Lawaqih Anwar
الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار
Mai Buga Littafi
مكتبة محمد المليجي الكتبي وأخيه، مصر
Shekarar Bugawa
1315 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قال سيدنا ومولانا وقدوتنا إلى الله تعالى، الشيخ الإمام العالم العامل، العارف بالله تعالى، إمام المحقفين، وقدوة العارفين، ومربي الفقراء والمريدين، بأقوى قواعد التمكين، فاتح أقفال غوامض معنويات إشارات المحققين، ومعبر رموز مجلات مشكلات العارفين، واسطة عقد السالكين، وريحانة وجود الواصلين الذي أقامته القدرة الإلهية ورتبته العناية الربانية واللطائف الرحمانية، وسلك الطريق الإلهية متبعا للكتاب العزيز والسنة المحمدية، وتفقه حتى وصل إلى الغاية في مذهب السادة الشافعية وفتح الله عليه بالافتتاحات الربانية أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد بن علي بن الشعراوي الأنصاري طاب ثراه وجعل قبره روضة من رياض الجنة ونفعنا به وببركات علومه وأسراره ونفحاته في الدنيا والآخرة آمين.
الحمد لله الذي خلع على أوليائه خلع إنعامه فهم بذلك له حامدون، واختصهم بمحبته، وأقامهم في خدمته فهم على صلاتهم يحافظون، ودعاهم إلى حضرته وأظهر فيه مراتبهم فالسابقون السابقون أولئك المقربون، وفتح لهم أبواب حضرته، ورفع عن قلوبهم حجاب بعده فهم بين يديه متأدبون، ولاطفهم بوده وأمنهم من إعراضه وصده " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " يونس: 62، ونور بصارئرهم بفضله وطهر سرائرهم، وأطلعهم على السر المصون، وصانهم عن الأغيار، وسترهم عن أعين الفجار لأنهم عرائس ولا يرى العرائس المجرمون، فإذا مر عليهم ولي من أولياء الله ينسبونه إلى الزندقة والجنون، وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون، فمنهم المنكر لكراماتهم، ومنهم المنقص لمقاماتهم، ومنهم الثالب لأعراضهم، ومنهم المعترضون يعترضون على أحوالهم، ويخوضون بجهلهم في مقالهم، وبهم يستهزئون، الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون، فسبحان من قرب أقواما واصطفاهم لخدمته فهم على بابه لا يبرحون، وسبحان من جعلهم نجوما في سماء الولاية، وجعل أهل الأرض بهم يهتدون، وسبحان من أباحهم حضرة قربه والمنكرون عليهم عنها مبعدون؛ فالأولياء في جنة القرب متنعمون، والمنكرون في نار الطرد والبعد معذبون " لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون " الأنبياء: 23. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة شهد
Shafi da ba'a sani ba
بها الموقنون، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله النور المخزون والسر المصون، اللهم فصل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آلهم وصحبهم أجمعين، كلما ذكرك الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون.
وبعد: فهذا كتاب لخصت فيه طبقات جماعة من الأولياء الذي يقتدي بهم في طريق الله عز وجل من الصحابة والتابعين إلى آخر القرن التاسع وبعض العاشر، ومقصودي بتأليفه فقه طريق القوم في التصوف من آداب المقامات والأحوال لا غير، ولم أذكر من كلامهم إلا عيونه وجواهره دون ما شاركهم غيرهم فيه مما هو مسطور في كتب أئمة الشريعة، وكذلك لا أذكر من أحوالهم في بداياتهم إلا ما كان منشطا للمريدين كشدة الجوع والسهر ومحبة الخمول وعدم الشهرة، ونحو ذلك أو كان يدل على تعظيم الشريعة دفعا لمن يتوهم في القوم أنهم رفضوا شيئا من الشريعة حين تصوفوا كما صرح به ابن الجوزي في الغزالي بل في حق الجنيد، والشبلي، فقال في حقهم: ولعمري لقد طوى هؤلاء بساط الشريعة طيا، فيا ليتهم لم يتصوفوا.
قلت: وكذلك قال لي جماعة من أهل عصري حين اجتمعت بالفقراء واشتغلت بطريقهم: وهذا الذي التزمته من ذكر عيون كلامهم فقط ما أظن أن أحدا ممن ألف في طبقاتهم التزمه إنما يذكرون عنهم كل ما يجدونه من كلامهم، وأحوالهم، ولا يفرقون بين ما قالوه: أو وقع منهم في حال البداية، ولا بين ما وقع منهم في حال التوسط والنهاية، ومن فوائد تخصيص عيون كلامهم بالذكر تقريب الطريق على من صح له الاعتقاد فيهم، وأخذ كلامهم بالقبول فإن المريد الصادق هو من إذا سمع من شيخه كلاما فعمل به على وجه الجزم واليقين ساوى شيخه في المرتبة، وما بقي له على المريد زيادة إلا كونه هو المفيض عليه.
ومن هنا قالوا: بداية المريد نهاية شيخه فإن ما قاله الشيخ، أو فعله أواخر عمره هو زبدة جميع مجاهداته طول عمره وسلكت في هذه الطبقات نحو مسلك المحدثين، وهو أن ما كان من الحكايات والأقوال في الكتب المسندة كرسالة القشيري والحيلة لأبي نعيم، وصرح صاحبه بصحة سنده أذكره بصيغة الجزم، وكذلك ما ذكره بعض المشايخ المكملين في سياق الاستدلال على أحكام الطريق أذكره بصيغة الجزم لأن استدلاله به دليل على صحة سنده عنده، وما خلا عن هذين الطريقين، فأذكره بصيغة التمريض كيحكى ويروى، ثم لا يخفى أن حكم ما في كتب القوم كعوارف المعارف، ونحوه حكم صحيح السند، فأذكره بصيغة الجزم كما يقول العلماء: قال في شرح المهذب: كذا قال في شرح الروضة: كذا ونحو ذلك وختمت هذه الطبقات بذكر نبذة صالحة من أحوال مشايخي الذين أدركتهم في القرن العاشر، وخدمتهم زمانا، أو زرتهم تبركا في مشايخ السلف وجميعهم من مشايخ مصر المحروسة وقراها رضي الله عنهم أجمعين.
ثم اعلم يا أخي أن كل من طالع في هذا الكتاب على وجه الاعتقاد وسمع ما فيه فكأنه عاصر جميع الأولياء المذكورين فيه وسمع كلامهم وذلك لأن عدم الاجتماع بالشيخ لا يقدح في محبته وصحبته، فإنا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين وما رأيناهم ولا عاصرناهم، وقد انتفعنا بأقوالهم واقتدينا بأفعالهم كما هو مشاهد، فإن صورة المعتقدات إذا ظهرت وحصلت لا يحتاج إلى مشاهدة صورة الأشخاص، ثم إن من طالع مثل هذا الكتاب ولم يحصل عنده نهضة ولا شوق إلى طريق الله عز وجل فهو والأموات سواء والسلام.
وسميته بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار وصدرته بمقدمة
نافعة تزيد الناظر فيه اعتقادا في هذه الطائفة، إلى اعتقاده، وتشير من طرف خفي إلى أن الإنكار على هذه الطائفة لم يزل عليهم في كل عصر، وذلك لعلو ذوق مقامهم على غالب العقول، ولكنهم لكمالهم لا يغيرون كما لا يتغيرون كما لا يتغير الجبل من نفخة الناموسة، فأكرم به من كتاب جمع مع صغر حجمه غالب فقه أهل الطريق، فهو في جميع نصوص أهل الطريق، ومقلديهم، كالروضة في مذهب الشافعي رضي الله عنه جعله الله خالصا لوجهه الكريم، ونفع به مؤلفه وكاتبه وسامعه والناظر فيه إنه قريب مجيب. إذا علمت ذلك، فأقول وبالله التوفيق:
مقدمة
في بيان أن طريق القوم مشيدة بالكتاب، والسنة، وأنها مبنية على سلوك أخلاق الأنبياء
Shafi 3
والأصفياء، وبيان أنها لا تكون مذمومة، إلا إن خالفت صريح القرآن أو السنة أو الإجماع لا غير، وأما إذا لم تخالف، فغاية الكلام أنه فهم أوتيه رجل مسلم فمن شاء فليعمل به، ومن شاء تركه ونظير الفهم في ذلك الأفعال وما بقي باب للإنكار، إلا سوء الظن بهم وحملهم على الرياء، وذلك لا يجوز شرعا. ثم اعلم يا أخي رحمك الله أن علم التصوف، عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعمل بالكتاب والسنة فكل من علم بهما انقدح له من ذلك علوم، وأدب، وأشرار، وحقائق تعجز الألسن عنها، نظير ما انقدح لعلماء الشريعة من الأحكام، حين عملوا بما عملوه من أحكامهم، فالتصوف إنما هو زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة، إذا خلا عمله من العلل وحظوظ النفس، كما أن علم المعاني والبيان زبدة علم النحو، فمن جعل علم التصوف علما مستقلا صدق، ومن جعله من عين أحكام الشريعة صدق، كما أن من جعل علم المعاني والبيان علما مستقلا، فقد صدق، ومن جعله من جملة علم النحو فقد صدق، لكنه لا يشرف على ذوق أن علم التصوف تفرع من عين الشريعة، لا من تبحر في علم الشريعة حتى بلغ إلى الغاية، ثم إن العبد إذا دخل طريق القوم، وتبحر فيها أعطاه الله هناك قوة الاستنباط نظير الأحكام الظاهرة على حد سواء، فيستنبط في الطريق واجبات، ومندوبات، وآدابا ومحرمات ومكروهات، وخلاف الأولى نظير ما فعله المجتهدون، وليس إيجاب مجتهد باجتهاده شيئا لم تصرح الشريعة بوجوبه، أولى من إيجاب ولي الله تعالى حكما في الطريق، لم تصرح الشريعة بوجوبه كما صرح بذلك اليافعي وغيره.
وإيضاح ذلك: أنهم كلهم عدول في الشرع، اختارهم الله عز وجل لدينه، فمن دقق النظر علم أنه لا يخرج شيء من علوم أهل الله تعالى عن الشريعة، وكيف تخرج علومهم عن الشريعة والشريعة هي وصلتهم إلى الله عز وجل في كل لحظة، ولكن أصل استغراب من لا له إلمام بأهل الطريق أن علم التصوف من عين الشريعة، كونه لم يتبحر في علم الشريعة، ولذلك قال الجنيد رحمه الله تعالى: علمنا هذا مشيد بالكتاب، والسنة ردا على من توهم خروجه عنهما في ذلك الزمان، أو غيره، وقد أجمع القوم على أنه لا يصلح للتصدر في طريق الله عز وجل إلا من تبحر في علم الشريعة، وعلم منطوقها ومفهومها وخاصها وعامها وناسخها ومنسوخها.
وتبحر في لغة العرب حتى عرف مجازاتها واستعارتها، وغير ذلك فكل صوفي فقيه ولا عكس. وبالجلمة فما أنكر أحوال الصوفية إلا من جهل حالهم، وقال القشيري لم يكن عصر في مدة الإسلام، وفيه شيخ من هذه الطائفة إلا وأئمة ذلك الوقت من العلماء قد استسلموا لذلك الشيخ، وتواضعوا له، وتبركوا به ولولا مزية وخصوصية للقوم لكان الأمر بالعكس انتهى.
قلت: ويكفينا للقوم مدحا إذعان الإمام الشافعي رضي الله عنه، لشيبان الراعي حين طلب الإمام أحمد بن حنبل أن يسأله عمن نسي صلاة لا يدري أي صلاة هي، وإذعان الإمام أحمد بن حنبل لشيبان كذلك حين قال شيبان: هذا رجل غفل عن الله عز وجل فجزاؤه أن يؤدب.
وكذلك يكفينا إذعان الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه لأبي حمزة البغدادي الصوفي رضي الله عنه، واعتقاده حين كان يرسل له دقائق المسائل ويقول: ما تقول في هذا يا صوفي كما سيأتي بيان ذلك في ترجمة أبي حمزة رضي الله عنه، فشيء يقف في فهمه الإمام أحمد ويعرفه أبو حمزة غاية المنقبة للقوم، كذلك يكفينا إذعان أبي العباس بن سريج للجنيد حين حضره وقال: لا أدري ما يقول ولكن لكلامه صولة ليست بصولة مبطل، وكذلك إذعان الإمام أبي عمران للشبلي حين امتحنه في مسائل من الحيض، وفاده سبع مقالات لم تكن عند أبي عمران، وحكى الشيخ قطيب الدين بن أيمن رضي الله عنه أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه كان يحث ولده على الاجتماع بصوفية زمانه، ويقول: إنهم بلغوا في الإخلاص مقاما لم تبلغه؛ وقد أشبع القول في مدح القوم، وطريقهم الإمام القشيري في رسالته والإمام عبد الله بن أسعد اليافعي في روض الرياحين، وغيرهما من أهل الطريق، وكتبهم كلها طافحة بذلك، وقد كان الإمام أبو تراب النخشبي أحد رجال الطريق رضي الله عنه يقول: إذا ألف العبد الإعراض عن الله تعالى صحبته الوقيعة في أولياء الله.
