بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين (1) حمدا لك اللهم على ما عرفتنا من دلائل الأحكام، وفقهتنا في الدين، وفهمتنا من معالم الحلال والحرام، وعلمتنا من مقاصد الشرع المبين.
والصلاة والسلام على من أرسلته على فترة رحمة للعالمين، وشرحت له صدره، وفضلته على المرسلين، فصدع بالرسالة ناهضا بأعباء التبليغ بكرة وأصيلا، وأوضح الدلالة بالخطاب البليغ هاديا ودليلا، ونشر لواء التوحيد بشيرا ونذيرا، وطوى بساط الشرك فلم يدع منه إفكا وزورا. وعلى آله مصابيح الدين القويم، ومناهج الهداية إلى الصراط المستقيم، الذين أذهبت عنهم الرجس وطهرتهم تطهيرا (2)، وجعلتهم أئمة، وعصمتهم من الزلل أولا وأخيرا، ونصبتهم
Shafi 3
أعلاما للأمة، أنزلت فيهم الكتاب المبين تبصرة وذكرى، وأمرت بمودتهم بآية * (قل لا أسئلكم عليه أجرا) * (1) فأحيوا سنن الإرشاد بالبرهان الجلي، وأماتوا بدع الإلحاد، وصيروا الحق بمقام علي، وشيدوا قواعد الملة البيضاء بمعارف البيان، ورفعوا منارها، وأحكموا دعائم الشريعة (2) الغراء بإيضاح التبيان، وأظهروا آثارها.
وشكرا لك على ما أنعمت علينا باتباعهم، وجعلتنا من أتباعهم، مستمسكين من سلسلتهم بالعروة الوثقى، ومعتصمين من حبل ولائهم بما هو خير وأبقى.
وبعد، فيقول المفتقر إلى رحمة ربه العبد الجاني محمد كاظم الخراساني: إنه لما كان علم الفقه مناهج الشريعة الأحمدية، ومعرفته (3) مسالك السعادة الأبدية، جد فيه علماؤنا، واجتهدوا برد الفروع إلى الأصول، وهذبوا مداركه بتنقيح التحرير، فأدركوا غاية المأمول، وأنفقوا نفائس أعمارهم في إيضاح مشكلاته، وسددوا هواجس أفكارهم لكشف معضلاته، فحرروا مبانيه بإشارات واضحة المقاصد، وأبانوا معانيه بعبارات جامعة الفوائد. جعل الله سعيهم مشكورا، ولقاهم نضرة وسرورا.
غير أن كتاب تبصرة المتعلمين الذي صنفه آية الله في العالمين، مروج الدين بتحريره النافع، وكاشف اليقين بتنقيحه المهذب البارع، شيخنا العلامة الحسن بن المطهر - أعلى الله مقامه - قد حوى على صغر حجمه أسنى الفوائد، واشتمل ببديع
Shafi 4
نظمه على أبهى الفرائد، جامعا بين الإيجاز والإعجاز، ومتخذا في الحقيقة سبيل الرموز ضربا من المجاز، فسألني بعض من لا يسعني إجابته بالرد، أن الحق به تكملة توقف رسمه على الحد، وأضيفها إليه إضافة معنوية معراة عن الأفعال الناقصة، وأعرب موصول مصادره بتصريفات جلية، مبتنية (1) على الدلائل الخالصة، وأشرحه شرحا يشير إلى مفاتيح الأحكام بأجلى إشارة، ويوضح منه غاية المرام بأحلى عبارة، مفصلا عقود فرائده في سلك البيان بآيات معجزة، وكاشفا لثام إبهامه عن وجوه الإتقان بعبارات موجزة خالية من التعقيد المخل والحشو الممل.
فاستخرت الله تعالى متوكلا عليه، ومقدما رغبتي إليه، فجاء بحمد الله تعالى على ما يراد، وغاية المراد.
وسميته ب " اللمعات النيرة في شرح تكملة التبصرة " جعلته تذكرة لمن تبصر، وتبصرة لمن تذكر. وأسأله من فضله الجسيم ومنه القديم أن ينفعنا به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
Shafi 5
اللمعات النيرة في شرح تكملة التبصرة مقدمة المؤلف
Shafi 7
الباب الأول: في المياه (الجاري)...
(كتاب الطهارة) (وفيه أبواب):
(الباب الأول: في المياه) (الماء على ضربين: مطلق ومضاف).
