ورجب الحمال، ومعروف الإسكافي .. سمع عجر الحلاق يتساءل: ماذا أخر فاضل صنعان؟
فأجاب شملول الأحدب بصوته الرفيع ضاحكا: لعل مصيبة دهمته!
قرر أن يعاقب المهرج .. جاء النادل يحمل أقداح الكركديه، وإذا بالصينية تندلق فوق رأس الأحدب وتغمره بسوائلها .. وثب الأحدب صارخا على حين وقف النادل مبهوتا .. أخفى الرجال ضحكات ساخرة .. لطم المعلم صبيه وراح يعتذر لمهرج السلطان .. ومبالغة في الاسترضاء جاء المعلم بنفسه بالكركديه، وإذا به ينصب فوق رأس سليمان الزيني! .. انتشر الذهول والسرور الخفي، وأكثر من صوت صاح: إنه الحشيش والمنزول.
وأفلت الزمام من عجر فتناسى أحزانه وضحك ولكنه لم يهنأ بضحكة، فتلقى على قفاه صفعة مدوية .. التفت مغضبا، فرأى وراءه معروف الإسكافي، فضربه بقبضته في وجهه، وسرعان ما اشتبكا في معركة .. وساد الظلام إثر حجر أصاب الفانوس .. وفي الظلام انهالت الصفعات، فثار الغضب والتحموا في صراع في الظلام، وعلا الصراخ حتى تناثروا في الطريق على حال قبيحة من الجنون والخوف.
5
مارس حياته المألوفة مخفيا الطاقية في جيبه لحين الحاجة إليها .. قال إنه لم يجن منها حتى الآن إلا أن سرق، وارتكب سخافات لا معنى لها .. ساوره قلق وضيق .. قال إنه ما كان بوسعه أن يتجاهل فرصة نادرة مثلها .. ولم يكن لديه مجال للتأمل، ولكن ما جدوى ذلك كله؟ .. وإذا تعذر عليه صنع خير بالطاقية فما عسى أن يفعل بها؟ .. وكان يستريح على سلم السبيل بعد الغروب على مبعدة يسيرة من بياع بطيخ متجول فرأى شاور مقبلا نحو الرجل لابتياع بطيخة .. ارتعدت مفاصله لرؤيته؛ فهو سجان اشتهر بتعذيب إخوانه .. رآه يمضي بالبطيخة نحو زقاق قريب حيث يقيم فيما بدا له فتبعه .. ولما أمن المارة لبس الطاقية فتلاشى .. وكأنما نسي تعهده فاستل السكين التي يقطع بها الحلوى .. فليجرب على الأقل كيف يحول «الآخر» بينه وبين ما يود أن يفعل .. لحق بالسجان وهو عنه لاه .. وجه إلى عنقه طعنة قاتلة فسقط غارقا في دمه.
أثمله شعور بالنصر .. يستطيع أن يفعل ما يشاء .. ولم يبرح المكان ليتابع الحدث .. شاهد التجمهر على ضوء المشاعل .. جاءت الشرطة .. سمع أن السجان لفظ اسم بياع البطيخ قبل أن يلفظ أنفاسه .. رأى الشرطة وهي تقبض على البياع البريء .. تعجب فاضل من ذلك وانزعج له .. ماذا كان بين السجان والبياع مما جعله يوقع به؟ استفحل انزعاجه وقال لنفسه: لا مفر من إنقاذ الرجل البريء.
عند ذاك رأى صاحب الطاقية أمامه وهو يقول له: حذار أن تخون العهد.
فذعر فاضل متسائلا: ألم تتركني أقتل المجرم؟
فقال الآخر: كلا .. لم تقتل المجرم، ولكنك قتلت توءمه، وهو رجل طيب لا غبار عليه!
Shafi da ba'a sani ba