قلت: وسمعت شيخي ومولاي أبا يحيى زكريا الأنصاري شيخ الإسلام يقول: إذا لم يكن للفقيه علم بأحوال القوم، واصطلاحاتهم، فهو فقيه جاف وكنت أسمعه
Shafi 4
يقول كثيرا، الاعتقاد صبغة، والانتقاد حرمان. انتهى.
وكان شيخنا الشيخ محمد المغربي الشاذلي رضي الله عنه يقول: اطلب طريق ساداتك من القوم وإن قلوا، وإياك وطريق الجاهلين بطريقهم وإن جلوا، وكفى شرفا بعلم القوم قول موسى عليه السلام للخضر: " هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا " الكهف: 66، وهذا أعظم دليل على وجوب طلب علم الحقيقة، كما يجب طلب علم الشريعة وكل عن مقامه يتكلم.
انتهى.
قلت: وقد رأيت رسالة أرسلها الشيخ محيي الدين بن العربي رضي الله عنه للشيخ فخر الدين الرازي صاحب التفسير، يبين له فيها نقص درجته في العلم. هذا والشيخ فخر الدين الرازي مذكور في العلماء الذين انتهت إليهم الرياسة في الاطلاع على العلوم من جملتها: اعلم يا أخي وفقنا الله وإياك أن الرجل لا يكمل عندنا في مقام العلم، حتى يكون علمه عن الله عز وجل بلا واسطة من نقل، أو شيخ.
فإن من كان علمه مستفادا من نقل، أو شيخ، فما برح عن الأخذ عن المحدثات، وذلك معلول عند أهل الله عز وجل، ومن قطع عمره في معرفة المحدثات وتفاصيلها، فاته حظه من ربه عز وجل، لأن العلوم المتعلقة بالمحدثات يفني الرجل عمره فيها، ولا يبلغ إلى حقيقها، ولو أنك يا أخي سلكت على يد شيخ من أهل الله عز وجل، لأوصلك إلى حضرة شهود الحق تعالى، فتأخذ عنه العلم بالأمور من طريق الإلهام الصحيح، من غير تعب ولا نصب، ولا سهر، كما أخذه الخضر عليه السلام، فلا علم إلا ما كان عن كشف وشهود، لا عن نظر، وفكر، وظن، وتخمين.
وكان الشيخ الكامل أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه يقول لعلماء عصره: أخذتم علمكم من علماء الرسوم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت.
وينبغي لك يا أخي ألا تطلب من العلوم إلا ما تكمل به ذاتك، وينتقل معك حيث انتقلت، وليس ذلك إلا العلم بالله تعالى، من حيث الوهب والمشاهدة، فإن علمك بالطب مثلا إنما يحتاج إليه في عالم الأسقام، والأمراض، فإذا انتقلت إلى عالم ما فيه سقم، ولا مرض، فمن تداوى بذلك العلم.
فقد علمت يا أخي أنه لا ينبغي للعاقل أن يأخذ من العلوم إلا ما ينتقل معه إلى البرزخ، دون ما يفارقه عند انتقاله إلى عالم الآخرة، وليس المنتقل معه إلا علمان فقط، العلم بالله عز وجل، والعلم بمواطن الآخرة.
حتى لا ينكر التجليات الواقعة فيها، ولا يقول للحق إذا تجلى له نعوذ بالله منك كما ورد، فينبغي لك يا أخي الكشف عن هذين العلمين، في هذه الدار لتجني ثمرة ذلك في تلك الدار، ولا تحمل من علوم هذه الدار، إلا ما تمس الحاجة إليه في طريق سيرك إلى الله عز وجل على مصطلح أهل الله عز وجل، وليس طريق الكشف عن هذين العلمين، إلا بالخلوة، والرياضة، والمشاهدة، والجذب الإلهي، وكنت أريد أن أذكر لك يا أخي الخلوة وشروطها، وما يتجلى لك فيها على الترتيب شيئا فشيئا، لكن منعني من ذلك الوقت، وأعني بالوقت من لا غوص له في أسرار الشريعة، ممن دأبهم الجدال حتى أنكروا كل ما جهلوا، وقيدهم التعصب، وحب الظهور، والرياسة، وأكل الدنيا بالدين عن الإذعان لأهل الله تعالى، والتسليم لهم. انتهى.
وقد حكى الشيخ محيي الدين بن العربي في الفتوحات وغيرها: أن طريق الوصول إلى علم القوم الإيمان، والتقوى قال الله تعالى: " ولو أن أهل القرى أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " الأعراف: 96 أي أطلعناهم على العلوم المتعلقة بالعلويات والسفليات، وأسرار الجبروت، وأنوار الملك، والملكوت وقال تعالى: " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب " الطلاق: 3. والرزق نوعان روحاني وجسماني وقال تعالى: " واتقوا الله ويعلمكم الله " البقرة:282. أي يعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه بالوسائط من العلوم الإلهية، ولذلك أضاف التعليم إلى اسم الله الذي هو دليل على الذات، وجامع للأسماء، والأفعال والصفات، ثم قال رضي الله عنه، فعليك يا أخي بالتصديق، والتسيلم لهذه الطائفة، ولا تتوهم فيما يفسرون به الكتاب، والسنة.
أن ذلك إحالة للظاهر عن ظاهره، ولكن لظاهر الآية والحديث مفهوم بحسب الناس، وتفاوتهم في الفهم، فيمن المفهوم ما جلب له الآية والحديث، ودلت عليه في عرف اللسان، وثم أفهام أخر باطنة تفهم عند الآية، أو الحديث لمن فتح الله تعالى عليه، إذ قد ورد في الحديث النبوي أن لكل آية ظاهرا، وباطنا وحدا، ومطلعا إلى سبعة أبطن، وإلى سبعين، فالظاهر هو المعقول والمقبول من العلوم النافعة، التي تكون بها الأعمال الصالحة والباطن هو المعارف الإلهية، والمطلع هو معنى يتحد فيه الظاهر والباطن،
Shafi 5
والحد، فيكون طريقا إلى الشهود الكلي الذاتي، فافهم يا أخي ولا يصدنك عن تلقي هذه المعاني الغريبة عن فهوم العلوم من هذه الطائفة الشريفة، قول ذي جدل ومعارضة إن هذا إحالة لكلام الله تعالى، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه ليس ذلك بإحالة، وإنما يكون إحالة لو قالوا لا معنى للآية الشريفة، أو الحديث إلا هذا الذي قلناه، وهم لم يقولوا ذلك بل يقرون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها، ويفهمون عن الله تعالى في نفوسهم، ما يفهمهم بفضله ويفتحه على قلوبهم برحمته ومنته.
ومعنى الفتح في كلام هؤلاء القوم حيث أطلقوه كشف حجاب النفس، أو القلب، أو الروح، أو السر لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب العزيز، والأحاديث الشريفة.
إذ الوالي قط لا يأتي بشرع جديد، وإنما يأتي بالفهم الجديد في الكتاب، والسنة الذي لم يكن يعرف لأحد قبله، ولذلك يستغربه كل الاستغراب من لا إيمان له بأهل الطريق، ويقول: هذا لم يقله أحد، على وجه الذم، وكان الأولى أخذه منه على وجه الاعتقاد واستفادته من قائله، ومن كان شأنه الإنكار لا ينتفع بأحد من أولياء عصره، وكفى بذلك خسرانا مبينا، وربما يفهم المعترض من اللفظ ضد ما قصده لافظه، كما وقع لشخص من علماء بغداد أنه خرج يوما إلى الجامع فسمع شخصا من شربة الخمر ينشد:
إذا العشرون من شعبان ولت ... قواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار ... فإن الوقت ضاق عن الصغار
فخرج هائما على وجهه للبراري إلى مكة، فلم يزل على ذلك الحال إلى أن مات، فما منع من سماع الأشعار، والتغزلات، إلا المحجوب الذي لم يفتح الله تعالى على عين فهم قلبه، إذ لو فتح الله تعالى على عين فهم قلبه، لنظر بصفاء الهمة، وسمع بثاقب الفهم، ونور المعرفة وأخذ الإشارة من معاني الغيب واتبع أحسن القول بحسب ما سبق إلى سره قال تعالى: " فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب " الزمر: 17، 18. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه، ولقد ابتلى الله هذه الطائفة الشريفة بالخلق خصوصا أهل الجدال فقل أن تجد منهم أحدا شرح الله صرده للتصديق بولي معين، بل يقول لك: نعم نعلم أن لله تعالى أولياء وأصفياء موجودين، ولكن أين هم فلا تذكر لهم أحدا، إلا أخذ يدفعه، ويرد خصوصية الله تعالى له، ويطلق اللسان بالاحتجاج، على كونه غير ولي لله تعالى وغاب عنه أن الولي لا يعرف صفاته إلا الأولياء، فمن أين لغير الولي نفي الولاية عن إنسان.
ما ذاك إلا محض تعصب، كما نرى في زماننا هذا من إنكار ابن تيمية علينا، وعلى إخواننا من العارفين، فاحذر يا أخي ممن كان هذا وصفه وفر من مجالسته فرارك من السبع الضاري جعلنا الله وإياكم من المصدقين لأوليائه المؤمنين بكراماتهم بمنه وكرمه انتهى.
وحكى الموصلي في كتاب مناقب الأبرار عن الفضيل بن عياض رضي الله عنه، أنه كان يقول: إياك ومجالسة القراء، فإنهم إن أحبوك وصفوك بما ليس فيك، فغطوا عليك عيوبك، وإن أبغضوك جرحوك بما ليس فيك، وقبله الناس متهم.
قال سيدي الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: وقد جرت سنة الله تعالى في أنبيائه وأصفيائه أن يسلط عليهم الخلق في مبدأ أمرهم، وفي حال نهايتهم، كلما مالت قلوبهم لغير الله تعالى، ثم تكون الدولة، والنصرة لهم في آخر الأمر، إذا أقبلوا على الله تعالى كل الإقبال. انتهى. قلت: وذلك لأن المريد السالك يتعذر عليه الخلوص والسر إلى حضرة الله عز وجل مع ميله إلى الخلق، وركونه إلى اعتقادهم فيه، فإذا آذاه الناس، وذموه، ونقصوه، ورموه بالبهتان، والزور نفرت نفسه منهم، ولم يصر عنده ركون إليهم البتة، وهناك يصفو له الوقت مع ربه، ويصح له الإقبال عليه لعدم التفاته إلى وراء، فافهم ثم إذا رجعوا بعد انتهاء سيرهم إلى إرشاد الخلق يرجعون، وعليهم خلعة الحلم، والعفو، والستر، فتحملوا أذى الخق، ورضوا عن الله تعالى في جميع ما يصرد عن عباده في حقهم فرفع الله بذلك قدرهم بين عباده، وكمل بذلك أنوارهم، وحقق بذلك ميراثهم للرسل في تحمل ما يرد عليهم من أذى الخلق، وظهر بذلك تفاوت مراتبهم، فإن الرجل يبتلي على حسب دينه قال الله تعالى: " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما " السجدة: 24. وقال تعالى: " ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا
Shafi 6
حتى أتاهم نصرنا " الأنعام: 34. وذلك لأن الكمل لا يخلو أحدهم عن هذين الشهودين، إما أن يشهد الحق تعالى بقلبه، فهو مع الحق لا التفات له إلى عباده، وإما أن يشهد الخلق فيجدهم عبيد الله تعالى، فيكرمهم لسيدهم، وإن كان مصطلما فلا كلام لنا معه لزوال تكليفه حال اصطلامه، فعلم أنه لا بد لمن اقتفى آثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الأولياء والعلماء أن يؤذي كما أوذوا ويقال فيه البهتان والزور كما قيل فيهم ليصبر كما صبروا، ويتخلق بالرحمة على الخلق رضي الله عنهم أجمعين.
وسمعت سيدي عليا الخواص رضي الله تعالى عنه يقول: لو أن كمال الدعاة إلى الله تعالى كان موقوفا على إطباق الخلق على تصديقهم لكن الأولى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله، وقد صدقهم قوم، وهداهم الله بفضله، وحرم آخرون، فأشقاهم الله تعالى بعدله.