والمراد منه هاهنا: ما يعم غيره مجازا، وإلا فهو بمفهومه الحقيقي لا يصلح لكونه مقسما للضربين.
أما (المطلق) (1): فهو (ما يستحق إطلاق اسم الماء عليه) عرفا، (ولا يمكن سلبه عنه) إلا بنحو من العناية.
(و) أما (المضاف): فهو (بخلافه) لا يستحق إطلاقه عليه إلا بذلك.
Shafi 9
و (المطلق) (1) حكمه بحسب أصل خلقته أنه (طاهر) و (مطهر) للحدث والخبث حسب ما يأتي تفصيله... (وباعتبار ملاقاته للنجاسة) يختلف. ولا يطهر إلا بعد أن (يقسم (2) أقساما) ثلاثة (3):
(الأول: الجاري) وهو عرفا وإن كان السائل عن مادة، إلا أن المراد هاهنا هو النابع عنها وإن لم يكن سائلا، لاتحاد غير السائل معه حكما.
(و) حكمه أنه (لا ينجس) ولو كان قليلا (بملاقاة النجاسة، ما لم يتغير لونه أو طعمه أو رائحته بها)، لعموم " خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شئ، إلا ما غير... " (4) والتعليل في صحيحة ابن بزيع: " ماء البئر واسع لا يفسده شئ، إلا أن يتغير ريحه أو طعمه، فينزح حتى يذهب الريح، ويطيب الطعم، لأن له مادة " (5).
- والاستدلال به بناء على رجوعه إلى الفقرة الأولى واضح.
وأما بناء على رجوعه إلى الفقرة الثانية، فلأن الاتصال بالمادة إذا كان موجبا لارتفاع النجاسة، كان موجبا لاندفاعها بطريق أولى، كما لا يخفى - وخصوص المرسل: " الماء الجاري لا ينجسه شئ " (6). وعن دعائم الاسلام، عن أمير المؤمنين ((عليه السلام)): قال في الماء الجاري يمر بالجيف والعذرة والدم: " يتوضأ
Shafi 10
ويشرب وليس ينجسه شئ، ما لم تتغير أوصافه: طعمه، ولونه، وريحه " (1).
ولا يعارضها مثل " إذا بلغ الماء قدر كذا... " (2). وإن كانت النسبة بينهما عموما من وجه، لوضوح أنها أظهر في كون الجريان عن المادة أو الاتصال بها علة تامة لعدم الانفعال بالملاقاة من عمومه لما له مادة نابعة. مع أنه يدور الأمر بين إلقاء (3) ظهورها في علية الجريان من المادة والاتصال بها رأسا، وإلقاء (4) الإطلاق وتقييده بغير الجاري، وهذا أولى. مع إمكان دعوى الانسباق إليه، ولا أقل من دعوى عدم الظهور في الإطلاق، لكونه القدر المتيقن منه، كما لا يخفى.
هذا مضافا إلى دعوى الاجماع من غير واحد (5) على عدم الفرق بين قليله وكثيره.
وإن أبيت إلا عن مقاومة أدلة الكر لها، وعدم اعتبار دعوى الاجماع، فالأصل عدم الانفعال، بناء على كون الأصل مرجعا في تعارض المتكافئين بالعموم من وجه، لا الترجيح أو التخيير، مع أن الترجيح مع أدلة عدم إنفعال القليل من الجاري، لندرة القول به فتأمل.
وكيف كان (فإن تغير) أحد أوصافه تغيرا حسيا بملاقاتها (نجس المتغير خاصة) لأنه الظاهر من الأخبار الدالة على الانفعال إذا تغير (6)، ضرورة أن التغير
Shafi 11
التقديري ليس بتغير، سواء كان عدمه لعدم المقتضي كالملاقاة للبول الصافي، أو لأجل المانع عن ظهور أثرها عليه، كما إذا اتصف بصفتها، لوضوح أنه يمنع عن اتصافه بمثلها، كيف؟ وإلا لزم إجتماع المثلين، وهو في الاستحالة كاجتماع الضدين.
كما أن الظاهر منها اختصاص النجاسة بالمتغير (دون ما قبله) وهو واضح (و) دون (ما بعده) إذا كان متصلا بالمادة بغير المتغير، أو كان كرا، وإلا ففيه إشكال، لانقطاعه عن المادة بالماء النجس.
