فأجابه لامرتين مستغربا: «أنا يا سيدي الأمير؟ في المسائل؟ أظنك تمزح، فأنا باق في الخارج، أو على مقربة من هذه المسائل. إني أعتنق فكرا لا حزبا.»
فاستطرد تاليران بصوته النحاسي الفخور قائلا: «إنه لاتضاع عجيب! قلت إنك دخلت في المسائل، في مسائل هذه البلاد بصدق وجرأة لم يسبقا لأحد منذ تموز إلى اليوم. إن المسائل تسير بسرعة، أنت تسير أيضا بسرعة مثلها، وقد لا يمر وقت قصير حتى تقبض على زمام البلاد.»
قال الشاعر لصديقه فيريو عقيب هذه المقابلة بينه وبين تاليران: «ما رأيك بهذا الدماغ البالغ من العمر اثنتين وثمانين سنة؟ كنت أظنه ينظر إلي نظرته إلى خيالي يحلم بعيدا عن أي عمل كان.»
ولكن تجرد لامرتين ما لبث أن ظهر في المجلس ظهورا واضحا، بفضل الخطب البليغة التي كان لها في المجلس تأثير كبير، والتي تلقاها الرأي العام بعواصف من التصفيق. وفي أواخر السنة 1838 نال فوزه الأول في السياسة بدفاعه عن وزارة موله في وجه الحزب المعارض، الذي كان يرغب في إسقاط الوزارة، والذي يديره غيزو وتيير وأوديلون بارو. وإذ كان يدافع عن هذه الوزارة كان يوجه إلى خصومه وأصدقائه معا حقائق صارمة كهذه مثلا: «لا ينبغي لكم أيها السادة أن تتصوروا أن جميع الناس تعبون مثلكم، إن كنتم تشعرون بتعب من الحوادث الخطيرة التي هزت هذا العصر وهزتنا معه، فالأعقاب التي تكبر وراءنا ليست تعبة، وهي تريد أن تعمل وتتعب بدورها!»
وكان أن مائتين وواحدا وعشرين نائبا صوتوا مع لامرتين تأييدا للحكومة. ومنذ ذلك الوقت أصبح لامرتين زعيم مبادئ وأفكار، لن يلبث أن يضم حوله الفئة النيرة في المجلس، ومنذ ذلك الوقت أيضا تمكن من موهبته الخطابية التي بقي خمس سنوات يمرنها في المجلس، والتي رقي بها أخيرا إلى مستوى أعظم خطباء أوروبا. قال كورمنين، النقاد المر: «إن لامرتين يرتجل في أي موضوع كان بجرأة وحماسة وذوق وجاذب، وبعبارة ملونة غنية بالصور والأفكار، لا يتاح لأي خطيب في البشر أن يجاريه فيها.»
ومن أروع الخطب التي ألقاها لامرتين في المجلس، الخطاب الذي ارتجله عندما حملت الباخرة رفات الإمبراطور نابوليون من جزيرة القديسة هيلانة، واختلف أعضاء المجلس على المكان الذي يصلح لأن يكون مقرا أخيرا لقاهر أوروبا. قال: «أعترف أمامكم، أمام هذا المجلس وأمام هذه الأمة المضطرمة شوقا إلى تذكار، أنني لا أنظر من غير أسف إلى بقايا هذا الرجل العظيم، تبكر في النزول من تلك الصخرة، في وسط ذلك المحيط الذي اتجه إليه إعجاب العالم وتقواه ليأتينا بها من خلال لجة آلامها.»