ولما كان الأولياء، والعلماء على أقدام الرسل عليهم الصلاة والسلام في مقام التأسي بهم، انقسم الناس فيهم فريقين، فريق معتقد مصدق، وفريق منتقد مكذب، كما وقع للرسل عليهم الصلاة والسلام ليحقق الله تعالى بذلك ميراثهم، فلا يصدقهم، ويعتقد صحة علومهم، وأسرارهم، إلا من أراد الله عز وجل أن يلحقه بهم ولو بعد حين، وأما المكذب لهم المنكر عليهم، فهو مطرود عن حضرتهم لا يزيده الله تعالى بذلك إلا بعدا، وإنما كان المعترف للأولياء، والعلماء بتخصيص الله تعالى لهم، وعنايته بهم، واصطفائه لهم قليلا من الناس لغلبة الجهل بطريقهم، واستيلاء الغفلة، وكراهة غالب الناس أن يكون لأحد شرف بمنزلة، أو اختصاص حسدا من عند أنفسهم، وقد نطق الكتاب العزيز بذلك في قوم نوح عليه الصلاة والسلام فقال: " ومن أمن وما أمن معه إلا قليل " هود: 40 وقال تعالى: " ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " هود: 17، " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " الأعراف: 187، يوسف: 21. وقال الله تعالى: " أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعم بل هم أضل سبيلا " الفرقان: 44 وغير ذلك من الآيات، وكان الشيخ محيي الدين رضي الله عنه يقول: ومن أين لعامة الناس أن يعلموا أسرار الحق تعالى في خواص عباده من الأولياء، والعلماء، وشروق نوره في قلوبهم، ولذلك لم يجعلهم إلا مستورين عن غالب خلقه لجلالتهم عنده، ولو كانوا ظاهرين فيما بينهم، وآذاهم إنسان لكان قد بارز الله تعالى بالمحاربة، فأهلكه الله فكان سترهم عن الحق رحمة بالخلق، ومن ظهر من الأولياء للخلق، إنما يظهر لهم من حيث ظاهر علمه ووجود دلالته، وأما من حيث سر ولايته فهو باطن لم يزل، وكان الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه يقول لكل ولي ستر أو أستار نظير السبعين حجابا التي وردت في حق الحق تعالى، حيث إنه تعالى لم يعرف إلا من ورائها فكذلك الولي، فمنهم من يكون ستره بالأسباب، ومنهم من يكون ستره بظهور العزة، والسطوة، والقهر على حسب ما يتجلى الحق تعالى لقلبه، فيقول الناس حاشا أن يكون هذا وليا لله تعالى، وهو في هذه النفس، وذلك لأن الحق تعالى إذا تجلى على قلب العبد بصفة القهر كان قهارا، أو بصفة الانتقام كان منتقما، أو بصفة الرحمة، والشفقة كان مشفقا رحيما.
وهكذا ثم لا يصحب ذلك الولي الذي ظهر بمظهر العز، والسطوة، والانتقام من المريدين، إلا من محق الله تعالى نفسه، وهواه، ولم يزل في كل عصر، وأوان أولياء، وعلماء تذل لهم ملوك الزمان، ويعاملونه بالسمع، والطاعة، والإذعان، ومنهم من يكون ستره بالاشتغال بالعلم بالظاهر، والخمول على ظاهر النقول حتى لا تكاد تخرجه عن آحاد طلبة العلم القاصرين، ومنهم من يكون ستره بالمزاحمة على الدنيا، وتظاهره بحب الرياسة، والملابس الفاخرة، وهو على قدم عظيم في الباطن، ومنهم من يكون ستره كثرة التردد إلى الملوك، والأمراء، والأغنياء، وسؤالهم الدنيا، وطلبه الوظائف من تدريس، وخطابة، وغمامة، وعمالة، ونحو ذلك، فيقوم فيها بالعدل، ويتصرف في ذلك بالمعروف على الوجه الذي لا يهتدي إلى معرفته غيره من الأمراء والعمال، وآحاد الفقهاء، ثم لا يأكل هو من معلومها شيئا، أو يأكل منه سد الرمق لا غير، فيقول القاصر في الفهم والإدراك، لو كان هذا وليا لله عز وجل ما تردد إلى هؤلاء الأمراء، وللجلس في زاويته، أو بيته يشتغل بالعلم، وبعبادة ربه عز وجل ورحم الله تعالى الأولياء الذين كانوا، ونحو ذلك من ألفاظ الجور، ولو استبرأ هذا القائل لدينه، وعرضه لتوقف، وتبصر في أمر هؤلاء الأولياء، والعلماء قبل أن ينتقد عليهم فربما كان يتردد إليهم لكشف ضر، أو خلاص مظلوم من سجن،
Shafi 7
أو قضاء حاجة لأحد من عباد الله العاجزين الذين لا يستطيعن توصيل حوائجهم إلى تلك الأمراء فيسألون في ذلك من يعتقد فيه من الأولياء، والعلماء فيجب عليهم الدخول لتلك المصالح، ويحرم عليهم التخلف عنهم لا سيما إن رأينا ذلك المتردد من الأولياء، والعلماء زاهدا فيما في أيديهم متعززا بعز الإيمان وقت مجالستهم، آمرا لهم بالمعروف ناهيا لهم عن المنكر، لا يقبل هدية ممن شفع له عندهم، فإن هذا من المحسنين، ولا يجوز لأحد الاعتراض عليه بسبب ذلك.
وقد سمعت سيدي عليا الخواص رضي الله عنه يقول: إذا علم الفقير من أمراء الجور أنهم يقبلون نصحه لهم، وشفاعته عندهم، وجب عليه صحبتهم، والدخول إليهم، وصاحب النور يعرف ما يأتي، وما يذر انتهى.
قلت: ومن الأولياء من يكون ستره قبوله من الخلق ما يعطونه له من الهدايا، والصدقات، ثم يخلط عليه من ماله، ويعلم الناس بأن ذلك كله من صدقات الناس الأجانب، ويمدح الناس الذين أعطوه بالكرم، ويوهم الناس أنه انتقص من ذلك المال لنفسه، وعياله من وراء الفقراء أشياء بنحو قوله من يقدر في هذا الزمان أن يأخذ مالا، ويفرقه على الفقراء، ولا يحدث نفسه بانتقاص شيء منه، ولا يسعنا كلنا إلا العفو، ويكون مأكولا مذموما، وهذا من أكبر أخلاق الرجال الذين أخلصوا في معاملة الله عز وجل، فإنه لا يهتدي أحد إلى كماله الذي هو عليه في باطن الحال مع ظهور احتقاره في أعين الناس، واستهانتهم به، فإن الرجل إذا قبل من الخلق صغر في أعينهم ضرورة، كما أن من رد عليهم كبر في أعينهم، ولعل ذلك الراد إنما رد رياء، وسمعة واستئلافا لقلوب الناس عليه ليتوجهوا إليه بالتعظيم، والتبجيل، ويطلقوا ألسنتهم فيه بالثناء الحسن، وقد قال الفضيل بن عياض رحمه الله: من طلب الحمد من الناس بتركه الأخذ منهم، فإنما يعبد نفسه، وهواه، وليس من الله في شيء.
قلت ومعنى يعبد: يطيع، وكان يقول أيضا: ينبغي لمن يخاف على نفسه من فتنة الرد أن يأخذ، ثم يعطيه سرا لمن يستحقه، ولا يأخذ هو لنفسه منه شيئا، فإنه بذلك يأمن من الفتنة إن شاء الله تعالى.
قال الشيخ محيي الدين رحمه الله تعالى: ومما يفتح باب قلة الاعتقاد في أولياء الله تعالى وقوع زلة ممن تزيا بزيهم، وانتسب إلى مثل طريقهم، والوقوف مع ذلك من أكبر القواطع عن الله عز وجل وقد قال تعالى: (وكان أمر الله قدرا مقدورا) . وقال: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) . فمن أين يلزم من إساءة واحد أن يكون جميع أهل حرفته كذلك؟ ما هذا إلا محض عناد وتعصب بباطل كما قال بعضهم في ذلك:
استنار الرجال في كل عصر ... تحت سوء الظنون قدر جليل
ما يضر الهلال في حندس اللي ... ل سواد السحاب وهو جميل
قلت: ومن أشد حجاب عن معرفة أولياء الله عز وجل شهود المماثلة، والمشاكلة، وهو حجاب عظيم، وقد حجب الله به أكثر الأولين، والآخرين كما قال تعالى حاكيا عن قوم: (وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) . يعني لم نر أحدا يوافقه على ما يدعيه، ويأمرنا به، ونحو ذلك ولكن إذا أراد الله عز وجل أن يعرف عبدا من عبيده بولي من أوليائه، ليأخذ عنه الأدب، ويقتدي به في الأخلاق طوى عنه شهود بشريته، وأشهده وجه الخصوصية فيه، فيعتقده بلا شك، ويحبه أشد المحبة، وأكثر الناس الذين يصحبون الأولياء لا يشهدون منهم إلا وجهه البشرية، فلذلك قل نفعهم، وعاشوا عمرهم كله معهم، ولم ينتفعوا منهم بشيء، وقد اقتضت الحكمة الإلهية عدم اتفاق الخلق كلهم على الاعتقاد في واحد منهم، والإذعان له، وفي ذلك سر خفي لأنه لو كان الخلق كلهم مصدقين لذلك الولي لفاته أجر الصبر على تكذيب المكذبين له، ولو كانوا كلهم مكذبين له لفاته الشكر على تصديق المصدقين له، والمقتفين لآثاره، فأراد الحق تعالى بحسن اختياره لأوليائه أن يجعل الناس فيهم قسمين، كما تقدم معتقد مصدق ومنتقد مكذب ليعبدوا الله عز وجل فيمن صدقهم بالشكر، وفيمن كذبهم بالصبر إذ الإيمان نصفان نصف صبر، ونصف شكر.
وسمعت سيدي عليا الخواص رضي الله عنه يقول: النفس إذا مدحت اتسخت، وإذا ذمت نظفت، وكان رضي الله عنه يقول: إياك أن تصغي لقول منكر على
Shafi 8
أحد من طائفة العلماء، أو الفقراء فتسقط من عين رعاية الله عز وجل، وتستوجب المقت من الله عز وجل.
وكان الجنيد رضي الله عنه يقول: من قعد مع هؤلاء القوم، وخالفهم في شيء مما يتحققون به نزع الله تعالى منه نور الإيمان، قلت: ومراده نور الإيمان بذلك الكلام الذي خالفهم فيه لا نور سائر أنواع الإيمان كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر فافهم.
ونظير ذلك لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، أي بأن الله يراه حال الزنا وهكذا، وإنما نهى القوم عن المنازعة لأن علومهم مواجيد لا نقل فيها، ومن كان يخبر عما يعاين، ويشاهد لا يجوز للسامع منازعته فيما أتى به، بل يجب عليه التصديق به إن كان مريدا، والتسليم له إن كان أجنبيا، فإن علوم القوم لا تقبل المنازعة لأنها وراثة نبوية، وفي الحديث: (عند نبي لا ينبغي التنازع) ونهى صلى الله عليه وسلم عن الجدال وقال في المجادل: (فليتبوأ مقعده من النار) .
وكان الشيخ محيي الدين رضي الله عنه يقول: أصل منازعة الناس في المعارف الإلهية، والإشارات الربانية كونها خارجة عن طور العقول، ومجيئها بغتة من غير نقل، ونظر، ومن غير طريق العقل فتنكرت على الناس من حيث طريقها، فأنكروها وجهلوها، ومن أنكر طريقا من الطرق عادى أهلها ضرورة لاعتقاده، فسادها، وفساد عقائد أهلها، وغاب عنه أن الإنكار من الوجود، والعاقل يجب عليه أن يغير منكرا أنكره ليخرج عن طور الجحود، فإن الأولياء، والعلماء العاملين، قد جلسوا مع الله عز وجل على حقيقة التصديق، والصدق والتسليم، والإخلاص، والوفاء بالعهود، وعلى مراقبة الأنفاس مع الله عز وجل حتى سلموا قيادهم إليه، وألقوا نفوسهم سلما بين يديه، وتركوا الانتصار لنفوسهم في وقت من الأوقات حياء من ربوبية ربهم عز وجل، واكتفاء بقيوميته عليهم، فقام لهم بما يقومون لأنفسهم بل أعظم، وكان تعالى هو المحارب عنهم لمن حاربهم، والغالب لمن غالبهم.