إلا أن يقال بعدم انفعال القليل بملاقاة المتنجس، وإن قيل بالإنفعال بملاقاة النجس، كما هو المختار حسب ما يأتي استظهاره من الأخبار. (1) هذا مع احتمال كفاية اتصاله بالمادة وعدم إنقطاعه عنها في الحكم بعدم إنفعاله بالملاقاة ولو قيل بإنفعال القليل بملاقاة المتنجس كالنجس. وذلك لأن تنجس المتغير لا يمنع عن كونه سببا لاتصال غيره بها، وليس دليل انفعال القليل أظهر شمولا له من دليل الجاري، وبينهما عموم من وجه، فالأصل يقتضي عدم إنفعاله، بناء على أنه المرجع في تعارض العامين كذلك، كما أشرنا إليه آنفا.
(وحكم ماء الغيث حال نزوله، وماء الحمام إذا كانت له مادة و (2) كان المجموع منه ومنها بمقدار (3) الكر، على الأحوط حكمه) فلا ينجسان مطلقا بالملاقاة ما لم يتغيرا (4)، لقوله (عليه السلام) في ماء الغيث: " سبيله سبيل الجاري " (5).
Shafi 12
والصحيح في ماء الحمام " هو بمنزلة الجاري " (1) والخبر أنه " كماء النهر يطهر بعضه بعضا " (2). ورواية قرب الإسناد " ماء الحمام لا ينجسه شئ " (3).
وأما تقييد ذلك بما إذا كانت له مادة، فلرواية بكر بن حبيب: " ماء الحمام لا بأس به إذا كانت له مادة " (4).
الباب الأول: في المياه (ماء الحمام)...
وضعفها - لو كان - ينجبر بالعمل.
ثم إن مقتضى إطلاق أخباره عدم اعتبار الكرية أصلا ولو في المجموع من المادة والحوض.
ولا وجه لمنع إطلاقها لغلبة الكرية في المادة حتى في أواخر أوقات نزح الناس من الحياض الصغار، لكثرة عروض القلة على المجموع، فضلا عن أحدهما - كما لا يخفى - ولو كانت الكرية أغلب منها. مع أنه لو كانت غالبة ليست مما يلتفت إليها كي يوجب إنصراف الإطلاق إليها أو كانت قدرا متيقنا في مقام التخاطب، وبدون ذلك كان الاطلاق محكما. كيف؟ وهو ظاهر الخبر الدال على التقييد (5)، إذ لا معنى مع اعتبار الكرية ولو في المجموع للتقييد بالمادة أصلا - بناء على ما هو التحقيق من عدم اعتبار تساوي السطوح في اعتصامه وكفاية تواصل أبعاضه لوحدته معه حقيقة وعرفا. والتعدد المتراءى إنما هو بحسب محاله، كما لا يخفى على من تأمل - بل لا بد من التقييد بالكرية، كسائر المياه الواقفة بلا خصوصية له، مع أن ظاهر أخباره أن له ذلك، كما لا يخفى.
نعم كان اعتبارها في المادة أو المجموع أحوط.
Shafi 13
(الثاني: الواقف، كمياه الحياض والأواني ان كان مقداره كرا).
(وحد الكر: ألف ومائتا رطل) على ما هو المشهور (1)، بل بلا خلاف كما عن صريح بعض (2)، بل عليه الاجماع، كما عن الغنية (3)، لمرسلة ابن أبي عمير (4) المنجبر إرسالها بالإجماع المدعى على قبول عموم مراسيله (5). وعن المعتبر في خصوص هذه المرسلة: وعلى هذه عمل الأصحاب لا أعرف رادا لها (6).
وقضية الجمع بينها وبين صحيحة ابن مسلم: " إن الكر ستمائة رطل " (7) أن يكون ذلك (بالعراقي) بحمل (8) الرطل فيها على العراقي، وفي الصحيحة على المكي، وهو ضعف العراقي مع أن الظاهر الاتفاق على أن المراد منه فيها ليس العراقي ولا المدني، فيتعين كونه مكيا، فيكون وحده دليلا على ذلك.
(أو كان كل واحد من طوله وعرضه وعمقه ثلاثة أشبار ونصف شبر مستوي الخلقة) (9) على المشهور (10)، كما قيل، وعن الغنية الاجماع عليه (11).
Shafi 14
واعلم أن الأصحاب اختلفوا في حده بحسب المساحة ومنشؤه اختلاف الأخبار، واختلاف الأنظار في الاستظهار. ولا دلالة في ما يعتبر منها على هذا التحديد.