فقاطعه النائب أوديلون بارو بقوله: «أطلب الكلام ...» فاستطرد لامرتين قائلا: «أرجو من حضرة الخطيب الذي يقاطعني ألا يحكم على فكرتي قياسيا، فهي وطنية بقدر ما هي فكرته. أجل، أيها الأسياد، معاذ الله أن ألوم الحكومة التي نزلت على فطرة البلاد النبيلة، أو الفكرة الملكية التي تنادي من المنفى رفات القائد العظيم. لقد أبصرت بأم عيني ضريح ثميستوكل، وقد أهيب به هو أيضا من المنفى ليرقد على شاطئ البحر تجاه سلامين، ولقد باركت روح أثينا لأجل ذلك، كما ستبارك الأجيال روح فرنسا أمام الضريح الذي ستختارونه، إلا أني لا أحسبها إهانة لذكر نابوليون أن يبقيه الحظ مدة بعد تحت صفصافة سنت هيلين.
كان الأقدمون يتركون فسحة من الوقت تمر بين موت الأبطال ومحاكمة الأجيال، فعندما تكون أحكام التاريخ خالية من الأغراض تصبح وهي ثابتة لا ترد، وقد تكون هذه البقايا لم تزل مضطرمة فلا يصح أن تمسها يد! إن العدالة تربح من هذا التأني، ولا يخسر المجد ومعرفة الجميل شيئا ... ولكن، عرض على فرنسا أن يرجع إليها ذلك القبر، فلم تجد بدا من أن تنهض بأسرها لتستقبله وتحضنه في ضريح وطني. إذن فلنتقبله بتأمل، ولكن من غير تعصب، وليسمع الشعب صوت العقل في وسط ذلك الإعجاب الذي لا يسمع منه إلا صوت الأبهة والمجد؛ فلا ينبغي لنا أن نكون أكثر فخرا بنبوغنا منا بالحقوق التي لنا. إني وإن كنت أحد المعجبين بهذا الرجل العظيم، إلا أني لا أترك للحماسة سبيلا إلي من غير بصيرة! إني لا أسجد أمام هذا التذكار، ولست من ذلك المذهب النابوليوني، أو تلك العبادة القائمة على القوة التي يريد البعض أن تخلف مذهب الحرية الرصين في روح الأمة.
لا أعتقد أنه من الحكمة أن نؤله الحرب من غير انقطاع ... فلقد سمعت مرة أحد الفلاسفة يؤله المجد ويعزو الألوهة إلى هذا الطاغية، فضحكت منه ... فهذه البدع البراقة ليست خطرة في فم الفيلسوف، فهي قياس باطل لا غير، ولكنها تتخذ طابعا آخر في فم الرجل السياسي. إن القياسات الباطلة في الحكومات لا تلبث أن تصبح جرائم الأمم أو نكباتها! فحذار أن تعطوا حساما كهذا الحسام، لعبة لشعب كهذا الشعب! وكما أني لست متهوسا، هكذا لا أريد أن أكون خبيثا، ولا أريد أن أعتنق مذهبا لا أجد بذرة له في قلبي أو في روحي!
يجب علينا، نحن الذين ينظرون إلى الحرية نظرة رصينة، أن نزن براهيننا، فلا نخدع رأي شعب يجيد فهم ما يبهره أكثر مما يجيد فهم ما يحتاج إليه، فحذار أن نجعله يحتقر هذه النظم الأقل سطوعا والأكثر وطنية من تلك، وهي التي نعيش في ظلها، والتي مات آباؤنا في سبيلها بعد أن قاتلوا حقبة من الزمن! حذار أن نمحو حكومة العقل! يؤكد لنا الوزراء أن العرش لا يتضاءل أمام ضريح كهذا، وأن تلك المواكب وتلك التيجان الموقتة التي وضعت على ما يسمى حلالا، وتلك النشرات الشعبية، والملايين من المجلدات التي تعبر عن الأفكار النابوليونية، وذلك التعبد للانتصارات لا خطر منها على مستقبل الحكومة الممثلة، ولكني أخشى أن يردد على مسامع الناشئة: لا شعبي إلا المجد، ولا نتيجة إلا في الانتصارات؛ كونوا عظماء واعملوا ما يبدو لكم، اشهروا حروبا، واكسبوا مواقع، واجعلوا نظم بلادكم لعبة ... أبهذه التعاليم تصل الأمة إلى معرفة حقوقها؟ ...
Shafi da ba'a sani ba