قال سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: ولما علم الله عز وجل ما سيقال في هذه الطائفة على حسب ما سبق به العلم القديم، بدأ سبحانه وتعالى بنفسه، فقضى على قوم أعرض عنهم بالشقاء، فنسبوا إليه زوجة، وولدا، وفقرا، وجعلوه مغلول اليدين، فإذا ضاق ذرع الولي، أو الصديق لأجل كلام قيل فيه من كفر، وزندقة، وسحر، وجنون، وغير ذلك نادته هواتف الحق في سره: الذي قيل فيك هو وصفك الأصلي، لولا فضلي عليك أما ترى إخواتك من بني آدم كيف وقعوا في جنابي، ونسبوا إلي ما لا ينبغي لي، فإن لم ينشرح لما قيل فيه، بل انقبض نادته هواتف الحق أيضا أمالك بي أسوة، فقد قيل في ما لا يليق بجلالي، وقيل في حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفي إخوانه من الأنبياء، والرسل ما لا يليق بمرتبتهم من السحر، والجنون، وأنهم يا يريدون بدعائهم إلا الرياسة، والتفضيل عليهم، فانظر يا أخي مداواة الحق جل وعلا لمحمد صلى الله عليه وسلم حين ضاق صدره من قول الكفار قال الله تعالى: " فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " الحجر: 98، 99 فيجب عليك أيها الولي الاقتداء برسولك صلى الله عليه وسلم في ذلك، إذ هو طب إلهي، ودواء رباني، وهو مزيل لضيق الصدر الحاصل من أقوال الأغيار أهل الإنكار، والاغترار، وذلك لأن التسبيح هو تنزيه الله تعالى عما لا يليق بكماله بالثناء عليه تعالى بالأمور السلبية، ونفي النقائص عن الجناب الإلهي كالتشبيه، والتحديد، وأما التحميد فهو الثناء على الله تعالى بما يليق بحماله، وجلاله، وهما مزيلان لمرض ضيق الصدر الحاصل من قول المنكرين، والمستهزئين، وأما السجود فهو كناية عن طهارة العبد من طلب العلو، والرفعة لأن الساجد قد فني عن صفة العلو حال سجوده، ولذلك شرع للعبد أن يقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى وبحمده) ، وأما العبودية المشار إليها بقوله: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) . فالمراد بها إظهار التذلل، والتباعد عن طلب العز، وهي إشارة إلى فناء العبد ذاتا، ووصفا وذلك موجب لخلع القرب، والاصطفاء، والعز، والدنو المشار إليه بقوله (واسجد واقترب) . وبحديث: (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا) ، والنوافل عند أهل الطريق إشارة إلى فناء العبد في شهود نفسه عند شهود ربه عز وجل، وأما اليقين فهو من يقن الماء في الحوض إذا استقر، وذلك إشارة إلى حصول السكون، والاستقرار، والاطمئنان بزوال التردد، والشكو، والوهم، والظنون قال الشيخ محيي الدين رضي الله
Shafi 9
عنه: وهذا السكون، والاستقرار، والاطمئنان إذا أضيف إلى العقل، والنفس يقال له علم اليقين، وإذا أضيف إلى الروح الروحاني يقال له عين اليقين، وإذا أضيف إلى القلب الحقيقي يقال له حق اليقين، وإذا أضيف إلى السر الوجودي يقال له حقيقة حق اليقين، ولا تجتمع هذه المراتب كلها إلا في الكامل من الرجال انتهى.
وكان الجنيد رحمه الله تعالى يقول: كثيرا للشبلي رحمه الله تعالى: لا تفش سر الله تعالى بين المحجوبين، وكان رضي الله عنه يقول: لا ينبغي للفقير قرأءة كتب التوحيد الخاص، غلا بين المصدقين لأهل الطريق، أو المسلمين لهم، وإلا يخاف حصول المقت لمن كذبهم، وقد تقدم عن أبي تراب النخشي رضي الله عنه أنه كان يقول في حق المحجوبين من أهل الإنكار: إذا ألف القلب الإعراض عن الله تعالى صحبته الوقيعة في أولياء الله قلت: وذلك لأنه لو كان من المقبلين بقلوبهم على حضرة الله تعالى لشم روائح أهل حضرة ربه، فتأدب معهم، ومدحهم، وأحبهم، وخدم نعالهم حتى يقربوه إلى حضرتهم، ويصير مثلهم، كما هو شأن من يريد التقرب إلى ملوك الدنيا. قلت: ومن هنا أخفي الكاملون من أهل طريق الكلام في مقامات التوحيد الخاص شفقة على عامة المسلمين، ورفقا بالمجادل من المحجوبين، وأدبا مع أصحاب ذلك الكلام من أكابر العارفين.
وكان الجنيد رضي الله عنه لا يتكلم قط في علم التوحيد، إلا في قعر بيته بعد أن يغلق أبواب داره، ويأخذ مفاتيحها تحت وركه ويقول: أتحبون أن يكذب الناس أولياء الله تعالى، وخاصته، ويرمونهم بالزندقة، والكفر، وكان سبب فعله ذلك تكلمهم فيه كما سيأتي آخر هذه المقدمة، فكان بعد ذلك يستتر بالفقه إلى أن مات رضي الله عنه، وكان الشيخ محيي الين رضي الله عنه يقول: من لم يقم بقلبه التصديق لما يسمعه من كلام هذه الطائفة، فلا يجالسهم، فإن مجالستهم من غير تصديق سم قاتل.
وكان سيدي أفضل الدين رحمه الله تعالى يقول: كثير من كلام الصوفية لا يتمشى ظاهره إلا على قواعد المعتزلة، والفلاسفة، فالعاقل لا يبادر إلى الإنكار بمجرد عز وذلك الكلام إليهم، بل ينظر، ويتأمل في أدلتهم التي استندوا إليها فما كل ما قاله الفلاسفة، والمعتزلة في كتبهم يكون باطلا، وإنما حذر بعضهم عن مطالعة كتبهم خوفا من حصول شبهة تقع في قلب الناظر، لا سيما أهل الإنكار والدعاوى.
ورأيت في رسالة سيدي الشيخ محمد المغربي الشاذلي رضي الله عنه ما نصه: اعلم أن طريق القوم مبني على شهود الإثبات، وعلى ما يقرب من طريق المعتزلة في بعض الحالات، وهي حالة شهود غيبة الصفات في شهود وحدة جمال الذات، حتى كأن لا صفات، وهذه الحالة وإن كان غيرها أرفع منها فهي عزيزة المرام شديدة الإيهام موقعة في سوء الظن في السادة الكرام، لشبهها بمذهب المعتزلة، ولا شبهة في تلك الحالة فليتنبه السالك لذلك، وليحذر من الوقيعة في القوم فإنهم من أعظم المهالك، انتهى.
قلت: ومن الأولياء من سد باب الكلام في دقائق كلام القوم حتى مات، وأحال ذلك على السلوك، وقال: من سلك طريقهم اطلع على ما اطلعوا عليه، وذات كما ذاقوا، واستغنى عن كلام الناس وسياتي في ترجمة عبد الله القرشي رضي الله عنه أن أصحابه طلبوا منه أن يسمعهم شيئا من علم الحقائق فقال لهم: كم أصحابي اليوم قالوا ستمائة رجل، فقال الشيخ: اختاروا لكم منه مائة، فاختاروا، فقال: اختاروا من المائة عشرين، فاختاروا فقال: اختاروا من العشرين أربعة، فاختاروا قلت: وكان هؤلاء الأربعة أصحاب كشوفات، ومعارف فقال الشيخ: لو تكلمت عليكم في علم الحقائق، والأسرار لكان أول من يفتي بكفري هؤلاء الأربعة اه؟.
قلت: ولا يجوز أن يعتقد في هؤلاء السادة أنهم زنادقة في الباطن، لكتمهم ما هو متحققون به في الباطن عن العلماء، والعوام، وإنما يجب علينا حملهم على المحامل الحسنة من كوننا جاهلين باصطلاحهم، فإن من لم يدخل حضرتهم لا يعرف حالهم، فما أغلقوا أبوابهم عليهم في حالة تقريرهم للعلم، إلا لكون غور بحر ذلك العلم عميقا على غالب الناس من العماء فضلا عن غيرهم، كما تقدم عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: أنه كان إذا أتاه سؤال متعلق بالقوم يرسل إلى أبي حمزة البغدادي رضي الله عنه ويقول ما تقول في هذا يا صوفي، ولا يسع العارف أن يتكلم بكلام واحد يعم سائر الناس على اختلاف درجاتهم، لأن ذلك من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم على نزاع في ذلك أيضا فإنه كان يقول: " أمرت أن
Shafi 10
أخاطب الناس على قدر عقولهم " فافهم، وتأمل فإن من لا علم له بالطريق إذا سمع الفقير يقول حقيقة التوبة هي التوبة كيف يقول منطوق هذا الكلام، وفحواه خطأ لأن التوبة من التوبة إصرار.
فإذا فسر له الفقير مراده على مصطلحه، وقال: مرادي عدم تزكية النفس، وعدم الاعتماد على التوبة دون رحمة الله عز وجل، لا الإصرار كيف يقول له هذا الكلام مليح الآن، وقد كان أنكره أولا لأن من شأن القوم أن يشهدوا أعمالهم بغير الرياء، والدعاوي، ولا يشهدون لهم إخلاصا، ومثل ذلك يصح تقرير قول بعضهم حقيقة التقوى هي ترك التقوى، ونظير ذلك أيضا قول سيدي عمر بن الفارض رضي الله عنه:
وقلت لزهدي والتنسك والتقي ... تخلوا وما بيني وبين الهوى خلوا
وكذلك قوله:
تمسك بأذيال الهوى واخلع الحيا ... وخل سبيل الناسكين وإن جلوا
لأن من لا إلمام له بمصطلح أهل الطريق ينكر، مثل ذلك، ويقول: ترك الزهد، والعبادات، والتقوى مذموم بل بذلك يذهب دين العبد كله، فكيف يجوز اعتقاد صاحب هذا الكلام، ولو كان له إلمام بالطريق لعلم أن مراد الشيخ عدم الوقوف على الأعمال دون الله عز وجل، فإن المنقول عن الشيخ رضي الله عنه الزهد، والعبادات، والتقوى كما درج عليه السلف الصالح رضي الله عنهم، وكذلك عن الشيخ محيي الدين بن العربي رضي الله عنه، وأضرابه، وما بلغنا قط عن أحد من القوم أنه نهى أحدا عن الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم أبدا، ولا تعرض لمعارضة شيء من الشرائع، وكيف يترك الولي ما كان سببا لوصوله إلى حضرة ربه، إنما يحث الناس على الإكثار من أسباب الوصول، فما بقي وجه الإنكار إلا على مواجيدهم، وأفهامهم، وتلك أمور لا تعارض شيئا من صريح السنة، والأمر في ذلك سهل، فمن شاء فليصدقهم، ويقتدي بهم كمقلدي المذاهب، ومن شاء فليسكت، ولا ينكر لأنهم مجتهدون في الطريق، والمجتهد لا يقدح إنكاره على مجتهد آخر.
ونقل القزويني في كتابه سراج العقول عن إمام الحرمين أنه كان يقول: حين يسئل عن كلام غلاة الصوفية، لو قيل لنا فصلوا ما يقتضي التكفير من كلامهم مما لا يقتضيه، لقلنا هذا طمع في غير مطمع، فإن كلامهم بعيد المدرك وعر المسلك يغترف من تيار بحر التوحيد، ومن لم يحط علما بنهايات الحقائق لم يحصل من دلائل التكفير على وثائق كما أنشد بعضهم في هذا المعنى:
تركنا الحبار الزاخرات وراءنا ... فمن أين يدري الناس أين توجهنا
وسئل سيدنا ومولانا شيخ الإسلام تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى عن حكم تكفير غلاة المبتدعة، وأهل الأهواء، والمتفوهين بالكلام على الذات المقدس فقال رضي الله عنه: اعلم أيها السائل أن كل من خاف من الله عز وجل استعظم القول بالتكفير لمن يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، إذ التكفير أمر هائل عظيم الخطر، لأن من كفر شخصا بعينه، فكأنه أخبر أن عاقبته في الآخرة الخلود في النار أبد الآبدين، وأنه في الدنيا مباح الدم، والمال لا يمكن من نكاح مسلمة، ولا يجري عليه أحكام المسلمين لا في حياته، ولا بعد مماته، والخط في ترك ألف كفر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم امرئ مسلم ، وفي الحديث: " لأن يخطئ الإمام في العفو أحب إلي من أن يخطئ في العقوبة " ثم إن تلك المسائل التي يفتي فيها بتكفير هؤلاء القوم في غاية الدقة، والغموض لكثرة شببها، واختلاف قرائنها، وتفاوت دواعيها، والاستقصاء في معرفة الخطأ من سائر صنوف وجوهه، والاطلاع على حقائق التأويل، وشرائطه في الأمكان، الألفاظ المحتملة للتأويل، وغير المحتملة، وذلك يستدعي معرفة جميع طرق أهل اللسان من سائر قبائل العرب في حقائقها، ومجازاتها، واستعارتها، ومعرفة دقائق التوحيد، وغوامضه إلى غير ذلك مما هو متعذر جدا على أكابر علماء عصرنا، فضلا عن غيرهم، وإذا كان الإنسان يعجز عن تحرير معتقده في عبارة، فكيف يحرر اعتقاد غيره من عبارته، فمن بقي الحكم بالتكفير إلا لمن صرح بالكفر، واختاره دينا، وجحد الشهادتين، وخرج عن دين الإسلام جملة، وهذا نادر وقوعه، فالأدب الوقوف عن تكفير أهل الأهواء، والبدع، والتسليم للقوم في كل شيء قالوه عما يخالف صريح النصوص. كلام السبكي.
قلت:
Shafi 11
وقد أخبرني شيخنا الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمري بمصر المحروسة: أن شخصا وقع في عبارة موهمة للتكفير، فأفتى علماء مصر بتكفيره، فلما أرادوا قتله قال السلطان جقمق: هل بقي أحد من العلماء لم يحضر فقالوا: نعم الشيخ جلال الدين المحلي شارح المنهاج، فأرسل وراءه، فحضر، فوجد الرجل في الحديد بين السلطان فقال الشيخ: ما لهذا، فقالوا: كفر فقال: ما مستند من أفتى بتكفيره، فبادر الشيخ صالح البلقيني، وقال: قد أفتى والدي شيخ الإسلام الشيخ سراج الدين في مثل ذلك بالتكفير، فقال الشيخ جلال الدين رضي الله عنه: يا ولدي أتريد أن تقتل رجلا مسلما موحدا يحب الله ورسوله بفتوى أبيك خلوا عنه الحديد، فجردوه، وأخذه الشيخ جلال الدين بيده وخرج، والسلطان ينظر فما تجرأ أحد يتبعه رضي الله تعالى عنه، وكان الشيخ محيي الدين رضي الله عنه يقول: كثيرا ما يهب على قلوب العارفين نفحات إلهية، فإن نطقوا بها جهلهم كمل العارفين وردها عليهم أصحاب الأدلة من أهل الظاهر، وغاب عن هؤلاء أن الله تعالى كما عطى أولياءه الكرامات التي هي فرع المعجزات، فلا بد أن ينطق ألسنتهم بالعبارات التي تعجز العلماء عن فهمها.