الباب الأول: في المياه (الكر)...
نعم رواية الحسن بن صالح كما عن الإستبصار عن أبي عبد الله (عليه السلام): " إذا كان الماء في الركي كرا لم ينجسه شئ ". قلت وما الكر؟ قال: " ثلاثة أشبار ونصف طولها، في ثلاثة أشبار ونصف عمقها، في ثلاثة أشبار ونصف عرضها " (1) وإن كانت صريحة، إلا أن عدم تعرضها في الكافي (2) والتهذيب (3) للطول ربما يخل، لوضوح عدم وثوق بثبوته فيها، كما لا يخفى. وبدونه لا دلالة لها عليه.
وما قيل - من أن تحديد العرض بذلك يستلزم تحديد الطول به أو بأزيد منه، وإذ لا قائل بالزيادة، تعينت المساواة (4) - فيه أن العرض فيها ليس ما يقابل الطول، بل بمعنى السعة كما في قوله تعالى: * (عرضها كعرض السماء والأرض) * (5) وقد صرح بلفظها في صحيحة إسماعيل بن جابر في الماء الذي لا ينجسه شئ.
قال (عليه السلام): " ذراعان عمقه، وذراع وشبر سعته " (6) فيكون كل واحدة من الرواية والصحيحة وغيرهما (7) مما لا تعرض فيها للأبعاد الثلاثة ظاهرة في السطح
Shafi 15
المستدير، كما عن الوحيد البهبهاني (قدس سره) في شرح المفاتيح (1) والمحدث الإسترابادي (2) استظهاره، لا المربع كما استظهره المشهور. ويقرب مكسره من تحديده الوزني - على ما اختبر فإن مكسره على الرواية يكون ثلاثة وثلاثين وكسرا، الحاصلة من ضرب نصف القطر - وهو شبر وثلاثة أرباع - في نصف المحيط - وهو خمسة ونصف - في ثلاثة ونصف العمق، على ما هو القاعدة في ضرب الدائرة.
ودعوى الاجماع بسيطا أو مركبا على أنه ليس بكر في مثل هذه المسألة مجازفة، غايته عدم القول به، لا القول بعدمه. ومن الغريب صدور هذه الدعوى من شيخنا العلامة (3) - أعلى الله مقامه -.
وأغرب منه دعواه إمكان اخراجه بأن الظاهر من الرواية كون مجموع الثلاثة ونصف من العمق ثابتا في تمام سطح الكر، لا في خط منه، فتخرج الدائرة (4)، كما لا يخفى، ضرورة أنه كذلك في السطح المستدير، وإنما لا يكون كذلك في السطح المحدب أو المقعر.
ثم إنه لا يكاد يوافق تحديد من تحديداته المساحية في أخبارها لتحديده الوزني. مع وضوح أن له حدا واحدا لا يختلف باختلاف اختباره مساحة، أو وزنا.
واختلاف المياه خفة وثقلا - مع كونه ليس بمقدار الاختلاف بينهما - يقتضي
Shafi 16
اختصاص كل بأحد الحدين، لا كون كل واحد حدا مطلقا، كما هو قضية إطلاق النص والفتوى.
لا يقال: نعم، ولكنه لا بأس في المخالفة إذا كانت من باب مخالفة العلامة والأمارة مع ذي الأمارة.
فإنه يقال: إنما ذلك في ما كانت المخالفة أحيانا ولم تكن بدائمية كما كانت هاهنا، بل ولا غالبية. فلا مجال لما قيل من التخيير بين التحديدين، فله الاختبار بما يختار (1).
وقصارى ما يمكن أن يقال توفيقا بين الأخبار: أن مقدار الكر حسب مراتب الطهارة والنجاسة، والنزاهة والدناسة يختلف. فيكون أقله مقدارا مما يعتصم به الماء عن الانفعال بالنجاسة وإن انفعل ببعض مراتبها الغير المانعة عن استعماله في ما يعتبر في استعماله الطهارة، وكان المقدار الزائد عليه عاصما عن الانفعال بذلك أيضا. فكان للكثرة العاصمة عرض عريض حسب مراتب النجاسة والدناسة شرعا، كما هو كذلك بالإضافة إلى ما يوجب التنفر طبعا.
ويشهد بذلك التفاوت الفاحش بين التحديدات في الروايات، وعدم توافق الاثنين منها مع الوثوق بل القطع بصدور غير واحد منها بينها، كما لا يخفى. ومعه لا محيص عما ذكرنا من التوفيق كما وفق بنظير ذلك بين روايات منزوحات البئر (2) وعليه فلا حاجة إلى الترجيح بين المعتبر منها.
ثم إنه إذا شك في ما هو أقل ما حدد به لإجمال دليله وتردده بين أن يكون
Shafi 17
التكسير بلحاظ تربيع السطح أو التدوير - مثلا - فقضية عموم رواية " خلق الله الماء طهورا، لا ينجسه شئ إلا ما غير... " (1) عدم إنفعال غير ما علم أنه لم يبلغ الكر، كما هو قضية استصحاب الطهارة وقاعدتها عموما وخصوصا في الماء. قال الصادق (عليه السلام) - على ما في الوسائل -: " كل ماء طاهر إلا ما علمت أنه قذر " (2).
وما قيل من أن الأصل مدفوع بما ثبت من علية الكرية لعدم الانفعال الدالة على أن الملاقاة بنفسها مقتضية للإنفعال ولا يتخلف عنها إلا لمانع، والمانع مدفوع بالأصل.
وأما العموم - فبعد تسليم الرواية والإغماض عن الطعن عليها بعدم ورودها في أصول أصحابنا - فهو لأجل الجمع بينه وبين قوله ((عليه السلام)): " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ " (3) الدال على علية الكرية لعدم التنجيس مقيد بالكر، وأنه لا ينجسه شئ إنما هو باعتبار كريته، فتكون الكرية قيدا للموضوع - وهو الماء الذي لا ينجسه شئ فكل ما شك في كريته فلا يجوز عليه الحكم بعدم التنجيس بمقتضى العموم، لأنه شك في موضوع العام، لا في ما خرج عنه، فافهم. (4) ففيه أن كون الملاقاة مقتضية للتنجيس، وكون الكرية مانعة عنه لا يدفع بها أصالة الطهارة، ولا قاعدتها ما لم يثبت عدم الكرية بنحو ولو بالأصل ولا مثبت في محل الفرض أصلا ولا أصل يرفع به المانع إذا شك فيه ما لم يكن مسبوقا بالعدم، لا عقلا ولا شرعا، لعدم دليل على قاعدة المقتضي والمانع شرعا، ولا مما
Shafi 18
جرت عليه سيرة العقلاء قطعا في ما كان هناك منشأ عقلائي.
مع أن دليل الأصل والقاعدة رادع عن السيرة عليها - لو كانت - كما لا يخفى.
وأنه لا مجال للطعن في الرواية بعد استناد الأساطين إليها في كتبهم (1).
وتقييدها بأدلة الكر لا يقتضي إلا تقييدها بما علم خروجه من عمومها، لا كون الموضوع هو الكر، لانفصال المقيد المجمل، وقضية التقييد بالمجمل المنفصل الاقتصار على التقييد بما علم خروجه به والرجوع في المشكوك إلى العموم وارتفاع إجماله به فيحكم ببقاء مرتكب الصغيرة تحت عموم (أكرم العالم) إذا قيد بدليل منفصل مثل (لا تكرم العالم الفاسق) إذا شك في أن مرتكبها فاسق أو ليس بفاسق.
وبالجملة الكرية وإن كانت قيدا للموضوع، إلا أنها بمعنى الأقل المحتمل من مثل قوله: " إذا كان قدر كر " (2)، لعدم دلالته عليه أو على الأكثر، ووضوح لزوم العمل بالعموم في ما لا دليل على خلافه لبقائه على ظهوره وعدم سراية إجمال المقيد إليه، كما حقق في الأصول (3).
هذا وقد ظهر أن التحديد بمكسر ثلاثة أشبار ونصف في السطح المربع لم ينهض عليه دليل، ولكنه أحوط.
وبالجملة إذا كان بمقدار الكر (لم ينجس بوقوع النجاسة فيه) أو ملاقاته لها، للأصل والقاعدة ومنطوق غير واحد من مثل " إذا بلغ الماء... " (4) (ما لم يتغير أحد أوصافه) الثلاثة (فإن تغير) أحدها تغيرا حسيا لما عرفت (نجس) إجماعا، لرواية
Shafi 19
" خلق الله الماء... " (1) وغيرها (2).
(ويطهر باتصاله بالكر مع امتزاجه حتى يزول التغيير) (3) أو بغيره مما يعتصم كالجاري والغيث حال نزوله.