قلت: ومن شك في هذا القول: فلينظر في كتاب المشاهد للشيخ محيي الدين؛ أو كتاب الشعائر لسيدي محمد، أو في كتاب خلع النعلين لابن قسي، أو كتاب عنقاء مغرب لابن العربي، فإن أكبر العلماء لا يكاد يفهم منه معنى مقصودا لقائله أصلا، بل خاص بمن دخل مع ذلك المتكلم حضرة القدس، فإنه لسان قدسي لا يعرفه إلا الملائكة، أو من تجرد عن هيكل البشرية، أو أصحاب الكشف الصحيح.
وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام رضي الله عنه يقول: بعد اجتماعه على الشيخ أبي الحسن الشاذلي وتسليمه للقوم: من أعظم الدليل على أن طائفة الصوفية قعدوا على أعظم أساس الدين ما يقع على أيديهم من الكرامات، والخوارق، ولا يقع شيء من ذلك قط لفقيه، إلا إن سلك مسلكهم كما هو مشاهد، وكان الشيخ عز الدين رضي الله عنه قبل ذلك ينكر على القوم، ويقول هل لنا طريق غير الكتاب، والسنة، فلما ذاق مذاقهم، وقطع السلسلة الحديد بكراسة الورق صار يمدحهم كل المدح، ولما اجتمع الأولياء، والعلماء في وقعة الإفرنج بالمنصورة قريبا من ثغر دمياط جلس الشيخ عز الدين، والشيخ مكين الدين الأسمر، والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وأضرا بهم، وقرئت عليهم رسالة القشيري، وصار كل واحد يتكلم إذ جاء الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه فقالوا له: نريد أن تسمعنا شيئا من معاني هذا الكلام، فقال: أنتم مشايخ الإسلام، وكبراء الزمان، وقد تكلمتم، فما بقي لكلام مثلي موضع فقالوا له: لا بل تكلم، فحمد الله، وأثنى عليه، وشرع يتكلم فصاح الشيخ عز الدين من داخل الخيمة، وخرج ينادي بأعلى صوته هلموا إلى هذا الكلام القريب المعهد من الله تعالى فاسمعوه.
قال اليافعي رضي الله عنه في كتابه روض الرياحين، والعجب كل العجب ممن ينكر كرامات الأولياء، وقد جاءت في الآيات الكريمات، والأحاديث الصحيحات، والآثار المشهورات والحكايات المستفيضات، حتى بلغت في الكثرة مبلغا يخرج عن الحصر.
ثم قال رضي الله عنه والناس في إنكار الكرامات على أقسام: منهم من ينكرها مطلقا، وهم أهل مذهب معروفون، وعن التقوى مصروفون قال بعضهم هم المجسمة، ومنهم من يصدق بكرامات من مضى، ويكذب بكرامات أهل زمانه، فهؤلاء كما قال سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه كبني إسرائيل صدقوا بموسى حين لم يروه، وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم حين رأوه، مع أن محمدا صلى الله عليه وسلم أعظم من موسى، وإنما ذلك حسدا منهم، وعدوانا، وشقاء منهم، ومنهم من يصدق بأن الله تعالى أولياء من أهل زمانه، ولكن لا يصدق بأحد معين فهذه محرم من الإمدادات، لأن من لم يسلم لأحد معين لا ينتفع بأحد أبدا نسأل الله العافية قال: فإن قيل إن هذه الكرامات تشبه السحر فإن سماع الإنسان الهواتف في الهواء، وسماع النداء في بطنه وطي الأرض له، وقلب الأعيان، ونحو ذلك غير معهود في الحسن أنه صحيح، إنما يظهر ذلك من أهل السيمياء والنارنجات، فالجواب ما أجاب به المشايخ العارفون، والعلماء المحققون في الفرق بين الكرامة، والسحر أن السحر يظهر على أيدي الفساق، والزنادقة، والكفار الذين هم على غير شريعة.
وأما الأولياء رضي الله عنهم، فإنما وصولا إلى ذلك بكثرة اجتهادهم، واتباعهم للسنة حتى بلغوا فيها الدرجة العليا
Shafi 12
فافترقا، قال رضي الله تعالى عنه ثم إن كثيرا من المنكرين لو رأوا أحدا من الأولياء، والصالحين يطير في الهواء، لقالوا هذا سحر واستخدامات للجن، والشياطين، ولا شك أن من حرم التوفيق كذب بالحق عيانا، وحسا، فكيف حال هذا في تصديقه بالمغيبات التي أمر الله تعالى بالإيمان بها، فربما زلت به القدم فخسر الدارين، لأنه إذا أنكر المحسوسات، فبالحقيق إنكاره المغيبات، وقد كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول: الإنكار فرع من النفاق.
قلت: وذلك لن المنافقين لو لم ينكروا على محمد صلى الله عليه وسلم لآمنوا به ظاهرا، وباطنا ثم قال اليافعي رضي الله تعالى عنه: فوا عجبا كيف ينسب السحر، وفعل الشياطين إلى الأولياء المقربين، والأبرار الصالحين والمتطهري من الصفات المذمومة، المتحلين بالصفات المحمودة المعرضين عن كل شيء يشغلهم عن ربهم عز وجل.
فإياك يا أخي بعد اطلاعك على ما بينته لك في هذه المقدمة من علو شأن أهل الله عز وجل من أهل عصرك، وغيرهم أن يقوم بك داء الحسد، ولا تذعن للانقياد لهم، وتسمع من بعض المنكرين لعيهم ما يقولونه في حقهم، فيفوتك منهم خير كثير، كما فاتك الخير في عدم علمك بكلامهم الذي هو كله نصح لك حين وزنته بميزان عقلك الجائر، فإن الكلام لم يزل في هذه الطائفة من عصر ذي النون المصري وأبي يزيد البسطامي إلى وقتنا هذا، بل نقل سيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه: أنهم تكلموا في جماعة من الصحابة، ونسبوهم إلى الرياء، والنفاق منهم الزبير رضي الله عنه كان كثير الخشوع في الصلاة، وكان بعضهم يقول: إنما هو مراء فبينما الزبير رضي الله عنه ساجدا، إذ صبوا على وجهه، ورأسه ماء حار فكشط وجهه، وهو لا يشعر، فلما فرغ من صلاته، وصحا قال: ما هذا فأخبروه فقال رضي الله عنه: غفر الله تعالى لهم ما فعلوا، ومكث زمانا يتألم من وجهه.
قلت: ودليل هذا كله قوله تعالى: " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا " الفرقان: 20 وكل ولي له من تلك الفتنة الحظ الوافر، وذلك لأن الابتلاء لما كان شرفا، جمع الله تعالى لخواص هذه الأمة من البلايا، والمحن جميع ما كان متفرقا في الأمم السالفة لعلو درجتهم عنده، ونقل الثقات عن أبي يزيد البسطامي رضي الله عنه أنهم نفوه من بلده سبع مرات، فإنه لما رجع إلى بسطام من سفرته، وتكلم بعلوم لا عهد لأهل بلده بها من مقامات الأنبياء، والأولياء أنكر ذلك الحسين بن عيسى البسطامي إمام ناحيته، والمدرس بها في علم الظاهر، وأمر أهل بلده أن يخرجوا أبا يزيد من بسطام، فأخرجوه، ولم يعد إليها إلا بعد موت حسين المذكور، ثم بعد ذلك ألفه الناس، وعظموه، وتبركوا به، ثم لم يزل يقول له قائم بعد قائم، وهو ينفي ثم استقر أمره على تعظيم الناس له، والتبرك به إلى وقتنا هذا، وكذلك وقع لذي النون المصري رضي الله عنه أنهم وشوا به إلى بعض الحكام، وحملوه من مصر إلى بغداد مغلولا مقيدا، فكم الخليفة، فأعجبه فقال: إن كان هذا زنديقا، فما على وجه الأرض مسلم كما يأتي في ترجمته، وكذلك وقع لسمنون المحب رضي الله عنه محنة عظيمة، وادعت عليه امرأة كانت تهواه، وهو يأبى نه يأتيها في الحرام هو وجماعة من الصوفية، وامتلأت المدينة بذلك، ثم إن الخليفة أمر بضرب عنق سمنون، وأصحابه فمنهم من هرب، ومنهم من توارى سنين حتى كف الله عنهم ذلك، وكذلك وقع أنهم رموا أبا سعيد الخراز، وأفتى العلاء بتكفيره بألفاظ وجدوها في كتبه، منها لو قلت من أين وإلى أين، لم يكن جوابي غير الله مع ألفاظ أخرى، وتعصب مرة فقهاء أخميم على ذي النون المصري رضي الله عنه، ونزلوا في زورق ليمضوا إلى السلطان بمصر ليشهدوا عليه بالكفر، فأعلموه بذلك فقال: اللهم إن كانوا كاذبين فغرقهم، فانقلب الزورق، والناس ينظرون فغرقوا حتى رئيس المركب فقيل له: ما بال الرئيس؟ فقال قد حمل الفساق، وأخرجوا سهل بن عبد الله رضي الله عنه من بلده إلى البصرة، ونسبوه إلى قبائح، وكفروه، ولم يزل بالبصرة إلى أن مات بها هذا مع علمه، ومعرفته، واجتهاده، وذلك أنه كان يقول: التوبة فرض على العبد في كل نفس فتعصب عليه الفقهاء في ذلك لا غير.
وقتل حسين الحلاج بدعوة عمرو بن عثمان المكي، وذلك أنه كان عنده جزء فيه علوم الخاصة من القوم فأخذه الحسين فقال عمرو من أخذ هذا الكتاب قطعت يداه، ورجلاه، فكان كذلك، وإنما كان القول بتكفيره تسترا على دعوة عمرو، كما سياتي عن ابن خلكان، وشهدوا على الجنيد رضي الله عنه، حين كان يقرر في علم التوحيد، ثم
Shafi 13
إنه تستر بالفقه، واختفى مع علمه، وجلالته، وأخرجوا محمد بن الفضيل البلخي رضي الله عنه بسبب المذهب كما سيأتي في ترجمته، وذلك أن مذهبه كان مذهب أصحاب الحديث فقالوا له: لا يجوز لك أن تسكن في بلدنا فقال: لا أخرج حتى تجعلوا في عنقي حبلا، وتمروا بي على أسواق المدينة، وتقولا هذا مبتدع نريد أن نخرجه، ففعلوا به كذلك، وأخرجوه، فالتفت إليهم، وقال: نزع الله تعالى من قلوبكم معرفته، فلم يخرج بعد دعائه قط من بلخ صوفي مع كونها كانت أكثر بلاد الله تعالى صوفية، وعقدوا للشيخ عبد الله بن أبي حمزة رضي الله عنه، مجالسا في الرد عليه حين قال: أنا أجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة، فلزم بيته فلم يخرج إلا للجمعة حتى مات.
وأخرجوا الحكيم الترمذي رضي الله عنه إلى بلخ حين صنف كتاب علل الشريعة، وكتاب ختم الأولياء، وأنكروا عليه بسبب هذين الكتابين وقالوا: فضلت الأولياء على الأنبياء، وأغلظوا عليه، فجمع كتبه كلها، وألقاها في البحر، فابتلعتها سمكة سنين، ثم لفظتها، وانتفع الناس بها، وأنكر زهاد الراز وصوفيتها على يوسف بن الحسين، وتكلموا فيه، ورموه بالعظائم إلى أن مات، لكنه لم يبال بهم لتمكنه رضي الله عنه، وأخرجوا أبا الحسن البوشنجي، وأنكروا عليه، وطردوه إلى نيسابور، فلم يزل بها إلى أن مات، وأخرجوا أبا عثمان المغربي من مكة مع مجاهداته، وتمام علمه، وحاله وطاف به العلوية على جمل في أسواق مكة بعد ضربه على رأسه، ومنكبيه، فأقام ببغداد، ولم يزل بها إلى أن مات، وشهدوا على السبكي بالكفر مرارا مع تمام علمه، وكثرة مجاهداته، واتبعاه للسنة إلى حين وفاته، حتى إن من كان يحبه شهد عليه بالجنون طريقا لخلاصه، فأدخلوه البيمارستان، وقال فيه أبو الحسن الخوارزمي أحد مشايخ بغداد: إن لم يكن لله جهنم فإنه يخلق جهنما بسبب السبكي، أي يخلقها الله للذين آذوه، وأنكروا عليه، وكفروه بالباطل هذا معنى قول أبي الحسن بدليل قوله عقب ذلك وإن لم يدخل السبكي الجنة فمن يدخلها، وقال أهل المغرب على الإمام أبي بكر النابلسي مع فضله، وعلمه، وزهده، واستقامة طريقه، وتصدره للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فأخرجوه من المغرب مقيدا إلى مصر، وشهدوا عليه عند السلطان، ولم يرجع عن قوله، فأخذ وسلخ، وهو حي، وقيل إنه سلخ وهو منكوس، وهو يقرأ القرآن فكاد أن يفتتن به الناس، فرفع الأمر إلى السلطان، فقال اقتلوه، ثم اسلخوه، وأخرجوا الشيخ أبا مدين المغربي رضي الله عنه من بجاية، كما سيأتي في ترجمته، وأخرجوا أبا القاسم النصراباذي رضي الله عنه من البصرة، وأنكروا عليه كلامه، وأحواله، فلم يزل بالحرام إلى أن مات مع صلاحه، وزهده، وورعه، واتباعه للسنة.