بل والماء القليل بناء على عدم انفعاله مطلقا، أو بملاقاة المتنجس وإن انفعل بملاقاة عين النجس، لو كان وجه التطهير بالامتزاج هو الاجماع على عدم إختلاف أبعاض ماء واحد بحسب الطهارة والنجاسة، فلا بد من طهارة الكل أو نجاسته، والثاني باطل لأدلة الاعتصام وعدم الانفعال، والأول هو المطلوب. والمفروض أن القليل المتحد مع الماء النجس لا ينفعل بملاقاته، فلا بد أن يطهر ذاك الماء بامتزاجه.
نعم لو كان وجه تطهيره الاجماع على الطهارة تعبدا في صورة الامتزاج بالكر ونحوه مما لا ينفعل اتفاقا فلم يكن وجه للقول بالطهارة بالامتزاج مع القليل، فإنه بلا دليل، بل لا بد من الاقتصار بالإلقاء الدفعي، كما هو المتراءى من التقييد بالدفعة في كلام غير واحد من الأعلام (4) لولا القطع بأن الإلقاء كذلك إنما هو لحصول الامتزاج به، أو لحفظ عمود الماء المعتصم، لا لاعتباره تعبدا، ولذا اكتفينا بالامتزاج، ولو كان بالعلاج.
ثم إنه لا ريب في أنه لا يطهر ما لم يزل تغيره، ولو كان الماء الممتزج به لم ينفعل بذلك لدليل اعتصامه ما لم يتغير. بل وإن تغير لعدم الدليل على النجاسة
Shafi 20
بالتغير إذا لم يكن بملاقاة عينها، فإن الظاهر من قوله: " لا ينجسه شئ... " لا ينجسه عين من الأعيان النجسة بالملاقاة إلا ما غيره. وإن أبيت عن ظهوره فيه، فلا أقل أنه القدر المتيقن، فلا دلالة له على نجاسته بسبب تغيره بملاقاة الماء المتغير بها، كما لا يخفى.
الباب الأول: في المياه (الماء القليل)...
(وإن كان) الماء الواقف (أقل من كر ينجس بوقوع النجاسة فيه وإن لم يتغير أحد أوصافه) على المشهور بين الأصحاب (1)، بل عليه دعوى الاجماع من غير واحد. (2) وقد دل عليه أخبار كثيرة (3) منطوقا أو مفهوما خلافا لابن أبي عقيل (4)، وتبعه الكاشاني (5) والفتوني (6) وبعض آخر (7) فذهبوا إلى عدم إنفعاله بملاقاتها ما لم يتغير أحد أوصافه بها مستدلا - مضافا إلى الأصل، وعموم الرواية المشهورة بين الفريقين " خلق الله الماء... " (8) - بروايات كثيرة ظاهرة، بل بعضها صريحة في عدم الانفعال.
منها: ما عن قرب الإسناد وكتاب المسائل لعلي بن جعفر، قال: سألته عن جنب أصابت يده جنابة فمسحه بخرقة ثم أدخل يده، هل يجز أن يغتسل من ذاك
Shafi 21
الماء؟ قال: " إن وجد ماءا غيره فلا يجزيه أن يغتسل، وإن لم يجد غيره أجزأه " (1).
ومنها: رواية أبي مريم الأنصاري قال: كنت مع أبي عبد الله (عليه السلام) في حائط له فحضرت الصلاة فنزح دلوا للوضوء من ركي له فخرج عليه قطعة من عذرة يابسة وأكفأ رأسه وتوضأ بالباقي (2).
ومنها: خبر زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قلت: راوية من ماء فسقطت فيها فارة أو جرذ أو صعوة ميتة قال: " إن تفسخ فيها فلا تشرب ولا تتوضأ وصبها، وإن كان غير متفسخ فاشرب منه وتوضأ واطرح الميتة إذا أخرجتها طرية وكذلك الجرة وحب الماء والقربة وأشباه ذلك من أوعية الماء " (3).
ومنها: صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) سألته عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء، أيتوضأ منه للصلاة؟ قال: " لا، إلا أن يضطر إليه " (4) إلى غير ذلك من الأخبار (5).
ولا يخفى أن هذه الأخبار لا يعارضها ما دل في مثل مواردها على خلافها من الأمر بالإراقة والإهراق أو النهي عن الشرب والتوضؤ (6) والاغتسال، لاحتمال أن يكون على الاستحباب أو للكراهة، لما أشرنا إليه من كون كل من الطهارة والنجاسة ذات مراتب شرعا (7)، يختلف حكمها بحسب ما لهما من المراتب إختيارا
Shafi 22
واضطرارا، كما يشهد به خبرا علي بن جعفر (1) أو كراهة أو استحبابا. كما هو قضية التوفيق بين خبر أبي مريم (2) ومرسلة علي بن حديد عن بعض أصحابه قال:
كنت مع أبي عبد الله (عليه السلام) في طريق مكة، فصرنا إلى بئر فاستقى غلام أبي عبد الله (عليه السلام) دلوا، فخرج فيه فأرتان. فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): " أرقه " فاستقى آخر فخرج فيه فارة. فقال أبو عبد الله (عليه السلام) " أرقه " فاستقى الثالث فلم يخرج فيه شئ. قال: " صبه في الإناء " فصبه في الإناء (3)، ضرورة احتمال كون الإراقة لا للنجاسة المانعة من جواز الاستعمال بل للتنزه واستقذار الطبع مما فيه الميتة، ورجحان استعمال غير الملاقي لها سيما في رفع الحدث، أو كراهة استعمال الملاقي، وربما لا يجوز استعمال الماء مع طهارته في رفع الحدث، كالمستعمل في رفع الخبث.
وبالجملة لولا مخافة مخالفة الاجماع كان التوفيق بين ما دل على الانفعال خصوصا أو عموما، منطوقا أو مفهوما وبين ما دل على عدم الانفعال كذلك، بحمل الأول على الانفعال بما يوجب الاجتناب عنه تنزيها واستحبابا أو اختيارا، وحمل الثاني على عدم إنفعاله بما لا يجوز استعماله معه في رفع الحدث أو الخبث مطلقا، وفي مثل الشرب إختيارا، بمكان من الإمكان، لكونه من قبيل حمل الظاهر على النص أو الأظهر.
ويشهد به بعض الأخبار (4)، ويؤيده اختلافها في تحديد الكرية المانعة عن النجاسة اختلافا فاحشا لا تكاد ترتفع غائلته إلا بأن ذلك لتفاوت مراتب
Shafi 23
النجاسة والطهارة، واختلاف مراتب كثرة الماء، ومنع كل مرتبة منها عن الانفعال بمرتبة من النجاسة، كما مرت إليه الإشارة (1).
ثم إن وجه تخصيص الحكم بأنه ينجس بملاقاة عين النجاسة أنه لا إجماع على الانفعال بملاقاة المتنجس، ولا خبر دل عليه خصوصا أو عموما منطوقا أو مفهوما، لاختصاص الأخبار الخاصة بعين النجاسة، وانسباقها من الشئ في الأخبار العامة، كما ادعي في خبر " خلق الله الماء " فلا يوجب تغيره بالمتنجس نجاسته. ولا أقل أنه القدر المتيقن منه، ولو سلم شمول المنطوق له فلا عموم في المفهوم، فإن الظاهر أن يكون مثل " إذا بلغ الماء " لتعليق العموم، لا لتعليق كل فرد من افراد العام، فيكون مفهومه إيجابا جزئيا ونجاسته لشئ، والمتيقن منه عين النجاسة، لا إيجابا كليا ونجاسته بكل نجس أو متنجس ولو سلم عدم ظهوره في تعليق العموم فلا ظهور له في تعليق أفراد العام، فلا يكون دليلا على الانفعال إلا بعين النجاسة. فيكون عموم " خلق الله " مرجعا ودليلا على الطهارة مضافا إلى إستصحابها وقاعدتها، كما لا يخفى.
(ويطهر) على تقدير نجاسته بالملاقاة (بامتزاجه بالكر) وغيره مما يعتصم كالجاري ونحوه، إجماعا.
(الثالث: ماء البئر) وهي واضحة عرفا مفهوما ومصداقا. وما اشتبه أنه منها يمكن القول بعدم إنفعال القليل منه بملاقاة النجاسة ولو قيل به في البئر، بدعوى عدم شمول أدلة إنفعال القليل له لأجل كون المنصرف من الماء فيها أو المتيقن منه هو غير ذي المادة. ولو سلم شمولها له لكان " خلق الله الماء... " في شموله أظهر من شمولها له فلا يخصص بها وإن كانت أخص، كما لا يخفى.
Shafi 24