وأخرجوا أبا عبد الله الشجري صاحب أبي حفص الحداد قام عليه أبو عثمان الجبري، وهجره، وأمر الناس بهجره حين رفع الناس قدره على أبي عثمان، وأقبلوا عليه، وشهدوا على أبي الحسن الحصري رضي الله عنه بالكفر، وحكوا عنه ألفاظا كتبت في درج، وحمل إلى أبي الحسن قاضي القضاة، فاستحضره القاضي وناظره في ذلك، ومنعه من القعود في الجامع حتى مات، وتكلموا في ابن سمنون، وغيره بالكلام الفاحش حتى مات، فلم يحضروا له جنازة مع علمه، وجلالته، وتكلموا في الإمام أبي القاسم بن جميل بالعظائم إلى أن مات، ولم يتزلزل عما هو عليه من الاشتغال بالعلم، والحديث، وصيام الدهر، وقيام الليل، وزهده في الدنيا حتى لبس الحصير رضي الله عنه.
وكان أبو بكر التلمساني يقول: كان أبو دانيال يحط على الجنيد، وعلى رويم، وسمنون، وابن عطاء، ومشايخ العراق، وكان إذا سمع أحدا يذكرهم بخير تغيظ وتغير، وأما الحلاج فإنه كان من القوم، وهو الصحيح فلا يخفي محنته، وإن كان من غير القوم فلا كلام لنا فيه، وقد اختلف الناس فيه اختلافا كثيرا قال ابن خلكان في تاريخه: وإنما سمي بالحلاج لأنه جلس على دكا حلاج، وبها مخزن قطن غير محلوج فذهب صاحب الدكان في حاجته، فرجع فوجد القطن كله محلوجا فسمي حلاجا، وكان رضي الله عنه يأتي بفاكهة الصيف في الشتاء، وعكسه، ويمد يده في يديه في الهواء فيردها مملوءة دراهم يسميها دراهم القدرة.
قال ابن خلكان: وأما سبب قتله فلم يكن عن أمر موجب للقتل، إنما عمل عليه الوزير حين أحضروه إلى مجلس الحكم مرات، ولم يظهر منه ما يخالف الشريعة، فقال لجماعة: هل له مصنفات؟ فقالوا: نعم، فذكروا أنهم وجدوا له كتابا فيه أن الإنسان إذا عجز عن الحج، فليعمد إلى غرفة من بيته، فيطهرها، ويطيبها،
Shafi 14
ويطوف بها، ويكون كمن حج البيت، والله أعلم إن كان هذا القول عنه صحيحا فطلبه القاضي فقال هذا الكتاب تصنيفك، فقال: نعم، فقال له: أخذته عمن؟ فقال: عن الحسن البصري، ولا يعلم الحلاج ما دسوه عليه، فقال له القاضي: كذبت يا مراق الدم ليس في كتب الحسن البصري شيء من ذلك، فلما قال القاضي يا مراق الدم مسك الوزير هذه الكلمة على القاضي قال: هذا فرع عن حكمك بكفره، وقال للقاضي: اكتب خطك بالتكفير، فامتنع القاضي فألزمه الوزير بذلك، فكتب، فقامت العامة على الوزير، فخاف الوزير على نفسه، فكلم الخليفة بذلك، فأمر بالحلاج، وضرب ألف سوط، فلم يتأوه، وقطعت يداه، ورجلاه، وصلب، ثم أحرق بالنار، ووقع الاختلاف فيه بين الناس أهوى الذي صلب، أم رفع كما وقع في عيسى عليه الصلاة والسلام.
وأفتوا بتكفير الإمام الغزالي رضي الله عنه، وأحرقوا كتابه الإحياء، ثم نصره الله تعالى عليهم، وكتبوه بماء الذهب، وكان من جملة من أنكر على الغزالي، وأفتى بتحريق كتابه القاضي عياض، وابن رشد، فلما بلغ الغزالي ذلك دعا على القاضي، فمات فجأة في الحمام يوم الدعاء عليه، وقيل إن المهدي هو الذي أمر بقتله بعد أن ادعى عليه أهل بلده، بأنه يهودي لأنه كان لا يخرج يوم السبت، لكونه كان يصنف في كتاب الشفاء يوم السبت فقتله المهدي لأجل دعوة الغزالي، وأخرجوا أبا الحسن الشاذلي رضي الله عنه من بلاد المغرب بجماعته، ثم كاتبوا نائب الإسكندرية بأنه سيقدم عليكم مغربي زنديق، وقد أخرجناه من بلادنا، فالحذر من الاجتماع عليه فجاء الشيخ إلى الإسكندرية، فوجد أهلها كلهم يسبونه، ثم وشوا به إلى السلطان، ولم يزل في الأذى حتى حج بالناس في سنين كان الحج فيها قد قطع من كثرة القطع في طريقه، فاعتقده الناس.
ورموا الشيخ أحمد بن الرفاعي بالزندقة، والإلحاد، وتحليل المحرمات كما سيأتي في ترجمته.
وقتلوا الإمام أبا القاسم بن قسي، وابن برجان، والخولي، والمرجاني مع كونهم أئمة يقتدي بهم، وقال الحساد عليهم، فشهدوا عليهم بالكفر، فلم يقتلوا، فعملوا عليهم الحيلة، وقالوا للسلطان إن البلاد قد خطبت لابن برجان في نحو مائة بلدة، وثلاثين، فأرسل له من قتله، وقتل جماعته.
وأما الشيخ محيي الدين بن العربي وسيدي عمر بن الفارض رضي الله عنهما، فلم يزل المنكرون ينكرون عليهما إلى وقتنا هذا، وعقدوا للشيخ عز الدين بن عبد السلام مجلسا في كلمة قالها في العقائد، وحرضوا السلطان عليه، ثم حصل له اللطف، وحسدوا شيخ الإسلام تقي الدين ابن بنت الأعز، وزوروا عليه كلاما للسلطان، فرسم بشنقه، ثم تداركه اللطف، وذلك أن الملك الظاهر بيبرس قد كان انقاد له انقيادا كليا حتى كان لا يفعل شيئا إلا بمشاورته، فمشى الحساد بينهما بالكلام، حتى زينوا للسلطان في مسألة يقول فيها الحنفية إنها صواب، وما عليه الشافعية خطأ، فعارضه الشيخ تقي الدين فانتصر بعض الحساد للسلطان، ونصروه على الشيخ، وكان لا يحكم في مصر في ذلك الزمان، إلا بقول الشافعي رضي الله عنه فقط فولى السلطان بيبرس القضاة الأربعة من تلك الوقعة، فلم يزالوا إلى عصرنا هذا.
وأنكروا على الشيخ عبد الحق بن سبعين، وأخرجوه من بلاد المغرب، وأرسلوا نجابا بدرج مكتوب إمامه يحذرون أهل مصر منه، وكتبوا فيه أنه يقول: أنا هو وهو أنا.
ومحن الأئمة كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأصرابهم مشهورة في كتب المناقب، فانظر يا أخي ما جرى لهؤلاء الأئمة من المتقدمين، والمتأخرين، وخذ لنفسك أسوة فيما تقع فيه من المحن والله أعلم.
ولنشرع الآن في مقصود الكتاب، فنقول وبالله التوفيق.
فأولهم أبو بكر الصديق
رضي الله تعالى عنه
واسمه عبد الله بن أبي قحافة عثمان ابن عامر بن عمرو بن كعب بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب، ومناقبه أكثر من أن تحصى، وكان رضي الله عنه يقول أكيس الكيس التقوى، وأحمق الحمق الفجور، وأصدق الصدق الأمانة، وكذب الكذب الخيانة، وكان رضي الله عنه إذا أكل طعاما فيه شبهة، ثم علم به استقاءه من بطنه، ويقول: اللهم لا تؤاخذني بما شربته العروق وخالط الأمعاء، وكان رضي الله عنه يقول: إن هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله، ولا يحتمله إلا أفضلكم مقدرة، وأملككم لنفسه، وكان رضي الله عنه يقول: لمن يعظه: يا أخي إن أنت حفظت وصيتي، فلا يكن غائب أحب إليك من الموت وهو آتيك، وكان يقول: إن العبد إذا داخله
Shafi 15
العجب بشيء من زينة الدنيا مقته الله تعالى حتى يفارق تلك الزينة، وكان يقول: يا معاشر المسلمين استحيوا من الله، فوالذي نفسي بيده إني لأظل حين أذهب إلى الغائط في الفضاء متقنعا استحياء من ربي عز وجل، وكان يقول: ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل، وكان يأخذ بطرف لسانه، ويقول: هذا الذي أوردني الموارد، وكان إذا سقط خطام ناقته ينيخها ويأخذه فيقال له: هلا أمرتنا فيقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني ألا أسأل الناس شيئا، وكان رضي الله عنه يقول للصحابة رضي الله عنهم: قد وليت أمركم، ولست بأخيركم فأعينوني فإذا رأيتموني استقمت، فاتبعوني، وإذا رأيتموني زغت فقوموني، وغلب عليه الحزن، والخوف حتى كان يشم من فمه رائحة الكبد المشوي، توفي رضي الله عنه بين المغرب والعشاء ثاني عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة رضي الله تعالى عنه.
ومنهم الإمام عمر بن الخطاب
رضي الله تعالى عنه ورحمه
ويجتمع نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب، واتفقوا على أنه أول من سمي أمير المؤمنين، وأجمعوا على كثرة علمه، ووفور عقله، وفهمه، وزهده، وتواضعه، ورفقه بالمسلمين، وإنصافه ووقوفه مع الحق، وتعظيمه آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشدة متابعته له، ومحاسنه رضي الله تعالى عنه أكثر من أن تحصى، وكان رضي الله عنه لا يجمع في سماطه بين إدامين، وقدمت إليه حفصة رضي الله عنها مرقا باردا وصبت عليه زيتا فقال: إدامان في إناء واحد لا آكله حتى ألقى الله عز وجل، وكان في قميصه رضي الله عنه أربع رقاع بين كتفيه، وكان إزاره مرقوعا بقطعة من جراب، وعدوا مرة في قميصه أربع عشرة رقعة، إحداها من أدم أحمر، وكان يقول: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم، واستأذن رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمرة، فأذن له وقال: لا تنسنا يا أخي من دعائك، وفي رواية أشركنا في دعائك، وكان رضي الله عنه إذا وقع بالمسلمين أمر يكاد يهلك اهتماما بأمرهم.
وكان يأتي المجزرة ومعه الدرة فكل من رآه يشتري لحما يومين متتابعين يضربه بالدرة، ويقول له: هلا طويت بطنك لجارك وابن عمك، وأبطأ يوما عن الخروج لصلاة الجمعة، ثم خرج، فاعتذر إلى الناس، وقال: إنما حبسني عنكم ثوبي هذا كان يغسل وليس عندي غيره، وكان يقول: لولا خوف الحساب لأمرت بكبش يشوي لنا في التنور، وكان رضي الله عنه يشتهي الشهوة، وثمنها درهم فيؤخرها سنة كاملة، وكان يقول: من خاف من الله تعالى لم يشف غيظه، ومن يتق الله لم يضيع ما يريد، وصعد يوما إلى المنبر فقال: الحمد صلى الله عليه وسلم الذي صيرني ليس فوقي أحد، فقيل له: ما حملك على ما تقول؟ فقال إظهارا للشكر ثم نزل.
وحج رضي الله عنه من المدينة إلى مكة، فلم يضرب له فسطاط، ولا خباء حتى رجع، وكان إذا نزل يلقي له كساء، أو نطع على شجرة فيستظل بذلك، وكان رضي الله عنه أبيض يعلوه حمرة، وإنما صار في لونه سمرة في عام الرمادة، حين أكثر من أكل الزيت توسعة للناس أيام الغلاء، فترك لهم اللحم والسمن، واللبن، وكان قد حلف أن لا يأكل إداما غير الزيت حتى يوسع الله على المسلمين، ومكث الغلاء تسعة أشهر، وكانت الأرض قد صارت سوداء مثل الرماد، وكان يخرج يطوف على البيوت ويقول: من كان محتاجا فليأتنا، وكان رضي الله عنه يقول: اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد صلى الله عليه وسلم على يدي، وكان في وجهه خطان أسودان من كثرة البكاء، وكان يمر بالآية في ورده فتخنقه العبرة، فيبكي حتى يسقط، ثم يلزم بيته حتى يعاد يحسبونه مريضا، وكان يسمع حنينه من وراء ثلاث صفوف، وكان رضي الله عنه يقول: ليتني كنت كبشا أهلي سمنوني ما بدا لهم ثم ذبحوني، فأكلوني وأخرجوني عذرة، ولم أكن بشرا.
ولما مرض كانت رأسه في حجر ولده عبد الله فقال له: يا ولدي ضع رأسي على الأرض فقال له عبد الله: وما عليك إن كانت على فخذي، أم على الأرض؟ فقال: ضعها على الأرض فوضع عبد الله رأسه على الأرض فقال: ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي ثم قال رضي الله عنه: وددت أن أخرج من الدنيا، كما دخلت لا أجر لي، ولا وزر علي ثم قال: اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع، ولا مفرط، فلما مات رآه العباس رضي الله عنهما فقال له: كيف وجدت الأمير يا أمير المؤمنين؟ قال: كاد عرشي يهوي بي لولا أني وجدت ربا رحيما، وكان
Shafi 16
إذا مر على مزبلة يقف عندها، ويقول: هذه دنياكم التي تحرصون عليها، وكان يقول: أضروا بالفانية خير لكم من أن تضروا بالباقية يعني الآخرة.
وكان يأخذ التبنة من الأرض ويقول: يا ليتني كنت هذه التبنة ليتني لم أخلق، ليت أمي لم تلدني، ليتني لم أك شيئا ليتني كنت نسيا منسيا، وكان رضي الله عنه يحب الصلاة في وسط الليل، وكان إذا حصل بالناس هم يخلع ثيابه، ويلبس ثوبا قصيرا لا يكاد يبلغ ركبتيه، ثم يرفع صوته بالبكاء، والاستغفار، وعيناه تذرفان حتى يغشى عليه، وكان يحمل جراب الدقيق على ظهره للأرامل والأيتام، فقال له بعضهم: دعني أحمل عنك فقال: ومن يحمل عني يوم القيامة ذنوبي، وأحواله كثيرة مشهورة رضي الله تعالى عنه.
ومنهم الإمام عثمان بن عفان
رضي الله تعالى عنه ورحمه
ويجتمع نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف وسمي ذا النورين لجمعه بين بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم: رقية ثم أم كلثوم.
وحاصروه تسعة وأربعين يوما، ثم قتلوه صبرا، والمصحف مفتوح بين يديه، وهو يقرأ، وكان رضي الله عنه شديد الحياء حتى إنه ليكون في البيت والباب مغلق عليه، فما يضع عنه الثوب عند الغسل ليفيض عليه، يمنعه الحياء أن يقيم صلبه، وكان يصوم النهار، ويقوم الليل إلا هجعة من أوله، وكان يختم القرآن في كل ركعة كثيرا، وكان يخطب الناس وعليه إزار عدني غليظ ثمنه أربعة دراهم أو خمسة، وكان يطعم الناس طعام الإمارة، ويدخل بيته، فيأكل الخل والزيت، وكان يردف خلفه غلامه أيام خلافته، ولا يستعيب ذلك.
وكان إذا مر على المقبرة بكى حتى بل لحيته رضي الله عنه، ومناقبه كثيرة مشهورة رضي الله تعالى عنه.
ومنهم الإمام علي بن أبي طالب
رضي الله تعالى عنه
ونسبه مشهور. وكان برضي الله عنه يقول الدنيا جيفة فمن أراد منها شيئا فليصبر على مخالطة الكلاب.
قلت: والمراد بالدنيا ما زاد على الحاجة الشرعية بخلاف ما دعت الضرورة إليه، وذلك أن فضول الدنيا شهوات، وأهل الشهوات كثير، ولذلك ما رؤي زاهد قط في محل مزاحمة على الدنيا، كما هو مشاهد، وإنما سمي طالب الفضول كلبا للدنيا لتعلق قلبه بها، لأن الكلب مأخوذ من التكلب، وكل من عسر عليه فراق شهوته فهو كلبها، فافهم فما توسع من توسع في مأكل، أو ملبس إلا لقلة ورعه، والشارع لم يأمرنا بالتوسع في الشبهات، والله أعلم.
قال أبو عبيدة رحمه الله: ارتحل الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه تسع كلمات، قطع الأطماع عن اللحاق بواحدة منهن، ثلاث في المناجاة، وثلاث في العلم، وثلاث في الأدب.
فأما التي في المناجاة فهي قوله: كفاني عزا أن تكون لي ربا، وكفى بي فخرا أن أكون لك عبدا، أنت لي كما أحب فوفقني لما تحب، وأما التي في العلم فهي قوله المرء مخبوء تحت لسانه، فتكلموا تعرفوا، ما ضاع امرؤ عرف قدره، وأما التي في الأدب فهي قوله: أنعم على من شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.
وكان رضي الله عنه يقول: والله لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق.
وكان آخر كلامه قبل موته لا إله إلا الله محمد رسول الله. وكان رضي الله عنه يقول: موت الإنسان بعد أن كبر وعرف ربه خير من موته طفلا، ولو دخل الجنة بغير حساب.
قلت: لأن أقل ما هناك أن العبد يجالس ربه في الجنة بقدر ما عمل من العبادات والله أعلم، وكان رضي الله عنه يقول: أعلم الناس بالله أشدهم حبا، وتعظيما لأهل لا إله إلا الله.
وقيل له مرة: ألا نحرسك يا أمير المؤمنين فقال: حارس كل امرئ أجله، وكان رضي الله عنه يقول: كونوا لقبول أعمالكم أشد اهتماما منكم بالعمل، فإنه لن يقل عمل مع التقوى، وكيف يقل عمل متقبل، وكان رضي الله عنه يقول: إذا كان يوم القيامة أتت الدنيا بأحسن زينتها، ثم قالت: يا رب هبني لبعض أوليائك فيقول الله عز وجل لها: اذهبي لا إلى شيء فلانت أهون من أن أهبك لبعض أوليائي، فتطوى كما يطوى الثوب الخلق فتلقى في النار، وكان رضي الله عنه يقول: لا يرجون العبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه، وكان يقول: لا يستحي جاهل أن يسأل عما لم يعلم، ولا، يستحي عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول الله أعلم، وكان رضي الله عنه يقول: إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى، وطول الأمل فأما اتباع الهوى فيضل عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، وكان يقول: الفقيه كل الفقيه من لا يقنط الناس من رحمة الله، ولا يؤمنهم من عذاب الله، ولا يرخص في معاصي الله، ولا
Shafi 17
يدع القرآن رغبة منه إلى غيره، وكان يقول: لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا خير في علم لا فهم فيه، ولا خير في قراءة لا تحبر فيها، وكان رضي الله عنه يقول: كونوا ينابيع العلم، ومصابيح الليل خلقان الثياب جدد القلوب تعرفون به في ملكوت السماء، وتذكرون به في الأرض، وكان رضي الله عنه يقول: لو حننتم حنين الواله الثكلان، وجأرتم جؤار ميتلي الرهبان.
ثم خرجتم من أموالكم، وأولادكم في طلب القرب من الله تعالى، وابتغاء رضوانه، وارتفاع درجة عنده، أو غفران سيئة كان ذلك قليلا فيما تطلبونه، وكان رضي الله عنه يقول: القلوب أوعية وخيرها أوعاها، ثم يقول: هاه هاه إن هاهنا - وأشار بيده إلى صدره - علما لو أصبت له حملة وأتى رضي الله عنه بفالوذج فوضع قدامه فقال: إنك طيب الريح حسن اللون طيب الطعم لكني أكره أن أعود نفسي ما لم تعتد، ولم يأكله، ولم يأكل رضي الله عنه طعاما منذ قتل عثمان، ونهبت الدار إلا مختوما حذرا من الشبهة، وكان قوته وكسوته شيئا يجيئه من المدينة، ولم يأكل من طعام العراق إلا قليلا، وكان رضي الله عنه يرقع قميصه ويقول: لمن لبس المرقع يخشع القلب، ويقتدي به المؤمن، وكان يقطم من كم قميصه ما زاد على رؤوس الأصابع.
وكذلك كان عمر رضي الله عنه، وكان رضي الله عنه يبرد في الشتاء حتى ترعد أعضاؤه عن البرد فقيل له: ألا تأخذ لك كساء من بيت المال، فإنه واسع فقال: لا أنقص المسلمين من بيت مالهم شيئا لي.
وكان رضي الله عنه يقول: التقوى هي ترك الإصرار على المعصية، وترك الاغترار بالطاعة، وكان رضي الله عنه يستوحش من الدنيا، وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، وكان يحاسب نفسه على كل شيء، وكان يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، وكان رضي الله عنه يعظم أهل الدين والمساكين، وكان يصلي ليله ولا يهجع إلا يسيرا، ويقبض على لحيته، ويتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين حتى يصبح، وكان رضي الله عنه يخاطب الدنيا ويقول: يا دنيا غري غيري قد طلقتك ثلاثا عمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك كبير آه آه من قلة الزاد، وبعد السفر ووحشة الطريق. وكان رضي الله عنه يقول أشد الأعمال ثلاثة إعطاء الحق من نفسك، وذكرك الله تعالى على كل حال، ومواساة الأخ في المال، وكان يقول: ما نلت من دنياك فلا تكثرن به فرحا وما فاتك منها، فلا تيأس عليه حزنا وليكن همك فيما بعد الموت.
وكان رضي الله عنه يقول: لم يرض الحق تعالى من أهل القرآن الادهان في دينه، والسكوت على معاصيه، وكان يقول إن مع كل إنسانا ملكين يحفظانه مما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه وإن الأجل جنة حصينة، وكان ينشد ويقول:
حقيق بالتواضع من يموت ... ويكفي المرء من دنياه قوت
فما للمرء يصبح ذا هموم ... وحرص ليس ندركه النعوت
فيا هذا سترحل عن قريب ... إلى قوم كلامهم السكوت
قال القضاعي رضي الله عنه: وكان لعلي رضي الله عنه من الأولاد الذكور أربعة عشر ولدا ولم يكن النسل إلا لخمسة منهم فقط: الحسن والحسين، ومحمد بن الحنفية، وعمر والعباس رضي الله عنهم أجمعين، ومناقبه رضي الله عنه كثيرة مشهورة.
ومنهم الإمام طلحة بن عبيد الله
رضي الله تعالى عنه
ويجتمع نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة، وكان رضي الله عنه من الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ووقاه بيده ونفسه، فشلت يده وجرح يومئذ أربعا وعشرين جراحة، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة الخير، وكانت نفقته كل يوما ألفا وتصدق يوما بمائة ألف، وهو محتاج إلى ثوب يذهب به إلى المسجد فلم يشتر له قميصا، وكان رضي الله عنه يقول: إن رجلا يبيت عنده الدنانير في بيته لا يدري ما يطرقه من الله تعالى لغرير بالله، فكان إذا بات عنده الدنانير لا ينام تلك الليلة حتى يصبح ويفرقها، قتل رضي الله عنه يوم الجمل سنة ست وثلاثين، وقبره بالبصرة ظاهر يزار رضي الله عنه.
ومنهم الإمام الزبير بن العوام
رضي الله عنه
ويجتمع نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي، وقاتل
Shafi 18
يوم بدر قتالا شديدا حتى كان الرجل يدخل يده في الجراح من ظهره وعاتقه.
ولما حضرته الوفاة كان عليه دين كثير، وليس له مال فقالوا له: ما نفعل في دينك؟ فقال لأولاده: قولوا يا مولى الزبير اقض دينه فقضاه الله تعالى عنه جميعه، وكان قدره ألف ألف ومائتي ألف، وكان للزبير عم فكان يعلق الزبير في حصير، ويدخن عليه بالنار، ويقول له: ارجع إلى الكفر فيقول الزبير: لا أكفر أبدا، وكان له ألف مملوك يؤدون الخراج إليه كل يوم، فكان يتصدق به في مجلسه، ولا يقوم منه بدرهم رضي الله عنه.
ومنهم الإمام سعد بن أبي وقاص
رضي الله عنه
ويجتمع نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في الأب الخامس.
ومرض رضي الله عنه فقال: يا رب إن لي بنين صغارا، فأخر عني الموت حتى يبلغوا، فأخر عنه عشرين سنة، وكان بينه وبين خالد كلام، فذهب رجل يقع في خالد عنده فقال: مه إن ما بيننا لم يبلغ ديننا.
ولما وقعت فتنة عثمان رضي الله عنه اعتزل الناس، فلم يخرج من بيته، وقد رمى يوم أحد ألف سهم، وأوصى أن يكفن في جبته التي كان قد لقي المشركين فيها يوم بدر فكفنوه فيها رضي الله عنه.
ومنهم الإمام سعيد بن زيد
رضي الله تعالى عنه ورحمه
ويجتمع نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب بن لؤي، وكان مجاب الدعوة وقد ادعت عليه أروى بنت أنس عند مروان أنه أخذ لها شيئا من أرضها، فقال سعيد: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واقتلها في أرضها، فما ماتت حتى ذهب بصرها، وبينما هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت.
توفي بالعقيق، وحمل إلى المدينة، ودفن بها سنة خمس وخمسين رضي الله عنه.
ومنهم الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن عوف
رضي الله تعالى عنه ورحمه
ويجتمع نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في كلاب بن مرة.
كان رضي الله عنه يتصدق بالسبعمائة راحلة، وأكثر للفقراء والمساكين بأحمالها، وأقتابها، وأحلاسها، ولم يزل خائفا منذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا " ولما بلغه ذلك جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أقرض الله قرضا حسنا يطلق لك قدميك، ثم نزل جبريل، فقال مر ابن عوف فليضف الضيف، وليطعم المسكين، وليعط السائل، فإذا فعل ذلك كان كفارة لما هو فيه، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عممه بيده، وسدلها بين كتفيه، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، وقال: " إنه عبد صالح " وكان رضي الله عنه من شدة خوفه، وتواضعه لا يعرف من بين عبيده، توفي سنة اثنتين وثلاثين، ودفن بالبقيع رضي الله تعالى عنه.
ومنهم الإمام أبو عبيدة عامر بن الجراح
رضي الله تعالى عنه
ويجتمع نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في الأب السابع، ودفن بغور بيسان سنة ثمان عشرة عند قرية تسمى عماد، وكان رضي الله عنه يقول: ألا رب مبيض لثيابه مدنس لدينه ألا رب مكرم لنفسه، وهو لها مهين، فبادروا رحمكم الله السيئات القديمات بالحسنات الحديثات، فلو أن أحدكم عمل من السيئات ما بينه وبين السماء، ثم عمل حسنة لعلت فوق سيئاته حتى تغيرهن، وكان رضي الله عنه يقول مثل المؤمن مثل العصفور يتقلب كل يوم كذا وكذا مرة رضي الله عنه.
ومنهم الإمام عبد الله بن مسعود
رضي الله تعالى عنه ورحمه
وكان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ووساده وسواكه ونعليه وطهوره في السفر وكان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه وسمته وكان رضي الله عنه من أجود الناس ثوبا ومن أطيب الناس ريحا تعظيما لنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حمله، وكان هو الذي يلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم نعليه ويمشي أمامه بالعصا حتى يدخل أمامه الحجرة فإذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه نزع نعليه فأدخلهما في ذراعيه وأعطاه العصا.
وكان رضي الله عنه دقيق الساقين فكان بعض الصحابة يضحك من دقة ساقيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد "، وكان صلى الله عليه وسلم يستمع لقراءته في الليل ويقول: " من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأه على قراءة عبد الله بن مسعود " وكان رضي الله عنه قليل الصوم، كثير الصلاة، فقيل له في ذلك فقال إني إذا صمت ضعفت عن الصلاة والصلاة عندي أهم، وسمع رجلا يقول: اللهم إني أحب أن أكون
Shafi 19
من المقربين ولا أحب أن أكون من أصحاب اليمين، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: هاهنا رجل يود أنه إذا مات لا يبعث يعني نفسه، وكان رضي الله عنه يبكي، ويلاقي دموعه بكفيه، ثم يقول بدموعه هكذا يرش بها الأرض، وخرج مرة معه ناس يشيعونه فقال لهم: ألكم حاجة فقالوا لا فقال: ارجعوا فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع، وكان يقول لو تعلمون مني ما أعلمه من نفسي لحثيتم على رأس التراب، وكان يقول حبذا المكروهان الموت والفقر، وكان رضي الله عنه يقول ما أصبحت قط على حالة فتمنيت أن أكون على سواها، وكان يقول إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه فيخرج ولا دين معه لأنه تعرض أن يعصي الله تعالى إما بفعله وإما بسكوته وإما باعتقاده، وكان يقول لو أن رجلا قام بين الركن والمقام يعبد الله تعالى سبعين سنة وهو يحب ظالما لبعثه الله تعالى يوم القيامة مع من يحب.
ولما مرض رضي الله عنه عاده عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال له: ما تشتكي قال ذنوبي قال فما تشتهي: قال: رحمة ربي قال له ألا آمر لك بطبيب قال: الطبيب أمرضني قال ألا آمر لك بعطاء قال لا حاجة لي فيه، قال يكون لبناتك قال أتخشى على بناتي الفقر وقد أمرتهن أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من قرأ الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا ".
وكان من دعائه: اللهم إني أسألك إيمانا لا يرتد ونعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ومرافقة نبيك صلى الله عليه وسلم في أعلى جنان الخلد، وكان رضي الله عنه يقول: ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم بالخشية، وكان رضي الله عنه يقول ويل لمن لا يعلم ولا شاء الله لعلمه وويل لمن يعلم ثم لا يعمل سبع مرات، وكان يقول ذهب صفو الدنيا وبقي كدرها، والموت اليوم تحفة لكل مسلم، وكان يقول: لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحل بذروته ولا يحل بذروته حتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى، والذل أحب إليه من العز، وحتى يكون حامده وذامه عنده سواء، وفسر هذه الجملة أصحابه فقالوا حتى يكون الفقر في الحلال أحب إليه من الغنى في الحرام، والتواضع في طاعة الله أحب إليه من الشرف في معصية الله وحتى يكون حامده وذامه عنده في الحق سواء لا يميل إلى من يحمده أكثر ممن يذمه، وكان يقول: لأن بعض أحدكم على جمرة حتى تطفأ خير له من أن يقول لأمر قضاه الله ليت هذا لم يكن وكان يقول: لأصحابه أنتم أطول صلاة وأكثر اجتهادا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا أزهد منكم في الدنيا وأرغب منكم في الآخرة، وكان يقول إن الرجل لا يكون غائبا عن المنكر في بيوت الولاة، ويكون عليه مثل وزر من حضر وذلك لأنه يبلغه فيرضى به ويسكت عليه، والله أعلم.
ومنهم الإمام خباب بن الأرت
رضي الله تعالى عنه
وكان يعذب بالنار ليرجع عن دين الإسلام فلم يرجع، وكان رضي الله عنه يبكي ويقول إن إخواننا مضوا ولم يأخذوا من أجرهم شيئا ولم تنقصهم الدنيا، وإنا بقينا بعدهم وأعطينا من المال ما لم نجد له موضعا إلا التراب ، ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به. وقال عمر رضي الله عنه يا خباب ماذا لقيت من المشركين. فقال: أوقدوا لي نارا فما أطفأها إلا ودك ظهري، رضي الله عنه.
توفي بالكوفة وصلى عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ومنهم أبي بن كعب
رضي الله تعالى عنه
كان من القراء وقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب إلى آخرها بأمر الله عز وجل له في ذلك، وكان يقول عليكم بالسبيل، والسنة، فإنه ليس من عبد على سبيل، وسنة وذكر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله تعالى فتمسه النار، وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، وكان يقول: ما من عبد ترك شيئا لله إلا أبدله الله عز وجل ما هو خير منه من حيث لا يحتسب.
ومنهم سلمان الفارسي
رضي الله تعالى عنه
كان عطاؤه خمسة آلاف، وكان أميرا على زهاء ثلاثين ألفا من المسلمين، وكان يخطب على الناس في عباءة يفرش بعضها ويلبس بعضها، فإذا خرج عطاؤه أمضاه، وكان يكل من شغل يديه ويستظل بالفيء حيثما دار ولم يكن له بيت، وكان يعجن عن الخادم حين يرسلها في حاجة، ويقول: لا نجمع عليها عملين، وكان يعمل الخوص ويقول أشتري خوصا بدرهم فأعمله فأبيعه بثلاثة دراهم
Shafi 20
فأعيد درهما فيه وأنفق درهما على عيالي وأتصدق بدرهم، وكان لا يأكل من صدقات الناس، وكان الناس يسخرونه في حمل أمتعتهم لرثاثة حاله، فربما عرفوه فيريدون أن يحملوا عنه فيقول لا حتى أوصلكم إلى المنزل وهو إذ ذاك أمير على المدائن، وكان رضي الله عنه يقول: إنما مثل المؤمن في الدنيا كمثل مريض معه طبيبه الذي يعلم داءه ودواءه، فإذا اشتهى ما يضره منعه، وقال: إن أكلته هلكت، وكذلك المؤمن يشتهي أشياء كثيرة فيمنعه الله عز وجل منها حتى يموت فيدخل الجنة، وكان رضي الله عنه يقول عجبا لمؤمل الدنيا والموت يطلبه وغافل ليس بمغفول عنه، وضاحك ولا يدري أربه راض عنه أم ساخط، وكان رضي الله عنه يقول: عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا فقال: " ليكن بلغة أحدكم مثل زاد الراكب ".
عاش رضي الله عنه مائتين وخمسين سنة، وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه.
ومنهم تميم الداري
رضي الله تعالى عنه
كان كثير التهجد قام ليلة حتى أصبح بآية واحدة من القرآن يركع، ويسجد ويبكي وهي قوله تعالى: " أم حسب الذين يعملون السيئات " الآية وكان له هيئة ولباس وحسن، وكان أول من قص على الناس بإذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان له حلة اشتراها بألف درهم فكان يلبسها في الليلة التي يرجي أنها ليلة القدر، والله أعلم.
ومنهم أبو الدرداء عويمر بن زيد
رضي الله تعالى عنه
كان يقول: والله الذي لا إله إلا هو ما أمن أحد على إيمانه أن يسلب إلا سلب، وكان يقول إني لآمركم بالأمر لا أفعله ولكني أرجو به الأجر من قبلكم، وكان رضي الله عنه يقول: تفكر ساعة خير من قيام أربعين ليلة، وكان يقول مثقال ذرة من برمع تقوى ويقين أفضل وأعظم وأرجح من أمثال الجبال من عبادة المقربين، وكان يقول: إن من فقه الرجل رفقه في معيشته، وكان يقول معاتبة الأخ خير من فقده.
وكان يقول إن ناقدت الناس ناقدوك وإن تركتهم لم يتركوك، وإن هربت منهم أدركوك، فهبوا أعراضكم ليوم فقركم، وكان يقول لو تعلمون ما أنتم راءون بعد الموت ما أكلتم طعاما وما شربتم ماء عن شهوة ووددت أني شجرة تعضد، ثم تؤكل وكان يقول: أدركت الناس ورقا لا شوك فيه فأصبحوا شوكا لا ورق فيه، وكان رضي الله عنه يقول: إن الذي ألسنتهم رطبة من ذكر الله عز وجل يدخل أحدهم الجنة وهو يضحك.
قلت: والمراد بالرطبة عدم الغفلة فإن القلب إذا غفل يبس اللسان وخرج عن كونه رطبا، وكان يقول: لا تبغض من أخيك المسلم إذا عصى إلا عمله فإذا تركه فهو أخوك ، وكان رضي الله عنه يقول نعم صومعة الرجل المسلم بيته يكف لسانه وفرجه وبصره.
وقالت أم الدرداء: له إن احتجت بعدك أفآكل الصدقة. قال لا، اعملي وكلي فإن ضعفت عن العمل فالتقطي السنبل ولا تأكلي الصدقة وخطبها معاوية فأبت وقالت: لا أغير على أبي الدرداء، وكان أبو الدرداء رضي الله عنه لم يزل يدفع الدنيا بالراحتين ويقول: إليك عني، وكان يقول لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت نفسه في جانب الله أشد المقت، وكان يقول ما في المؤمن بضعة أحب إلى الله من لسانه، فليحفظه لئلا يدخله النار، وكان رضي الله عنه يقول: إنا لنضحك في وجوه قوم، وإن قلوبنا لتلعنهم، وكان يقول إذا تغير أخوك واعوج فلا تتركه لأجل ذلك فإن الأخ يعوج مرة ويستقيم أخرى، وكان هذا مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والنخعي وجماعة لا يهجرون عند الذنب، ويقولون لا تحدثوا بزلة العالم فإنه يزل الزلة، ثم يتركها وكانت زوجته أم الدرداء تقول: طلبت العبادة في كل شيء، فما وجدت شيئا أشفى لصدري ولا أفضل من مجالس الذكر، فكانوا يحضرون عندها فيذكرون فتذكر معهم، وأرسلت إلى نوف البكالي وهو يعظ الناس تقول له اتق الله ولتكن موعظتك لنفسك، والله أعلم.
ومنهم عبد الله بن عمر
رضي الله تعالى عنهما
كان من عباد الصحابة وزهادهم لم يضع لبنة على لبنة، ولا غرس شجرة منذ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رضي الله عنه يقول: يا بن آدم صاحب الدنيا ببدنك وفارقها بقلبك وهمتك، وكان رضي الله عنه يقول لا يكون الرجل من أهل العلم حتى لا يحسد من فوقه ولا يحقر من تحته ولا يبتغي بالعلم ثمنا والله أعلم.
Shafi 21